مجلة حكمة
الفن خبرة

في ضرورة التربية الفنية للمجتمعات: قراءة في كتاب الفن خبرة لجون ديوي – بدر الدين مصطفى


كان الفيلسوف الأميركي جون ديوي (1859- 1952) واحداً من أبرز المفكرين في القرن العشرين.  وهو وإن كان ينتمى إلى الفكر البراغماتي بعدما كانت بداياته هيجلية، فإنه اختطّ لنفسه، ضمن إطار “البراغماتية”، طريقاً أبعدته بعض الشيء عن طريق علمي البراغماتية الآخرين بيرس وجيمس. وهذه الطريق الخاصة بديوي هي التي جعلت المفكر الراحل  زكي نجيب محمود، يرى أن فلسفة ديوي يمكن أن يطلق عليها اسم ذرائعية، وذلك انطلاقاً من بُعدها الوظيفي الاجتماعي الواضح. ويرى  زكي نجيب أنه بما أن “أول حجر يوضع في بناء الديموقراطية هو التربية، التي تؤدي إلى ذلك البناء”، كان من الطبيعي للتربية “أن تكون أحد الميادين الأساسية التي خلق فيها ديوي وابتكر” هو الذي كان من أوائل كتبه وأهمها المدرسة والمجتمع. غير أن ديوي كان يرى في الوقت نفسه أن لا تربية من دون التقاط المرء، طوال حياته، تلك الخبرة الجمالية التي تشكل وعيه وتعطي تربيته، وبشكل متواصل، زخمها. وهو من هنا كان يرى في الفن وسيلة تربوية عملية شديدة الأهمية. وقد عبّر عن هذا في معظم كتبه ومحاضراته ودراساته، مكرسا لخبرة الفن واحداً من أهم كتبه، وهو الكتاب المعنون بالتحديد الفن خبرة ، والذي صدر في العام 1933 في نيويورك. والكتاب مؤلف أصلاً من عشر محاضرات ألقاها جون ديوي تباعاً في العام 1931، لتشكل فتحاً جديداً في عالم النظرة إلى الفن، وتحديداً في عالم رسم العلاقة الحقيقية بين الفن والإنسان، من ناحية أن الفن بالنسبة إلى ديوي لا يمكن فصله عن الحياة الاجتماعية اليومية ولا عن التربية، حتى وإن كان الجانب الإبداعي منه نخبوياً صرفاً.

 

نقد التصور المفارق للفن

       يبدو واضحاً أن الجمال بالنسبة لديوي على علاقة وثيقة بالمفاهيم الإنسانية الأخرى، إذ ليس ثمة مجال في عصرنا -ولم يكن ثمة مجال في العصور السابقة أيضاً- لوجود تصوّر للجميل بوصفه تجلياً معزولاً تماماً عن بقية المفاهيم الإنسانية.

إنّ الخبرة أو التجربة الجمالية؛ لا تختلف عن أية خبرة من الخبرات اليومية إلا بكونها أكثر نظاما وأدق تركيبا من غيرها، لذلك عادة ما يتلخص معنى التجربة الجمالية في قدرتها على التنسيق والتنظيم بين مختلف الدوافع والمتطلبات الإنسانية وفي النهاية تحقق بلوغ لذة وتوازن ومتعة.

كتاب ديوي بمثابة تطبيق لمفهوم الخبرة على مجال الفن وعلم الجمال، لأنّ النشاط البشري في نظره؛ لا يمكنه أن ينفصل ويتجرد من الواقع، والدليل على ذلك ما نلمسه في منشأ الفنون وتطورها، فالفن البدائي جل مواضيعه كانت تتمحور حول اهتمامات الناس المختلفة في الحياة اليومية. ولهذا فإن التجربة الجمالية لا يمكن أن تكون داخل كيان فرد منعزل عن الجماعة، بل إن تفاعل الفرد مع بيئته هو الذي يسمح له بالتعبير عن ذاته بمختلف الوسائل، ومن هنا تنشأ الخبرة الجمالية.

الخبرة الجمالية بوصفها خبرة بينية

لكن موقف جون ديوي ليس فقط موقفاً سلبياً يهمه التشديد على خطأ فكرة الفصل بين الحياة اليومية والنتاجات الجمالية (الفنية)، بل هو موقف بنّاء ايضاً. وهو في بعده البنّاء هذا يرتبط مباشرة بقضية التربية، وليس بوصف التربية موجّهة الى طلاب المدارس والجامعات فقط، بل بوصفها نشاطاً تثقيفياً موجّهاً إلى كل الناس والى كل الأعمار، إلى المجتمع ككل في رسم وعي يومي هو واحد من الطرق الرئيسة التي تحقق الديموقراطية الحقيقية.

ومن هنا بالتحديد يدرس ديوي القيم الجمالية بوصفها “تعبيراً عن تجربة (خبرة) مشتركة” لا بوصفها “ظاهرة على حدة”. وديوي انطلاقاً من هنا يفسر ويحلل المشاعر التي لا يكف وجدان البشر عن استشعارها تجاه الخبرات المشتركة، ما يوصله الى الاستنتاج بأن مشاعر مثل الفرح والخوف ليست بأي حال أحاسيس ثابتة ومؤقتة، بل هي “تضافر لخبرات داخلية يثيرها حدث ما، يجري خارج ذواتنا…”. وفي هذا الإطار يتابع ديوي محللاً، أن كل “خبرة” إنما هي “نتيجة لعبة متبادلة بين القوى التي تتحرك بن حدث خارجي وإبداع داخلي… وهذه اللعبة ليست بأي حال لعبة سببية ولا هي حتى فوضوية: بل هي لعبة تتبع إيقاعاً معيناً، وسيرورة واضحة… لعبة لها بداية ولها نهاية. وحين تتطور هذه السيرورة في شكل متناسق، ترتدي بفضل هذا التطور قيمة جمالية، مستقلة عن كل جهد يبذل لخلق عمل فني… أما العمل الفني نفسه فإنه يولد من رحم تلك الحاجة الى التعبير عن تلك الخبرة التي كان سبق لها اصلا ان ارتدت طابعا جماليا. ففي البداية تكون لتلك الخبرة قيمة جوّانية غير واضحة التعبير. اما الأشياء البرّانية والمشاعر الراهنة او السابقة، فإنها عند ذاك تفعل بوصفها ادوات تعبير”.

 تحليل الظاهرة الفنية والظاهرة الجمالية

لقد غلب التمييز بين الظاهرة الفنية والظاهرة الجمالية، باعتبار أنّ الأولى تشير إلى عملية إنتاج، صناعة وإبداع بيد أنّ الثانية تشير إلى عملية إدراك وتذوّق وتقدير للمنتج الفني.

  • فالظاهرة الفنية إذن؛ تعبّر عن وجهة نظر المصنّع أو المنتج.

  • أمّا الظاهرة الجمالية فهي تعبير عن أذواق المستهلك.

      ونلمس من هذه المقارنة البسيطة؛ أنّ هناك علاقة بين الصانع و المستهلك فكلاهما يِؤثر في الأخر، فالأوّل بالنشاط الفعلي والثاني بالنشاط الذوقي والحكم الجمالي على تلك المنتجات، لذلك فقد لا يكون هناك حاجة للتفريق بين الظاهرة الجمالية والظاهرة الفنية إلى حد الفصل بينهما، فلكي يكون العمل فنيا فلابدّ له أن يكون جماليا حسبه. وفي تحليلنا لتلك الظاهرتين نلاحظ عودة ديوي إلى فكرة مركزية تتمثل في الخبرة حيث يقول أنّ لهذه الخبرة طابعا جماليا وإلاّ لما كان بالإمكان تنظيمها على تلك الصورة الجمالية. والواقع أنّ جمال الأداء أو الفعل لا يمكن الحكم عليه إلاّ بالرجوع إلى أولئك الذّين يدركون ويتذوقّن النتاج الفني، وإذا أريد للعمل أن يكون فنيّا؛ فلابدّ له أن يكون جماليا، فالإنسان ينحت ويصوّر ولكن عمله لا يعدّ ذو طابع فنيّ، إلاّ إذا تبعه حكما.

 الفن والتقدير الجمالي

     ثمة أسباب تاريخية، بحسب ديوي، عملت على ظهور التصوّر الانعزالي للفن، ولتبيان ذلك، يستعين بأمثلة مأخوذة من الواقع، فلو ذهبنا إلى المتحف وزرنا المعارض؛ سنجدها مملوءة بمختلف الآثار والتحف الفنية، هذه المتاحف تعدّ المسبب الأول في عزل الفن وإبعاده عن سائر أشكال الحياة البشرية، إلى جانب ذلك يعتبر الرأسمالية عاملا هاما لنشوء المتاحف التي تعتبر المقابر الطبيعية للأعمال الفنية عازلة الفن عن الواقع، مع العلم أن التطور الصناعي والاقتصادي ساهم في ذلك فأصبح من غير الممكن مجارات الفنان للآلة.

      وعلى هذا الأساس، فإن النظرية التي تعزل الفن والتقدير الجمالي عن ضروب الخبرات الأخرى، لم تنشأ من طبيعة الظاهرة الفنية، بل جاءت نتيجة ظروف خارجية أدت إلى عزل الخبرة الجمالية عن الحياة اليومية، ولتفادي العزل؛ يجب إعادة ربط الصلة بالعودة إلى التجارب الماضية التي ساهمت في بناء وقيام الحضارات.

دور التجربة الجمالية في تطوير المجتمع والحضارة

      إنّ الفن حسب ديوي وثيق الصلة بالحضارة، بدليل أن شتى خبرات المجتمع العملية، الاجتماعية والتربوية قد اصطبغت في كل مكان وزمان بصبغة جمالية واضحة، فالناظر إلى ما خلفته الحضارات القديمة من آثار ومعالم كالأهرامات أغلب هذه الآثار تتضمن أو تحمل صفة جمالية مما يجعل الفن لصيق بالضرورة العملية، أي الحاجة الاجتماعية منذ القديم- عاداتها أنظمتها وصناعاتها- حيث يقول ديوي “كلها تتضمن مسحة جمالية مما يجعل من الفن غير منزّه عن المصلحة العملية والنشاط الجمالي اندمج ضمن اهتمامات الحياة الاجتماعية والحضارية”.

        ويضيف فيلسوف الخبرة؛ أن الفن كان دائما ظاهرة مصاحبة للعبادات والطقوس الدينية لذلك نجد لكل حضارة فنونها الخاصة، نفهم من ذلك أن الحضارة لصيقة بالفن وتابعة لها، فلا حضارة دون فن حسب ديوي، ويظهر ذلك من قوله “أن الخبرة الجمالية …مظهر لحياة كل حضارة وسجل لها ولسان ناطق يخلد ذاكراها ويحفظ أمجادها”.

بقي أن نذكر هنا أن ديوي يقف بقوة ضد كثر من علماء الجمال الذين فرّقوا دائماً بين “الفنون الجميلة” و”الفنون التطبيقية”، مبيناً أن تاريخ الحضارات البشرية، يأتي شاهداً على أن أي مجتمع من المجتمعات لم يفصل يوماً الفن عن الصناعة، أو الخبرة الجمالية عن الخبرة العملية، ما ينكر على النزعة المتطرفة المنادية بأن “الفن للفن” أي صدقية. وإذا كان “الأفراد هم الذين يخلقون التجربة الجمالية ويتمتعون بتذوّقها، فمن المؤكد أن الحضارة التي ينتسبون إليها هي التي تساهم في تشكيل الجزء الأكبر من مضمون تجربتهم”.