مجلة حكمة

الخلود في الفكر الفلسفي الغربي – علي محمد اليوسف


ذهب فلاسفة التنوير الى ان السعادة يمكن تحقيقها في هذه الحياة الدنيا، وهي الحياة الوحيدة التي يمكن ان توجد، وبالتالي هي الحياة الوحيدة التي لها قيمة، اما الخلود فهو اكذوبة كهنوتية يتعين كشف النقاب عنها، والقضاء عليها، لتحقيق حياة افضل في اطار من الحرية والسعادة، وعن الموت، فأن معرفة كيفية الموت على الوجه السليم: ((فن الموت هي عند الرجل المستنير جزء من فن الحياة)). ويعتمد هولباخ (1723-1775) مؤلف كتاب (نظام الطبقة) معتبرا الفلسفة تأملا للموت، والخوف من الموت هو العدو الحقيقي الوحيد الذي يتعين قهره، وعدم وجود حياة اخرى، يحررنا من سلطة القساوسة([1]).

كما هاجم ديفيد هيوم (1711-1776) نظرية الخلود ، وان واقعة ان الانسان يخشى الموت هي ذاتها تؤكد الافتراض بان الموت ينهي كل شيء وبدون وقت الموت ما كان للجنس البشري ان يبقى. ونقد هيوم المدمّر لنظرية الخلود تزداد عمقا من خلال تفنيده لمفهوم الجوهر Substance ، فيما يخص النفس البشرية، ويرفض ان هناك شيء يسمى (الذات Self) ، حيث ان الذات لايمكن ادراكها حسّيا وليست لدينا فكرة عنها، وما ندعوه ((أنا)) ونعتز به ، ونتوقع أن يواصل الحياة لا يعدو ان يكون حزمة من الادراكات الحسية([2]).

كما فند (كانط) برهان مندلسون في خلود النفس في كتابه (نقد العقل الخالص) معتبرا دوام النفس الذي ينظر اليه كموضوع للاحساس الداخلي يظل بلا برهان بل غير قابل للبرهان اساسا.

اما برونو (1564-1600) فكان اقتناعه باستحالة الموت كعدم ، في تأكيده ان الكون اللامتناهي الذي عد تأمله (المهمة السامية للانسان) فالانسان اذ يسعى الى اكثر الاهداف نبلا ومشروعية والمتمثل في الكمال اللامتناهي يتوافق مع الكون حيث ينتظر هناك كل كائن الخلود والتحقق، وفي الكون اللامتناهي للكون عند برونو لاسيطرة للموت.

بقي ديكارت مؤمنا بأن النفس تبقى بعد الموت، وان الطب الجاد مع التغذية الصحية الصحيحة ممكن ان تطيل عمر الانسان الى قرون عديدة، ولم تتمالك الملكة كريستينا ملكة السويد في حينها من التهكم الخفي على نظرية ديكارت حين ماتوفي في الثالثة والخمسين، لكن ديكارت عرف طوباوية افكاره قبل وفاته. وفي رسالة الى (شانو) وهو عاكف على تأليف كتابه (حول انفعالات النفس) يقرر: (بدلا من ايجاد السبيل للحفاظ على الحياة، اكتشفت سبيلا اكثر سهولة ويقينية هو ان لا نخشى الموت) لان النفس حسب تصوره  باقية بعد فناء الجسم، وان ذلك ليس من تعاليم الدين، وانما في الاطلاع على اسباب طبيعية تؤكد ذلك، ويناقض نفسه حين يقول: اني لا استطيع التفكير في اولئك الذين ماتوا باعتبارهم ينتقلون الى حياة اكثر سلاما وعذوبة من حياتنا، واننا سننضم اليهم يوما ما([3]).

ويعني ديكارت ان شهادة العقل الطبيعي تثبت ان الجسم ينتمي الى عالم المادة (الجوهر الممتد…) والذي يخضع لقوانين الحركة والذي يمكن ان يفهم باعتباره نظاما ميكانيكيا، بينما الفعل جوهر مفكر غير ممتد (جوهر مفكر) وهناك ثنائية متطرفة بين هذين النوعين من الجوهر، وما يمنح الجسم الحياة ليس العقل او النفس وانما (الارواح الحيوانية) فالعقل او النفس لسكن الجسم، ومسألة تفاعلهما هي المشكلة المحورية التي يتوجب علينا ان نميز بين وظائف النفس من وظائف الجسم. ويؤكد انه (من الخطأ الاعتقاد بان النفس تمنح الجسم حركته وحرارته.) ([4])

واوقع ديكارت نفسه في سخرية لايحسد عليها حين اعتبر ان الجسم مركب من اجزاء مختلفة، لكن جزءا واحدا من الجسم هو على اتصال مباشر بالنفس وهو الغدة الصنوبرية. التي تحتل موقعا مركزيا في الدماغ، وقد اراد ديكارت بهذه الفكرة الخروج من المأزق الذي وقع فيه بعد ان فصل تماما بين الجسد وجوهر النفس.

بمجيء باسكال: (افضل ما في هذه الحياة هو الامل في حياة اخرى)، وباسكال يرى ان الفلسفة ليست جديرة بساعة من الدراسة والاخفاق في دعم الامل في الخلود عن طريق العقل الطبيعي هو الذي جعل رفض باسكال للفلسفة الشرط المسبق للاعتقاد في الخلود بعد الموت. وكان اهتمامه منصبا على البرهنة على صحة النظرية المسيحية. ومشكلة الخلود هي في رأي باسكال ، المشكلة الاكثر عمقا والاشد الحاحا، وهو على استعداد لمساعدة الآخرين في العثور على الرد الذي عثر عليه هو في ايمانه الديني، فهو يبدأ بالقول بانه ما من احد يستطيع ان يلوم مسيحيا، لعدم قدرته على اثبات معتقدات عقلانية لان – الله – اذا كان موجودا فانه لايمكن الاحاطة به على نحو لا متناه… فنحن عاجزون لا عن ادراك ماهيته فحسب، وانما كذلك من ادراك ما اذا كان موجودا([5]).

في حل هذه المعضلة، يعطي باسكال حلا براجماتيا فيقول في ما يتعلق بوجود الله، فاما ان الله موجود، او انه غير موجود، والشيء الذي يمكن عمله هو الرهان، فاذا ما راهنا على ان الله موجود فاننا نكسب كل شيء في لانهائية النعيم، اللامتناهي، واذا ما اتضح ان الله غير موجود فاننا لا نخسر شيئا.

وفي هذا الصدد يقول كانط: (انني أؤمن حتما بوجود إله وحياة مستقبلية واني على يقين من انه ليس هناك ما يهز هذا الايمان). ([6])

 

ويقيم كانط  ايمانه هذا على اساس اخلاقي قائلا:

الاخلاق ليست حقا النظرية التي بمقتضاها يمكن ان نجعل من انفسنا سعداء ولكنها النظرية التي توضّح لنا كيف نصبح جديرين بالسعادة.

وعن الخلود يقدم كانط في كتابه (نقد العقل الخالص) صياغته الاولى لنظريته في الخلود باعتباره شرطا ضروريا للعقل العملي، فالسعادة والفضيلة لاتتطابقان في هذه الحياة وذلك على الرغم من ان العقل يتطلب ضرورة تطابقهما، فعلى الرغم من امكانية تحقيق السعادة في هذا العالم فان الفضيلة يمكن تحقيقها بصورة حقيقية اذا ما كان هناك تقدم لامتناه فحسب، ومن هنا يتعين ان تكون هناك حياة اخرى. كما يتعين – حسب كانط – فهم الاعتماد على الحجة الاخلاقية لاثبات الخلود بدلا من الرجوع الى التجربة الدينية او الايمان الاعمى.

ويشير كوجيف في كتابه (مقدمة لدراسة هيجل…. الى ان فلسفة هيجل الجدلية او الانتثروبولوجية هي في التحليل النهائي فلسفة الموت او والمعنى واحد  فلسفة الالحاد وان الانسان ليس فانيا وحسب، وانما هو تجسيد للموت. انه موت الانسان وبالتالي الوجود الانساني الحق هما بمعنى ما انتحار، كما ان الواقع وما يحدث فيه كل يوم لايأتي من الله فحسب ، وبموافقة الله، وانما هو بالاساس عمل الله ذاته).

يتساءل (شوبنهاور) لماذا يخاف الانسان الموت رغم ان ابسط تأمل للحياة يظهر بجلاء ان الحياة (عوز وتعاسة واسى وبؤس) ولماذا يعتير الموت الشر الاعظم، واسوأ عقاب يمكن التهديد به؟ ولماذا يعد الخوف من الموت، الخوف الاعظم؟ ويضيف (ان فكرة اللاوجود non-being ليست هي التي تجعلنا نخاف الموت والا لكنا سنفكر بفزع في الاوقات التي لم نكن موجودين فيها بعد.  كما يدين شوبنهاور الانتحار لان النفس حقها على من يريد الخلاص بالانتحار ، ولان الانتحار ينفي الفرد فحسب لا النوع. فبالتالي فأن الافناء الارادي للوجود الظاهرة المفرد هو عمل احمق وعابث. وأن مبدأ الخلود الطبيعة العظيم هو الذي يسعى الى تعليمنا انه ليس هناك فرق هائل بين الرقاد والموت وان هذا الاخير لا يفوق الاول في تعريضه وجودنا للمخاطر. والنقطة الاساسية في حجة شوبنهاور هي انه ليس هناك خلق من العدم، واننا اذا اكدنا هذه الفكرة فأن علينا ان نوافق كذلك على ان الموت هو النهاية المطلقة أي العدم. وصحة المبدأ القديم: لاشيء يخرج من لاشيء وفي العدم لايستطيع شيء العودة من جديد.([7]) ويعود شوبنهاور ثانية الى الانتحار في تساؤل ماذا عن أولئك الذين لايمكنهم تحمل الحياة ويرغبون كخلاص من الالم والمعاناة؟

ان الموت بحسب شوبنهاور هو (الارادة) والانتحار ليس مهربا وليس حلا فحيث ان طبيعتنا الحقة ليست قابلة للفناء، فأن الانسان يمكنه انهاء حياته لكنه لا ينهي ارادة الحياة، وبالموت يتخلى الانسان عن الحياة فقط ويبقى محتفظا بارادة الحياة.

أهمية ارادة الحياة كخلود غير فان لدى شوبنهاور يتمثل في التوضيح التالي:

ان التمييز القاطع بين الارادة والمعرفة بالاضافة الى اولوية الاولى وهما ما يشكلان السمة الاساسية لفلسفتين هما المفتاح الوحيد لحل التناقض الذي يطرح نفسه بالعديد من السبل وينشأ من جديد في كل وعي، حتى في اكثر ضروب الوعي فجاجة والقائل بان الموت هو نهايتنا، واننا مع ذلك ينبغي ان نكون خالدين وغير قابلين للافناء. ومن هنا يأتي شعورنا بالخلود، عند اسبينوزا، وقد أخطأ الفلاسفة جميعا في هذا ، فقد وضعوا العنصر الميتافيزيقي غير القابل للافناء والخالد ، عند الانسان في الذهن على حين انه يكمن حصرا في الارادة، التي تختلف كليا عن الذهن وتتسم وحدها بالاصالة، اما الذهن فهو ظاهرة ثانوية ويتحدد بالمخ، وبالتالي يبدأ وينتهي معه، اما الارادة فهي وحدها التي تحده، انها جوهر كافة الظواهر وبالتالي متحررة من الاشكال الخاصة بالظواهر التي ينتمي اليها الزمن، والتي هي بالتالي قابلة للافناء ، تنقضي الحياة ، ولكن لاينقضي معها مبدأ الحياة([8]).

في مقولة فويرباخ ينبغي ان تعاش الحياة بكامل امتلائها رغم الموت، جمع فوير باخ منذ كتاباته الاولى، الفرح بأن تعيش الحياة والوعي بالموت ومن الصعوبة ان يحذوا الناس حذوه. في كتابه الاول (تأملات في الموت) يبدو كان واقعا تحت تأثير كبير لهيجل، وعلى نحو مميز في المغزى الاخلاقي للموت، الذي كانت بذوره الاولى كما مر بنا لشوبنهاور، ويذهب فوير باخ بان كل الاعمال الانسانية يمكن ان تشتق من الحب، ولا بد للانسان ان يحب. ويصبح انسانا حقيقيا حين ينفض عن نفسه الانانية الطبيعية، والحياة الاسمى عنده في الدين، والفكر، والاخلاق، انما هي الحياة حين يتخلى المرء كليا عن انانيته وذاتيته الزائفة. والحب في نظره لا يكتمل اذا لم يكن هناك موت، فالموت هو التضحية الاخيرة والبرهان النهائي على الحب. والانسان يحقق ذاته الحقة مرة واحدة، حين يصبح في لحظة اللاوجود.

ويتساءل فوير باخ لماذا اذن تموت الحيوانات والنباتات؟ واجابته ان ذلك يرجع فحسب الى ان البشر يموتون. فالموت البشري هو سبب موت الكائنات الحية الاخرى. والاسمى (الانسان) هو دائما سبب الادنى (مخلوقات الطبيعة ما عدا الانسان)، وموت الاسمى هبوط الانسان بالموت لما هو ادنى منه.

كما يؤكد فوير باخ ان للموت علة وسبب واصل ميتافيزيقي ، ونفسي وعضوي، والعلة الاولى غير المحددة واللامتناهية للموت هي اللامتناهي في الله. اما العلل المحددة المتناهية فهي الزمان والمكان والحياة. والسبب المحدد واللامتناهي هو العقل والروح والوعي([9]).

والنفس لاتصبح نفسا بدون الجسم تماما كما ان السيد لايصبح سيدا بدون العبد، وانفصال الجسم عن النفس ووجود هذه الاخيرة خارج الجسم انما يمكن ان يعني شيئا واحدا: ان النفس مختلفة عن الجسم بالطريقة ذاتها التي يختلف بها التفكير عن العقل، والا لتعين علينا ان ننظر الى علاقة الجسم – النفس باعتبارها شيئا مكانيا، كما لو كانت النفس تشغل حيزا، ومن ثم فان الاعتقاد بالخلود بقدر ما يتمثل الخلود في صورة النفس وهي تغادر حقا الجسم هو (جنون نظري) ([10]). والقول بأن الموت قانون الطبيعة هو قول سطحي لانه حينما لاتوجد روح ولا حرية لايوجد موت، فالموت يفترض الروح مقدما.

فالانسان لايموت الا لانه كائن حر ومفكر واع، وهنا بحسب جاك شورون، يبدو فوير باخ غارقا في التراث المثالي الذي سرعان ما يتنكر له بعد قليل، وقد بدأ على نحو ما فعل شوبنهاور قبله، بالانسان الذي يتميز عن كل الكائنات الحية الاخرى بقدرته على ان يصبح موضوعه الخاص، فالانسان ذات وموضوع في آن معاً، وهو عارف وموجود وكلما ازدادت روحانية الانسان، اتسع نطاق حريته، وسما رقيهّ، على وجوده الفيزيقي. والنتيجة التي توصلها فوير باخ هي انه لا الخلود ولا الموت على نحو ما يفهمان عادة حقيقيان: (لايغدو الموت حقا مؤلما الا قبل وقوعه، وليس في غمار هذا الوقوع، فالموت اشبه بوجود الشبح او الطيف بحيث انه لايوجد الا عند لا وجوده، كما ان لا وجوده يعني وجوده).

فماهية الانسان تسمو كثيرا عن فنائه او خلوده. (كما ان الموت والزوال لايحرمانه من أي شيء، فكذلك الخلود لايضيف أي شيء له، فليس هناك شيء بعد الموت، ومن السمات الاخرى التي ربما لاتقل اهمية في تدعيم فلسفة فويرباخ عن الموت، هو تمجيده للموت، (الطبيعة ليست تواقة للحياة) وغريزة المحافظة على التراث هي في الوقت نفسه غريزة تدمير… فميلاد كائن هو في الوقت نفسه موت كائن اخر([11]). والانسان نجمة المساء في الطبيعة ونجمة الصباح للروح، والحمقى وحدهم يظنون ان هاتين نجمتان منفصلتان ، وانهم بعد الموت وحده يصلون الى عالم الروح، وان الحياة الروحية تبدأ بعد الموت فحسب، وينكر فوير باخ الخلود الشخصي في العالم الاخر، ويتبنى وجهة النظر القائلة بان الخلود الوحيد، هو الخلود العضوي في نسلنا، وان النعيم الحق يتمثل في الحياة من اجل الاجيال المقبلة، والبقاء في ذاكرتها.

وفي قصيدته (القصيدة المقفاة عن الموت) يبين وحدة الجسد والنفس وخرافة الخلود: أنا من طبيعة لا تتجزأ / فالانسان لايمكن ان يصاغ في اشلاء/ أو يتجزأ على نحو ما تهوى/ لان الموت ليس نكتة سخيفة/ والطبيعة لا تأتي حيلا مرحة/ فأنها تنهي الحياة بأسرها بالموت/ والحق ان الوجود يتبدد/ ويلحق بمرتبة العدم/ لن أنهض أبدا من جديد/ فالموت ينهي حياتي/ ولابد ان افنى واتحول الى عدم.

أعجب نيتشه بالفيلسوف شوبنهاور اعجابا كبيرا، لكنه لم يخلو من اختلاف مع ذلك المتشائم العظيم حول العديد من القضايا الجوهرية، ووصف نيتشه: (شوبنهاور كفيلسوف، اول ملحد يعلن الحاده على رؤوس الاشهاد، ويرفض انصاف الحلول في صفوفنا نحن الالمان). وقد أثّرت في نيتشه بعمق الحقيقة المروعة القائلة بأن (الرب قد مات) وفي خطاب ارسله لاحد اصدقائه كتب (ان العذاب المخيف الذي لايكل لحياتي، يجعلني في ظمئي للنهاية… وبقدر تعلق الامر بالمعاناة والتخلي، فأن حياتي خلال هذه السنوات الاخيرة تعادل حياة أي ناسك في أي وقت… غير انه ما من ألم استطاع اغوائي او سيكون بمقدوره ان يغويني للادلاء بشهادة زائفة عن الحياة على نحو ما ادركها)، (ان المعاناة ليست حجة ضد الحياة) طموحي وعذابي وسعادتي ان اتجاوز محيط الوعي المعاصر باسره… وان اقهر النزعة التشاؤمية. وبعد معاناة مريرة على الصعيدين الفكري والشخصي الذي مر بهما نيتشه، تملكته فكرة الانسان الاعلى (Superman) نوعية جديدة من البشر لا بالمعنى الدارويني، وانما موجود عظيم وانساني حقيقي، والانسان الاعلى الذي يقهر طبيعته الحيوانية، وينظم نفسه مع الكل، والانسان الاعلى ضرورة ، فهو وحده الذي يمكنه تحمل الحقيقة وان يجد الحياة قابلة للاحتمال، كما كتب قبل اصابته بالعمى عام 1888: (ان العيش مع الحقيقة امر مستحيل)([12]).

كما تملكته ايضا نظرية العود الابدي وغدت حجر الزاوية في فلسفته: (كل شيء يمضي كل شيء يعود، وتدور الى الابد عجلة الوجود، كل شيء يموت كل شيء يتفتح من جديد، وخالدا يمضي زمن الوجود، الاشياء كلها تعود في خلود ونحن انفسنا كنا بالفعل مرات، لاحصر لها، ومعنا كل الاشياء).

وكان لشوبنهاور ان كتب (العالم كارادة وتمثل – المجلد الثالث، ص267- ان الرمز الحق للطبيعة في كل زمان ومكان هو الدائرة لانها نموذج او نمط التواتر). نظرية العود الابدي كانت عند نيتشه دفاعا في مواجهة الفناء والموت، فقد كان يرغب في تخليد الوجود الزائل للانسان المتناهي، ويبدو ان الايمان بـ (العود الابدي) كان يحقق له الوظيفة ذاتها التي يؤديها الايمان بخلود النفس للاخرين، وهناك تشابه بين نظرية العود الابدي ونظرية التناسخ، ففيهما معا نجد ضربا من الحفاظ على هوية الذات الشخصية بفارق في نظرية التناسخ النفس وحدها هي التي تعود وتشارك في تحقيق المزيد من التقدم للعالم ذاته. واصبحت العدمية ميراث الانسان الحديث، وعذاب النفس الموحشة، ويأسها وهو ما اعترف به زرادشت صراحة (ان الحياة الانسانية مخيفة، ولاتزال بغير معنى)([13]).

لا يتساءل شيلر كيف يمكن اثبات الخلود لانه لايمكن اثباته فأن تكن (خالدا) هو واقعة سلبية لاتقبل برهانا. لذا يتحدث عن بقاء الشخص وليس عن خلود النفس.

ما الذي ينتمي الى ماهية الشخص حينما يكف الجسم في غمار حدث الموت عن ان يكون موجودا..؟ يرد شيلر بانه ليس شيئا جديدا وانما هو على وجه الدقة ما انتمى الى الشخص عندما كان الجسم حيّا، أي الوحدة العينية الفعلية لكل افعاله، وكما ان افعال الشخص الروحي خلال الحياة تندفع متجاوزة الحالات الجسمية ، فكذلك على وجه الدقة سندفع الشخص الروحي نفسه حين ينهار جسده. ويعتبر شيلر النقد الموجه له من قبل انصار (كانط) القائل ان الظواهر الروحانية لايمكن ان تقدم لنا اشارة الى الواقع القابع خلفها، حيث ان اندماج الظواهر في سياق القوانين الطبيعية هو على وجه الدقة الذي يعد معيارا لحقيقتها الموضوعية، رغم صحة النقد يعتبره شيلر غير صحيح. فهو يؤمن بعالم الروح الخالدة، ويعتقد ان وجوده يمكن ان تنكره نزعة وضعية بيولوجية تتجاهل ابسط الاشياء حسب تعبيره. وشيلر يشاطر (برجسون) الرأي بأن عبء برهان عدم الخلود يقع على عاتق الذين ينكرونه لا على عاتق المؤمنين به (غير انه حتى حينما يصر شيلر على ان عبء البرهان على كاهل من ينكر البقاء (الخلود) وينحاز الى القول باستقلال الشخص عن افعاله، وعن القوانين الروحية والبيولوجية ، فانه لايؤكد اكثر من ان الخوف من الموت ليس سببا كافيا لافتراض توقف الشخص، ولايمكن القول بحال بأن بقاء الشخص تبرهن عليه واقعة ان منكريه يخفقون به في البرهنة على عدم بقائه، اضافة الى ذلك فان البقاء يعتمد دوما على موقف الشخص منه، وعلى افعاله الحرة المستقلة عن القوانين البيولوجية، ومن ثم فأن استمراره سيكون رغم ذلك في مهب الاحتمالات تماما)([14]).

ومن بين المحاولات التي بذلت لتأكيد حقيقة الخلود والدفاع عنه هو البروفيسور الفريد نورث وايتهيد، لما له من مكانة في الفكر الفلسفي المعاصر، يقول وايتهيد ان مفهوم الخلود يتعين فهمه بالاحالة الى نقيضه أي الى الفناء، ويطلق على الخلود والفناء (عالمين) يتطلب كل واحد منهما الاخر، وهما معا يشكلان الكون المتعيّن. وهذان العالمان هما تجريدات من الكون، وكل تجريد يتضمن احالة الى شمول الوجود ، تتضمن سمات مستعارة من العالم الاخر. ويأخذ وايتهيد على مأساة الفلسفة الأفلاطونية انها في اساءتها لفهم فكرة الوجود المستقل، في حين يرى هو ان كل كيان يتعيّن فهمه من خلال الطريقة التي يتداخل بها مع باقي الكون فحسب.


هوامش:

([1]) جاك شورون بتصرف، ص144 الموت في الفكر الفلسفي الغربي- سلسلة عالم المعرفة

([2]) نفس المصدر السابق بتصرف، ص148.

([3]) جاك شورون، مصدر سابق، ص122.

([4]) نفس المصدر السابق بتصرف، ص123.

([5]) جاك شورون ، مصدر سابق، ص127.

([6]) نقد العقل الخالص، ص247.

([7]) جاك شورون، مصدر سابق، ص187.

([8]) جاك شورون، مصدر سابق، نقلا عن العالم كارادة وتمثل، ج3، ص291.

([9]) نقلا عن جاك شورون، مصدر سابق، عن الاعمال الكاملة لفوير باخ، ص63.

([10]) المصدر السابق، ص200، الاعمال الكاملة لفوير باخ، نظرية المرض الروحي، ص62.

([11]) جاك شورون، مصدر سابق، بتصرف ص205-207، نقلا عن الاعمال الكاملة لفوير باخ.

([12]) جاك شورون مصدر سابق، بتصرف، ص211-215.

([13]) المصدر السابق بتصرف، ص219-220.

([14]) جاك شورون، مصدر سابق، ص230.