مجلة حكمة
المفاهيم المجردة والأنساق الفلسفية

المفاهيم المجردة في السياقات الفلسفية: تحليل معضلة إدراك الزمن – هيثم الماجد


توطئة

تعريفُ ما لا يُعرّف

تُعَرَّف الأشياءُ بحدودها، فإذا كان حدُّها الأوحد أن لا حدود لها فالتعريف أشبه بالتناقض المنطقي الذي يدور في حلقة مفرغة بين البحث عن الحدود بغرض الإدراك، ونفي هذه الحدود للوصول للبعد المجرد؛ وبين هذا وهذا تتأرجح أكثر المفاهيم غموضًا وأكثرها وضوحًا، وقد نطلق عليها تجاوزًا سمةَ حدها الوحيد (التجريد) فندعوها المفاهيم المجردة.

تتجلى جدلية الفهم والخلط بشكل أكبر في هذا النوع من المفاهيم، فهي وإن تميزت عن غيرها بكونها مُدركةً بمعزل عن أي سياق أو نسق يجليِّها؛ إلا أن هذا الإدراك يبقي غير كافٍ للإحاطة الكلية إلا من خلال الأنساق التي تتموضع فيها هذه المفاهيم بحيث تكون هي حجر الزاوية في أبنيتها. ولذا فالمفاهيم التي يمكن نعتها بأنها مجردة تمتاز بتضمنها للمعنى في ذاتها دون استعانتها بمتصل مادي خارجي أو متصل لفظي يجليها من خلال السياق، وهي مع هذا عصيَّة على الإدراك بشكل واضح، الأمر الذي جعلها لفترات متطاولة خارج أُطُر البحث مع كثرة التعويل عليها واستخدامها كمفاتيح وحسب، إلا أن أياً ممن بحثها لم يحاول في بادئ الأمر سبر غور هذه المفاهيم في ذاتها، ربما لأنها مدركة ضرورةً، أو هكذا يظن.

من خلال هذا العرض نجد أننا مرغمون على الانسياق خلف جدلية إدراك المفهوم المجرد في ذاته لندرك النسق الذي يتضمنه مقابل استنباط المعنى المتضمن في المفهوم من خلال فهم النسق الذي يتمحور حول هذا المفهوم. ولتحقيق ذلك نبحث قدر استطاعتنا في الأنساق الكبرى بغيتنا اقتناص نقاط التقاطع بين الأنساق التي تشكل في غالبها مفاهيم مجردة مركزية في الأنساق المتقاطعة.

ولَإن رغِمنا للقول بتحجيم دور الفلسفة بعد أن استُبدِلت بالعلم – قطعِيّهِ أو ظنيهِ – في مقابل فضاء السؤال الفلسفي المتعالي على الحس المباشر عادة، إلا أن هذه المفاهيم ستبقى مثار السؤال العقلي الذي لا يكتفي بنتائج الحس المباشر ومعطياتها القاصرة عن الإحاطة الكلية؛ على أن نتائج العلم تبقى عناصر رئيسة في البحث الفلسفي ولبِنَات تشكل قاعدة أكثر متانة لهذا البناء العقلي. وهذه الاعتمادية تشكل في هرمية الفكر الإنساني مسارَه الصاعد من مدخلات الحس المباشرة – بغض النظر عن مدى صحتها – إلى مراحل التحليل والربط وتشكُّل الأفكار العامة والنظريات الشاملة، وهي المرحلة المبكرة للإدراك قبل النزول من العموميات العقلية إلى التفاصيل المادية في فترة القرن الرابع قبل الميلاد وما بعدها وهي الحقبة التي شكّلت عند البعض نقطة الانطلاق؛ إلا أنها لا تعدو كونها نقطة من نقاط انعطاف الوعي في تدرجات هرم الإدراك الإنساني.

حول هذه المفاهيم تدور هذه السلسلة في محاولة لقراءة الأنساق الفلسفية الكبرى بطريقة مختلفة استنجادًا بـ المفاهيم المجردة التي شكلت أُطُرها العامة وقراءة الجدلية بين النسق والمفهوم الذي يفضي في نهاية المطاف إلى تجريدٍ للمفهوم الأهم وهو الزمن.


في البدء كانت المعرفة..

استنفَذَت جهدَ الإنسان ابتداءً محاولةُ إدراكه لكُنْهِ ما حوله متخذًا من حواسّه أدواتٍ للإدراك؛ وربما لم يكن دافعه أبعد من رغبة طبيعية للبقاء، رغبةً مدفوعةً بإحساسه بالخطر الذي يحتم عليه السعي للأمان. هذه التجارب الأولى للإدراك فرضت عليه أدوات البحث سنوات متطاولة باعتبارها نافذته الوحيدة على الخارج. وحين أصبح السؤال الوجودي ملحًا – في حدود الألف الثالثة قبل الميلاد – ظهرت الأساطير التي تحكي ابتداء هذا الوجود وعلته. كانت الصبغة الإلهية في هذه الأساطير قوية غير متلبسة بلباس القداسة، بل بلباس القوة الخارقة لابتداع كل شيء. خلت الكتابات الأولى من الجانب المقدس في الآلهة وركزت على جانبين رئيسين هما القوة والصراع كما تجلى في أسطورة مبكرة مثل “حينما في الأعالي” لتصبح أكثر ملحمية وإنسانية في “كلكامش“. وبعيدًا عن البحث في الأساطير الأولى، فقد شكلت هذه الآثار الخالدة تساؤلات الإنسان وتعدت حدود الأدوات الحسية للبحث الأنطولوجي فيما وراء المُدرك لتكون بذلك انطلاقه لبعد آخر أكثر رحابة من قيود الطبيعة.

شكَّل الدين فضاء الفكر ردحًا من الزمن، فكانت الرؤى الميثولوجية وسيلة للتعبير العقلي بخلاف من يخرجها عن دائرة السؤال الفلسفي لمجرد أنها اتكأت على ركن المتعالي المقدس ولم تصرِّح بإنسانيتها؛ عدا أنها مع ذلك فرضت وجودها في البُنى العقلية اللاحقة على شكل إشارات ورموز.

سننتظر طويلًا حتى القرن السادس قبل الميلاد حتى نشهد المغامرات الأولى للعقل الإنساني بصبغته الإنسانية وتجريده. كانت هذه المغامرات أسئلة يطرحها الإنسان على نفسه ليعرف نفسه، ليدرك لماذا يدرك بعيدًا عن كل شيء. لذلك فسؤال المعرفة – كيف أعرف؟ – كان مدخل العقل على ذاته. ظهرت هذه الإرهاصات في الشرق القديم مع لاوتزي و كونفشيوس منقلبة على كل ما هو خارجي متجهة نحو الذات الداخلية لإدراكها. تأثرت رؤى حكماء الشرق بالميثولوجيا الأقرب جغرافية، فتمثلت الفكرةَ الفارسية صاحبة السبق في إضفاء الطابع المثنوي على الوجود. كانت المثنوية حاضرة في رؤى لاوتزي مما أدى بها لتكون الإطار الرئيس في الفكر الطاوي فيما بعد. كوّنت تلك الرؤى بديلا أكثر رحابة من الفكر الميثولوجي الذي تكاثرت حوله القيود وخاصة بعد تطوره ليصبح طقوسًا تعبدية تتسم بالقداسة الأمر الذي حتم تحولها لفكرة نخبوية – إن جاز التعبير – تحتكرها شريحة معينة دون البقية لاعتبارات اجتماعية واقتصادية أحيانًا. لذلك نجد في الطاوية – مثلا – وما تلاها من نِحَل الحضارات الشرقية فكرة جديدة تبحث عن الإنسان في داخله وتبحث عن الإجابات في رحم الأسئلة، حتى حينما تحولت النِحل العقلية إلى ديانات فيما بعد، أصبحت ديانات بلا آلهة متميزة بذلك عن كل ما عداها.

يقول لاوتزي: “معرفتك للآخرين ذكاء. معرفتك لنفسك هي الحكمة الحقيقية”، بهذه المقولة اتسع فضاء الداخل الذي عاشت في كنفه الطاوية متوسلة بفكرة مثنوية مميزة تقوم على ثنائية الين واليانغ اللذين يمثلان التوازن الداخلي لينعكس توازنًا خارجيًا، في خروج على الفكر المثنوي القديم الذي يقدم أحد طرفيه كمنبعٍ للخير في مقابل منبع الشر. بهذا الخروج من قيود الخارج، مثل الفكر الشرقي القديم بعدًا تجريديًا في ذاته متخذًا هذا التجريد طريقًا للفهم أو لفهم علة الفهم، فكان ببحثه عن الحكمة في ذاته يبني بشكل أو بآخر أُولى نظريات المعرفة التي سنتخذ منها إطارًا عامًا في هذا البحث.

غير بعيد قال سقراط: اعرف نفسك بنفسك، وعلى حادثته الشهيرة بنى أفلاطون نظرية الكهف كأول نسق متكامل لنظرية معرفية. ومنه تكون نبدأ البحث في الأنساق الكبرى تتبعًا للمفاهيم المجردة.