الكاتب | ستيفن جونسون |
ترجمة | عبد القادر مساعد |
لقد ارتبطت الصحراء بارتفاع درجات الحرارة، فعندما نقول إن حدثاً ما سبب حرارة عالية في الصحراء فقد لا يبدو ذلك شيئا مثيرا للاهتمام، ولكن ما نتحدث عنه هنا كان حدثاً سبب حرارة عالية جداً وكان تأثيرها غير عادي.
منذ ما يقرب من ستة وعشرين مليون عام، ذابت حبيبات السيليكا في رمال الصحراء الليبية وانصهرت نتيجة حرارة شديدة- ربما لم تكن تقل عن 1000 درجة فهرنهايت (538 درجة مئوية) – ويعتقد العديد من العلماء أن هذا حدث نتيجة اصطدام مذنب سبب انفجارا تسبب في الحدث.
وعندما بردت تلك الحبيبات الساخنة، أصبح جزءاً واسعاً من الصحراء الليبية مغطى بطبقة من الزجاج!
وقبل حوالي عشرة آلاف سنة، قد تزيد أو تنقص بضعة آلاف من السنين، عثر شخص كان مسافرا عبر الصحراء على قطع كبيرة من هذا الزجاج.
وانتقلت هذه الأجزاء من خلال الأسواق والشبكات الاجتماعية لتلك الحضارة المبكرة، وانتهى ببعضها الأمر كمحور دبوس بروش، منحوت على شكل خنفساء الجعران، وبقي هناك دون أن يمس لمدة أربعة آلاف سنة، حين اكتشفه علماء الآثار في عام 1922 في غرفة دفن الفرعون توت عنخ آمون، المعروف أكثر باسم الملك توت.
السيليكا، أو ثاني أكسيد السيليكون، مركب كيميائي متوفر بكثرة على كوكبنا، حيث يتكون أكثر من 50 في المائة من قشرة الأرض من هذا العنصر، والذي لا يلعب أي دور تقريبًا في عمليات التمثيل الغذائي الطبيعي لأشكال الحياة القائمة على الكربون (مثل حياتنا) أو في التقنيات التي تعتمد على الوقود الأحفوري والبلاستيك.
وأحد أسباب عدم استخدام الحضارة كثيرًا لثاني أكسيد السيليكون هو أن معظم الأشياء المهمة الناتجة عن هذه المادة لا تظهر حتى تصل هذه المادة إلى درجات حرارة حوالي 1000 درجة فهرنهايت (538 درجة مئوية).
وهذا النوع من الحرارة لا يمكن الحصول عليه على سطح كوكب الأرض بدون التكنولوجيا المناسبة، والتي حصلنا عليها بمجرد أن اخترع الإنسان الفرن، ومن خلال تعلم كيفية توليد الحرارة الشديدة في بيئة خاضعة للتحكم، فتحنا الإمكانات الجزيئية لثاني أكسيد السيليكون، واكتشفنا كيفية صنع الزجاج، والتي سرعان ما غيرت الطريقة التي نرى بها أنفسنا والعالم من حولنا.
مصنوع من الزجاج
انتقل الزجاج من الزخرفة إلى التكنولوجيا المتقدمة خلال ذروة سلطة الإمبراطورية الرومانية في القرنين الأول والثاني، وحدث ذلك عندما توصل صانعو الزجاج إلى طرق لإنتاج مواد أكثر ثباتًا وشفافية من الزجاج الطبيعي المستخدم في جعران الملك توت.
و قام الحرفيون الرومانيون ولأول مرة في التاريخ بتشكيل السيليكا المذابة في أشكال أوعية للشرب والتخزين وعلى شكل ألواح زجاجية.
ولو قفزنا إلى الأمام ألف عام، إلى مدينة القسطنطينية، وهي مدينة ثرية أصبحت الآن مدينة اسطنبول في تركيا، حيث كانت الحرب المقدسة التي تسببت في حصار وتدمير هذه المدينة في عام 1204 واحدة من تلك الزلازل التاريخية التي سببت هزات نفوذ متتالية في جميع أنحاء العالم، كما أرسلت مجتمعًا صغيرًا من صانعي الزجاج من تركيا غربًا عبر البحر الأبيض المتوسط إلى البندقية، وهي مدينة مزدهرة على شواطئ البحر الأدرياتيكي.
وفي القرن الثالث عشر، كانت البندقية أهم مركز تجاري في العالم، وقام صانعو الزجاج الأتراك الذين استقروا هناك وأوقدوا أفرانهم الحارقة بإبداع سلع فاخرة جديدة للتجار لبيعها في جميع أنحاء العالم، كما تسببوا عن طريق الخطأ في حريق الأحياء المجاورة.
وفي عام 1291، وفي محاولة للاحتفاظ بالمهارات المربحة لصانعي الزجاج وفي نفس الوقت حماية السلامة العامة، أمرت حكومة البندقية الأتراك بالانتقال على بعد ميل عبر بحيرة البندقية إلى جزيرة مورانو، مما أدى، دون قصد، إلى نشأة ما نسميه الآن “مركز الابتكار” أي مكان مثل وادي السيلكون، حيث تميل الأفكار والتقنيات الجديدة إلى الازدهار.
ولدى الاقتصاديين مصطلح لهذه الظاهرة هو” انتشار المعلومات”، ويقوم على مبدأ: اجمع الناس معًا، فلدى الأفكار ميل طبيعي للتدفق من عقل إلى عقل.
كانت جزيرة مورانو مكتظة بالسكان، مما يعني أن الأفكار الجديدة حول صناعة الزجاج انتشرت بسرعة، خاصة وأن العديد من صانعي الزجاج كانوا من ذوي القرابة، وتشكل نجاح مورانو عبر المشاركة بقدر أكبر مما كان عبر المنافسة.
وحقق أحد أعضاء هذا المجتمع الإبداعي -صانع الزجاج أنجلو باروفير Angelo Barovier – أحد التغييرات الأساسية في صناعة الزجاج، فبعد سنوات من المحاولة والخطأ مع مواد مختلفة، أحرق باروفير نبتة الملح، وهو نبات غني بالمعادن كان قد استورده من سوريا على بعد مئات الأميال، واستخرج المعادن من الرماد؛ وأضافها إلى الزجاج المصهور، وعندما برد الخليط، ظهر نوع استثنائي من الزجاج، يمكنك الرؤية من خلاله، وكانت هذا ولادة الزجاج الحديث.
حين ننظر حولنا اليوم نعتبر أن من المسلم به أن الزجاج مادة شفافة، قد اعتدنا جدًا على رؤية الزجاج في كل مكان في عالمنا حتى أننا لا نفكر فيه على أنه تقدم تكنولوجي.
لكن قبل ثمانمائة سنة، جعلت القدرة على صنع زجاج شفاف مورانو واحدة من أكثر الأماكن تقدمًا من الناحية التكنولوجية على كوكب الأرض، وتبين أن اكتشاف باروفير سيكون أكثر أهمية مما كان يمكن أن يدركه هو.
وكما نعلم الآن، تمتص معظم المواد طاقة الضوء، ولكن بسبب تكوينه، يسمح ثاني أكسيد السيليكون للضوء بالمرور، وهذا هو سبب شفافية الزجاج، كما يمكن استخدامه أيضًا لتوجيه أو تغيير أو حتى حجب موجات الضوء، وتحولت خاصية الزجاج هذه إلى خاصية أكثر ثورية من مجرد الشفافية البسيطة.
فخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، عمل الرهبان في الأديرة الأوروبية على المخطوطات الدينية، وكانت الصفحات مكتوبة ومرسومة بشكل معقد، وكان الرهبان يعملون في كثير من الأحيان على ضوء الشموع، وبدأ الكثير منهم باستخدام قطع الزجاج المنحنية كأدوات للقراءة، حيث عمل الزجاج كمكبّر للخط فوق الصفحة.
ولا أحد يعلم على وجه اليقين متى أو أين حدث ذلك بالضبط، ولكن في شمال إيطاليا، أخذ صناع الزجاج في العصور الوسطى هذا الابتكار خطوة أخرى إلى الأمام، حيث قاموا بتشكيل الزجاج في قرصين صغيرين منتفخين في الوسط ووضعوا كل قرص في إطار، وربطوا الإطارات معًا من الأعلى، ومن هنا ظهرت أول نظارة في العالم!
ولفترة استمرت عدة أجيال، تم استخدام هذا الجهاز العبقري بشكل حصري تقريبًا من قبل الرهبان والعلماء.
ففي ذلك الوقت، كانت الغالبية العظمى من الناس أميين لا يقرأون، فلذلك لم يكن لديهم حاجة لفك أشكال صغيرة مثل الحروف كجزء من نشاطهم اليومي، وظلت النظارات نادرة ومكلفة.
ولكن جاء عامل معادن ألماني فغير كل ذلك، عندما اخترع يوهانس جوتنبرج المطبعة في أربعينيات القرن الرابع عشر، مستخدما نموذج مكبس لولبي خشبي يستخدم لسحق العنب لتحضير لنبيذ، وأنتج حروفًا فردية- قابلة لإعادة الاستخدام -مصنوعة من المعدن وبدأ الطباعة.
وتعد مطبعة جوتنبرج الشهيرة مثالًا رائعًا على تكييف التكنولوجيا الموجودة للحصول على نتيجة جديدة كاملة في مجال مختلف تمامًا.
وبفضل هذا الاختراع، أصبحت الكتب المطبوعة لأول مرة رخيصة نسبيا وسهلة الحمل، مما أدى ذلك إلى زيادة معرفة القراءة والكتابة، وفتحت أعين الناس بطرق عديدة على نوافذ جديدة للمعرفة.
و أدرك عدد كبير من الناس أنهم كانوا يعانون من بعد النظر، فهم لم يتمكنوا من رؤية الأشياء عن قرب – مثل الصفحة المطبوعة – بشكل واضح ، فلذلك كانوا بحاجة إلى نظارات.
وفي غضون مائة عام من اختراع جوتنبرج، ازدهرت تجارة الآلاف من صانعي النظارات حول أوروبا، وكانت النظارات أول قطعة من التكنولوجيا المتقدمة التي كان يرتديها الناس العاديون بانتظام منذ اختراع الملابس في العصر الحجري الحديث.
ولم تكن أوروبا غارقة في العدسات فحسب، بل أيضًا في الأفكار حول العدسات، ولأول مرة، كانت خصائص ثاني أكسيد السيليكون على وشك أن يتم تسخيرها ليس فقط لتحسين ما يمكننا رؤيته بأعيننا، ولكن لرؤية الأشياء التي تتجاوز الحدود الطبيعية للرؤية البشرية.
حياة أفضل بالعدسات
في أواخر القرن السادس عشر، وفي بلدة ميدل بيرغ Middelburg الصغيرة في هولندا، قام صانعو النظارات الأب والابن هانز وزاكارياس يانسن بتجربة وضع عدستين في خط مع بعضهما البعض، ولاحظا أن ذلك أدى إلى تكبير الأشياء التي كانوا ينظرون إليها.
وبعد عدة تجارب توصلا إلى اختراع المجهر، وفي غضون سبعين عامًا، حقق العالم البريطاني روبرت هوك اكتشافًا مهماً باستخدام هذا الاختراع.
فقد نظر إلى شريحة رقيقة من الفلين من خلال عدسة مجهرية ولاحظ أنه كان مصنوعًا من “مسام أو خلايا، لم تكن عميقة جدًا، ولكنها كانت تتكون من العديد من الصناديق الصغيرة”، لقد حدد هوك للتو أحد اللبنات الأساسية للحياة: الخلية، وانطلقت منها ثورة في العلوم والطب.
واستغرق المجهر ما يقرب من ثلاثة أجيال لإنتاج تحول حقيقي في العلم، ولكن أداة أخرى ذات عدسات زجاجية حفزت التغيير بسرعة أكبر، فبعد عشرين عامًا من اختراع المجهر، اخترعت مجموعة من صانعي العدسات الهولنديين التلسكوب، وعندما علم العالم الإيطالي جاليليو جاليلي بهذا الجهاز المعجزة الجديد “لرؤية الأشياء البعيدة كما لو كانت في مكان قريب”، قام بتعديل تصميم التليسكوب للوصول إلى تضخيم الرؤية العادية عشرة أضعاف.
وفي يناير من عام 1610، استخدم جاليليو تلسكوبه لرصد الأقمار وهي تدور حول المشتري، وكان هذا أول تحد حقيقي للاعتقاد الراسخ بأن جميع الأجرام السماوية تدور حول الأرض.
وبعد عدة مئات من السنين- في القرنين التاسع عشر والعشرين- استمرت العدسة في التأثير بشكل كبير على حياة المجتمع، فقد ساعدت عدسات الكاميرات المصورين على تركيز أشعة الضوء على الورق المعالج خصيصًا لالتقاط الصور، كما استخدمت كاميرات الأفلام وأجهزة العرض العدسات لتسجيل ثم عرض “الصور المتحركة” للمرة الأولى.
وأحب الناس الخروج إلى السينما لمشاهدة الأفلام، وبعد ذلك، استمروا في مشاهدة التلفزيون، الذي بدأ في الأربعينيات من القرن العشرين، عندما اكتشف المخترعون أن طلاء الزجاج بالفسفور وإطلاق الإلكترونات عليه يؤدي إلى إنتاج الصور.
فكر قليلا في جميع المكونات الأساسية للحياة الحديثة التي تعود جذورها إلى الزجاج الشفاف مثل: الاكتشافات الطبية التي تأتي من دراسة الخلايا والميكروبات من خلال المجاهر؛ الصور الفوتوغرافية والبرامج التلفزيونية والأفلام الرائجة والزجاج الأمامي للسيارات والطائرات وناطحات السحاب الزجاجية.
كيف سيكون العالم مختلفًا اليوم لو فشل سكان البندقية في اختراع الزجاج الشفاف، أو إذا كان ثاني أكسيد السيليكون لا يسمح للضوء بالمرور من خلاله في المقام الأول؟
تعتمد كل هذه الاختراعات على القدرة الفريدة للزجاج على نقل ومعالجة الضوء، ولكن للزجاج خاصية مادية أخرى أخفق صناع الزجاج الرئيسيون في مورانو وصانعو عدسات عصر النهضة في استغلالها، وهذا الجانب من الزجاج سيغير أيضًا الحياة الحديثة – بمجرد أن يكتشفها رجل ذو قوس ونشاب.
استعد، صوب، أطلق!
كان تشارلز فيرنون بويز فيزيائيًا في الكلية الملكية للعلوم في لندن في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وكان لديه موهبة تصميم وبناء الأدوات العلمية.
وفي عام 1887، أراد بويز إنشاء قطعة زجاجية دقيقة جدًا لقياس تأثيرات القوى الصغيرة جدًا على الأشياء، وتركزت فكرته على استخدام ألياف رقيقة من الزجاج للمساعدة في إنشاء أداة القياس هذه، ولكن من أين يحصل على تلك الألياف؟
وبما أن عملية القياس الجديدة تتضمن غالباً إنشاء أداة قياس جديدة، فقد اتخذ بويز نهجًا غير عادي لتطوير أداته، فقد أحضر قوسًا إلى مختبره، وقام بإنشاء سهام خفيفة الوزن (أو مسامير) لهذا السلاح، ثم باستخدام شمع الختم، قام بتثبيت نهاية قضيب زجاجي بالمسمار، وسخن القضيب الزجاجي حتى يلين وأطلق، فاندفع المسمار نحو هدفه، وسحب خيطا رفيعا من ألياف الزجاج المصهور الذي لا يزال يتشبث به.
وفي إحدى محاولاته، أنتج بويز خيطًا من الزجاج امتد طوله 90 قدمًا تقريبًا، والأكثر إثارة للدهشة هو أن الألياف الزجاجية كانت متينة مثل خيط من الفولاذ بنفس الحجم.
على مر آلاف السنين، صنع الناس الأشياء الزجاجية لأنها كان جميلة وشفافة، ولكن كان عليهم العمل على حقيقة أنها كانت هشة وتحتاج لمعاملة خاصة، ولكن تشير التجربة التي قام بها بويز باستخدام قوسه إلى أن هناك طريقة أخرى مختلفة للتفكير في هذه المادة متعددة الاستخدامات بشكل مدهش وهي استخدام الزجاج لقوته.
في ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ إنتاج الألياف الزجاجية بكميات كبيرة، فعندما تمت إضافة راتنج بلاستيكي (مادة صمغية)، أصبحت مادة بناء جديدة تماماً متاحة وهي الألياف الزجاجية.
ومما يميز الألياف الزجاجية أنها قوية، وقابلة للانحناء، وهي موجودة في كل مكان الآن حيث يتم استخدامها في عزل المباني وصناعة الملابس وألواح ركوب الأمواج وفي صناعة اليخوت والخوذات ولوحات دوائر الكمبيوتر.
إن شفرات توربينات الرياح ، التي تغير إمكانات الطاقة البديلة ، مصنوعة من الألياف الزجاجية، وكذلك جسم طائرة إيرباص A380 ، أكبر طائرة تجارية في السماء مركب من الألمنيوم والألياف الزجاجية مما يجعل الطائرة أكثر مقاومة للتآكل والتلف من هياكل الألومنيوم التقليدية.
وخلال العقود الأولى من استخدام الألياف الزجاجية، كان التركيز على القوة مقابل الشفافية وهو أمر منطقي خلال تلك الفترة، لأنه كان من المفيد السماح للضوء بالمرور عبر زجاج النافذة أو العدسة، ولكن لماذا علينا أن نفكر في كيفية مروره عبر ألياف لا تزيد عن شعر الإنسان؟ ولكن لاحقاً أصبحت شفافية الألياف الزجاجية واحدة من الأساسيات بمجرد أن بدأنا نفكر في الضوء كوسيلة لترميز المعلومات الرقمية.
قم بتشغيل شعاع الليزر
في عام 1970، طور باحثون في شركة كورننج المتخصصة في صناعة وعلم الزجاج Corning Glass Works -ما يمكن أن يطلق عليها مورانو العصر الحديث – نوعًا من الزجاج واضح للغاية لدرجة أنه لو أنتجت كتلة منه بحجم حافلة، فسيظل الزجاج شفافًا مثل زجاج النافذة العادي (يمكننا الآن صنع كتلة زجاجية بطول نصف ميل بنفس الوضوح)
ثم أخذ العلماء في مختبرات بيل Bell Labs ألياف هذا الزجاج الفائق الوضوح وأطلقوا أشعة الليزر على طولها ، في تقلب الإشارات الضوئية التي تتوافق مع الشفرة الثنائية.
(يستخدم الرمز الثنائي الأصفار والأرقام لتمثيل الحروف أو الأرقام أو الأشكال الأخرى في جهاز إلكتروني، وهي اللغة المستخدمة في الحوسبة والاتصالات)
هذا المزيج من اختراعين لا يبدو أنهما مترابطان: الضوء المركّز والمنظم لليزر والألياف الزجاجية الصافية، أنتج ما أصبح يعرف بالألياف الضوئية.
لقد كان استخدام كابلات الألياف الضوئية أكثر كفاءة بكثير من إرسال الإشارات الكهربائية عبر الكابلات النحاسية ، خاصة للمسافات الطويلة، حيث يسمح الضوء بنطاق ترددي أكبر بكثير وفي نفس الوقت أقل عرضة للضوضاء والتداخل من الطاقة الكهربائية.
واليوم ، تم بناء العمود الفقري للإنترنت العالمي من كابلات الألياف الضوئية!
نعم هذا صحيح فشبكة الانترنت العالمية منسوجة معًا من خيوط الزجاج.
فكر في هذا التصرف المعتاد في القرن الحادي والعشرين: التقاط صورة ذاتية على هاتفك (سيلفي)، ثم تحميل الصورة إلى تطبيق ، حيث يتم توزيعها على هواتف وأجهزة كمبيوتر أشخاص آخرين في أي مكان في العالم، ثم فكر في عدد الطرق التي يدعم بها الزجاج تسلسل هذا الحدث : فنحن نلتقط الصور من خلال العدسات الزجاجية ، ونخزنها ونعالجها على لوحات الدوائر المصنوعة من الألياف الزجاجية ، وننقلها حول العالم عبر الكابلات الزجاجية ، ونستمتع بها على الشاشات المصنوعة من الزجاج، إنه ثاني أكسيد السيليكون على طول السلسلة، وفي الواقع ، فإن العلاقة بين الصور الشخصية والزجاج لها تاريخ طويل.
أنا أرى فلذلك أنا..
قبل عام 1400، رسم الفنانون الأوروبيون المناظر الطبيعية وصور الملوك والمشاهد الدينية والعديد من الموضوعات الأخرى، لكنهم لم يرسموا أنفسهم، فقد كان التصوير الذاتي – الصورة الشخصية الأصلية – نتيجة مباشرة لاكتشاف تكنولوجي آخر في قدرتنا على معالجة الزجاج.
في ابتكار جديد، قام صانعو الزجاج في مورانو بتغليف الجزء الخلفي من الزجاج الشفاف بمزيج معدني من القصدير والزئبق لخلق سطح لامع وعاكس للغاية: المرآة.
وقد كان هذا نوعا من الالهام، فقبل ظهور المرايا، كان معظم الناس يلمحون أنفسهم فقط في انعكاسات مشوهة على سطح الماء أو المعادن المصقولة.
لقد مروا بالحياة دون رؤية صور ذاتية دقيقة لأنفسهم، تخيل أنك لست متأكدًا تمامًا من الشكل الذي تبدو عليه حقًا، لقد كانت تلك هي الحقيقة حتى اختراع المرايا الدقيقة.
مثلما ساعدتنا العدسة الزجاجية على تحسين قدرتنا على رؤية النجوم والخلايا المجهرية، أظهرت لنا المرايا الزجاجية أنفسنا للمرة الأولى.
وقد كان التأثير على المجتمع عميقا، فقد لعبت المرآة دورًا مباشرًا في السماح للفنانين برسم صور ذاتية وابتكار فن الرسم المنظوري في الفن التصويري.
و بعد ذلك بوقت قصير ، حدث تحول أساسي نحو الفردية في الثقافة الأوروبية، فبمجرد أن رأيت نفسك ، كان من المرجح أن تفكر في نفسك كمركز فيما يتعلق بالدولة والقانون والاقتصاد ، وحتى الإله، فبسبب هذه الطريقة الجديدة في الرؤية ، كانت القوانين موجهة بشكل متزايد حول الأفراد ، مما أدى إلى تركيز جديد على حقوق الإنسان والحريات الفردية.
وقد تلاقت العديد من القوى لجعل هذا التحول ممكنًا، وكان زجاج المرايا أحدها، فقد ساعد الزجاج على اختراع إحساسنا بذواتنا، والآن يساعدنا على استكشاف عوالم تتجاوز أنفسنا، من فوق قمة بركان!
النظر إلى الكون
يرتفع ماونا كيا، وهو بركان خامد في جزيرة هاواي الكبيرة، ما يقرب من أربعة عشر ألف قدم فوق مستوى سطح البحر ويمتد نحو عشرين ألف قدم أخرى إلى قاع المحيط، والمشهد في قمته صخري وقاحل، فحتى الغيوم تقع بشكل عام على بعد عدة آلاف من الأقدام تحت قمة البركان، حيث يكون الهواء جافًا ورقيقًا.
وعلى القمة ، أنت في أبعد مكان عن قارات الأرض ، مما يعني أن الغلاف الجوي حول هاواي غير متأثر باضطراب طاقة الشمس المرتدة أو امتصاصها من قبل الكتل الأرضية الكبيرة والمتنوعة، ويعتبر هو الغلاف الجوي الأكثر استقرارًا إلى حد كبير على هذا الكوكب، وكل هذا يجعل قمة هذا البركان مكانًا مثاليًا لمشاهدة النجوم.
لقد توج ماونا كيا بثلاثة عشر مرصداً، وقباب بيضاء ضخمة منتشرة عبر الصخور الحمراء مثل بؤر استيطانية على كوكب بعيد، وأحد القباب هو مرصد دبليو إم كيك W.M Keck، الذي يضم أكبر التلسكوبات البصرية على الأرض، ولا تعتمد تلسكوبات كيك Keck المزدوجة على العدسات للقيام بسحرها وإنما على شيء آخر.
لو حاولنا التقاط أكبر قدر ممكن من الضوء من الزوايا البعيدة للكون ومعرفة شيء عن النجوم والمجرات، سنحتاج إلى عدسات بحجم شاحنة صغيرة، وعند هذا الحجم، يصبح من الصعب المحافظة على تماسك بنية الزجاج، مما يؤدي إلى تشوهات حتمية في الصورة، لذا استخدم علماء ومهندسو كيك Keck أداة أخرى لالتقاط آثار الأضواء الخافتة للغاية وهي المرآة.
يحتوي كل واحد من تلسكوبات كيك Keck على ستة وثلاثين مرآة سداسية تعمل معًا كسطح عاكس واحد يبلغ قطره ثلاثة وثلاثون قدمًا، ويرتد ضوء النجوم الذي يصل إليه إلى مرآة ثانية، ثم يركز لأسفل ويتم التقاطه بواسطة مجموعة من الأدوات التي تعالج الصور وتظهرها على شاشة الكمبيوتر.
حتى في جو ماونا كيا الرقيق والمستقر للغاية، يمكن أن تؤدي الاضطرابات الصغيرة إلى تشويش الصور الملتقطة، فلذلك يستخدم المرصد نظامًا مبتكرًا يسمى “البصريات التكيفية” لتصحيح رؤية التلسكوبات، حيث تنطلق أشعة الليزر في سماء الليل فوق تلسكوبات كيك، مما يخلق نجمة اصطناعية، وتعمل هذه النجمة الصناعية كنقطة مرجعية للقياس لأن العلماء يعرفون بالضبط كيف يبدو الليزر إذا لم يكن هناك شوائب في الغلاف الجوي.
لذا يستطيعون قياس أي تشويش موجود من خلال مقارنة صورة الليزر “المثالية” وما تسجله تلسكوبات كيك، واستنادًا إلى هذه المعلومات، تُصدر أجهزة الكمبيوتر تعليمات حتى تنحني مرايا التلسكوب قليلاً وتتكيف مع التشويشات الدقيقة في السماء فوق ماونا كيا في ليلة معينة، حيث يبدو الأمر كما لو كنت بعيد النظر ووضعت فجأة نظارات القراءة.
إننا عندما ننظر من خلال المرايا التلسكوبية لكيك، فإننا ننظر إلى الماضي البعيد، لأن الأشياء التي نراها هي المجرات والسوبرنوفا (انفجار نجمي قوي ومضيء)، والتي يمكن أن تبعد عنا مليارات السنين الضوئية.
مرة أخرى، وسع الزجاج قدرتنا على الرؤية، ليس فقط إلى العالم غير المرئي للخلايا والميكروبات أو من خلال الاتصال العالمي للهاتف الذكي، ولكن إلى الأيام الأولى للكون.
لقد بدأ الزجاج بالحلي والأوعية الفارغة، وبعد بضعة آلاف من السنين، أصبح يحلق فوق الغيوم على قمة ماونا كيا، حيث يمكننا القول إنه قد أصبح يمثل آلة الزمن!
محاطون بالسيليكون
لعلك ربما ترتدي نظارات لقراءة هذا الكتاب بوضوح، أو لعلك تقرأ هذه الصفحة على هاتف ذكي أو جهاز لوحي، وربما تقوم بمهام متعددة، تقرأ كلماتي وتشاهد فيديو على اليوتيوب YouTube
أينما كنت وأيًا كان ما تفعله، فمحتمل أن يكون هناك مائة شيء في متناول يدك يعتمد على ثاني أكسيد السيليكون لوجوده، وأكثر من ذلك يعتمد على عنصر السيليكون نفسه: مثل ألواح الزجاج في النوافذ أو المناور والعدسة في كاميرا هاتفك وشاشة الكمبيوتر وكل شيء له رقاقة صغيرة أو ساعة رقمية.
لقد غيّر الزجاج الطريقة التي نرى بها العالم ووسع فهمنا للإنسانية، فنحن الآن قادرون على الرؤية بتركيز ووضوح، وعلى رؤية أنفسنا، ورؤية ما هو غير مرئي، ورؤية ما وراء عالمنا، ومشاركة رؤيتنا مع الآخرين.
ولا توجد مادة على وجه الأرض حققت هذه التغيرات الكبيرة في المفاهيم والحياة أكثر من الزجاج.
فصل من كتاب ( كيف وصلنا إلى العالم المعاصر)