الكاتب | مايكل آلين |
ترجمة | فيصل الفرهود |

يمكك شراء نسخة كندل كاملة من كتاب (الجذور اللاهوتية للحداثة) على هذا الرابط
المقدمة
مفهوم الحداثة
في يوم ضبابي من عام 1326 وقف ثلاثة رجال وسط حشد من العباد في كاتدرائية نوتردام دي دومز في أفيجنون. كانت بنية الرومانسيك في حاجة واضحة للإصلاح، ولكنه ما زال مركز الحياة الروحانية بعد عقد فقط من كونه قرية ريفية. ولكن كيف تغيّر كل هذا! أصبحت القرية هي المركز الجديد للبابوية وكنتيجة أصبحت عرضة لتغيير جذري. كان هناك قصر يجري بناءه وكانت الأموال تأتي من كل حدب وصوب فيما تواجد الفرسان والبيروقراطيين والسفراء والسماسرة في كل مكان. كانت السوق ممتلئة بالبضائع من كل أنحاء أوربا وبلاد الشام. وكان الباحثون والشعراء ومنسوبي الكنيسة القريبون والبعيدون منها يقدمون إليها بشكل متواصل. بدأت القرية الصغيرة بالتحول إلى مدينة ذات أهمية كبيرة. وأولئك الرجال الثلاثة الذين حضروا القداس كانوا مؤشراً على هذا التغيّير. الأول انجليزي والثاني إيطالي والثالث ألماني والثلاثة كانوا يتحدثون اللاتينية بإتقان. كان الأول فرانسيسي بدا مرتبكاً وكان يبدو بوضوح أنه يعاني من بعض الضغط النفسي، بينما الثاني كان شاباً مهووساً بملبسه وأنيقا بتكلف، فيما كان الثالث مسناً دومينكياً بدا غارقا في تأملاته. رحل الثلاثة حال انتهاء القداس وتفرقوا. قليل من معاصريهم من كان يعلم بأن السبل الثلاثة المتفرقة التي سلكها هؤلاء الثلاثة من القداس ومن افيجنون كانت ستغير من مسيرة الإنسانية والعصر الحديث.

يعتقد الكثير هذه الأيام بأن الحداثة فقدت بريقها، ولكن في عام 1326 لم تكن حتى بصيصا في عيني أحد. لم يكن ينتظر قاطني ذلك العالم غداً مشرقاً مضيئاً بل كانوا ينتظرون نهاية العالم. لم يكونوا يستبشرون بقادم الأيام أو يسترجعون الماضي، ولكنهم نظروا فوقهم للجنة وتحتهم إلى جهنم. وأشك قليلاً بأنهم كانوا سيرون العالم الحديث حينها بانبهار. نحن لا نراه كذلك لان الاعتياد ولد فينا الازدراء، ونأخذ الحداثة على انها أمر مفروغ منه ونتملل منها أحياناً، ونعتقد كذلك بأننا نعرف ما هي الحداثة بوضوح. ولكن هل نعي ماهي الحداثة؟ هل نفهم ما يعني أن تكون حداثيا؟ يفترض هذا الكتاب بأننا لا نعي ذلك وآثار الأحداث الأخيرة تبرهن على ذلك بشدة.
ماذا يعني أن تكون حداثياً؟ أن تكون حداثياً في استعمال اللغة اليومية هو أن تكون مواكباً لعصرك ومعاصراً له. يستوعب هذا الاستعمال المنتشر كثيرا من الحقيقة في هذا الموضوع، حتى وإن كان استيعاب المعنى العميق والمهم لهذا التعريف غائبا نوعا ما. في الحقيقة، فإن من سمات الحداثة المسكوت عنها أن نركز على ما هو مقابل لنا وتتغافل عن المغزى العميق من جذورنا. الفهم الشائع للحداثي والحقيقة غير الشائعة له هو في تعريف الفرد من خلال ارتباطه بعصره. في عصور ماضية وأماكن أخرى، كان الناس يعرفون أنفسهم من خلال أرضهم ومسقط رأسهم، من خلال أعراقهم وجماعاتهم، من خلال عاداتهم وآلهتهم، ولكن ليس من خلال ارتباطهم بالزمن بشكل خاص. بالطبع فإن أي وعي للنفس يفترض مفهوما معيناً للزمن، ولكن في كل هذه الحالات ظلت هذه اللحظة الوقتية موجودة ضمنياً. حدد القدماء موقعهم زمانياً من خلال ارتباطهم بأحداث جذرية، مثل خلق العالم، تحرر من عبودية، انتصار تاريخي، أو أول أولمبياد ولكن ارتباطك مؤقتا بأي من هذه الأشكال هو أمر مختلف عن تعريف نفسك من خلال ارتباط زمني. أن تكون حداثياً هو أن تكون “جديداً”، أن تكون حدثاً غير مسبوق في الزمن، أن تكون بداية جديدة، مختلفاً عن كل ما سبقك، أسلوباً جديد من الوجود في العالم، لا أن تكون شكلاً من الوجود بل شكلا من التحقق. وعي الفرد بحداثته يعني وعيه بأنه مبدع ذاته، كشخص حر مبتكر بمعنى جذري، لا كمجرد شخص مضبوط بالعادات ومحكوم بالقدر والعناية الإلهية. أن تكون حداثياً هو أن تصبح محرراً لنفسك صانعاً لها وبالتالي لن تكون مجرد جزءاً من عادة أو تاريخ ولكن أن تصنع التاريخ أنت. وعلى إثر ذلك فأن تكون حداثياً لا يعني بأن تعرف ارتباطك بالزمن فقط ولكن أن تفهم الزمن كنتاج لحرية الانسان وتفاعلها مع العالم الطبيعي. أن تكون حداثياً كنتيجة هو أمر هائل وفريد من نوعه. ولكن ما الذي يمكن أن يبرر هذا الرأي المبهر المتغطرس؟
