قبل ربع قرن، نشر فريدريك حايك (1899 -1922) الحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد اضافته الأخيرة التي تمثل عرضًا فصيحًا لاهتماماته الغالبة لمجموع أعماله الكاملة الهامة. لكن كتابه الخيلاء القاتلة الذي نشر في 1988 لم يعد الخوض في تفاصيل فكره الاقتصادي – رغم ان العنوان الفرعي هو أخطاء الاشتراكية -أو افتراضاته المرحب بها على نطاق واسع عن علاقة الاستبداد السياسي بالاقتصاد الاشتراكي. بدلَا من ذلك كان حايك الواقف على بعد أربع سنوات من وفاته مشغولًا في هذا الكتاب المختصر والمنسي بأحد اهم الأسئلة الأساسية للإنسانية: أساس وحفظ حضارتنا.
يقصد حايك بالحضارة “النظام الممتد للتعاون الإنساني” والذي يعرف بشكل مضلل بالرأسمالية. هذا النظام وبشكل أكثر تحديدًا الأخلاقيات التقليدية التي يستند عليها تم بناءها على شيء غير الغريزة الإنسانية وغير المنطق كما يدعي حايك. الخيلاء القاتلة كما يشرح هي الايمان المفرط بالمنطق بناءً على مفهوم خاطئ وخطير وهو أننا نستطيع العمل بناء على ما يجب علينا في الواقع تعلمه او جنيه، وهذه الخيلاء قاتلة لأنه ينتج عنها انهيار المجتمع والرجوع للغرائز البربرية. بدلًا عن ذلك، تقع الأخلاقيات بين المنطق و الغريزة و تعلم “كيفية التصرف هو المصدر اكثر من كونه نتيجة التأمل، المنطق و الفهم”.
بعكس فلسفته الاقتصادية او السياسية فلسفة حايك الأخلاقية معروفة بشكل أقل رغم انها ذروة عمل حياته. نقده للمنطق عميق لكن فهمه للأخلاقيات التقليدية يبدو قاصرًا الامر الذي يبدو انه يوافق عليه.
يرى حايك ان الدافعية الركيزة للاقتصاد السياسي الغربي المعاصر نتيجة ل “عقلانية مفترضة” أسماها “العلمية” – ساينستزم – أو “البنائية” والتي تمثل “روح العصر” وهذا الافتراض بدوره نتيجة “سلسلة من الأخطاء” سعى لتفكيكها وكشفها. وتحديدًا يورد أربع مفاهيم فلسفية أساسية حددت خلال البضع مئة سنة السالفة أساس طريقة التفكير هذه: العقلانية، التي ترفض قبول الاعتقادات المبنية على أي شيء غير التجربة والمنطق. التجريبية: التي تصر على ان كل الافتراضات التي تزعم التعبير عن المعرفة يجب ان تكون محصورة بتلك التي تعتمد التجربة لإثبات صدقها. الوضعية: والتي تُعرف بأنها النظرة التي ترى ان كل المعرفة الحقيقة علمية، بمعنى وصف حالة ونجاح الظاهرة محل المراقبة. النفعية: التي تعتبر اللذة والألم اللتان يشعر بها كل من يتأثر بالفعل كمعيار على صحته.
يؤكد حايك أنه: ” في مفاهيم كتلك يرى المرء بجلاء تام إقرارات الإيمان بالعلوم الحديثة وفلسفة العلم وإعلانات الحرب على التقاليد الأخلاقية.” لأن “التقاليد الأخلاقية السائدة التي شكلت وتُشكل ثقافتنا لا يمكن تبريرها بطرق مماثلة.”.
وللتوضيح، يستخرج حايك من تلك المفاهيم عدة افتراضات متقاربة عن نقد الاخلاقيات التقليدية وهي: وهي انه من غير المنطقي اتباع ما لا يمكن للمرء تبريره علميًا او عن طريق المراقبة، أو اتباع مالا يمكن أن يفهمه المرء، او اتباع مسار معين مالم يكن الهدف منه محددًا كليًا مسبقًا، ومن غير المنطقي فعل أي شيء مالم تكن أثاره ليست فقط معروفة كليًا مسبقًا، بل قابلة كليًا للمراقبة وان يكون – حسب ما تدعو له النفعية – “مفيدًا”. عندما تبنى الأخلاق على المنطق فإنها ايضًا تعتبر ان كل ما ليس منطقيًا فإنه يصبح مشكوكًا به أخلاقيًا.
يشرح حايك ان مشكلة هذه المقاربات هي أنها لا تعي انه هناك حدود لمعرفتنا ومنطقنا الإنساني في نطاقات معينة وأنها لا تعي ان جزءًا من مهام العلم هو اكتشاف تلك الحدود. وأنها تظهر عدم اهتمام بكيفية نشوء النظام الممتد الحالي وكيفية المحافظة عليه. وماهي العواقب الممكنة لإضعاف او الغاء تلك التقاليد التي انشأته وحافظت عليه.
يحاجج حايك بأن العلاقة بين العقلانية البنائية (= بناء الاخلاقيات من الصفر) والاشتراكية بأن كلتاهما تنطلقان من تصور النظام كترتيبات وتتحكمان بأساس نتائج كل الحقائق. ولكن وكما يوضح حايك في مقالته المهمة “استعمالات المعرفة في المجتمع” 1945 فإن النظام الممتد لا يجدر ان يكون به كما سلف لأن جمع متطلبات كل الحقائق المطلوبة مستحيل ببساطة. يؤكد حايك بالمقابل ان ممارسات الاخلاق التقليدية لا تستوفي ولا يمكنها ان تستوفي المعايير ومتطلبات العلمية –ساينتيزم-، و من هنا فهي بالضرورة “غير عقلانية” و “غير منطقية”. و يؤكد حايك ايضًا ان ما يقوله ليس جديدًا فقد لاحظت ديفيد هيوم (1711- 1776) قبل قرون ان “قوانين الأخلاق ليست استنتاجات المنطق.”.
و هذا لا ينطبق فقط على الاخلاق التقليدية ( الرب، الجنس، العائلة و – ما يهم حايك – الملكية الخاصة، التوفير، التبادل المالي، الصدق، الإخلاص و العقود) و لكن ينطبق ايضًا على “أي قانون أخلاقي، حتى القوانين التي يمكن ان يأتي بها الاشتراكيون” و من هنا علينا “كما تقترح كل تفريعات العلمية – ساينستيزم- ” ان نتبع هذا الطريق الخطر و عندها و قريبًا “سنجد نفسنا عدنا لمستوى الهمجي الذي لا يثق الا بغرائزه” بالتالي، فإنه لا توجد حجة عن الاخلاق يمكنها ان تتسق مع التبرير العلمي لانه لا يمكن انجاز هكذا شيء… لا شيء يمكن غَنمه لكن كل شيء يمكن خسارته.
يبدأ حايك بأخذ منحى خطير بعد ان يحقق حدود المنطق في بناء الاخلاق حيث يؤكد أنه “بينما أخلاقياتنا التقليدية لا يمكن بنائها، تبريرها او عرضها بالطريقة المطلوبة، فإن عملية تشكيلها يمكن ان يتم إعادة صياغتها جزئيًا وعن طريق هذا يمكننا لدرجة ما فهم الحاجات التي تقوم بخدمتها.” يرى حايك هذا كتحقيق تاريخي او تحقيق تاريخ-طبيعي متمثلًا بما اسماه اتباع هيوم بـ “التاريخ التقديري” وليس كمحاولة لبناء او تبرير او عرض النظام نفسه.
ولماذا يجب علينا الانخراط في هكذا “بناء عقلاني”؟ السبب ان هذا يمكنا من “تحسين وتنقيح اخلاقياتنا التقليدية عن طريق معالجة العيوب الملاحظة بتحسينات جزئية مبنية على النقد الداخلي الذي يحلل موائمة واضطراد اجزاءها ويعالج النظام تبعًا لذلك.”.
وقد يبدو ان هذا غير قابل للجدل فعلى كل حال كل الأنظمة الأخلاقية سواء نفعية ام سماوية ام غيرها تعالج بهذه الطريقة. وبالفعل فإن التقليد نفسه ما هو الا تراكم على مدى العصور لـ”تكيفات تدريجية مع المجهول” التي يصفها حايك. ومن خلال قراءة كتلك فإن مساهمة حايك متواضعة لا تتعدى دعوته لتواضع الفكر مقابل الاخلاقيات التقليدية.
لكن هناك فرق جوهري بين “صيانة” الأخلاق التقليدية وبين ما يقترحه حايك: فهذه الأنظمة الأخلاقية التقليدية تمتلك عادةً أساسات سماوية وغايات مرافقة لها الشيء الذي جعل التحسينات متينة فلسفيًا ودقيقة فكريًا. وهنا قد يتساءل المرء: ما الذي يراه حايك اساسًا للأخلاقيات التقليدية؟ الوسائل التي من خلالها يمكن تحسين الأخلاقيات والنهاية التي تهدف لها، أي بصيغة أخرى: ما الذي يراه تشريعًا للأخلاقيات التقليدية؟
يدرك حايك المعضلة في محاولته لتقديم “إعادة بناء عقلانية” للأخلاق وبالتالي فهم تركيبته. كونه في الموقف المحرج لرغبته بادعاء ان الاقتصاديين “الأقدر على تفسير تلك الاخلاق التقليدية التي جعلت نمو الحضارة ممكنًا وهذا محرج لأنهم عينهم المتخصصون “الموبوئون في البنائية””. هذا الاعتبار موجِه لسببين: الأول انه ليس عرضيًا ان أفضل من يعلق على تشكيل الاخلاق (مصدرها، تطورها، وغايتها بناءً على نجاحها) هم الأكثر ميلًا لبناء أخلاقيات جديدة وهو رابط يدعو لوضع إصرار حايك على التفريق بين البناء وإعادة البناء موضع التساؤل.
ثانيًا: لأن حايك يخون غايات ضمنية للأخلاق كما يفهمها؛ في الحديث تحديدًا عن “تلك الاخلاق التقليدية التي جعلت نمو الحضارة ممكنًا” يشير لسبب اعتباره الاخلاق التقليدية مهمة: يظهر ان النظام الأخلاقي يُقَيم عن طريق قياس ميله لـ”تغذية اعداد كبيرة من الناس” و تمكينه لمعتنقيه من “تجاوز غيرهم ممن أخلاقياتهم تناسب انجاز اهدافًا أخرى بشكل افضل”.
توقع حايك ردة الفعل هذه و نص على انه “برغم ان هذه الأخلاقيات لا تُشَرع بكونها تمكننا من فعل هذا و بالتالي تمكننا من النجاة، فهي بالفعل تمكننا من النجاة و لعله ثمة شيء ليقال بهذا الخصوص” – التشديد على الجملة الأخيرة منقول نصًا من حايك – و من جهة ما فإن حايك على حق طبعًا فهناك الكثير مما يمكن قوله عن النجاة لكن هذه النظرة متعددة الجوانب جدًا و تثير الانتباه اكثر لتشابهه مع هيوم و اعتماده على “النقد الذاتي” و تبعًا فإن الافتراض المضمن في مقاربة حايك هو انه علينا ان نتطلع الى المحافظة على و تطوير وضعنا المادي المحسوس فقط بدون اهتمام كبير بكون هذا الهدف مقبولًا اخلاقيًا ام لا. يصبح النظام هو عين تبريره والمبرر الوحيد الذي يمكننا تقديمه هو انه قد مكننا من النجاة. وهكذا تصبح الأخلاقيات وسيلة تمكننا من التعايش والترقي ماديًا بدلًا من العكس.
قد يجادل المرء رغم ذلك ان مساهمة حايك متواضعة أكثر مما اقترحه ما سبق وربما كان كل ما فعله هو الافتراض بتواضع ان المعاناة غالبًا سيئة وان تقليلها غالبًا جيد. وان البقاء على ما نعرفه مع تحسينات هامشية موسمية هو الوضع المقترح كونه قدم الازدهار الأعظم الذي عرفه الانسان، وان هذه الأجندة مهددة من قبل العِلمية والعقلانية.
لكن حتى هذه القراءة المحدودة تواجه مشكلاتٍ خاصة بها بالإضافة للنقد السالف ذكره فقد يلاحظ المرء ان أعظم الإضافات للازدهار الغربي حدثت خلال اخر قرنين بالتزامن مع بعض أعظم التحديثات التي واجهت الاخلاقيات التقليدية. من الممكن جدًا الا يكون “التدمير الخلاق”* الاقتصادي الرأسمالي مستقلًا عن التدمير الخلاق الأخلاقي العِلمي “ساينتست” كما قد يتخيل حايك. ومع إبقاء هذه الامكانية في الحسبان فإننا بحاجة الى دليل أخلاقي ثابت يوجه الفورات السياسي-اقتصادية اليومية. وهذه القراءة المتواضعة لمشروع حايك رغم كونها تقف على نقاطه المهمة فإنها لا توفيه حقه.
بالتالي، فإن مزايا نقده للمنطق بالرغم من مقاربته تجاه الاخلاقيات التقليدية قاصرة. المثير ان حايك الذي يظهر ان قصور تحقيقه يشغله يبدو انه اتفق مع هذا التقييم.
في مراجعاته الأخيرة يقر حايك بأن الفلسفة الأخلاقية قاصرة، بعد كل شيء هل هو مرضي ان نعيش والهدف الأخلاقي للشخص او المجتمع على الأقل هو البقاء المحض؟ في الفصل الأخير المعنون بِـ: “الدين وحُراس التراث”. حايك يحاول الإجابة على كيف أن الممارسات التي لا يفضلها الناس والتي لا يمكنهم التنبؤ بآثارها كان يمكنها الاستمرار خلال الأجيال، حيث يلاحظ ان “جزءًا من الإجابة” هي تطور الأنظمة الأخلاقية من خلال الانتخاب الجَمعي (الأخلاقيات “نجت” لأنها مكنت معتنقيها من البقاء) “لكن” كما يضيف “لا يمكن ان تكون هذه هي الحكاية كلها” لكنه يتساءل ان كانت الفائدة المصلحية من الأخلاقيات ليست معلومة مسبقًا، فمن اين تكونت الأخلاقيات؟ وكيف صمدت رغم معارضتها للغريزة، ومؤخرًا، هجمات المنطق؟ “هنا نأتي للدين” كما يقول حايك.
أعجبك او لا يكتب حايك “نحن ندين لاستمرارية بعض الممارسات والحضارة التي نشأت عنها جزئيًا لدعم المعتقدات التي هي ليست صحيحة – وليست قابلة للتحقق او الاختبار – صحة من نفس جنس صحة العبارات العلمية” وكغيره فهو “ليس مستعدًا لتقبل التصور التجسيمي لإله شخصي” لكن “الخسارة غير الناضجة لما نعتبره معتقدات غير قابلة للتحقق يمكن لها ان تحرم الإنسانية من داعم قوي للأخلاقيات التي نتمتع بها الآن طوال تطورها الطويل” خسارة هذه المعتقدات الآن ستخلق “صعوبات عظيمة”. ومن هنا “حتى اللاأدري عليه ان يُقر اننا ندين بأخلاقياتنا و، ليس فقط حضارتنا بل ارواحنا عينها، لتقبل ادعاءات غير مقبولة علميًا”.
هذه “التقبلات” برغم ذلك تقدم إشكالية أخرى؛ حايك يقدر دور الأديان التوحيدية (وتلك التي تتقبل الملكية الخاصة) في الحفاظ على الحضارة ويدرك أنه مثلما لا يستطيع متخصصو اليوم بناء أخلاقية بدون معرفة أثارها فكذلك الأديان لا يمكن ان يكون قد تم تأسيسها بيد نخبة متآمرة تخدم كذبة نبيلة أو تقدم كمخدر للجموع. لكنه لا يرغب بخطوة صادقة و فهم هذه الأديان (و الأنظمة الأخلاقية التي تعلمها) وفق سياقها. يبدو انه يعتنق مقولة نابليون: (لا أرى في الدين سِر الأقنوم –تجسد الإله بعيسى عليه السلام- بقدر ما أرى سِر البناء الاجتماعي).
هذا التردد جعل حايك ينصح المجتمع المعاصر بتقدير حدود معرفته والإنسان باتباع القوانين الأخلاقية المبنية بشكل كبير على أفكار دينية لا يجب عليه تصديقها. لماذا ،برغم ذلك، عليه فعل هذا؟ و إجابة حايك الوحيدة هو الجواب المعروف أن الأخلاقيات التقليدية هي الطريقة الوحيدة التي نعرف ان الحضارة تتعايش معها. و لكن معنى هذا ضمنيًا ان الانسان عليه ان يقمع غريزته (و السعي للذة اللحظية) او تجاهل المنطق ببساطة لتوريث الحضارة للجيل القادم، حايك مدرك لمشاكل هذه المقاربة غير الملهِمة و يبدو انه ظل غير راضٍ عنها.
“ترددت طويلًا في وضع هذه الملاحظة الشخصية هنا” كتب حايك عن ملاحظاته على الأديان، لكنه وضعها لأنها كما وَضح بأن سماع هذه الحجج من “لاأدري متعلم” قد يشجع المتدنيين على “متابعة هذه النتائج التي نتشارك بها كلها”.
حايك قضى عمره مدافعًا عن حرية الإنسان و الخيلاء القاتلة كان اضافته الأخيرة لهذا الجهد. و السؤال اذًا عن كيف يجب ان يتصرف الانسان بحريته و هذه هو السؤال الذي عجز عن اجابته لأنه لم يستطع تجاوز العتبة الإيمانية. و برغم ذلك، أدرك في كلماته الأخيرة المنشورة أنه “في ضمن هذا السؤال تقبع نجاة حضارتنا”.