النساء الفيلسوفات
كانت الفلسفة يوما من الايام عالما للمرأة – في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية – والآن حان الوقت لاستعادة هذا العالم المفقود.
“كمحارب شرس نهض يشدّ وتر قوسه بسهمين قاتلين كما يفعل محارب يتحدّى عدوه نهضت لأتحدّاك يا يجنافلكيا Yajnavalkya بسؤالين.. امنحني أجوبة لهذين السؤالين!” بهذه الكلمات الجريئة بدأت جارجي فاكافنافي Gargi Vachaknavi – حكيمة الفيدا الهندية – نقاشها الفلسفي مع يجنافلكيا، الملك الفيلسوف شبه الأسطوري، وأعظم حكيم في عصره. واجهته مرارا وتكرارا بأسئلة وجودية عن الأساس الأنطولوجي للعالم: ما الذي يجعل العالم متماسكا؟ أعلن يجنافلكيا أخيرا أن العالم: “لا يفنى (و) على هذا، جارجي، الفضاء مُحكم بكُلّيته”. تطمئنّ فاكافنافي وتعلن للكهنة الاخرين: (ينبغي أن تعتبروا أنفسكم محظوظين إن استطعتم التملّص من هذا الرجل لمجرد إظهار احترامكم له، فلا أحد منكم يملك إفحامه في جدال فلسفي”. قصة جدل فاكافنافي مأخوذة من الفصل الثالث في الأوبانيشاد (بريهادارانيكا)؛ نص سنسكريتي معقد ومتشعّب يناقش قضايا الميتافيزيقا والأخلاق منذ حوالي ٧٠٠ سنة قبل الميلاد. فاكافنافي واحدة من (الشخصيات الخفية) الكثيرة من النساء في تاريخ الفلسفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية – ما يطلق عليه في كثير من الأحيان “الجنوب العالمي”.
يدرك الفلاسفة اليوم بشكل متزايد إسهامات النساء الفيلسوفات في تاريخ الفلسفة الأوروبية في القرن السابع عشر مثل اليزابيث اوف بوهيميا و مارجريت كافنديش و آنّي كونواي. (في الواقع، فإن سلسلة مطبوعات جامعة أكسفورد الجديدة في تاريخ الفلسفة الجديد قد تُحدث ثورة في الكيفية التي ننظر بها الى تاريخ الفلسفة). لكن لا تزال النساء الفيلسوفات خارج أوروبا يحصلن على اهتمام أقل، ولا يتم الاعتراف بمساهمتهن إلى حد كبير.
فاكافنافي ليست المفكرة الوحيدة التي ساهمت بتشكيل أقدم فلسفة في العالم. فقد أطلقت ميتريا Maitreyi – امرأة – في الفصل الثاني للأوبانيشاد نقاشا حول أهمية حصول الذات على معرفة بمجمل هذا العالم، بدأت بسؤال يجنافلكيا (غالبا تصفه بأنه زوجها، لكن يُعتقد أنه رفيقها في الفلسفة) أسئلة وجودية أساسية عن الكينونة الإنسانية: “لو امتلكتُ العالم كله بثرواته، هل هذا يجعلني خالدة فيه؟” وعندما ينكر ذلك تسأله ميتريا بشكل خطابي: “ما هو الهدف من الحصول على شيء لن يجعلني خالدة؟”، بهذا الشكل تم وضع حجر الأساس الأول للتحقيق في ماهية العلاقة بين المعرفة و المادة.
بعد ذلك، يوجد سولابها Sulabha، الزاهدة في ممارسة اليوغا، والتي انتصرت في نقاش فلسفي طويل ضد ملك الفلسفة جاناكا في ملحمة ماهباهارتا (القرن الرابع قبل الميلاد) إذ أصبح الملك هادئا بعد أن وضعت سولابها الأمور في نصابها: “جسدي مختلف عن جسدك، لكن روحي ليست مختلفة عن روحك”.
لقرون اعتمد الفلاسفة الهنود على نظرائهم من النساء، من بينهم أدي شانكارا Adi Shankara الذي قد يكون الفيلسوف الأكثر شهره في الهند (٧٨٨-٨٢٠ قبل الميلاد)، وهو من صاغ المذهب الواحدي في أدفيتا فيداتنا Advaita Vedanta – جزء أساسي من الهندوسية وتؤسس حججها على الأوبانيشاد. في السيرة الذاتية الخاصة به، نقرأ كيف شارك شانكارا في مناظرة فلسفية مع ماندانا ميشرا Mandana Mishra الذي ينتمي لمذهب ميمامسا Mīmāṃsā المنافس له حيث يستند على الأجزاء الاربعة الاولى من الفيدا. وجاء قرار هذه المناظرة من يوبهايا بهاراتي Ubhaya Bharati زوجة ميشرا. ولعله من المدهش أن تعتبر شانكارا بطلا بحكم تأثيره غير العادي في اجبار زوجها على الانصياع لمذهب شانكارا الفلسفي، لكنها خاطبت بهاراتي عقب ذلك قائلة له: “لا يمكنك ادعاء النصر الكامل على زوجي حتى تنتصر عليّ بوصفي نصفه الأفضل، وعلى الرغم من أنك تُمثل رمزا لاهوتيا إلا أنني أرغب بمُناظرتك”.
استجاب شانكارا لطلب بهاراتي، وعُقد نقاش استمر سبعة عشر يوما حول الفيدا ومختلف المذاهب الفلسفية، لم تتمكن بهاراتي من التغلب عليه لكنها باغتته بفكرة استجوابه عن الكاماستورا – فن وعلم الحب – مستغلة معرفتها بأن شانكارا كان مُتبتّلا منذ صباه. قبِل شانكارا التحدي لكنه طلب استراحة من النقاش لمدة شهر حتى يستقصي بدقة كل ما يتعلق بالأمور الجسمانية. وعلى غرار فاكافنافي في الأوبانيشاد أقرّت بهاراتي بانتصار شانكارا:
“لقد واجهت كل المتاعب لتذليل علم الجنس حتى يتوافق مع أنماط العالم، فإن انهزمنا من قبلك فهذا لا يعني ان نشعر بالعار، تماما مثل القمر والنجوم التي لا تسوء سمعتها عندما تقوم الشمس بحجب أنوارها.”
بعد المناقشة يقال ان بهاراتي أسست مدرسة فكرية خاصة بها.
أكّا مهاديف Akka Mahadevi هي أيضا مفكرة هندية بارزة (١٣٠-٦٠ قبل الميلاد). ولدت في بلدة يوديتادي، في كارناتاكا جنوب غرب الهند، وتنتمي لحركة فيراسيفا التي تنادي بالمساواة للمرأة، وتعارض كل صور التمييز بين البشر، سواء تعلقت بالطبقة أوالجنس أواللغة أواللباس. واجهت بفلسفتها الراديكالية جميع الكهنة، و ربما لا تزال تستفزهم إلى اليوم: ” كل الفيدا والكتاب المقدس والتقاليد المقدسة والشرائع والرموز ليست سوى قشور و حنطة وُضعت في طاحونة”.
عاشت مهاديف مُعتدّة بأفكارها الخاصة من خلال كونها امرأة مكتفية ذاتيا، واختارت طريقها الخاص للتفاني لـ”شيفا” بدلا من اتباع معايير الكتاب المقدس أو العائلة أو المجتمع. عندما كانت فتاة يافعة، تزوجت من الملك المحلي كوشيكا بشرط أن تحتفظ بغرفة نوم خاصة بها لتقضي وقتها كما تشاء. وحين أخلف وعده، خلعت مهاديف جميع ملابسها وتجولت بحرية في الشوارع، يغطيها شعرها الطويل فقط، وفي نهاية المطاف وصلت مهاديف عارية الى أنباهافا مانتابا – مركز النقاشات الفلسفية في ذلك العصر – هناك واجهت الشاعر الصوفي والعلامة برابهو Allama Prabhu الذي يُمكن تفهُّم ارتيابه من هذا التجوال العاري، لذا انخرط معها في نقاش فلسفي روحي حتى أقنعته بقيمتها الروحية (ولفظ المقولة الخالدة:”خذ هؤلاء الأزواج الذين يموتون ويتعفنون وأطعمهم لنيران مطبخك”). سمح لها برابهو بالدخول إلى دائرته المُقرّبة، ويبدو أنها عاشت بقية حياتها كمفكرة روحية وشاعرة مُوقرة على نطاق واسع.
قد يجادل البعض بأن مهاديف ليست فيلسوفة على الإطلاق، وأن اشتغالها كان خارج هذا الفن أو على تُخومه. لكن “شريعة الغرب” اليوم تستند في المقام الأول إلى العديد من الشخصيات القائمة عند هذه التخوم ممن ليسوا في حد ذاتهم فلاسفة. القديس أوغسطينوس مثلا كان أسقفا من آباء الكنيسة، وقديسا مسيحيا. هناك فيلسوف غربي آخر ممجد أيضا وهو القديس توماس الأكويني، الكاهن الكاثوليكي والراهب والطبيب في الكنيسة. جميع النساء المذكورات هنا أقل دوغمائية – أتكلم من زاوية فلسفية – مقارنة بأوغسطينوس و الأكويني. إيجاد حدود للفلسفة هو سؤال فلسفي بحد ذاته: يطيب لي أن أؤكد أنه من الأفضل لأي “شريعة عالمية” في طور التشكل بخصوص الفلسفة إدراج مساهمات هؤلاء النسوة المذكورات هنا.
جادلت يونجيدانق من أجل المساواة أخلاقيا بين النساء والرجال: “الحكماء هم ذات الفئة التي أنتمي لها “
النساء كُنّ جزءا حيويا في الفلسفة الصينية أيضا. في الكلاسيكية الصينية الموسومة بـ Tao Te Ching يجادل الفيلسوف لاوسي (القرن السادس قبل الميلاد) بأن الدولة العظيمة مثل امرأة ذكية: “المؤنث دائما ينتصر على المذكر بواسطة السكون”. في ذات السياق، تُشيد النصوص الكونفوشية الأساسية بفكر وحكمة جينق جانيق لو Jing Jiang of Lu المحترمة، التي أرسلت ابنها ليطلب العلم لدى كونفوشيوس (٥٥١-٤٧٩ قبل الميلاد). في كتاب خطابات الولايات Discourses of the States (القرن الرابع قبل الميلاد) تم اقتباس مقولة لجينق كحجة ضد اللامبالاة والكسل: “عندما يكدح الناس، يفكرون، وحين يفكرون، تولد عقولهم الجيدة”. لا عجب أن يقول كونفوشيوس عنها: “إنّ امرأة قبيلة غونغ فو حكيمة”. (كما أوضح الباحث في الفلسفة الصينية برايان نوردن أن كونفوشيوس في الحقيقة “يستخدم جينق جيانق كمثال لإرشاد تلاميذه”!).
وهناك أيضا عالمة أخرى في هذا التراث هي بان تشاو Ban Zhao (٤٥-١١٦ قبل الميلاد)، التي أكملت أعظم الدراسات في تاريخ الصين وهو كتاب “هان” (استهلّه شقيقها بان غو)، ولا يزال أحد أبرز المراجع في هذا العصر، يحتوي على مقالات مطولة حول الجغرافيا والأدب والمال وأكثر. في كتابها “دروس للمرأة”، الذي أهدته لبناتها، تشير بان تشاو إلى الكلاسيكيات الفلسفية، وتطالب بتعليم البنات والأولاد بشكل متساو القراءة والكتابة – والقيام بعكس ذلك معناه “تجاهل العلاقة الجوهرية” بين الرجال والنساء. هذا يشبه موقف الفيلسوف لي تشي Li Zhi، الذي كتب في القرن السادس عشر وأشاد بأهمية النساء العالمات عبر التاريخ الصيني. وقد تحدث مع نساء متعلمات مثل مي دانران Mei Danran، التي أثنى عليها باعتبارها “متميزة” و”قوية”.
ازدهرت يام يونجيدانق Im Yunjidang في كوريا (٩٣ـ١٧٢١) كأول فيلسوفة حديثة في شبه الجزيرة الكورية. ولدت في يانغون في إقليم جيونجي، بالقرب من سيئول، خلال منتصف فترة حكم أسرة جوسيون التنويري. لسوء الحظ لم تُترجم تحفة يونجيدانق الفنية “يوغو” إلى الإنجليزية بعد، وهذا حقا أمر مخزٍ للغاية منذ أن أعلنت سنغمون كيم، أستاذة العلوم السياسية في جامعة هارفرد، في عام ٢٠١٤ أن يونجيدانق هي “النظير لماري وولستونكرافت في التقليد الكونفوشيوسي”. جادلت يونجيدانق من أجل المساواة أخلاقيا بين الرجل والمرأة عبر مقارنة نفسها بفيلسوف ذكر قائلة: “أشاركه بشكل جاد في طموحه بأن يصبح حكيما”: “الحكماء هم ذات الفئة التي أنتمي لها”.
ننتقل إلى الشرق الاوسط حيث أحد مؤسسي الصوفية – فرع مختلف داخل الإسلام – رابعة البصرية أو رابعة العدوية (٧١٤ -٨٠١ من الميلاد)، ولدت في العراق. تم بيعها في سوق النخاسة وهي طفلة، ولكن تفانيها وصلاحها الديني ألهم المسلمين من الذكور والإناث على مر القرون (يُحكى أنها كانت تستخدم طوب الطين كوسادة لها طوال حياتها). ربما كانت صدى بعيدا لميتري (فيلسوفة هندية) ، رابعة قالت ذات مره: “لو كان العالم كله في حيازة رجل واحد فلن يجعله غنيا”.
من الجدير بالذكر أيضا، العالمة البارزة غزيرة الإنتاج في القرن السادس عشر عائشة الباعونية من دمشق، كتبت أكثر من اثني عشر عملا في الشعر والنثر. سافرت إلى القاهرة لدراسة الفقه مع علماء آخرين، التقت بالسلطان قانصوه الغوري، ربما بسبب اشتهار تضلُّعها بالمذهب الصوفي. مؤخرا ترجم توماس إميل هومرين واحدا من أعمال الباعونية الرئيسية وهو مبادئ الصوفية، في هذا الكتاب حددت المبادئ الأربعة التي ترتكز عليها في فلسفتها وهي: التوبة والإخلاص والتذكر والحب. الباعونية مرجع لسبعة قرون من التفكير الصوفي، تستشهد بعناية بالكثير من الكتب، والأحاديث، والرسائل، وسير القديسين – الى جانب تعليقاتها على مئة عالم ومفكر تقريبا. تجادل الباعونية بأن الحب هو سر الله الأعظم، حيث كتبت في النهاية:
لقد انضممت إليهم ووقفنا وحدنا متحدين، شربنا النبيذ، لكن ليس بالكؤوس بل من الجرار في الحانة حيث أدينا القسم، شربنا حتى غدونا في حالة سُكْر فترة ما قبل الخلود حيث يدوم السكر الى الأبد، لذلك تروننا نشرب النبيذ رغم محاولتنا الظهور باتزان لإخفاء هذا الأمر.
فيلسوفة مسلمة أخرى ومهمة أيضا هي نانا أسماء (١٧٩٣-١٨٦٤) عاشت أثناء فترة خلافة سوكوتو الإسلامية شمال نيجيريا اليوم. مثل غيرها من الفتيات والفتيان قبل الاستعمار البريطاني دخلت أسماء المدرسة وهي في الخامسة من عمرها، كان والدها عالما يدافع عن حقوق المرأة، وكان يتحدث معها يوميا عن القراءة والكتابة كما أوضح ذلك كلٌّ من جان بويد و بيفرلي ماك في مجموعتيهما الرائعتين التي تتعلق بكتاباتها وحياتها. في مرحلة البلوغ، أصبحت أسماء زعيمة سياسية ومؤسِّسة للشبكة التعليمية “yau taru” والتي تعني (الجماعة)، ولا تزال نشطة حتى اليوم. وقد كتبت باللغة الفولانية والهوسية والعربية، وكان نصها الأول يحمل هذا العنوان: “تحذير للمقصرين وتذكير للأذكياء فيما يتعلق بأساليب التدين”. وقد تحدثت عن التواضع بين الناس وكذلك عن:
العلاقات الجيدة بين المرء وأقاربه ورفاقه والعاملين لديه. وهذا يظهر عندما تبتهج بصحبتهم؛ وتقوم بفعل أشياء جيدة لهم؛ وتخدمهم؛ ولا تتعالى أبدا عليهم؛ وتأخذ بمشورتهم في أمور عديدة؛ وتساعدهم ماديا ومعنويا؛ ولا تطمع بممتلكاتهم؛ ولا تتستر على أخطائهم التي ينبغي محاسبتهم عليها دون التماس أعذار لهم. ولا تتفاخر عليهم بثروتك أو منصبك أو شهامتك؛ وقم بزيارة مرضاهم؛ وقدم المشورة لهم بلا تصنّع او غرور مفرط.
على الجانب الآخر من المحيط كان هناك صِنْوٌ لأسماء قبل أكثر من مئة عام. من أوائل النساء الفيلسوفات البارزات في أمريكا الشمالية في فترة ما بعد الكولومبية، النسوية سور جوانا إيناس دي لا كروز (١٦٥١-١٩٩٥) والمعروفة شعبيا باسم “الطائر الفينيقي الأمريكي”. كتبت سور جوانا باللغة اللاتينية والناواتل، لغة الأزتك، (إيدث غورمان ترجمت لها مؤخرا إلى اللغة الإنجليزية)، تنقلت بين عدة أجناس أدبية: كتبت في الشعر والمسرح والرومانسية إلى جانب دراسات العلوم والرياضيات وبالطبع الفلسفة. في مسرحية “النرجسية الإلهية” “The Divine Narcissus” سخرت من الفاتح الإسباني (البربري المجنون) وأعطت صوتًا للأزتكيين. ولعل أكثر أعمالها شهره هو رسالة مكتوبة في صورة رد على زميلتها الراهبة سور فيلوتيا، التي جادلت بأن النساء لا ينبغى أن يدرسن بعض مناهج الفلسفة، بل يجب أن يلتزمن بأدب التنسُّك وحده. وفي نقطة محددة سألت سور جوانا ببلاغة:”سينورة؛ ما الذي بإمكاننا معرفته نحن معشر النساء غير فلسفة المطبخ؟”، ثم تُجيب نفسها: “أنا أقول أنه لو جرّب أرسطو الطبخ لكتب بشكل أعظم”. وبطريقة تشبه أسلوب مهاديف؛ تنتقد جوانا بشكل لاذع أولئك الرجال “الذين يظنون أنهم حكماء لمجرد أنهم خُلقوا رجالا”. هي التفتت ايضا إلى التاريخ الطويل لـ النساء الفيلسوفات ، مثل هيباتيا الاسكندرية، لإثبات الوجود المطلق لشغف المعرفة في كل مكان. ربما ابتهجت جوانا بمعرفتها أن فيلوتيا – التي كانت توجّه ردّها لها – ليس سوى اسم أدبي مستعار لرجل: وهو الأسقف مانويل فرننانديز دي سانتا كروز.
إن المنظور النسوي الجامع وغير الأوروبي بخصوص تاريخ الفلسفة استمرّ في أوروبا لمئات السنين، لم تكن شريعة الفلسفة بصفتها على الدوام أوروبية و ذكورية حتى بنظر الرجال الأوروبيين. صرح أفلاطون في محاورة فايدروس أن الحروف والعلوم نشأت في مصر، وأكد إكليمندس الاسكندري (٢١٥-١٥٠م) أن الفلسفة العالمية نشأت في الأصل من المصريين والكلديين والفرس والهنود، قبل أن يتسرب هذا الأسلوب في نهاية المطاف إلى اليونان.
تضمن كتاب “حياة وآراء الفلاسفة العظماء” للمؤرخ يوجين لورتيوس (٢٤٠-١٨٠م) فصل مستقل عن المرأة هيباركيا، وعندما نُشر الكتاب في أمستردام عام ١٧٥٨ – باللغة الفرنسية – كانت صفحة العنوان تحتوي على صورة امرأة. وقد تمت اضافة مجلد ثالث في هذه الطبعة؛ قام بكتابته الفيلسوف دي شوفو بيد بار كويراد؛ تضمن مئة صفحة عن فلاسفة إناث من عصور مضت، مثل جوليا دومنا في دمشق، و ثيودورا من تيار الأفلاطونية المُحدثة في الاسكندرية. كما كتب أكثر من تسعين صفحة عن كونفوشيوس من الصين. في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وجد المفكرون الأوروبيون مثل جي دبليو لايبنتر وفرانسوا كويناي مصدر الهامهم من الصين بكل فخر.
لكن هذا الفهم القديم لتنوع الفلسفة قد تم محوه من أوروبا كما يجادل بيتر جي كيه من جامعة دالاس في كتابه “إفريقيا وآسيا وتاريخ الفلسفة: العنصرية في تشكيل الشريعة الفلسفية” (١٧٨٠-١٨٣٠)، تم تفريغ النساء والمفكرين الغير أوروبيين من قوائم المناهج الدراسية بداية من أوائل القرن التاسع عشر فصاعدا، قرر كبار العلماء في أوروبا إنشاء قانون يستند الى النسخة الأوروبية الجديدة – حيث تتناسب بشكل أفضل مع عصرهم الإمبراطوري والعنصري والذكوري. من بين هؤلاء يوجد كريستوفر ماينرز، أستاذ في غونتغن يؤيّد سيادة العرق الأبيض، بدأ كتابه “تاريخ المنشأ: التقدم والاضمحلال للعلوم في اليونان وروما” (١٧٨١) بتعريف الفلسفة كمنتج خاص بالرجل الأوروبي فقط، أما ايدولوجياته فقد قام بنقلها المؤرخ الألماني فيليهلم تينمان والذي ساعد في إعادة تعريف تاريخ الفلسفة في كتابه “تاريخ الفلسفة” (١٧٩٨).
“في غضون جيل واحد، نجح الفلاسفة الأكاديميون في استبعاد العالم الغير أوروبي”
وكما أوضح بارك، جاءت نقطة التحول عندما أعلن جورج ويلهلم فريدريك هيغل عام ١٨٢٥ أنه يجب استبعاد الأعمال “الشرقية” من الفلسفة وفقا للكانطية الجديدة (حيث ظن أن الكانطية نوعا ما هي ذروة الفلسفة) بحكم أنها ليست “فكرة أو فلسفة حقيقية”، المفارقة أن هيغل نفسه هوجم من قبل جدليين مسيحيين لتقديمه نظام فكر “حلولي” و”شرقي”، ردّ عليهم هيغل بالانضمام الى الكانطية وتقديم الهيغلية كفلسفة مركبة ومتطورة كحيلة دفاعية. وفي غضون جيل واحد، يلخص بارك: “نجح الفلاسفة الأكاديميون في إقصاء العالم غير الأوروبي وترسيخ قانون للفلسفة يُقنّن تخصصهم المعرفي بكل صرامة”.
مما لا شك فيه أن فلاسفة اليوم بدأوا بالتراجع أخيرا عن هذه الرؤية قصيرة النظر لتاريخ تخصصهم الأكاديمي. على سبيل المثال، فإنه سيتم مناقشة انشاء قانون جديد وأكثر شمولا في الاجتماع السنوي الخامس عشر بعد المائة للفرع الشرقي للرابطة الفلسفية الامريكية (APA) في نيويورك في اوائل يناير ٢٠١٩. في العامين الماضيين، قامت الحملات الطلابية بطرح أسئلة مثل: “منهجي الدراسي لماذا هو أبيض؟”[1] والمطالبة بمناهج مستقلة ومتحررة. وفي الوقت نفسه، اشار كبار كتّاب الاعمدة مثل مينا سلامي في صحيفة الغارديان الى أن “الفلسفة يجب أن تتمحور حول ما يتجاوز الرجل الأبيض” لأن هدفها الوجودي هو استقصاء “الوجود الانساني بكليته”.
في يوليو من عام ٢٠١٨ أصبحت أنيتا لالن، أستاذة القانون والفلسفة في جامعة بنسلفانيا، أول امرأة سوداء تترأس القسم الشرقي لرابطة الفلسفة الامريكية – حيث بدأت الجمعية تأخذ هذا التنوع على محمل الجد. كما أن تجمع الفلاسفة الإناث السود – الذي أسسته كاثرين صوفيا بيل في جامعة بنسلفانيا – لا زال مفعما بالحيوية حتى اليوم. في نوفمبر ٢٠١٧، احتفل هذا التجمع بالذكرى السنوية العاشرة حيث ألقت الكلمة الرئيسية أنجيلا ديفيس. كرست كندا الروايات الجديدة لتجديد القانون الخاص بالفلسفة.
ومع ذلك، فالأرقام لا تزال تُظهر أن النساء غير البيضاوات في الولايات المتحدة – وفي أوروبا بهذا الخصوص – يتم تمثيلهن في التخصصات الطبيعية بشكل أفضل مقارنة بأقدم حقل في المجال الأكاديمي، لا يوجد تخصص آخر في العلوم الانسانية (مثل الفلسفة) في قلة تنوعه من حيث المناهج والطلاب والأساتذة، وغالبا ما تفتقر أقسام الفلسفة والمجلات وقوائم المناهج إلى التنوع مقارنة بما كانت عليه في السبعينيات.
لذا، نحن هنا الآن بعد قرنين من التشكل الأيديولوجي للشريعة الجديدة، ولا عجب أن النساء الفيلسوفات المذكورة أسماؤهنّ أعلاه من آسيا وإفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية – كلهنّ ولدن قبل الاستبعاد الحاصل في القرن التاسع عشر – لم يتم تضمينُ أسمائهنّ حتى اليوم إذ لا يتناغمن مع الهيكلة الشرعية المصطنعة، ولا حتى النساء الفيلسوفات الأوروبيات من العصر الحديث مثل إليزابيث بوهيميا (١٦١٨-٨٠) على الرغم من أن نقدها للثنائية الديكارتية جعلت رينيه ديكارت يتنازل بتوجيه خطاب لها قائلا: “بالنظر إلى كتاباتي التي نشرتها فإن السؤال الذي تفضلتِ بطرحه عليّ هو السؤال الصحيح الذي يجب أن يتم طرحه.”
مثل غارغي فاكافنافي في الهند قبل حوالي ٢٣٠٠ سنة؛ كانت إليزابيث تحاول استعادة دورها وحيّزها. يوما ما سيصبح من الممكن تضمين أصوات النساء الفيلسوفات المُهمّشات مرة أخرى، هؤلاء النساء قُمن بإلقاء الضوء على الأسئلة الأكثر إلحاحا في زمنهنّ، والإجابات الفلسفية التفسيرية التي لا تزال بحاجة للنقاش في القرن الحادي والعشرين. لقد كانت الفلسفة يوما من الايام عالما للمرأة، و قد حان الوقت لاستعادة شيءٍ من هذا العالم المفقود.
[1] اي يتعلق بكتّاب وفلاسفة من العرق الابيض. المترجم.