علاقة عامة بين المقدس والدنيوي
تضـمن كـل تصـور دينـي للعـالم تمييـزاًً نيبـ المقـدس والـدنيوي، يضـع فـي مقابـل
العالم حيث يتفرغ المؤمن بحرية لانشغالاته، مزاولا نشاطا بلا أثر يذكر على خلاصه،
مجالاً تتناوب فيه الخشية والأمل على شَلِّه،كما لـو كـان علـى حافـة هاويـة، إذ يمكـن
لأبسـط انحـراف فـي أقـل حركـة أن يـؤدي لا محالـة إلـى ضـياعه . الأكيـد أن مثـل هـذا
التمييز لا يكفي دوما لتحديد الظاهرة الدينيـة؛ لكنـه علـى الأقـل يزودنـا بمحـك يسـمح
بـالتعرف عليهـا باطمئنـان أكبـر .
والحـق أنـه مهمـا كـان الت عريـف المقتـرح للـدين، فمـن
اللافـت شـموله لهـذا التقابـل بـين المقـدس والـدنيوي، إن لـم يتطـابق معـه بشـكل تـام .
يتعـين علـى كـل واحـد منـا أن يسـلِّم ،ضـمن آجـال قـد تكـون ط ويلـة، وعبـر وسـاطات
منطقية أو إثباتات مباشـرة، بـأن المتـدين هـو أولا وقبـل كـل شـيء ذلـك الإنسـان الـذي
يعتقد بوجود وسطين متكاملين: يمكن أن يتصرف في أحـدهما بـلا قلـق أو ارتجـاف،
بحيث أن عمله هذا لا يستثمر إلا الجانب السطحي مـن شخصـه، والآخـر حيـث شـعور
بالتبعيـــة الحميمـــة يمنـــع، يحتـــوي، ويوجـــه مجمـــوع اندفاعاتـــه، فيجـــد نفســـه محاطـــا
بصعوبات لا حصر لها. هذان العالَمان ، المقدس والدنيوي ، لا يتحـددان بدقـة إلا مـن
خلال بعضهما البعض. إنهما يتنافيان و يفترض أحدهما الآخر
تعارض؟
ومن العبث محاولة اختـزال تعارضـهما ورده إلـى أي شـيء آخـر، فهـو يظهـر حقـا
كمعطى مباشر للوعي ، بوسعنا وصفه، وتفكيك عناصره، وصياغة نظريته. إلا أنـه لـيس
في مقدور اللغة المجردة تحديد ميزته الخاصـة، تمامـا مثلمـا يتعـذر عليهـا إبـراز الميـزة
التـي تتعلـق بإحسـاس معـين . علـى هـذا النحـو يظهـر المقـدس كمقولـة تنـدرج ضـمن
الحساسية. ولا شك أن هذه هي المقولة التي يسـتند إليهـا الموقـف الـديني، وهـي التـي
تمنحــه طابعــه المخصــوص، وتفــرض علــى المــؤمن شــعورا خاصــا بــالاحترام، يعطــي
لإيمانـه مناعـة ضـد روح الفحـص والتمحـيص، يجعلـه فـي منـأى عـن النقـاش، ويضـعه
خـــــــارج العقـــــــل وفيمـــــــا وراءه « .
إنهـــــــا الفكـــــــرة الأم فـــــــي الـــــــدين، كمـــــــا كتـــــــب
.هـ هـوبرت (Hubert.H ،(فالأسـاطير والمعتقـدات تـنهض بتحليـل مضـامينها، وتسـتخدم
الطقوس خاصـياتها، وتُشـتق منهـا الأخـلاق، ويجسـدها الك هنـوت، وترسـخها المعابـد و
الآثـار الدينيـة غارسـة جـذورها فـي الأرض . إن الـدين هـو إدارة وتـدبير للمقـدس . » لـن
نعثــر علــى تحديــد أكثــر قــوة مــن هــذا لبيــان كيــف تــنعش تجربــة المقــدس مجمــوع
تجليـات الحيـاة الدينيـة المختلفـة، التـي تَظهـر كحاصـل لعلاقـات الإنسـان بالمقـدس،
فالاعتقادات تقوم بعرضها وتوفير الضما ن لهـا، أمـا الطقـوس فهـي بمثابـة الوسـائل التـي
تُؤمنُها عمليا
المصدر: (المقدس والدنيوي – قضايا إسلامية معاصرة)، عبد الجبار الرفاعي 2011