الكاتب | شارون ريان |
ترجمة | ناصر الحلواني |
ما هي الحكمة ؟ حاول الفلاسفة، وعلماء النفس، والقادة الروحيون، والشعراء، والروائيون، ومدربو الحياة، ومجموعة متنوعة من المفكرين المؤثرين الآخرين، فهم مفهوم الحكمة. سنُقدم في هذا المدخل نظرة عامة موجزة، وتحليلًا للعديد من وجهات النظر الفلسفية حول موضوع الحكمة. ليس المقصود هنا رصد العديد من المناهج المثيرة والمهمة لمعالجة مفهوم الحكمة كالذي نجده في مجالات البحث الأخرى. عوضا عن ذلك، سيركز هذا المدخل على عدد من الأفكار الرئيسية في تراث الفلسفة الغربية. وبشكل خاص، سوف يركز على خمسة مناهج عامة لفهم ما يلزم ليكون المرء حكيماً: (1) الحكمة كتواضع معرفي، (2) الحكمة كدِقَّة معرفية، (3) الحكمة كمعرفة، (4) نظرية هجينة للحكمة، و(5) الحكمة كعقلانية.
جدول المحتويات
1. الحكمة كتواضع معرفي
يُفسَّر رأي سقراط في الحكمة أحيانا، كما عبر عنه أفلاطون في محاورة الدفاع (20e-23c)، كمثال على نظرية التواضع في الحكمة (انظر، على سبيل المثال، ريان 1996 وويتكومب، 2010). في محاورة الدفاع لـ أفلاطون ، يزور سقراط وصديقه خايرفون العَرَّافَة في معبد دلفي. وكما تذكر القصة، يسأل خايرفون العَرَّافَة عما إذا كان هناك شخص أكثر حكمة من سقراط. وكانت إجابة العَرَّافَة أن سقراط هو الشخص الأكثر حكمة. يذكر سقراط أنه شعر بالحيرة بشأن هذه الإجابة؛ حيث أن العديد من أشخاص المجتمع الآخرين مشهورون بمعارفهم الواسعة وحكمتهم، لكن سقراط يدَّعي أنه يفتقر إلى المعرفة والحكمة. يشرع سقراط في إجراء استقصاء للوصول إلى حقيقة هذا اللغز. استجوب سلسلة من السياسيين، والشعراء، والحرفيين. وكما قد نتوقع، يكشف استجواب سقراط أن من يدعون امتلاكهم للمعرفة إما أنهم لا يعرفون بالفعل أيًا من الأمور التي يدعون معرفتها، أو أنهم يعرفون أقل بكثير مما يدعون معرفته. والأكثر دراية من بين هؤلاء، أي الحرفيين، يعرفون عن حرفتهم، لكنهم يزعمون أنهم يعرفون أمورا تتجاوز نطاق خبرتهم بكثير. وكما ورد إلينا، فإن سقراط لا يعاني من رذيلة ادعاء معرفة أشياء لا يعرفها، ولا رذيلة ادعاء الحكمة عندما لا يكون مالكا لها. وبحسب هذا الكشف، يكون لدينا حل محتمل للغز الحكمة في محاورة الدفاع.
ورغم أن القصة قد تبدو في البداية وكأنها تطرح نظرية واضحة عن الحكمة، إلا أنه من الصعب للغاية حقيقة أن نتوصل إلى نظرية دقيقة ومقبولة في النص هنا. وأحد التفسيرات هو أن سقراط حكيم لأنه، على عكس الآخرين، يعتقد أنه ليس حكيماً، في حين يعتقد الشعراء، والسياسيون، والحرفيون، بغطرسة وزيف، أنهم حكماء. وهذه النظرية، التي سنمنحها اسم نظرية التواضع 1، هي ببساطة (انظر، على سبيل المثال، Lehrer & Smith 1996، 3):
نظرية التواضع 1 (H1)
S حكيم إذا وفقط إذا كان S يعتقد أنه ليس حكيما.
إن هذا التفسير مغرٍ وشائع لأن سقراط يوقن من إثباته أن الشعراء، والسياسيين، والحرفيين المتغطرسين معرفياً يفتقرون إلى الحكمة. فضلاً عن ذلك، يزعم سقراط أنه ليس حكيماً، ومع ذلك، إذا وثقنا في العَرَّافَة، يكون سقراط حكيم بالفعل.
عند الفحص الدقيق، لا نجد أن نظرية التواضع 1 تمثل تفسيراً معقولاً لوجهة نظر سقراط. فرغم أن سقراط لا يتفاخر بحكمته، إلا أنه يؤمن بالعَرَّافَة. ولو كان مقتنعاً بأنه ليس حكيماً، لكان قد رفض قول العَرَّافَة وانصرف إلى عمله؛ لأنه لن يجد أي لغز يحتاج إلى حلِّه. فمن الواضح أنه يعتقد، على مستوى ما، أنه حكيم. ولكن اللغز هو: ما هي الحكمة إذا كانت هو يمتلكها بينما يفتقر إليها الآخرون؟ لم يشر سقراط قط إلى أنه أصبح غير حكيم بعد تصديقه العَرَّافَة. وعلى هذا فإن نظرية التواضع 1 لا تشكل تفسيراً مقبولاً لوجهة نظر سقراط.
وعلاوة على ذلك، فإن نظرية التواضع 1 خاطئة. فكثير من الناس يشكلون أمثلة مضادة واضحة لـنظرية التواضع 1. إذ أن كثيرا من الناس الذين يعتقدون أنهم ليسوا حكماء هم على حق في تقييمهم لأنفسهم. وبالتالي، فإن اعتقاد المرء بأنه ليس حكيماً لا يعد شرطاً كافياً للحكمة. إضافة إلى ذلك، يبدو أن الاعتقاد بأن المرء ليس حكيماً ليس ضرورياً للحكمة. ويبدو من المعقول أن نتصور أن الشخص الحكيم سيكون حكيماً بما يكفي ليدرك أنه حكيم. وقد يحول التواضع المفرط دون اتخاذ القرارات السليمة ودون مشاركة ما يعرفه المرء. وإذا اعتقدنا أن سقراط كان حكيماً، وإذا أقررنا أن سقراط يقبل، في الواقع، كونه حكيماً، فإن سقراط نفسه يشكل مثالاً مضاداً لـنظرية التواضع 1. إن الاعتقاد بأن المرء حكيم قد يكون اعتقاداً مبرراً تماماً بالنسبة للشخص الحكيم. واعتقاد المرء بأنه حكيم لا يلغي، في حد ذاته، إمكانية أن يكون حكيماً. كما لا يضمن أيضا رذيلة الغطرسة. يجب أن نأمل أن يتمتع الشخص الحكيم بجرعة صحية من الثقة المعرفية بالنفس، وأن يقدِّر حكمته، وأن يشارك فهمه للواقع مع بقية الناس ممن قد يستفيدون من حكمته. وعلى هذا فإن اعتقاد المرء بأنه ليس حكيماً ليس شرطاً ضرورياً للاتصاف بالحكمة.
ركزت نظرية التواضع 1 على الاعتقاد بأن المرء ليس حكيماً. وهناك نسخة أخرى من نظرية التواضع جديرة بالنظر. فعندما يثبت سقراط أن شخصاً ما ليس حكيماً، فإنه يفعل ذلك من خلال إظهار أن الشخص يفتقر إلى بعض المعرفة التي يدعي امتلاكها. وبالتالي، قد يعتقد المرء أن وجهة نظر سقراط يمكن أن تتجسد بشكل أفضل بالتركيز على فكرة أن الحكماء يعتقدون أنهم يفتقرون إلى المعرفة (بدلاً من افتقارهم إلى الحكمة). يعني، أن نعتبر وجهة النظر التالية:
نظرية التواضع 2 (H2):
S حكيم إذا وفقط إذا أعتقد S أنه لا يعرف أي شيء.
ولكن من المؤسف أن هذا التفسير ليس أفضل من تفسير نظرية التواضع 1. فهو يقع فريسة لمشاكل مماثلة لتلك التي فنَّدت نظرية التواضع 1، سواء باعتباره تفسير سقراط، أو باعتباره وصفاً مناسباً للحكمة. فضلاً عن ذلك، تذكَّروا أن سقراط يعترف بأن الحرفيين لديهم بعض المعرفة. ربما كان سقراط ليعتبرهم حكماء لو أنهم حصروا ثقتهم ومزاعمهم بالمعرفة فيما يعرفونه بالفعل عن حرفتهم. وكانت مشكلتهم أنهم زعموا امتلاكهم معرفة تتجاوز مجال خبراتهم. ولم تكن المشكلة أنهم ادَعوا مجرد امتلاك المعرفة.
قبل أن ننتقل إلى المناهج البديلة للحكمة، يجدر بنا أن نذكر تفسيراً آخر لسقراط يتوافق مع الروح العامة للتواضع المعرفي. قد يظن المرء أن ما يؤسس له سقراط هو أن حكمته تكمن في إدراكه أن الحكمة الإنسانية ليست نوعاً ذا قيمة خاصة من الحكمة. فالآلهة فقط من يملكون نوع الحكمة ذات القيمة الحقيقية. ومن الواضح أن هذه إحدى رؤى سقراط المتبصرة، ولكنها لا تزودنا بفهم لطبيعة الحكمة. بل إنها تخبرنا فقط بقيمتها النسبية. إن مجرد فهم هذه الرؤية التقييمية لن يجعل المرء حكيماً، لأسباب مماثلة لتلك التي ناقشناها مع نظريتي التواضع 1و2.
إن نظريات التواضع في تفسير معنى الحكمة ليست واعدة، ولكن ربما تزودنا ببعض السمات الشخصية المهمة للحكماء. يمكن القول أن الحكماء يتمتعون بثقة معرفية بالنفس، ولكن ليس لديهم غطرسة معرفية. ويميل الحكماء إلى الاعتراف بأنهم عُرضة للخطأ، والحكماء مولعون بالتأمل، ومتعمقون، ومتسامحون مع عدم اليقين. ولابد لأي نظرية مقبولة عن الحكمة أن تكون متوافقة مع مثل هذه السمات. مع ذلك، فإن هذه السمات ليست في ذاتها وبذاتها جازمة في تحديد معنى الحكمة.
2. الحكمة كدِقَّة معرفية
يمكن تأويل أفكار سقراط بأنها تزودنا بنظرية للدِقَّة المعرفية، لا نظرية للتواضع المعرفي، لتفسير الحكمة. يعتقد الشعراء، والسياسيون، والحرفيون، جميعهم أنهم يمتلكون المعرفة بمواضيع يجهلونها بشكل ملحوظ. ويمكن القول أن سقراط يعتقد أنه يملك المعرفة عندما، وفقط عندما، يملكها بالفعل. ربما يحصر الحكماء ثقتهم بالقضايا التي يملكون معرفة بشأنها، أو، على الأقل، القضايا التي يكون لديهم مبرر قوي لها. ولعل من الأفضل تأويل وجهة نظر سقراط بأنه يقول بنظرية في الدِقَّة المعرفية نحو:
نظرية الدِقَّة المعرفية 1 (EA1):
S ) S is wise iff for all p يعتقد أن S يعرف p إذا وفقط إذا كان S يعرف p).
وفقًا لنظرية الدِقَّة المعرفية 1، فإن الشخص الحكيم دقيق فيما يعرفه وفيما لا يعرفه. إذا كان يعرف p حقًا، فهو يعتقد أنه يعرف p . وإذا كان يعتقد أنه يعرف p ، إذن فهو يعرف p حقًا. تتسق نظرية الدِقَّة المعرفية 1 مع فكرة أن سقراط يقبل كونه حكيما، ومع فكرة أن سقراط لديه بعض المعرفة بالفعل. تعد نظرية الدِقَّة المعرفية 1 تفسيرا معقولا للرأي الذي يقره سقراط، لكنها ليست إجابة مقبولة في البحث من أجل فهم الحكمة. يمكن للأشخاص الحكماء أن يقعوا في أخطاء تتعلق بما يعرفونه. كان لدى سقراط، ومايمونيدس، والملك سليمان، وأينشتاين، وجوته، وغاندي، وكل مرشح آخر لنيل شرف الاتصاف بالحكمة، معتقدات خاطئة حول ما عرفوه وما لم يعرفوه. من السهل أن نتخيل شخصًا حكيمًا مُبرَّر في الاعتقاد بامتلاكه معرفة بخصوص ادعاء ما، ومن السهل أيضًا أن نتصور إمكانية أن يكون مخطئا، ربما بعد فترة طويلة من وفاته. إذا كانت نظرية الدِقَّة المعرفية 1 صحيحة، فمجرد اعتقاد شخص ما بأنه يملك المعرفة بينما هو لا يملكها، إذن فهو ليس حكيماً. ويبدو هذا خطأً. فمن الصعب أن نتخيل أن أي شخص البتة حكيما، أو كان حكيماً، إذا كانت نظرية الدِقَّة المعرفية 1 صحيحة.
يمكننا تنقيح نظرية الدِقَّة المعرفية للتغلب على هذه المشكلة. قد نشترط فقط أن اعتقاد الشخص الحكيم يكون مبرراً إلى حد كبير عندما يعتقد أنه يمتلك المعرفة. وهذا يعذر الأشخاص ذوي الحظ المعرفي السيء.
الدِقَّة المعرفية 2 (EA2) :
S ) S is wise iff for all p يعتقد أن S يعرف p إذا وفقط إذا كان اعتقاد S بـ p مبررا بقوة).
تلتف نظرية الدِقَّة المعرفية 2 حول مشكلة نظرية الدِقَّة المعرفية 1. إن النهج السقراطي يتحدى المرء لتقديم أسباب تبرر وجهة نظره. وعندما يُصاب محاور سقراط بالذهول، أو يُنحرف إلى الحماقة، يؤكد سقراط صحة فكرته. ويمكننا القول أن سقراط لم يثبت من خلال استجوابه افتقار خصومه إلى المعرفة بسبب أن معتقداتهم غير صحيحة، بل أثبت أن خصومه ليس لديهم ما يبررون به اعتناقهم للآراء التي يزعمون معرفتها. ومع فشل الحرفيين، والشعراء، والسياسيين الذين حاورهم سقراط جميعاً في الاستجواب الذي أجراه معهم، فقد ثبت، يمكننا القول، أنهم ادعوا امتلاك المعرفة في حين لم تكن معتقداتهم مُبرَّرة حتى.
قد يتردد العديد من الفلاسفة في تأييد هذا التأويل لما يدور في محاورة الدفاع. وقد يزعمون أن فشل المرء في الدفاع عن معتقداته في مواجهة أسئلة سقراط المتلاحقة لا يدل على أن اعتقاده بفرضية ما غير مُبرَّر. وقد يزعم العديد من الفلاسفة أن امتلاك أدلة جيدة، أو تشكيل اعتقاد خلال مسار موثوق، من شأنه أن يكون كافيا للتبرير.
إن البرهنة، أو الإثبات للمحقِّق، أن المرء مُبرَّر هو أمر آخر، وليس ضرورياً، ببساطة، لكونه مبرراً. وقد يرى البعض أن سقراط يُظهر فحسب أن الحرفيين، والشعراء، والسياسيين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في مواجهة أسئلته. ويمكننا القول بأنه لا يُثبت أن الشعراء، والسياسيين، والحرفيين لديهم معتقدات غير مُبرَّرة. ولأننا لا نحصل إلا على القليل جدا من المعرفة بتفاصيل المحادثة التي تدور في هذه المحاورة، فلن يكون عادلا تجاهل هذا التأويل القائم على هذه الأسس. ولعل ما أثبته سقراط، خلال استجوابه المكثف، هو أن الحرفيين، والشعراء، والسياسيين شكلوا معتقداتهم واعتنقوها دون أدلة ملائمة، أو شكلوها واعتنقوها عن طريق عمليات تشكيل معتقدات غير موثوقة. كل ما يذكره سقراط هو أنهم لم يكونوا يعرفون كل ما ادعوا معرفته. ولأننا لا نشهد الاستجواب الفعلي والذي نشهده في محاورات أفلاطون الأخرى، فلا ينبغي لنا أن نرفض نظرية الدِقَّة المعرفية 2 كتأويل لرأي سقراط في الحكمة في محاورة الدفاع.
بغض النظر عما إذا كانت نظرية الدِقَّة المعرفية 2 هي رأي سقراط، فهناك مشكلات في الدِقَّة المعرفية 2 كبيان ما يعنيه أن تكون حكيمًا. حتى لو كانت نظرية الدِقَّة المعرفية 2 هي بالضبط ما قصده سقراط، فقد يزعم بعض الفلاسفة أنه يمكن للمرء أن يكون مُبرَّرًا في اعتقاده بقضية ما، لكنه لا يدرك أنه مُبرَّر. إذا كان هذا موقفا محتملا يمكن للشخص الحكيم أن يكون فيه، إذن، فقد يكون مُبررًا، لكنه يفشل في الاعتقاد بأن لديه معرفة. هل يمكن للشخص الحكيم أن يكون في مثل هذا الموقف، أم أنه من الضروري للشخص الحكيم أن يدرك دائمًا القيمة المعرفية لما يؤمن به؟[1] إذا كان هذا الموقف مستحيلًا، فيمكن بالتالي تجنب هذا الانتقاد. ليست هناك حاجة لحل هذه القضية هنا؛ لأن نظرية الدِقَّة المعرفية 1 ونظرية الدِقَّة المعرفية 2 تقعان فريسة مشكلة أخرى أقل صعوبة وإثارة للجدل فلسفيًا.
إن نظرية الدِقَّة المعرفية 1 ونظرية الدِقَّة المعرفية 2 تعانيان من مشكلة متماثلة وخطيرة للغاية. تخيل شخصًا لديه قدر ضئيل جدًا من المعرفة. افترض أيضًا أن الأشياء القليلة التي يعرفها ذات أهمية ضئيلة أو لا أهمية لها. قد يكون هذا الشخص من النوع الذي لن يقصده أحد بغرض الحصول على معلومات أو نصيحة. قد يكون مثل هذا الشخص حذرًا للغاية، ويعتقد أنه لا يعرف غير ما يعرفه بالفعل. وعلى الرغم مما قد يكون لديه من قناعات دقيقة حول ما يعرفه وما لا يعرفه، إلا أنه لن يكون حكيمًا. هذا يدل على أن نظرية الدِقَّة المعرفية 1 يشوبها خلل. أما بالنسبة لـنظرية الدِقَّة المعرفية 2، تخيل أنه يعتقد أنه لا يعرف سوى ما يجعله مبرَّرًا بالفعل في الاعتقاد به. يظل غير حكيم. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن نظريات الدِقَّة لا تقدم وصفًا وافيا للحكمة، إلا أنها تكشف عن فكرة مهمة. ربما يكون الشرط الضروري ليكون الشخص حكيمًا هو أن يعتقد الحكماء أنهم يملكون المعرفة فقط عندما تكون معتقداتهم مبرَّرة بدرجة عالية. أو، بتعبير أكثر بساطة، ربما يكون لدى الحكماء معتقدات مبررة معرفيًا، أو عقلانية.
3. الحكمة كمعرفة
يركز النهج البديل للحكمة على الفكرة الأكثر إيجابية، وهي أن الحكماء أشخاص على قدر كبير من المعرفة. هناك العديد من الآراء في الأدبيات الفلسفية التاريخية والمعاصرة حول الحكمة التي ترى، بدلا من التواضع أو الدِقَّة، أن المعرفة شرط ضروري للحكمة. على سبيل المثال، فإن أرسطو ( الأخلاق النيقوماخية ، الباب السادس، الفصل السابع)، وديكارت ( مبادئ الفلسفة )، وريتشارد جاريت (1996)، وجون كيكيس (1983)، وكيث ليرر ونيكولاس سميث (1996)، وروبرت نوزيك (1989)، وأفلاطون ( الجمهورية )، وشارون ريان (1996، 1999)، وفاليري تيبيريوس (2008)، ودينيس ويتكومب (2010) وليندا زاجزيبسكي (1996) دافعوا جميعهم عن نظريات الحكمة التي تشترط امتلاك الشخص الحكيم معرفة من نوع ما. تُميِّز كل هذه الآراء بوضوح شديد بين المعرفة والخبرة في موضوع معين. فضلاً عن ذلك، فإن كل هذه الآراء تؤكد أن الحكماء يعرفون “ما هو مهم”. وتختلف الآراء، في معظم الأحيان، حول ما هو مهم للشخص الحكيم أن يعرفه، وحول ما إذا كان هناك أي سلوك، أو فعل، أو طريقة للعيش، تكون مطلوبة لأجل تحقق الحكمة.
لقد ميز أرسطو بين نوعين مختلفين من الحكمة: الحكمة النظرية، والحكمة العملية. الحكمة النظرية، وفقًا لأرسطو، هي “المعرفة العلمية، الممزوجة بالعقل الحدسي، بالأشياء العليا بطبيعتها” ( الأخلاق النيقوماخية ، 6، 1141ب). بالنسبة لأرسطو، تتضمن الحكمة النظرية معرفة المبادئ الأولى، والقضايا العلمية الضرورية التي يمكن استنتاجها منها منطقيًا. لم تعد فكرة أرسطو بأن المعرفة العلمية هي معرفة الحقائق الضرورية وتبِعاتها المنطقية مقبولة على نطاق واسع. وبالتالي، لأغراض هذا البحث، سأنظر في نظرية تعكس روح وجهة نظر أرسطو حول الحكمة النظرية، ولكن دون الخوض في الطبيعة الضرورية، أو العَرَضيَّة، للمعرفة العلمية. إضافة إلى ذلك، فإنها ستدمج المعرفة العلمية بأنواع أخرى من المعرفة الواقعية، بما في ذلك المعرفة بالتاريخ، والفلسفة، والموسيقى، والأدب، والرياضيات، وما إلى ذلك. فلننظر فيما يلي: نظرية الحكمة القائمة على المعرفة:
الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق (WFK) :
S حكيم إذا وفقط إذا كان S يتمتع بمعرفة واقعية واسعة حول العلوم، والتاريخ، والفلسفة، والأدب، والموسيقى، وما إلى ذلك.
وفقًا لـنظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق، فإن الشخص الحكيم هو من يعرف الكثير عن الكون ومكاننا فيه. سيتعين عليه امتلاك معرفة واسعة بالموضوعات الأكاديمية التقليدية. هناك العديد من الأمور الإيجابية التي يمكن قولها عن نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق. تُميِّز نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق، بشكل جيد، بين الخبرة المحدودة والمعرفة بالأمور الدنيوية، وبين نوع المعرفة المهم، والواسع، والعام، التي يملكها الحكماء. كما يقول أرسطو، “… نعتقد أن بعض الناس حكماء بشكل عام، وليس في مجال معين، أو في أي جهة محددة أخرى …” ( الأخلاق النيقوماخية ، الكتاب 6، 1141أ).
إن المشكلة الرئيسية التي تواجه نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق هي أن بعضا من أكثر الناس علماً ليسوا حكماء. فبرغم أنهم يتمتعون بغزارة المعرفة الواقعية شديدة الأهمية، إلا أنهم يفتقرون إلى النوع من المعرفة العملية التي تُعد علامة على الشخص الحكيم. فالأشخاص الحكماء يعرفون كيفية التعامل مع العالم في كل أنواع المواقف، ومع كل أنواع الناس. فالمعرفة الواقعية الواسعة لا تكفي لتقدم لنا ما يعرفه الشخص الحكيم. وكما يشير روبرت نوزيك، “الحكمة ليست مجرد معرفة الحقائق الأساسية، إذا كانت هذه الحقائق غير مرتبطة بتوجيه للحياة، أو برؤية لمعناها.” (1989، 269). إن الحكمة تعني أكثر من الذكاء، ومعرفة العلوم، والفلسفة، أو أي موضوع آخر. إن أرسطو يعي جيدا حدود ما يسميه الحكمة النظرية. ولكن بدلاً من إدخال تحسينات على شيء مثل نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق، نجد أرسطو يميزها كنوع من أنواع الحكمة. قد يكون هناك فلاسفة آخرون على استعداد للتخلي عن نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق، أي الزعم بأنها تقدم شروطا غير كافية للحكمة، وإضافة ما ينقصها.
ونجد لدى أرسطو مفهوما للحكمة العملية يعوض ما ينقص الحكمة النظرية. ففي الكتاب السادس من كتاب الأخلاق النيقوماخية ، يقول أرسطو: “لهذا السبب نقول إن أنكساجوراس، وطاليس، وأمثالهما يتمتعون بحكمة فلسفية وليس بحكمة عملية، عندما نراهم يجهلون ما يحقق مصالحهم الخاصة، ولهذا السبب نقول إنهم يعرفون أشياء رائعة، ومذهلة، وصعبة، وإلهية، ولكنها عديمة الفائدة؛ بمعنى: أنهم لا يسعون إلى النفع الإنساني” (1141أ). إن معرفة الحقائق العَرَضية المفيدة للعيش الكريم مشروط في الحكمة العملية عند أرسطو. وفقًا لأرسطو، “يُعتقد الآن أن ما يميز الرجل صاحب الحكمة العملية أن يكون حسن التدبير فيما هو جيد ونافع له، ليس في بعض النواحي الخاصة، مثل أنواع الأشياء التي تؤدي إلى الصحة أو القوة، ولكن أنواع الأشياء التي تؤدي إلى حياة جيدة بشكل عام” (الأخلاق النيقوماخية ، السادس، 1140أ-1140ب). وبالتالي، بالنسبة لأرسطو، تتطلب الحكمة العملية معرفة عامة بكيفية العيش بشكل جيد. يؤيد العديد من الفلاسفة أرسطو في هذه النقطة. ومع ذلك، لن يرضى الكثيرون بالاستنتاج القائل أن الحكمة النظرية هي نوع من الحكمة، وأن الحكمة العملية نوع آخر. يؤيد فلاسفة آخرون، بما في ذلك ليندا زاجزيبسكي (1996)، وجود هذين النوعين من الحكمة وإنه يجب التمييز بينهما.
دعونا نواصل، دون جدال، بافتراض أنه من الممكن التوصل إلى نظرية لنوع واحد وعام من الحكمة. الحكمة، على وجه العموم، كما سيجادل العديد من الفلاسفة، تتطلب المعرفة العملية بالحياة. أما ما يسميه أرسطو الحكمة النظرية، فسيعترض كثيرون بأنه ليس حكمة على الإطلاق. ذلك أن الحكمة النظرية التي ابتدعها أرسطو ليست أكثر من معرفة واسعة أو فهم عميق. ويجادل نيكولاس ماكسويل (1984)، في نقاشه لإحداث ثورة في التعليم، بأننا يجب أن نقوم بالتدريس من أجل تحقيق الحكمة، والتي يميزها بوضوح عن المعرفة الأكاديمية النمطية. وقد أثيرت نقاط مماثلة من جانب روبرت ستيرنبرج (2001) وأندرو نورمان (1996). ويعتنق روبرت نوزيك وجهة نظر تماثل، إلى حد كبير، نظرية أرسطو في الحكمة العملية، ولكن نوزيك يحاول أن يلتقط جوهر الحكمة، نقطة. لكنه لا يسعى إلى تعيين نوع واحد بديل للحكمة. يزعم نوزيك أن “الحكمة هي ما تحتاج إلى فهمه من أجل العيش بشكل جيد، والتعامل مع المشاكل الجوهرية، وتجنب المخاطر في المِحَن التي يجد البشر أنفسهم واقعين فيها” (1989، 267). ويرى جون كيكيس أن “ما يعرفه الرجل الحكيم، إذن، هو كيفية إنشاء نمط يؤدي، بالنظر إلى الوضع البشري، على الأرجح، إلى حياة جيدة” (1983, 280). مؤخرا، طورت فاليري تيبيريوس (2008) وجهة نظر عملية تربط الحكمة بالرفاهية، وتشترط، من بين أمور أخرى، أن يعيش الشخص الحكيم نوع الحياة الذي يمكنه إقرارها بصدق عند التأمل. يمكن التعبير عن مثل هذه الآراء العملية للحكمة، بشكل عام، على النحو التالي:
الحكمة هي معرفة كيفية العيش بشكل جيد (KLW) :
S حكيم إذا وفقط إذا كان S يعرف كيف يعيش جيدا.
تأخذ هذه النظرة بفكرة أرسطو الأساسية عن الحكمة العملية. كما تأخذ جانبًا مهمًا من وجهات النظر التي دافع عنها نوزيك، وأفلاطون، وجاريت، وكيكيس ، وماكسويل، وريان، وتيبيريوس. ورغم ما قد يتضح من صعوبة تقديم بيان لما يعنيه معرفة كيفية العيش بشكل جيد مثلما هو الأمر مع تقديم وصف للحكمة، فإن نوزيك يقدم بداية مستنيرة للغاية.
إن الحكمة ليست مجرد نوع واحد من المعرفة، بل هي أنواع متباينة. إن ما يحتاج الإنسان الحكيم إلى معرفته وفهمه يشكل قائمة متنوعة: الأهداف والقيم الأكثر أهمية في الحياة – الهدف النهائي، إن وجد؛ وما الوسائل التي يمكن أن نصل بها إلى هذه الأهداف دون تكلفة باهظة؛ وأنواع المخاطر التي تهدد تحقيق هذه الأهداف؛ وكيفية التعرف على هذه المخاطر وتجنبها أو التقليل منها؛ وكيف تبدو الأنواع المختلفة من البشر في أفعالهم ودوافعهم (حيث يمثل هذا إما مخاطر أو فرصاً)؛ وما هو غير ممكن أو بمكن تحقيقه (أو تجنبه)؛ وكيفية تحديد ما هو مناسب ومتى؛ ومعرفة متى يمكن تحقيق أهداف معينة بشكل كاف؛ وما هي القيود التي لا يمكن تجنبها وكيفية قبولها؛ وكيفية تحسين الذات وعلاقاتها مع الآخرين أو مع المجتمع؛ ومعرفة ما هي القيمة الحقيقية وغير الظاهرة للأشياء المختلفة؛ ومتى ينبغي أن نتخذ وجهة نظر بعيدة المدى؛ ومعرفة تنوع وصرامة الحقائق، والمؤسسات، والطبيعة البشرية؛ وفهم الدوافع الحقيقية للإنسان؛ وكيفية التأقلم والتعامل مع المآسي والمعضلات الكبرى في الحياة، ومع الأشياء الطيبة الأساسية أيضاً. (1989، 269)
إن تفسير نوزيك لما يجب أن يعرفه المرء من أجل أن يعيش حياة طيبة، يمنحنا نظرية مثيرة للاهتمام وجذابة للغاية، وإن كانت وعرة إلى حد ما، عن الحكمة. وكما أشرنا آنفا، فإن العديد من الفلاسفة، بما في ذلك أرسطو، وزاجزيبسكي ، قد يرفضون النظرية التي ترى الحكمة كمعرفة كيفية العيش بشكل جيد، باعتبارها مجمل ما يتعلق بالحكمة. ومن الواضح أن أرسطو وزاجزيبسكي قد يرفضان نظرية الحكمة كمعرفة كيفية العيش بشكل جيد باعتبارها نهاية الأمر، لأنهما يعتقدان أن الحكمة النظرية نوع آخر من الحكمة، وهما غير مستعدان لقبول فكرة وجود مفهوم لنوع عام وواحد للحكمة. ويرى كيكيس أن “امتلاك الحكمة يتجلى في الحكم المتصف بالموثوقية، والسلامة، والمعقولية، باختصار، الحكم الصائب. وفي الحكم الصائب، يستخدم الشخص معرفته للتأثير في أفعاله. ولكي نفهم الحكمة، يتعين علينا أن نفهم ارتباطها بالمعرفة، والعمل، والحكم” (1983، 277). ويضيف كيكيس : “يجب أيضًا أن تظهر الحكمة في الرجل الذي يملكها” (1983، 281). لذلك يعتقد كثير من الفلاسفة أن الحكمة لا تقتصر حتى على معرفة كيفية العيش على نحو جيد. يعتقد تيبيريوس أن أفعال الشخص الحكيم تعكس قِيَمَه الأساسية. يعتقد هؤلاء الفلاسفة أن الحكمة تشمل أيضًا الفعل. قد يفي الشخص بشروط أي من المبادئ التي ذكرناها حتى الآن، ومع ذلك قد يتصرف بطريقة متهورة للغاية. إن الأشخاص شديدو التهور، حتى لو كانوا على دراية كبيرة بالحياة، لا يُعتبرون حكماء.
قد يرغب الفلاسفة المنجذبون إلى فكرة أن معرفة كيفية العيش الجيد شرط ضروري للحكمة، في إضافة شرط النجاح إلى نظرية الحكمة كمعرفة كيفية العيش بشكل جيد لتجاوز الحالات التي يعرف فيها الشخص كل شيء عن العيش بنحو جيد، ومع ذلك يفشل في وضع هذه المعرفة موضع التنفيذ العملي. شيء على غرار النظرية التالية من شأنه أن يلتقط هذه الفكرة.
الحكمة باعتبارها معرفة كيفية العيش الجيد بنجاح (KLS):
يكون S حكيمًا إذا وفقط إذا (1) كانS يعرف كيف يعيش على نحو جيد، و (2) كان S ناجحًا في أن يعيش على نحو جيد.
الغرض من فكرة شرط النجاح هي أن يضع المرء معرفته موضع التنفيذ. أو، بدلاً من استخدام مصطلح النجاح، قد نشترط توافق معتقدات وقيم الشخص الحكيم مع أفعاله (تيبيريوس، 2008). الفكرة الرئيسية هي أن أفعال المرء تمثل انعكاسا لفهمه لما يعنيه العيش على نحو جيد. سيتبنى أرسطو وزاجزيبسكي ( بالنسبة للحكمة العملية)، وكييكس، ونوزيك، وتيبيريوس، وجهة نظر على غرار الحكمة باعتبارها معرفة كيفية العيش الجيد بنجاح. ومع ذلك، لن يتم تبني نظرية الحكمة باعتبارها معرفة كيفية العيش الجيد بنجاح بصورة شاملة (انظر ريان 1999، لمزيد من الانتقادات). أحد الانتقادات الموجهة إلى نظرية الحكمة باعتبارها معرفة كيفية العيش الجيد بنجاح، أن المرء قد يعتقد أن مجمل المعرفة الواقعية المشترطة في نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق مفقودة في هذه النظرية. قد يجادل المرء بأن نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق، والتي ترى أن الشخص الحكيم لديه معرفة واقعية واسعة النطاق، رُفض فقط لأنه لم يوفر شروطًا كافية للحكمة. قد يزعم عدد من الفلاسفة أن نظرية الحكمة كمعرفة واقعية واسعة النطاق توفر شرطًا ضروريًا للحكمة. يحتاج الشخص الحكيم، مثلما قد يجادل ناقد ما، إلى معرفة كيفية العيش بنحو جيد (كما وصفه نوزيك)، لكنه يحتاج أيضًا إلى امتلاك بعض المعرفة العميقة والبعيدة المدى، سواء النظرية، أو الواقعية، التي قد يكون لها تأثير ضئيل على حياته اليومية، أو قراراته العملية، أو رفاهيته. في مقدمة مبادئ الفلسفة، يؤكد ديكارت على المعرفة الواقعية كعنصر مهم من مكونات الحكمة. كتب ديكارت، “حقًا إن الله وحده هو من يمتلك الحكمة التامة، أي: هو من لديه معرفة كاملة بحقيقة كل الأشياء؛ ولكن قد يقال إن الرجال يتفاوتون في الحكمة وفقًا لمدى تفاوتهم في معرفة أهم الحقائق” ( المبادئ ، 204). بالطبع، من بين هذه الحقائق المهمة، كما قد يزعم المرء، حقائق حول العيش على نحو جيد، بالإضافة إلى المعرفة في مجالات المواد الأكاديمية الأساسية.
علاوة على ذلك، قد يشكو المرء من أن الفكرة التي بقيت قائمة من نظريات الدِقَّة المعرفية مفقودة أيضًا من نظرية الحكمة باعتبارها معرفة كيفية العيش الجيد بنجاح. قد يظن المرء أن الشخص الحكيم لا يعرف الكثير فحسب، وينجح في العيش بشكل جيد، بل إنه أيضا يقصر ادعاءاته بالمعرفة (أو الاعتقاد بأنه لديه معرفة) على تلك الافتراضات المبرَّر في اعتقادها.
4. نظرية هجينة
تتمثل إحدى طرق محاولة استيعاب الرؤى المختلفة من النظريات، التي تم النظر فيها حتى الآن، في شكل نظرية هجينة.. ومن تلك هذه الأفكار:
S حكيم إذا وفقط إذا
- 1. كان لدى S معرفة واقعية ونظرية واسعة.
- 2. كان S يعرف كيف يعيش على نحو جيد.
- 3. كان S ناجحا في العيش بشكل جيد.
- 4. كان لدى S عدد قليل جدًا من المعتقدات غير المبررة.
ورغم أن هذه النظرية الهجينة تتمتع بالعديد من المزايا، إلا أن هناك عدداً من الانتقادات المهمة التي ينبغي اعتبارها. يعترض دينيس ويتكومب (2010) على جميع نظريات الحكمة التي تتضمن شرط العيش على نحو جيد، أو تقدير شرط العيش على نحو جيد. ويقدم عدة اعتراضات مثيرة للاهتمام ضد هذه الآراء. يرى ويتكومب أن الشخص الذي يعاني من الاكتئاب الشديد، والخالي تماماً من أي طموح للعيش الجيد، قد يكون رغم ذلك حكيماً. وطالما أن مثل هذا الشخص لديه معرفة عميقة بالموضوعات الأكاديمية، ويعرف كيف يعيش حياة جيدة، فسوف يكون لديه كل ما يحتاجه من حكمة. وفيما يتعلق بشخص يتمتع بسعة المعرفة، ويعاني من الاكتئاب الشديد، ولا يملك أي طموح سوى البقاء في غرفته، يقول ويتكومب : “إذا صادفت مثل هذا الشخص، فسوف آخذ نصيحته على محمل الجد، وأتمنى له تمام الصحة، وأترك البحث المستمر عن الحكماء لمن هم أقل أمتنانا لمشوراته. وسأعتقد كونه حكيماً على الرغم من الاكتئاب الناجم عن فشله في تقدير الحياة الطيبة أو الرغبة فيها. لذلك أعتقد أن الحكمة لا تتطلب تقدير الحياة الطيبة أو الرغبة فيها”.
في الرد على انتقادات ويتكومب الثاقبة، قد يزعم المرء أن الشخص الذي يعاني من الاكتئاب الشديد، والذي يتمتع بالحكمة، سوف يسعى إلى العيش بأفضل ما يمكن، وسوف يظل مقدرا الحياة الجيدة، حتى لو كان بعيدًا جدًا عن درجة الكمال. سيحاول مثل هذا الشخص الحصول على المساعدة للتعامل مع اكتئابه. إذا كان حقا لا يهتم على الإطلاق بذلك، فقد يكون ذو معرفة واسعة، لكنه لن يكون حكيمًا. هناك أمر لا عقلاني بخصوص معرفة كيفية العيش الجيد ثم رفض محاولة القيام بذلك. مثل هذه اللاعقلانية لا تتوافق مع الحكمة. قد يكون الشخص الذي يعاني من هذا الصراع الداخلي فطنا وذكيًا للغاية، شخصًا يُستمع إليه في العديد من القضايا، شخصًا يُوثق به في العديد من القضايا، وقد يفوز بجائزة نوبل لعظمته الفكرية، لكنه ليس مثيرًا للإعجاب بما يكفي، ولا يتمتع بالاتساق العقلاني بما يكفي ليكون حكيمًا. الحكمة فضيلة وطريقة للعيش، وهي تتطلب ما هو أكثر من الأفكار الذكية والمعرفة.
يعتقد أرسطو أنه “من الواضح استحالة أن يكون الإنسان حكيماً بنحو عملي دون أن يكون صالحاً” ( الأخلاق النيقوماخية ، 1144أ، 36-37). لقد أدرج معظم الفلاسفة، الذين تم ذكرهم حتى الآن، الفضيلة الأخلاقية ضمن فهمهم لما يعنيه العيش على نحو جيد. ومع ذلك، يتحدى ويتكومب أي نظرية للحكمة تشترط فضيلة أخلاقية. ويزعم ويتكومب أن الشخص الشرير للغاية يمكن، مع ذلك، أن يكون حكيماً.
مرة أخرى، من المهم أن نفرق بين أن يكون المرء حكيما وبين أن يكون فطنا وحصيفا. فإذا تصورنا أن الحكمة هي أعلى الفضائل الإنسانية، أو من بين أعلى الفضائل، فإنها تبدو مناقضة للشخصية الشريرة.
ولكن هناك إشكالية مهمة للغاية في النظرية الهجينة. وبما أن الكثير مما كان يُعتبر معرفةً منذ زمن بعيد قد هُجِر أو تطوّر، فإن النظرية التي تتطلب الحقيقة (من خلال شرط المعرفة) ستستبعد تقريبًا جميع الأشخاص الذين ماتوا منذ زمن بعيد، بما في ذلك هيباتيا، وسقراط، وكونفوشيوس، وأرسطو، وهوميروس، ولاو تزو، وغيرهم، من قائمة الحكماء. ولا ينبغي أن يُعَد سوء الحظ المعرفي، والعيش في الماضي، سبباً في نفي الحكمة عمن وقعا له. ولكن بما أن الحقيقة شرط ضروري للمعرفة، فإن سوء الحظ المعرفي كافٍ لتقويض الادعاء بالمعرفة. وما يهم فيما يتصل بالحكمة لا أن يكون الشخص الحكيم ذا معرفة، بل أن يكون لديه معتقدات مبرَّرة وعقلانية للغاية حول مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك كيفية العيش بشكل جيد، والعلوم، والفلسفة، والرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا، والفن، والأدب، وعلم النفس، وما إلى ذلك. وكلما اتسع نطاق تنوع الموضوعات محل الاهتمام، كان ذلك أفضل. وهناك طريقة أخرى لصياغة هذه النقطة نفسها، وهي أن نتخيل شخصاً لديه معتقدات مبررة إلى حد كبير بشأن مجموعة واسعة من الموضوعات، ولكنه لا يدرك أنه واقع في فخ المصفوفة Matrix، أو في سيناريو متشكك آخر. وقد يكون مثل هذا الشخص حكيماً حتى لو كان يفتقر بشدة إلى المعرفة. ومن المؤكد أن نظرية الحكمة التي تركز على وجود معتقدات مُبرَّرة عقلانياً أو معرفياً، عوضا عن المعيار الأعلى المتمثل في امتلاك المعرفة بالفعل، ستكون أكثر إيجابية. فضلاً عن ذلك، فإن مثل هذه النظرية من شأنها أن تتضمن الكثير من الجوانب الجذابة حول نظريات التواضع المعرفي، ونظريات الدقة المعرفية.
5. الحكمة كعقلانية
إن النظرية الأخيرة التي سنتناولها هنا هي سعي لحصر كل ما هو جيد، مع تجنب كل ما تنطوي عليها النظريات الأخرى، التي ناقشناها حتى الآن، من مشاكل جادة. ربما تكون الحكمة نوعا عميقا وشاملا من العقلانية (ريان، 2012).
نظرية العقلانية المتعمقة (DRT):
S حكيم إذا وفقط إذا
1. كان لدى S مجموعة واسعة من المعتقدات المُبرَّرة معرفيًا حول مجموعة واسعة من الموضوعات الأكاديمية القيمة.
2. كان لدى S مجموعة واسعة من المعتقدات المُبرَّرة عن كيفية العيش بعقلانية (معرفيًا، وأخلاقيًا، وعمليًا).
3. كان S ملتزما بالعيش بشكل عقلاني.
4. كان لدى S عدد قليل جدًا من المعتقدات غير المُبرَّرة وهو دقيق في مراعاة حدودها.
في الشرط (1)، تأخذ نظرية العقلانية المتعمقة في الاعتبار ما هو جذاب في بعض نظريات المعرفة من خلال اشتراط معتقدات مُبرَّرة معرفيًا بمجموعة واسعة من المواد الأكاديمية النمطية. يأخذ الشرط (2) في الاعتبار ما هو جذاب في النظريات التي تشترط المعرفة بكيفية العيش بشكل جيد. على سبيل المثال، فإن وجود معتقدات مُبرَّرة عن كيفية العيش بطريقة عقلانية عملية سينطوي على وجود استراتيجية مدروسة بنحو جيد للتعامل مع الجوانب العملية للحياة. إن وجود خطة عقلانية لا يشترط النجاح التام. إنه يتطلب أسبابا وجيهة وراء أفعال المرء، والاستجابة المناسبة لأخطائه، والتعلم منها، ووجود خطة عقلانية لجميع أنواع المواقف والمشاكل. إن وجود معتقدات مُبرَّرة حول كيفية العيش بطريقة عقلانية أخلاقية لا يتضمن أن يكون المرء قديسًا من الناحية الأخلاقية، ولكنه يشترط أن يكون لدى المرء أسباب وجيهة تدعم معتقداته بما هو صحيح أخلاقيًا وما هو خاطئ، وبما يجب عليه فعله وما لا يجب عليه فعله أخلاقيًا، في مجموعة كبيرة من الظروف المتنوعة. إن امتلاك معتقدات مُبرَّرة حول العيش بطريقة عقلانية عاطفية يتضمن، لا عدم التعاطف، بل امتلاك معتقدات مُبرَّرة حول ما هو استجابة عقلانية عاطفية لموقف ما، وما ليس كذلك. على سبيل المثال، من المناسب أن نشعر بالحزن العميق عند التعامل مع فقدان أحد الأحباء. ولكن، عادةً، لا يكون الشعور بالحزن العميق، أو الغضب الشديد، عاطفة مناسبة على الحليب المسكوب. فالشخص الحكيم لابد أن يكون لديه معتقدات عقلانية عن الاحتياجات العاطفية للآخرين وسلوكياتهم.
يضمن الشرط (3) أن يعيش الشخص الحكيم حياة تعكس ما يُبرِّر اعتقاده بأنها طريقة عقلانية للعيش. في الشرط (4)، تحترم نظرية العقلانية البالغة التواضع المعرفي. يتطلب الشرط (4) ألا يؤمن الشخص الحكيم بالأشياء دون مُبرِّر معرفي. تستبعد نظرية العقلانية المتعمقة جميع الشعراء، والسياسيين، والحرفيين غير الحكماء الذين استبعدهم سقراط. يعتقد الحكماء أنهم لا يعرفون عندما يفتقرون إلى الأدلة الكافية. علاوة على ذلك، فإن الحكماء ليسوا متغطرسين معرفيًا.
إن نظرية العقلانية المتعمقة لا تشترط المعرفة أو الكمال، ولكنها تشترط العقلانية، التي تمثل الشرط الذي يستوعب درجات من الحكمة. إنها نظرية واعدة للحكمة.
المراجع
- Aristotle, Nichomachean Ethics, in The Basic Works of Aristotle, Richard McKeon, New York: Random House, 1941, pp. 935–1112.
- Garrett, R., 1996, “Three Definitions of Wisdom,” in Lehrer et al. 1996, pp. 221–232.
- Descartes, R., Meditations on First Philosophy, in The Philosophical Works of Descartes, Volume 1, E. Haldane and G. Ross (trans. and eds.), London: Cambridge University Press, 1979, pp. 131–199
- Descartes, R., Principles of Philosophy, in Philosophical Works, E. Haldane and G. Ross (trans. and eds.), London: Cambridge University Press, 1979, pp. 201–302.
- Kekes, J., 1983, “Wisdom,” American Philosophical Quarterly, 20(3): 277–286.
- Lehrer, Keith, B. Jeannie Lum, Beverly A. Slichta, and Nicholas D. Smith (eds.), 1996, Knowledge, Teaching, and Wisdom, Dordrecht: Kluwer Academic Publishers
- Lehrer, K., and N. Smith, 1996, “Introduction,” in Lehrer et al. 1996, pp. 3–17.
- Maxwell, N., 1984, From Knowledge to Wisdom, Oxford: Basil Blackwell.
- Norman, A., 1996, “Teaching Wisdom,” in Lehrer et al. 1996, pp. 253–265.
- Nozick, R., 1989, “What is Wisdom and Why Do Philosophers Love it So?” in The Examined Life, New York: Touchstone Press, pp. 267–278.
- Plato, The Apology, in The Collected Dialogues of Plato, Edith Hamilton and Huntington Cairns (eds.), Princeton: Princeton University Press, 1978, pp. 3–26.
- Plato, The Republic, in The Collected Dialogues of Plato, Edith Hamilton and Huntington Cairns (eds.), Princeton: Princeton University Press, 1978, pp. 575–844.
- Ryan, S., 1996, “Wisdom,” in Lehrer et al. 1996, pp. 233–242.
- –––, 1999, “What is Wisdom?” Philosophical Studies, 93: 119–139.
- –––, 2012, “Wisdom, Knowledge, and Rationality,” Acta Analytica, 27(2): 99–112.
- Sternberg, R., 2001, “Why Schools Should Teach for Wisdom: The Balance Theory of Wisdom in Educational Settings,” Educational Psychologist, 36(4): 227–245.
- Tiberius, V., 2008, The Reflective Life: Living Wisely With Our Limits, Oxford: Oxford University Press.
- Whitcomb, D., 2010, “Wisdom,” in Routledge Companion to Epistemology, S. Bernecker and D. Pritchard (eds.), London: Routledge.
- Zagzebski, L., 1996, Virtues of the Mind, Cambridge: Cambridge University Press.
الأدوات الأكاديمية
Academic Tools
How to cite this entry. Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society. Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO). Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.
مصادر أخرى على الأنترنت
The Wisdom Page http://www.wisdompage.com/
[Please contact the author with suggestions.]
مداخل ذات صلة
evidence | justification, epistemic: coherentist theories of | justification, epistemic: foundationalist theories of | justification, epistemic: internalist vs. externalist conceptions of | knowledge: analysis of | modesty and humility | reliabilist epistemology
حواشي
[1] يرى كيث ليهرر ونيكولاس د. سميث أن إحدى علامات الشخص الحكيم هي أنه جيد للغاية في إدراك قيمة المعتقدات التي يحكم عليها. قد يؤكد ليهرر وسميث على أن الشخص الحكيم يكون دائمًا على دراية بما هو مُبرَّر في اعتقاده، وأنه يعتقد دائمًا أن لديه معرفة عندما يكون لديه اعتقاد مُبرَّر للغاية. انظر لهرر وسميث 1996، ص 10.