مجلة حكمة
فلسفة عصر النهضة وعلماء

بدعة عصر النهضة: لم تساعدنا أفكار عصر النهضة على فهم التاريخ مطلقاً – هنريك لاغيرلوند / ترجمة: منيرة آل طالب

مقدمة: فلسفة عصر النهضة

بدأت فلسفة عصر النهضة في منتصف القرن الرابع عشر، وشهدت ازدهار الحركة الإنسانية ورفض السكولائية (الفلسفة المَدْرَسِيَّة) والأرسطية. شهدت ايضاً تجدد الاهتمام بالقدماء وخلقت المقتضيات الأساسية للفلسفة الحديثة والعلم. على الأقل، هذه هي القصة التقليدية. في الحقيقة، لم يكن لما يسمى بـ “عصر النهضة” وجود. إنه ابتداع إنه ابتداع ابتدعه المؤرخون، خيال صنع لسرد قصة – قصة مقنعة عن تطور الفلسفة، لكنها قصةٌ ليس إلا. في الواقع، كل التحقيبات التاريخية ليست سوى تفسير وهذا ما يدعى بالعدمية التأريخية.

كان علم التأريخ مجرد كتابة للتواريخ لفترة طويلة. فعلى سبيل المثال: كان للسويد مؤرخ ملكي، وهو عبارة عن منصب رسمي في البلاط الملكي. شغل هذا المنصب الفيلسوف سامويل بوفندورف (١٦٣٢-١٦٩٤) في أواخر القرن السابع عشر لفترةٍ من الزمن. لقد كتب عدة كتب باللغة اللاتينية عن تاريخ الجهود الحربية لقوستاف الثاني أدولف في أوروبا خلال حرب الثلاثين عامًا؛ وقد كتب ايضاً عن تنازل الملكة كريستينا عن العرش. أصبح علم التأريخ دراسة لكيفية كتابة التاريخ مؤخراً. بمعنىً آخر؛ أعمال المؤرخين وأساليبهم هي موضوع الدراسة وليس التاريخ ذاته. المؤرخ لا يكتب التاريخ؛ إنما يطور نظريات حول كيف كتب التاريخ.

أُعطيت العدمية الكثير من المعاني وتم تفسيرها من قبل الفلاسفة بعدة طرق عبر الزمن. العدمية في سياق التأريخ تعني الرفض، أو – بمعنىً أضعف – التشكيك في المفاهيم التاريخية مثل التحقيب ومفاهيم أخرى تتعلق بتطوير “نظرية” للتاريخ. وبناء على ذلك، فإنه يوحي إلى أنه لا يمكن أن توجد طريقة واحدة فقط للتاريخ، إنما طرق عدة.

ليس يوجد ما يمنع العدمية التأريخية من استخدام التحقيب في التاريخ والفلسفة كأداة إرشادية أو لأغراض تعليمية، لكنها تذكرنا أن ما سبق دائمًا ما يكون خاطئ، وعندما ندرس التاريخ بتفصيلاته سيتضح أن مثل هذه البيانات الكبرى مثل خلاصة فترة زمنية كـ عصر النهضة عبثية وفارغة. إذا ألقينا نظرة على التطور التاريخي لمصطلح “فلسفة عصر النهضة” فإنه يمكن بسهولة ملاحظة الطابع التعسفي في تخصيصه لفترة زمنية.

بدعة عصر النهضة

تم تقديم فلسفة عصر النهضة في أغلب الأحيان على أنها صراع بين الإنسانية والسكولائية، وفي أحيانٍ أخرى يتم وصفها ببساطة على أنها فلسفة الإنسانية. يعد هذا التوصيف إشكالي للغاية فإنه يعتمد جزئيًا على افتراض وجود صراع بين تقليدين فلسفيين – صراع لم يكن له وجود في الواقع، بل تم بناؤه بإدخال مصطلحين مثيران للجدل إلى حدٍ كبير وهما “الإنسانية” و “السكولائية”. يمكن العثور على مثال جيد عن مدى إشكالية هذه المصطلحات كتوصيف للفلسفة في القرن السادس عشر لدى الفيلسوف ميشيل دي مونتين (١٥٣٣-١٥٩٢). كان انتقادي نحو الكثير من الفلسفة التي سبقته لكنه لم يقارن ما رفضه بنوع من الإنسانية ولم يكن مقاله المشكك “اعتذار لريموند سيبون” (١٥٨٠) موجهًا إلى الفلسفة السكولائية. في الواقع تم ابتداع هذين المصطلحين في وقت لاحق كوسيلة للكتابة عن فلسفة عصر النهضة أو تقديمها. إن الإصرار على هذا الانقسام التبسيطي لا يؤدي إلا إلى إفساد أي محاولة لكتابة تاريخ فلسفة القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر.

كان كتاب المؤرخ يوهان جيكوب بروكر بعنوان “التاريخ النقدي للفلسفة” (١٧٤٢-١٧٤٤) المؤلف من خمس مجلدات والذي نُشر في لايبزيغ أحد أول المحاولات لكتابة تاريخ الفلسفة بطريقة حديثة. لم يستخدم مصطلح “عصر النهضة” أو “الإنسانية” لكن ما كان مهماً له كان مصطلح “سكولائي”. إن ما نعرفه ونعيشه اليوم عن الفلسفة هو في الغالب قد وضع من قِبَلِه. إنه السرد المألوف الذي يركز على البداية القديمة للفلسفة متبوعًا بانهيار في العصور الوسطى وانتعاش نهائي للحكمة القديمة والتي أصبح متعارف عليها لاحقاً بـ “فلسفة عصر النهضة”.

يقوم الفيلسوف الأمريكي برايان كوبنهافر وهو أحد أبرز العلماء في عصرنا بتطوير هذه الفكرة في مساهمته في كتاب “دليل روتلدج لفلسفة القرن السادس عشر” (٢٠١٧). في فصل “الفلسفة كما وجدها ديكارت: إنسانيون ضد سكولائيين؟”، يشرح كوبنهافر كيف تم تطوير مفهوم بروكر من الكاتب الروماني شيشرون وأطلق عليه اسم ‘humanitatis litterae’ أو ‘humanitatis studia’ وترمز هذه المصطلحات إلى أعمال المؤلفين الكلاسيكيين ودراستهم بالنسبة لبروكر. كانت اللاتينية التي استخدمها بروكر لتدريس المؤلفين الكلاسيكيين تسمى بـ ‘humanior disciplina’ أو “التأديب الإنساني”. يرى بروكر أنه يكمل مشروعًا يدّعي أن العالِم بترارك بدأه في منتصف القرن الرابع عشر وهو تجديد ثقافي من شأنه أن ينقذ الفلسفة من ظلام السكولائية.

بما أننا تعرفنا على المزيد عن الفترة التي تدعى بالعصور الوسطى وفقاً لبروكر فقد اتضح أنه من الخاطئ الإشارة إليها بالتراجع. إنما هي بالأحرى فترة غنية بالمحتوى الفلسفي بشكل استثنائي ومن الأجدر أن يحتفى بعظم الفكر الابتكاري بها ولا يمكن أن يكون “عصر مظلم”، بل على العكس تماما. لذا فإن رؤية بروكر تنبع من نقص المعرفة لفلسفة ذلك الوقت.

إذا أشير إلى فترة من الزمن باسمٍ ما فلابد أن يوجد سببٌ لذلك. لابد أن يتواجد رابطٌ ما يربطها ببعضها.

الإنسانية

لقد كان اول استخدام لمصطلح “الإنسانية” (Humanism) للإشارة إلى حركة وطيدة في القرن التاسع عشر، في ذات الوقت الذي ظهر فيه مصطلح “عصر النهضة”. في بادئ الأمر لم يتم استخدام أي منهما بمواضيع متعلقة بالفلسفة وباختلاف شاسع، بل تم استخدامها من قبل مؤرخي الفن. ومن أبرزهم ياكوب بوركهارت في كتابه الرائع “حضارة عصر النهضة في إيطاليا” (١٨٦٠). كذلك فعل جون أدينقتن سيمندز في عمله المذهل المكون من سبع مجلدات “عصر النهضة في إيطاليا” (١٨٧٥-١٨٨٦) حيث استخدم مصطلحا “الإنسانية” و “عصر النهضة” كوسيلة لمناقشة حقبة معينة في تاريخ الفن. تم تشكيل كلا المصطلحين على طريقة بروكر وكان الهدف هو الحصول على شيء جديد – لتوضيح فاصل من الظلام والجهل المزعومان في العصور الوسطى. لقد كانا عبارة عن تصورات لتطورات أو حركات تاريخية معينة متصورة في الفن، ولم يتم تشكيلهما ليتناسبا مع الفلسفة. وما يزالان لا يتناسبان معها.

كان الفيلسوف الألماني أميركي بول أوسكار كريستيلر (١٩٠٥-١٩٩٩) أحد أبرز علماء فكر عصر النهضة في القرن العشرين. توضح كتاباته صعوبة تحديد فترة فلسفة عصر النهضة بالضبط. فإنه يشير في كتابه “الكلاسيكيات وفكر عصر النهضة” (١٩٥٥) إلى أن الحركة الإنسانية في عصر النهضة هي “حركة ثقافية وأدبية واسعة ولم تكن فلسفية في مضمونها، ولكن لها آثار وعواقب فلسفية مهمة.” كما أنه لم يكن قادر على العثور على جوهر فلسفي لهذه “الحركة” وأنه بالأحرى إيمان مشترك بقيمة الإنسانية والتعلم الإنساني، وكذلك إحياء التعلم القديم.

توجد تساؤلات حول ما إذا كان هنالك “حركة” فعلاً وإذا ما كانت ليست سوى في عقول مؤرخي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرون. ففي نهاية المطاف، إن المعتقدات المشتركة التي حددها كريستيلر لا ينفرد بها “الانسانيون” فقط. كانت مثل هذه المعتقدات بالفعل سائدة خلال القرنين الثامن والتاسع عندما شرع الباحث الإنجليزي ألكوين (٧٣٥-٨٠٤) في تنظيم التدريس في إمبراطورية تشارلز الأكبر، وكذلك في القرن الثاني عشر عندما تمت ترجمة أعمال أرسطو وابن سينا إلى اللاتينية. كان لدى الناس في ذلك الوقت مصلحة متساوية في إحياء التعلم القديم. فقد تواجدت معتقدات مماثلة حينها. يمكن العثور على أسلوب التفكير ذاته في بدايات التقاليد الفلسفية العربية لدى المسيحيين السريان الذين ترجموا الفلسفة القديمة إلى العربية في وقت مبكر من تاريخ الفلسفة.

كان كريستيلر مدركاً لهذه المشكلة فاقترح في الكتاب ذاته أن فلسفة عصر النهضة تكون “تلك الفترة من التاريخ الأوروبي الغربي والتي تمتد بشكل تقريبي من سنة ١٣٠٠ وحتى ١٦٠٠ بلا أي تصورات مسبقة لخصائصها أو خصائص الفترات التي سبقتها ولحقتها.” من غير المنطقي أن نسميها فترة زمنية في تاريخ الفلسفة. هذا على الأقل في نظري. إذا أشير إلى فترة من الزمن باسمٍ ما فلابد أن يوجد سببٌ لذلك. لابد أن يتواجد رابطٌ ما يربطها ببعضها – فكرة أساسية أو ما شابه. لكنه ليس كذلك وهذا ما يجعل مسمى فلسفة عصر النهضة عشوائي. إن التحدث عن “العصور الوسطى الطويلة” والتي بدأت مع إعادة إدخال الفلسفة في القرن الثامن واستمرت حتى عصر التنوير منطقي أكثر. اقترح المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف شيئًا مشابهًا في عام ١٩٨٨ مما أدى إلى تمديد “العصور الوسطى” إلى أبعد من ذلك، لكنه في النهاية إقرار بأن الفترة الزمنية نفسها ميؤوس منها.

وجهة نظر أكثر حداثة ودقة حول ما يمكن أن تعبر عنه فلسفة عصر النهضة قد أعرِب عنها من قبل كوبنهافر وتشارلز شميت في كتابهما “فلسفة عصر النهضة” (١٩٩٢). فقد كتبوا في مقدمتهم ما يلي:

يعتبر الانقسام العرفي بين العصور الوسطى وعصر النهضة مصطنعًا بالنسبة للتاريخ الفكري، بما في ذلك تاريخ تلك الأفكار والمفكرين الذين يطلق عليهم “الفلسفة” و “الفلاسفة”. إن معظم الفلسفة التي تميز بها عصر النهضة وازدهرت في القرن السادس عشر كانت بالفعل من فلسفة العصور الوسطى … تمت طباعة جميع أعمال توماس برادواردين وويليام اوف هيتسبري والكتابات المنطقية لبول اوف فينيس وقراءتها ومناقشتها جيدًا في القرن السادس عشر. على نطاقٍ أوسع، ظلت كتابات ابن رشد الذي أطلق عليه فلاسفة العصور الوسطى “المعلق على أرسطو” مركزية للعديد من مجالات الفلسفة المختلفة حتى نهاية القرن السادس عشر.

لقد أسهما بشكل كبير في إزالة الانقسام بين “الانسانيين” و “السكولائيين” على الأقل من الناحية النظرية وهذا إن لم يكن من ناحية المفكرين الذين اختاروا الكتابة عنهم. هذا لا يعد اعتراف بأنه لا وجود لما يمثل “فلسفة عصر النهضة”، لكن بالتأكيد يميل إلى كونه كذلك.

انتصار القديس توما الأكويني (١٣٢٣) بواسطة ليبو ميمي. ويكيبيديا عصر النهضة



انتصار القديس توما الأكويني (١٣٢٣) بواسطة ليبو ميمي. ويكيبيديا

قد يكون من المفيد التفكر في مثال من الفلسفة “السكولائية” لتوضيح مدى خطورة بناء أو مقارنة المفاهيم التاريخية عبر الزمن التي تم تطويرها في سياقات مختلفة. غالبًا ما تظهر فلسفة القرون الوسطى أو “المدرسية” على أنها تبدي اهتماماً بالفلاسفة المعاصرين بالرجوع إلى مشكلة المسلمات حيث نجد أن الاسمية تحظى بأهمية بالغة في موضوع النقاش هذا. لقد كانت تسمى كذلك حينها بالفعل ودافع عنها بقليل من الاختلاف فلاسفة بارزين مثل بيار أبيلار (١٠٧٩-١١٤٢) ووليم الاوكامي (١٢٨٥-١٣٤٧).

الاسمية

غالبًا ما يفترض أن وجهات نظرهم إما متطابقة أو على الأقل متشابه بشكل كبير مع الاسمية المعاصرة. تنص الاسمية المعاصرة بصورة أساسية على أن كل ما في الوجود هو الأفراد وأنه لا وجود لكيانات مجردة أو كليات خارج نطاق العقل. مع ذلك لا يعد هذا التوصيف وافٍ لوصف اسمية العصور الوسطى. على هذا المنوال فإن المفكر الذي لا نعده اسمياً سيصبح اسمياً. توما الأكويني (١٢٢٥-١٢٧٤) هو أحد من يتفق مع أن كل ما في الوجود هو الأفراد وأن لا وجود للكليات خارج نطاق العقل.

لتمييز مفكرين مختلفين مثل الأكويني والاوكامي عن بعضهم البعض فإنه يجب على المرء أن يصبح أكثر تفصيلاً ويعطي قراءة فلسفية أكثر تركيزاً لنصوصهم التي تتعمق في وصف الاسمية وتدرج أكثر من كونها الفكرة البسيطة القائلة بأن الاسمية تنص على أن كل ما في الوجود هم الأفراد. يتعين على المرء أن يحدد ما المقصود بالتفرد وما هو الإدراك وكيف يعمل وما إلى ذلك، ففي تفاصيل تعاريفهم الفلسفية يعثر المرء على الفرق بينهما، حينها فقط يستطيع الشخص أن يفهم ما المقصود عندما ندعو الأكويني بالواقعي والاوكامي باسمي العصور الوسطى. إن فكرة أنه يمكن للمرء ببساطة مقارنة المفاهيم التي تم تطويرها في سياقات مختلفة وفي أوقات مختلفة تؤدي إلى استنتاج خاطئ وتولد صورة خاطئة لهؤلاء المفكرين حيث تجعلهم متشابهين بينما هم في الواقع ليسوا كذلك.

يبدو أن اختلافات توجد بين الاسمية المعاصرة والاسمية في العصور الوسطى أكثر قيمة وإثارة للاهتمام. يمكن للاختلاف أن يعلمنا شيئًا عن الفلسفة بينما التماثل لا يستطيع. لسنا بحاجة إلى إعادة صياغة الموقف الفلسفي المعطى تاريخيًا لجعلهما متناسبين ذلك بأن الاختلاف وفهمنا التفصيلي للموقف التاريخي هو ما يجعلها مثيرة للاهتمام من الناحية الفلسفية.­­­­­­

متابعة لهذا النقاش حول الاسمية، يمكن لبيان أوضح حول ميتافيزيقيا التاريخ أن يوجهنا أكثر نحو فهم أقوى للعدمية التأريخية. يمكن العثور على ميتافيزيقيا مشابهة لتاريخ الفلسفة في كتاب الفيلسوف الكندي كلود باناكيو “القصة وإعادة البناء: أسس المنهج في تاريخ الفلسفة” (٢٠١٩). وفقًا لهذه الميتافيزيقيا فإن الأفراد الحقيقيين مثل أفلاطون، برتراند راسل، مدينة ستوكهولم، والأحداث الفردية مثل وفاة رينيه ديكارت هي أمور أساسية في علم الوجود. ومن ناحية أخرى فإن وجهات النظر والعقائد والأفكار الفلسفية ليست أساسية، بل يتم تفسيرها على أنها أسلوب للتعبير عن الكلام المكتوب أو المنطوق والتي تعتبر وفقًا لهذه الميتافيزيقيا أحداثًا.

لا توجد معانٍ أو مفاهيم كلية بخلاف التي شكلها المؤرخون

العناصر الأساسية للدراسة بالنسبة للمؤرخ هي أحداث فردية لتعابير لغوية. عادةً ما تأتي هذه التعبيرات اللغوية إلى المؤرخ من خلال المخطوطات أو الكتب التي تحتوي على تعبيرات لأفكار الفلاسفة الفرديين. يُشار إلى البشر أو الأماكن فقط بقدر ارتباطهم بالألفاظ بالنسبة لمؤرخ الفلسفة، حينها يمكنهم معرفة تفسيرات هذه الألفاظ.

بناءً على وجهة النظر هذه فإن تاريخ الفلسفة يصبح مجالاً للأحداث اللغوية التي يقدمها المكان والزمان وبهذه الطريقة يكون متاحًا لمؤرخ الفلسفة. في مثل هذه النظرة للتاريخ سيصبح من المستحيل رؤية تطور فريد ومعقول له، عوضاً عن ذلك فإنه يحتوي على انقطاعات وفواصل. لا يمكن إعطاء أي ترتيب لتاريخ الفلسفة إلا من قبل المؤرخ. في الواقع أعتقد أنه يمكن للمرء أن يقول إن مهمة المؤرخ هي تزويد مجال تاريخ الفلسفة بترتيب وبنية؛ أي سرد أو تفسير.

خاتمة

من الواضح أن البيانات التاريخية والأشياء الفردية الملموسة والأحداث الفردية وبشكل أساسي الأحداث اللغوية لا يمكن تفسيرها أو فهمها بأي طريقة. الألفاظ لها لغة وعلى هذا النحو فإن لها معنى للمؤرخ وهو المعنى الذي تم إنشاؤه من اللغة وسياق الحديث. ومع ذلك لا توجد معانٍ أو مفاهيم كلية بخلاف التي شكلها المؤرخون. عندها سيبني كل قارئ أو مؤرخ معناه الخاص الذي يمَكِّنه من بناء تفسير.

بمعنى ما، تندرج العدمية التأريخية من هذه الميتافيزيقيا. أي رواية يؤسسها المؤرخ ستكون مجرد بناء. وبنفس الطريقة فإن أي تقسيم للتاريخ إلى فترات سيكون تعسفيًا إلى حد ما ويعود إلى المؤرخ حيث لا توجد مفاهيم عامة أو كليات في التاريخ يمكن أن يتم اكتشافها من قبل المؤرخ. وبدلاً من ذلك يتم تشكيله من الأحداث الفردية التي تم دراستها. إن “عصر النهضة” أو “فلسفة عصر النهضة” قد تم تشكيلها بهذه الطريقة.

يبدو من المعقول أن تاريخ الفلسفة يمكن أن يدرس إما عن طريق ما يمكن تسميته بالنهج “التنازلي” أو عن طريق النهج “التصاعدي” باتباع هذا المفهوم للميتافيزيقيا للتاريخ. يمنحنا النهج التنازلي سردًا قويًا ونجد بأنه شائع جدًا بين المؤرخين لا سيما في تاريخ الأفكار. إنه نهج عرضة لتقسيم التاريخ إلى فترات. في هذا النهج يتم البدء بمفاهيم عامة نلائمها معًا في سرد تاريخي جنبًا إلى جنب مع النصوص والأحداث التاريخية. يمكن العثور على مثال على هذا النهج في كتاب المؤرخ آرثر لافجوي “سلسلة الوجود العظيمة” (١٩٣٦). وفقاً لِلافجوي فإن مهمة المؤرخ الفكري هي إيجاد ما يسمى بوحدات الأفكار التي تشرح الثورات وتدفق التاريخ الفكري. إن المؤرخ يقوم بإزالة الظروف العَرَضية والالتزامات الفردية ومعتقدات الفلاسفة لتحديد وحدة أو ترابط الفكرة بشكل صحيح.

يجسد لافجوي “سلسلة الوجود العظيمة” التي حددها في أفلاطون وتتبعها في الفلسفة الحديثة في كتابه. إنها تتضمن ثلاثة مبادئ: الوفرة، الاستمرارية، والتدرج الخطي. يقول المبدأ الأول أن الكون ممتلئ وأن أي شيء معقول وقابل للحدوث فإنه في مرحلة ما سيتحقق ويحدث. الثاني يقول إن الكون عبارة عن استمرارية سلسلة متصلة من الأحداث. والأخير يقول إنه يحتوي على تسلسل هرمي بدءاً من أبسط وجود وصولاً إلى الإله.

وجهة النظر الأخرى والتي تبدو متعارضة مع النهج التنازلي هي النهج التصاعدي لتاريخ الفلسفة. يجب على المرء أن ينظر بشكل أساسي إلى البيانات التاريخية أولاً في مثل هذه الرؤية، أي الأشياء الفردية أو الأشخاص الفرديين أو الأحداث الفردية (التعابير اللغوية) التي تشكل التاريخ. يهدف هذا النهج إلى سرد قصة من الألف إلى الياء بناءً على هذه البيانات، لكنه لا يهتم كثيرًا بكيفية ملاءمة البيانات في سرد معقول. في هذا النهج تقوم البيانات ببناء السرد قدر الإمكان. ومع ذلك فإن وصول المؤرخ إلى البيانات يأتي إليه من خلال عوامل تصفية والتي سيتعين عليه وضعها في فئة لوحدها أو التعويض عنها بطرق مختلفة ليتمكن من الاقتراب من البيانات قدر الإمكان.

يمكن أن يكون عامل التصفية عبارة عن لغة كلاسيكية أو نصًا في مخطوطة أو في العديد من المخطوطات حيث يجب إنشاء النص الفعلي أولاً، ولكن عامل التصفية قد يكون أيضًا افتراضات المؤرخ الخاصة، تحيزاته، تعليمه، وما إلى ذلك والتي يجب أن يكون على دراية بها فهي تهديد بتشويه تفسيره للبيانات. تعد المفاهيم التاريخية والتحقيب اللذان أصبحا تفسيرات أو أدوات اعتيادية لهذه المهنة من عوامل التصفية أيضاً. إنها جزء من تراث يحتاج المؤرخ أن يكون متشكك تجاهه. سيكون لعوامل التصفية هذه تأثير على التفسير المركب للألفاظ اللغوية. يحتاج المؤرخ أيضًا إلى الخيال والخبرة لإرشاده في بناء سرد أو قصة معقولة.

ربما يمكن التشكيك في النهج التصاعدي لأننا والمؤرخ أيضًا نأخذ الكثير من الأمور كأمر مسلم به طوال الوقت. من المستحيل معرفة تاريخ الفلسفة دون وضع بعض الافتراضات المسبقة والتي لا يمكن ببساطة وضعها في فئة لوحدها ذلك بأنه يتعين علينا افتراض شيء ما. الفكرة ليست رفض كل ما قام به الآخرون، ولكن التأكيد على أنها فقط من الأقوال الفردية. بالتأكيد هذه الطريقة متاحة للمؤرخ فقط فهو من يمكنه بناء تفسير بطريقة معقولة، وهو من يمكنه أن يبني أي خصائص عامة حول فترة معينة عن طريق دراسة مفصلة للنص تجعل هذه الأقوال الفردية متاحة.

تحثنا العدمية التاريخية على رفض التعميم في التاريخ والمفاهيم التأريخية أو التشكيك بها بشدة. يمكن أن تستخدم في سياق تعليمي أو كأدوات إرشادية، لكنها لن تساعد الباحث أو المؤرخ ذاته. أوضح مثال على ذلك هو محاولات تحقيب تاريخ الفلسفة وأي اقتراح لفترة تسمى “فلسفة عصر النهضة”. من الواضح أنه يمكن تسمية فترة ما بشكل تعسفي “القرن السادس عشر” أو “هؤلاء الفلاسفة” ثم يتبعها سرد، ولكن يبدو أن المرء جرَّد مصطلح “عصر النهضة” من معناه وهذا هو بالضبط الهدف من العدمية التأريخية.