هذا المقال هو عبارة عن ورقة عمل تقدّم بها الكاتب إلى جمعية أمناء الأرشيف الأمريكية سنة 1970، ثم تم نشرها لاحقا في دوريّة The Midwestern Archivist، تحت عنوان: Secrecy, Archives, and the Public Interest [1].
اسمحوا لي أن أشق طريقي، من دائرة العالم الواسعة، إلينا نحن في مركزهذه الدائرة، عبر مناقشة هذه الأمورالثلاثة بالدور: الدورالمجتمعي الذي يلعبه أهل المهن في العصر الحديث، الباحثون في الولايات المتحدة اليوم، وأمناء الأرشيف في هذه اللحظة وهذا الظرف.
سأبدأ باقتباس من مستند—وهي حركة ماكرةلكسب ود أمناء الأرشيف، كما سيقول البعض ربما، لكن هذا المستند لا يقبع على الطرق المطروقة في العمل الأرشيفي )وهي حقيقة ربما سنتأملها لاحقا). هذا المستند هو نص محاكمة حصلت في شيكاغو في خريف عام 1969، وتم تسميتها بشكل عاطفي بـ “محاكمة المؤامرة”. أنا أشير لهذه المحاكمة لأن نصها يلامس بين فينة وأخرى مشكلة الشخص المهنيّ—سواءً كان محاميا، أو مؤرخا، أو أمين أرشيف—والعلاقة ما بين أن يمارس المرء مهنته، وبين أن يمارس إنسانيته. في الـ 15 من أكتوبر من العام 1969، والذي صادف يوم المظاهرة الوطنية التي قامت بالاعتراض على الحرب في فيتنام، وضع محامي الدفاع وليام كنسلر William Kunstlerرباطا أسود على ذراعه في المحكمة، وذلك من أجل تبيين تضامنه مع المظاهرة واحتجاجه على الحرب، فقام محامي الحكومة في تلك القضية، توماس فوران، بلفت نظر القاضي إلى تلك الإشارة، قائلا: “سيادة القاضي! هذا شنيع! هذا الرجل بوق؛ انظر إليه وهو يرتدي رباطا مثل موكلّيه”.
في اليوم الذي سبق تلك المظاهرة، قام المحامي كنسلر بطلب تعطيل العمل في المحكمة من أجل المشاركة بالمظاهرة، ودار هذا الحوار بينه وبين قاضي المحكمة هوفمان:
السيد كنسلر: … أنا أعتقد، سيادة القاضي، أن التظاهر ضد موت ثلاثين ألف أمريكي، وعدد لا يعلم به إلا الرب من الفيتناميين في تلك الدولة، هو بأهمية الحداد على رجل واحد (آيزنهاور) في الولايات المتحدة ]2[. فإذا كان بإمكان المحاكم أن تغلق بسبب موت شخص واحد عاش حياته إلى الآخر واستمتع بها، فمن الأجدر بهم أن يغلقوا حدادا على موت الآلاف والملايين من الأبرياء الذين دمّرت حياتهم وأفسدت بسبب هذه الفظائع المطلقة التي تحصل بإسمك وإسمي—
المحكمة: ليست تحصل بإسمي.
السيد كنسلر: هي بالفعل تحصل بإسمك أيضا، وبإسم كافة الشعب في الولايات المتحدة.
المحكمة: تحدّث عن نفسك فقط، ولا تقم بضمّي معك. يا للهول! ألست أنت وأنا—
السيد كنسلر: أنت وأنا واحد، سيادة القاضي، لأن كل مواطن—أنت مواطن وأنا مواطن.
المحكمة: فقط لأنك عضو في سلك هذه المحكمة، وأنا مجبر على الاستماع إليك باحترام—مثلما أفعل.
السيد كنسلر: لا، سيادتكم، أنت أكثر من ذلك؛ أنت مواطن في الولايات المتحدة.
المحكمة: أجل، أنا كذلك.
السيد كنسلر: وأنا مواطن في الولايات المتحدة، وهذه الأفعال تفعل بإسمنا؛ بإسم القاضي هوفمان وبإسم وليام كنسلر.
المحكمة: إلى هنا نكون انتهينا يا سيد. لن أستمع إليك أكثر.
كنسلر كان يحاول انجاز شئ بالغ الصعوبة هنا: أن يجعل القاضي ينهض من تلك الزاوية المريحة التي قرّر المجتمع أنها موضعه الطبيعي، ويجعله يعلن أنه مواطن، حتى وإن كان على المنصة، ويرتدي الثوب، ويمارس مهنته. كنسلر قال بأن هناك مجزرة تحصل في فيتنام، وأنها كانت تحصل بإسم كل الشعب. كان بذلك يريد من القاضي أن يقر بتلك الحقيقة ليس فقط في المساء، عندما يخلع ثوب القضاء، أو في النادي الريفي خلال عطلة نهاية الأسبوع، بل كان يريده أن يقر بها هناك، خلال عمله اليومي وساعاته الأكثر حيويّة، وفي غمرة عمله في القضاء. لقد فشل كنسلر في ذلك، لكن محاولته تلك تعكس ذلك الشدّ الذي نحسّ جميعنا فيه—في حال لم نفتتن بأبّهة المنصب الذي نملكه—ذلك الشدّ بين الدور الذي تم تقريره لنا بحكم ثقافتنا، وبين احتياجاتنا الوجوديّة ككائنات إنسانية.
المهنيّة هي شكل قويّ وفعّال من أشكال التحكم المجتمعي . وأقصد بالمهنيّة أن ينغمس المرء بشكل شبه كليّ في حرفته وصنعته، ويصبح مشغولاً يوما تلو آخر بممارسة هذه المهارات، حتى لا يتبقى لديه سوى القليل من الوقت، والطاقة، والإرادة كي يفكّر في الدورالذي تلعبه هذه المهارات في المشروع المجتمعي الأكبر. أٌقول انغماس “شبه كليّ”، لأنه لو كان كليا لأصبحنا نرتاب من هكذا انغماس. لكن لأنه لا يتم بشكل كلي، صرنا نتسامح معه، أو على الأقل صرنا مشوّشين حول هذا المزيج بشكل يكفي لأن يجعلنا لا نفعل أي شئ حياله. إنّه شئ مشابه لليرقان الذي أصاب يوساريان، بطل رواية خدعة (Catch) 22، كما يكتب الراوي جوزف هيلر:
يوساريان كان في المشفى مع ألم في الكبد يقصرعن كونه مرض اليرقان. لو أصبح هذا الألم يرقانا لصار بإمكانهم معالجته، ولو لم يصبح كذلك وزال الألم لصار بإمكانهم ترخيصه من المشفى. لكن كونه قاصرا طوال الوقت عن اليرقان أربكهم.
نقصد في عبارة “التحكم المجتمعي” أن يتم إبقاء الأمور على وضعها الراهن، وأن يتم المحافظة على الترتيبات التقليديّة في المجتمع، ويتم منع أي تغيير حاد في الطريقة التي يتم خلالها توزيع الثروة والسلطة في المجتمع. في العصور الحديثة وماقبل الحديثة على حد سواء، بقيت التوليفة البسيطة للتحكّم المجتمعي واحدة: القوّة والخداع. ميكافيللي، وهو يكتب على أعتاب العصر الحديث، اعتمد على تجارب الماضي وهو يصف للمستقبل تلك التوليفة ذاتها: قوّة الأسد، ودهاء الثعلب. عصرنا الحديث أبرز هذين العاملين بشكل كبير: لقد قام بتركيز القوّة بشكل فعّال لم يسبق له مثيل في التاريخ، وقام بتوظيف تقنيات أكثر تعقيداً في سبيل الخداع. الإعلام المطبوع، وهو ينادي بنشر المعرفة إلى شرائح كبيرة من السكان، جعل خداع الناس ممكناً وضرورياً في الوقت ذاته، وفي العقود الأربعة الأخيرة قمنا بالتطوّر من الإعلام المطبوع إلى التلفاز الملوّن، من ميكيافيللي إلى هيرمان كان ]3[.
كان يوجد هناك بعض المهنيّين والمختصّين في قديم الزمان، لكنهم اليوم في كل مكان، ومهاراتهم ومعرفتهم يمكن لها أن تشكّل خطراً على الوضع الراهن. لذلك يتم إضعاف إرادتهم على تحدّي النظام القائم باستمرار عبر مكافآت المال والمنصب. إنّهم شديدو الانقسام، شديدو الانشغال بتخصصاتهم الدقيقة، فتجدهم يقضون معظم وقتهم في صقل و زمّ وصلتهم الصغيرة الخاصة بهم في الآلة المجتمعيّة. هذا يترك لهم فقط قليلا من الوقت والطاقة كي يقلقوا حول كون الآلة تم تصميمها من أجل الحرب أم من أجل السلام، من أجل حاجات المجتمع أم من أجل أرباح شخصية، من أجل مساعداتنا أم من أجل تسميمنا.
مهنيّة عصورنا الحديثة وخيمة بما فيه الكفاية على الندل في المطاعم، على ميكانيكيّي السيّارات، على الأطبّاء، وعلى عموم العاملين في المجتمع الذين يساهمون في الوضع الراهن دون أن يعلموا، فقط عبر ترك هذه الآلة تكمل عملها بكل ببساطة من دون أدنى عقبات. لكن يوجد هناك أيضا بعض المتخصّصين يقومون بخدمة الوضع القائم بطرقهم الخاصة؛ خبراء الأسلحة، أو العلماء الذين يشاركون في الأبحاث العسكريّة، قد يكونون موهوبين بشكل هائل في ميادينهم، لكنهم قد يكونون في الوقت ذاته محدودين في دورهم كمواطنين، حتى أنك قد تجدهم يقومون بشكل مخيف بتسليم منتجاتهم الفعّالة إلى قادة المجتمع دون أدنى سؤال، أو مع مساءلة واهنة وضعيفة حول الغاية التي يريد قادة المجتمع استخدام تلك الأسلح من أجلها. تذكّروا دور العبقري الإنساني روبرت أوبنهايمر في قرار إلقاء القنبلة الذريّة على هيروشيما. أوبنهايمر كان عضوا في المجلس الاستشاري العلمي الذي أوصى بإلقاء القنبلة على هيروشيما، معتقدا بأن ذلك كان ضروريّا من أجل إنقاذ الأرواح. لكن أوبنهايمر نفسه علّق لاحقاً (توجد شهادته في ملفات لجنة الطاقة الذرية AEC) وقال:
لم نكن نعلم أي شئ البتّة حول الوضع العسكري في اليابان. لم نكن نعلم ما إذا كان بالإمكان جعلهم يستسلمون عبر طرق أخرى، أو إذا كان الاجتياح لا مفرّ منه.
يوازي علماء العسكرة والتسليح في الأهمية أيضا—من أجل سياسيات التحكم المجتمعي —؛ أولئك المهنيّين المرتبطين بنشر المعرفة في المجتمع: المعلّمون، والمؤرّخون، وعلماء السياسة، والصحفيّون، وبالطبع أيضا، أمناء الأرشيف. هنا أيضا تقود المهنيّة إلى العجز، حيث يُعطى كل واحد منهم زاويته في ساحة اللعب. ويصبح من “غير المهني” أن تدعو الجميع لأن ينتظموا في الساحة، وينظروا ما إذا كان مدير ساحة اللعب يقوم بمختلف الخروقات للوصايا العشر بينما يلعب الجميع. لقد سمعنا جميعنا صيحات “لا تسيّسوا تخصّصنا” عندما كان أحدهم يدعو إلى عمل مشترك فيما يخص الحرب على فيتنام؛ هذه الصيحات تؤدي مفعول ترك الفحص في السياسة لوقت فراغنا، بينما يتفرّغ صنّاع القرار في المجتمع وظيفيا لذلك—لأنّ القرار السياسي تخصّصهم بالطبع.
هذا الفصل الدقيق؛ أن تضع أنفك في مهنتك وتنهمك فيها هي فقط لا غير وتترك النظر في السياسة لفضلات ما تبقى من وقتك، يفترض أن مهنتك ليست مسيّسة في ذاتها وجوهرها؛ بل هي محايدة. فالمدرسّون، طبعا، هم موضوعيّون وبلا تحيّزات. والكتب منتقاة ومنصفة. والمؤرخ حقّاني ويرعى الوقائع تماما. وأمين الأرشيف يحفظ السجلّات، وتلك عملية دقيقة ومحايدة. والحبل على الجرار هكذا، كما يقول كورت فونيغوت.
وكيفما كان، إذا حاول أحد هؤلاء المهنيّين، المتخصصين في مراكمة ونشر المعرفة، أن يعبر من طرف إلى طرف آخر في قفص لعب الأطفال، ذلك الطرف الموسوم “علم اجتماع سياسي”، وأخذ يقرأ كارل مانهايم، الذي يشير في كتابه “الأيديولوجيا واليوطوبيا” (متّبعا بذلك، بكل تأكيد، كارل ماركس، لكن الاستشهاد بمانهايم أكثر رصانة علمية طبعا) بأن تلك المعرفة لها أصل اجتماعي واستخدام اجتماعي. إنّها تخرج من رحم عالم منقسم ومملوء بالصراعات، وهي تسكب في مثل ذلك العالم أيضا؛ فهي ليست محايدة لا بالمنشأ ولا بالأثر. إن تلك المعرفة تعكس تحيّزات نظام اجتماعي معيّن؛ أو، بشكل أكثر دقة، إنّها تعكس تحيّزات مختلفة راجعة إلى نظم اجتماعية مختلفة، لكن مع شرط واحد مهم: أن يهيمن على ميدان المعرفة أولئك الذين يملكون أكبر سلطة وثروة في المجتمع، ويجعلوه يخدم مصالحهم. ربما يقسم الباحث على حياديته في وظيفته، لكن سواءً كان فيزيائيا، أو مؤرّخا، أو أمين أرشيف، فإن بحثه سيميل، وفق هذه النظرية، إلى الإبقاء على النظام الاجتماعي القائم. وذلك يتم عبر إدامة القيم الخاص بذلك النظام الاجتماعي، وإسباغ الشرعية على أولوياته، والمساهمة في زينوفوبياه الخاصة، والتبرير لنظامه الطبقيّ. لذلك يمكنك أن تجد أرسطو، خلف ذلك الجسد الهائل من الحكمة الفلسفيّة، يقوم بتبرير العبوديّة، وأفلاطون، تحت مجموعة الحوارات المبهرة تلك، يقوم بتبرير الخضوع للدولة، وتجد ميكيافيللي، الذي يلقى احتراما كأحد أعظم رموز الفكر في التاريخ، يحثّنا على التركيز على الوسائل بدل الغايات.
ربما لم تكن فكرة كون الباحثين المختصين في أي مجتمع يميلون إلى تدعيم النظام الاجتماعي القائم، وتدعيم القيم التي يتبناها ذلك المجتمع، غائبة عنا. لكننا كنا نعزو هذا الأمر إلى مجتمعات أخرى، أو أوقات أخرى، أو تخصصات أخرى. لكن ليس في الولايات المتحدة، ليس اليوم، ليس هنا، وليس نحن. لقد كان من السهل أن نكتشف سيطرة المختصّين الألمان أو المختصّين الروس—لكن كان من الأصعب أن ندرك أنّ كتب مدارسنا الثانوية صارت تعزّز الغلوّ في الوطنية، وتمجيد أبطال الحروب، ونظرة السامبو ]4[ تجاه الإنسان الأسود، وتصوير الهنود الحمر على أنهم همج، ومفهوم كون الحضارة الغربية تمثّل القمّة الحضاريّة والإنسانيّة في الفترة التي عاشها البشر على وجه الأرض.
لقد كان بإمكاننا أن نشاهد كيف كان الباحثون في ألمانيا النازية وفي روسيا السوفييتية يقومون بعملهم بهدوء، ويساهمون عبر ذلك بإدامة مجموعة من الظروف الرديئة؛ كان حفاظهم على هذا النوع من النظام الاجتماعي خاطئاً في نظرنا، وكنّا نتمنى أن يثور أولئك المفكرون على تلك الظروف. أمّا عندما يأتي الأمر إلى الولايات المتحدة فإنّ الوضع مختلف، فالمشكلة هنا ليست النظام الاجتماعي القائم، بل بعض المشكلات الجانبيّة على هامش هذا النظام. لذلك كان يحسُن لنا نحن المفكّرين هنا أن نبقي على سلامة هذا النظام المقبول عبر القيام بوظائفنا؛ ثم بإمكاننا أن نحارب تلك المشاكل بشكل هامشي عبر توقيع العرائض والانضمام الى الحملات السياسيّة بعد ساعات العمل.
أحداث العقد الأخير، كما أحاول أن أبرهن اليوم، صارت تتحدى هذا الرضا الذاتي، هذا الالتزام الجزئي بالمشاركة السياسيّة، والذي يفترض ببساطة وجود مجتمع عادل ومحتاج إلى بعض الإصلاحات الهامشيّة فقط. لقد ظفرنا بتلك الإصلاحات. الولايات المتحدة هي النموذج البارز في التاريخ للشعب الإصلاحيّ، ولقد تم تلقيب نصف القرن الأخيرمن قبل أحد أهم مؤرّخينا بـ “عصر الإصلاح”. لقد ظفرنا بالـ “الصفقة الجديدة” [5] للاعتناء بعيوبنا الاقتصاديّة، وقوانين الحقوق المدنيّة للاعتناء بمشاكلنا العرقيّة، وقرارات من المحكمة العليا لتوسيع حقوقنا في المحاكم، وسياسة الجار الصالح ]6[ وخطة مارشال ]7[ والتحالف من أجل التقدّم ]8[ لأجل أنسنة علاقاتنا مع الدول الأخرى.
لكن على الرغم من كل هذه الإصلاحات، وجدت الولايات المتحدة نفسها في أزمة عاصفة داخليّاً، حيث بدأت شريحة كبيرة من الجيل الشاب تشكّك في شرعيّة الحكومة، وفي قيم الثقافة السائدة. كيف يمكن أن نجد—بعد سيل قرارات المحكمة العليا ذاك وقوانين الحقوق المدنية—أنّ الصراع على أشدّه في هذا البلد بين البيض والسود؟ كيف يمكن—بعد قانون الحريّة الجديدة ]9[، والصفقة الجديدة، والصفقة العادلة ]10[، والجبهة الجديدة ]11[، والمجتمع العظيم ]12[—أن يكون توزيع الثروات الهائلة الموجودة في المجتمع في حالته الأكثر لاعقلانية، والأكثر هدراً وتضييعاً؟
مشاكل الولايات المتحدة ليست هامشيّة ولم نُعمل فيها عبقريتنا بعد. إنها ليست مشاكل ناشئة من الإفراط، بل من وضعنا المعتاد. مشكلتنا العرقيّة ليست في جماعة الكو كلوكس ]13[ أو في الجنوب ]14[، بل في افتراضنا الجوهري بأن “الطريقة الأبويّة” تحل كل المشاكل. مشكلتنا الاقتصاديّة ليست مع الكساد، بل مع الطريقة المعتادة التي يعمل بها الاقتصاد، حيث تكون الهيمنة لسلطة الشركات وأرباحها. مشكلتنا مع القضاء ليست في قاض فاسد أو في محلّف مرتشٍ، لكن في الطريقة اليومية لعمل الشرطة والقانون والمحاكم، حيث أصبحت حقوق الملكيّة مقدمّة على حقوق الإنسان. مشكلتنا في العلاقات الخارجية ليست في مغامرة مجنونة بحد ذاتها كالحرب الأسبانية-الأمريكية أو حرب فيتنام، بل في مجموعة من المزاعم المستمرّة حول دورنا في العالم، بما في ذلك الاستعمار التبشيريّ ]15[، واعتقادنا بأن أمريكا قادرة على أن تحل مشاكل اجتماعيّة معقدّة.
فإذا كان الوضع كذلك، فإن الوظيفة “العاديّة”، التي يقوم بها الباحث والمفكّر والعالم، تساعد في الحفاظ على هذه القواعد المعتادة الفاسدة في الولايات المتحدة، كما يحافظ المفكّر في ألمانيا أو روسيا السوفييتيّة أو جنوب أفريقيا على ما هو “معتاد” في تلك المجتمعات، عبرالقيام بوظيفته الصغيرة بكل بساطة. وبطبيعة الحال، فإنّ كلّ ما كنّا نطلبه من الباحثين في تلك المجتمعات هو مطلوب منّا في الولايات المتحدة اليوم: أن نثور ضد “المعتاد”.
وكيفما كان الأمر، فإن مساهمة العلماء والباحثين عندنا في الإبقاء على الوضع الراهن أكثر دقّة وأكثر تعقيداً من المجتمعات التي تمارس الاستبداد بشكل سافر؛ فستجد مثلا أن عدداً قليلاً من الباحثين يخدمون جهود الحرب بشكل مباشر، بينما يقوم الغالبية بالانشغال في أعمالهم البحثيّة بكل بساطة. فأدوار هؤلاء دهيّة، وتغافلهم هائل. على سبيل المثال، فإن تركيز المؤرّخ على الرؤساء والقوانين فقط يساهم في إدامة النهج النخبويّ في التعاطي مع السياسة، فنجد مثلا تاريخ أوكسفورد عن الشعب الأمريكي، لصامويل موريسون، يتجاهل تماما ذكر مجزرة لودلو التي وقعت عام 1914. ونجد أن عالم السياسة، عبر تركيزه على سياسات الاقتراع فقط، يلمّح بشكل خفيّ أنّ التصويت هو المشكلة الأساس في السيطرة التي عبر طرق ديموقراطية؛ ستبحث بلا طائل عن أعمال موسّعة حول سياسات التظاهر والمعارضة. وستجد الباحث أيضا يقوم بتشويه حقيقة امتلاكنا لحقوق دستوريّة، عبر إبرازه لقرارات المحكمة العليا فقط. وعلى نفس هذا المنوال، تجد التأريخات الدستورية تتجاهل الدور الذي تملكه قوّة الشرطة في تقرير مقدار حريّة التعبيرالموجودة على أرض الواقع.
وكذلك أمين الأرشيف يميل لأن يكون أكثر تدقيقا في حياديّة عمله من المؤرّخ وعالِم السياسة، لأنه يرى عمله عملا تقنيّا خالياً من مصالح عالم السياسة المقرف: فوظفيته هي جمع، وتصنيف، وحفظ سجلّات المجتمع، وجعلها متوفّرة. لكني سأتمسك بنفس ما قلته عن الباحثين الآخرين، وأبرهن بأنّ أمين الأرشيف هو الآخر—بطرق دقيقة—يميل إلى الإبقاء على الوضع السياسيّ والاقتصاديّ القائم، عبر انشغاله بعمله “المعتاد”. فحياديّته المفترضة هي، بتعبير آخر، حياديّة مزوّرة. فإذا كان الأمر كذلك، فإن ثورة أمين الأرشيف على دوره “العادي” ليست، كما يخشى كثير من الباحثون، تسييساً لحرفة محايدة؛ بل هي أنسنة لحرفة سياسيّة بالضرورة وبالجوهر؛ البحث العلمي في أي مجتمع هو سياسيّ بالضرورة. خيارنا ليس بين أن نكون سياسيين أم لا، بل بين أن نتّبع سياسات النظام القائم أو لا نتبعها، أو بتعبير آخر: بين أن نقوم بعملنا ضمن الأولويّات والاتجاهات التي وضعتها القوى المهيمنة في المجتمع، وبين أن نقوم بتعزيز قيم الإنسانيّة: السلام، والمساواة، والعدالة—تلك القيم التي يتنكّر لها مجتمعنا الحاضر.
سأقدّر من تجربتي المتواضعة—وأترك الأمر لكم لتكملوا النقاش من هنا—بأنّ النقاط التالية صحيحة:
-
أنّ وجود، وحفظ، وتوفير الأراشيف والسجلّات والوثائق تقرّره بشكل كبير موازين السلطة والثروة في مجتمعنا. أيّ أنّ العامل الأكثر قوّة والأكثر ثروة في المجتمع يملك القدرة الأكبر على إيجاد الوثائق، وحفظها، وتقرير ما إذا كان سيتم توفيرها للعامّة أم لا. هذا يعني أن عامل الحكومة، والتجارة، والعسكر هو المهيمن.
-
أنّ أحد الطرق التي يتم عبرها التحكّم بالمعلومات وحجب الديموقراطية، هي عبر منع الحكومة للوثائق المهمّة عن متناول عامّة الناس، أو إخفاء وجودها حتّى، أو عبر عرضها على مقص الرقابة (انظروا كيف يجب علينا أن نكافح من أجل الحصول على بيانات حادثة خليج التونكن، أو خليج الخنازير، أو قصف لاوس، أو عمليّات الـCIA في غواتيمالا). الهدف المدّعى وراء هكذا سريّة هو السلامة الماديّة للدولة، لكن الهدف الفعليّ وراء ذلك يكاد يكون دائماً هو سلامة أولئك الذين يديرون الدولة سياسيّاً. يقول إرنست ماي في مقاله “A Case for Court Historians”:
المواد التي يحتاجها المؤرّخ قد تحتوي على كثير من المعلومات التي لن يفضل مسؤولو الحكومة نشرها بطبيعة الحال، وبناءً على أسس لا تتعلّق بالجانب الأمنيّ…من المحتمل أن يُحرج الوزير رسك عند ظهور حقائق حول نصيحة قدّمها هو عندما كان نائبا للوزير في إدارة ترومان…
-
أنّ جمع السجلّات، والأوراق، والمذكرّات، إضافة إلى التأريخات الشفويّة، هو منحاز ناحية الأشخاص المهمّين والأقوياء في المجتمع، ويميل إلى تجاهل الضعفاء والمغمورين. نحن نتعلّم أكثر عن الأغنياء لا الفقراء؛ عن الناجحين لا المخفقين؛ عن الطاعنين في السن لا الشباب؛ عن الفاعلين سياسياً لا المهمّشين؛ عن الرجال لا النساء؛ عن البيض لا السود؛ عن الطلقاء لا المسجونين؛ عن المدنيّين لا العسكريّين، عن الضبّاط لا الجنود. إذا أراد أحدهم أن يكتب عن ستروم ثورموند ]16[ فلن يجد مشكلة وهو يبحث عن مواد، لكن ماذا إذا أراد آخر أن يكتب عن عازف الجاز الأسود والأعمى آرت تيتوم؟
-
أنّ التاريخ المكتوب، رغم التطوّرات الأخيرة للتأريخ الشفوي، لازال يسيطر. وهذا التاريخ يميل لإبراز الطبقات العليا والأكثر تعليماً في المجتمع.
-
أنّ التركيز في جمع السجلّات ينصبّ على الأشخاص لا الحركات، على المقابلات الجامدة لا التفاعلات الاجتماعية الديناميكيّة أثناء المظاهرات. على سبيل المثال، أين هي المادة الأوليّة—التي استعملتها لجنة ووكر—حول ما مرّ به المتظاهرون على يد الشرطة خلال مؤتمر 1968 في شيكاغو؟ هل قامت جامعة بوسطن، التي تفخر بامتلاك أوراق مارتن لوثر كنغ، بتدوين تجربة الطلبة الذين ضربوا بالهراوات من قبل الشرطة عند اتحاد طلبة جامعتهم العام الماضي؟
-
أنّ التركيز ينصبّ على الماضي لا الحاضر، على الأثريّ لا المعاصر؛ على غير المثير للجدل لا المثير له؛ على البارد لا الساخن. ماذا عن نصوص المحاكمات؟ ألا يجب أن توفّر هذه بسهولة للعامة؟ ليس فقط للمحاكمات المهمة مثل “محاكمة المؤامرة” في شيكاغو والتي أشرت لها، بل حتى المحاكمات العاديّة للأشخاص العاديين—لكن ربما لا تظهر تلك المحاكمات مجتمعنا في أحسن صوره. محاكمة Catosnville 9 ]17[ كانت ستضيع منّا لو لم يقرأ الأب دانيل بيريغن نصّها ويؤلف عرضاً مسرحياً بناءً عليه.
-
أنّ الموارد التي يتم تخصيصها لجمع وحفظ ما هو موجود في السجلّات بالفعل أكبر بكثير من الموارد التي تخصّص لجمع بيانات جديدة: حدسي يقول بأنّ أموالاً وجهوداً أكبر تذهب لجمع ونشر ملفّات الرئيس جون أدامز، بدلاً من تسجيل تجارب الجنود الذين كانوا في الصفوف الأماميّة في فيتنام. أين هي مقابلات سيمور هيرش مع أولئك المتورّطين بمجزرة ماي لاي ]18[؟ أو مقابلات فريد غاردنر مع أولئك الذين لهم علاقة بتمرّد بريسيدو في كاليفورنيا ]19[؟ أو مقابلات والاس تيري مع جنودنا السود في فيتنام؟ أين هي التجارب المدوّنة للشباب الأمريكي الذي ترك منظمة العمل التطوعي الدولي International Volunteer Service في جنوب شرق اسيا، احتجاجاً على السياسات الأمريكيّة هناك؟ أو أين هي تجارب موظفي الخدمة في الخارج Foreign Service الذين تركوا وظائفهم هناك بهدوء؟
دعوني أشر لكم بشكل عشوائي إلى بضعة أدلّة لتوضيح هذه النقاط التي ذكرتها حول التحيّزات الموجودة في العمل الأرشيفي: قمت مؤخرا بالعثور على قائمة للمنشورات المطبوعة التي تم دعمها أو تزكيتها أو المساهمة فيها من قبل لجنة المنشورات التاريخيّة الوطنيّة National Historical Publications Commission في إدارة الخدمات العامة،. وقد تم من خلالها نشر أوراق 33 شخصاً أمريكياً. يوجد هناك فقط شخص واحد من السود على تلك القائمة، وهو بوكر-تي واشنطن ]20[. ماذا عن الأم جونز التي كانت تنشط في نظم صفوف العمّال؟ أو بوب موزيس قائد لجنة تنسيق العمل الطلابي السلميّ؟ أو أوراق ذلك الرجل الذي يقطن في آخر الحيّ؟ أعلم أن الضغوطات على جمع الأوراق مقيّدة بشكل كبير، لكن توجد هناك أوراق لقادة حركات معارضة. بالطبع توجد لدينا مشاكل؛ أوراق بيل هايوود ]21[ تم تدميرها على يد حكومة الولايات المتحدة. وماذا عن يوجين ديبس أو كلارنس دارو ]22[؟ أظنّ أنّ بإمكانهم الإدّعاء بأنّ هناك قائد مهّم لحركة معارضة موجود في القائمة، وهو جيفرسون ديفيس ]23[.
دليل آخر على تلك التحيّزات: في مقال لـ أميليا فراي وويلا باوم، أستاذتي التأريخ الشفوي في جامعة كاليفورنيا-بيركلي، قامت المؤلفتان بذكر نقص التمويل كسبب يدفع بعض مشاريع التأريخ تلك للقيام بمسح أشرطة تأريخيّة مهمّة، وعللتا ذلك بتلك النظرة المنتشرة بين بعض الأشخاص المشتغلين في التأريخ الشفويّ، بأنّه “طالما كان حفظ الأشرطة مكلفاً ويتطلّب شرائط معينة، لذا يجب أن يعتمد قرار حفظها من عدمه على الوفرة الماليّة للمشروع وعلى الأهميّة النسبيّة للشخص الذي تتم مقابلته”.
مجموعة التأريخ الشفوي في جامعة كولومبيا Oral History Collection تبدو تقريبا كـ كاريكاتور يمثّل التحيزات التي ذكرتها. لطالما تم إهمال الفقراء، والمهمّشين، والراديكاليّين، والمنبوذين من خلالها. لقد أهملت تلك المجموعة حركات وأحداث حيّة نعيشها. عندما كتبتُ لهم وأنا في الجنوب، في خضمّ أحداث حركة الحقوق المدنيّة، ليأتوا ويوثقوا ما كان يحصل في جورجيا، وألاباما، وميسيسبّي، كان الرد الذي تلقيته ردا بيروقراطيّاً حول المال والأولويّات والمخصصّات، وكان يعني في محصّلته: لا. لكن عندما تشاهد آخر تقرير للمجموعة تجدها شديدة الاهتمام والولع بـ: مشروع القوّات الجويّة، ومشروع القوّات البحريّة، ومشروع الأسطول البحريّ. إنه لمن دواعي السعادة أن نحصل على ذكريات الجنرال O’Donnell: لكن ماذا عن ذكريات مختلف اليوساريّين الموجودين في القوّات الجويّة؟ إنهم يعملون على مشروع آلان نيفس الذي يهتمّ بمقابلة أصدقاء آلان نيفس (ألم يكن من الأكثر إثارة للاهتمام أن يقابلوا أعداء آلان نيفس؟) وهم على أتمّ الاستعداد لقضاء جلّ الوقت في مقابلة أعضاء إدارة آيزنهاور، بناءً على منحة تقدّر بـ 120 ألف دولار مقدمّة من الأرشيف الوطني. لكن هل قام المشروع بمقابلة السيدة فاني لو هامر (ناشطة الحقوق)، أو إلدردج كليفر (قائد جماعة البلاك بانثرز)، أو ديف ديلينجر (ناشط السلام والتغيير السلمي)؟ هل ذهبوا إلى مسيرة الفقراء Poor Peoples’ March وقابلوا أولئك الناس الذين يخيّمون في الوحل؟ هل قابلوا محاربي فيتنام القدامى في مستشفيات إعادة التأهيل؟ هل يذهبون إلى الأحياء الفقيرة والغيتوهات المحيطة بجامعة كولومبيا نفسها؟ أم هذه الوظيفة يجب أن يقوم بها كينيث كلارك فقط ]24[؟ فيما يتعلق بالمقابلات المعاصرة والمهمّة، يمكن للمرء أن يستفيد أكثر من استشارة مجلة بلاي بوي بدلا من مشروع جامعة كولومبيا.
دليل آخر على ما ذكرت: في نشرة رابطة التاريخ الأمريكيّة لشهر إبريل من العام 1970، يوجد هنالك تقرير عن “اللقاء الثالث عشر للّجنة الاستشارية حول علاقات الولايات المتحدّة الخارجية”، وهي سلسلة من الوثائق المتعلّقة بالعلاقات الخارجية تصدر عن طريق وزارة الخارجية سنويّاً، ويوجد في تلك اللجنة باحثون ممثلون عن رابطة التاريخ الأمريكيّة، وعن رابطة العلوم السياسيّة الأمريكيّة، وعن رابطة القانون الدوليّ. تنص أحد بنود ذلك التقرير على التالي: “في عام 1962، قام الوزير رسميّاً بجعل زمن التقادم 20 سنة”—فلا يمكن للّجنة أن تصل إلى الوثائق المتعلّقة بالعلاقات الخارجيّة قبل أن تمرّ 20 سنة عليها. بأي حق يمكن لأيّ بيروقراطيّ أن يتخذ مثل تلك القرارات—وفي ديموقراطيّة تتطلّب تنوير العامّة—بدلاً عنّا جميعاً؟ لكن رغم ذلك، تجد مجموعة الباحثين في اللجنة الاستشارية تلك خانعين أمام سطوة الحكومة بشكل مؤلم: فهم يشتكون من تأخّر ترخيص الوزارة لمجلّدات الوثائق التي تصدر إلى مدة قد تصل إلى سنتين، بدل أن يعترضوا على أصل فكرة الترخيص كلّها، فتجدهم يطالبون بدلا عن ذلك بأن تسيرعمليّة الترخيص بشكل أسرع (بعد أن تمرّ فترة الـ 20 سنة!).
لاحظوا أنه بينما يتطلب الامر 20 سنة لتحصل هيئة العلاقات الخارجيّة على الوثائق، فإن الأمر قد يتطلب 30 سنة حتى تصل إلى عامّة الناس. وفي واقع الأمر تجد هيئة الباحثين يصرّحون في تلك النشرة بأنهم “قلقون من الفجوة الضيّقة” بين فترة انتظار الباحثين وفترة انتظار العامة للحصول على الوثائق، ومن احتمالية إصدار “منشورات خارجيّة ولحظيّة غير مخطّط لها مسبقا”—أي إصدار منشورات خارجيّة لا تقع تحت رعاية وزارة الدولة أو لجنة الباحثين تلك. مثل تلك المنشورات، كما تحذّر اللجنة الاستشارية، قد تسبق سلسلة منشورات “العلاقات الخارجية” التي تصدرها الوزارة، وتقوم بتقديم “روايات غير دقيقة ومبتورة” قد تنجح في “إحراز أثر شعبي”، وهذا يمكن تداركه طبعا عبر تسريع إصدار سلسلة العلاقات الخارجيّة لهم، بالتعاون مع وزارة الدولة. وفي مكان آخر نجد فقرة لافتة في الجبن، تعرب فيها اللجنة عن قلقها حول إمكانيّة زيادة فترة التقادم إلى 30 سنة. فمثل تلك الحركة، كما تقول اللجنة بتملّق محسوب بدقّة، سـ “ينتهك سجلّ الوزارة الجدير بالثناء، والذي حافظت عليه الوزارة طوال العقود الأخيرة، في جعل الوثائق الخارجية للولايات المتحدة متوفّرة للعامة بانتظام”. في تلك الفقرة تذكر اللجنة أنّ دولاً أخرى، مثل انجلترا، تنحى باتجاه معاكس، وتقوم بتقليل سنوات إغلاق السجلّات، ثم تختم اللجنة بقولها: “اللجنة ليست تؤيد بهذا تقديم فترة فتح سجلات الوثائق الدبلوماسيّة أمام العامّة، بل هي تعتقد أنه يجب فعل كل ما في الوسع لمنع تأخير تلك الفترة إلى ما يتجاوز الـ 30 سنة”.
وبذلك نجد كيف تبالغ اللجنة، بكل لهفة وخنوع، في إظهارالشكروالثناء، لأن عامّة الناس يجب أن ينتظروا 30 سنة فقط. إنها لا تريد أن تسبّب اضطرابا في المركب (رغم أن جميع من فيه يعلمون أنه يغرق) عبر طلب مدة انتظار أقصر للحصول على وثائق. أين هي الروح الجريئة والمحقّقة التي يجب أن يتحلّى بها الباحث في دولة ديمقراطيّة، والتي تطالب بالاطلاع على الوثائق الحكوميّة كـحقّ من حقوقها، لا كـرفاهيّة وامتياز؟ لا عجب إذن، مع هكذا حكومة وهكذا باحثين، أنّنا بأمس الحاجة إلى إيسيدور ستون (كاتب وصحفيّ تحقيق واستقصاء).
ما هي المحصّلة الإجماليّة إذن لكل تلك التحيّزات التي ذكرتها في العمل الأرشيفيّ؟ أن تتم حماية السلطات الحكوميّة من الفحص والمحاسبة الدقيقة—وبالتالي تتم حمايتها من السخط والاستياء، ومن الغضب الذي قد ينجم عند نظر الناس إلى السياسات الحكوميّة عن قرب—وأن تترك الأشخاص المهمّين والاقوياء، في العسكر والسياسة والتجارة، يتم تمجيدهم، بينما تبقى حيوات الناس العاديّة مهمّشة. الإبقاء على مثل تلك التحيّزات لا يتطلب ارتكاب المحظورات من قبل أمين الأرشيف، بل يتطلب منه فقط أن يكون سلبيّا وغير فاعل؛ أن يلتزم فقط بالأدوار التي يرسمها الاتجاه السائد في “التخصّص”.
أقول اتجاه سائد، ولا أعمّم على الجميع، لأنّي أعلم أنّ هناك أعمالاً جيّدة يتم القيام بها في العمل الأرشيفي؛ جهود طليعيّة يتم بذلها في سبيل توثيق الأحداث، في التاريخ الشفويّ مع الناس العاديّين، وفي تاريخ السود، وفي تاريخ العمّال. فلنقاوم جيمعاً خدعتنا الأمريكيّة المميّزة تلك التي نقوم بها دائماً؛ أن نتغاضى عن الانتقادات الجذريّة التي علينا القيام بها، ونقوم بدلا عن ذلك بالإشارة إلى بضعة إصلاحات هامشيّة. نظام سايغون قام بـ “إصلاح” نفسه على مدى عشرين عاماً قبل أن ينهار في نهاية المطاف. نحن مازلنا مستمرّين في تمرير قوانين الحقوق المدنيّة، وقوانين محاربة الفقر؛ دعونا لا نعد مجدّداً، مثل يوساريان، إلى الفرح بأننا علتنا ليست يرقاناً رقاناً، فنحن لم نتماثل إلى الشفاء “تماماً” أيضاً. نحن، مثل يوساريان، لا زلنا في المشفى، ولا زلنا مثله في خطر أيضا، وسنبقى كذلك إلى أن نثور مثله.
باعتقادي أن أزمة الولايات المتحدّة اليوم ليست أزمة شاذّة، بل هي أزمة نظام وجوهر. ما نحن في صدده ليس خصائصنا الهامشيّة، بل قيمنا المركزيّة التي تقوم بتسييرنا: النظام الاقتصاديّ الربحيّ، ونهج “الأبويّة” العرقيّة، واستعمال العنف مع من هم خارج سياجنا الضيّق. فإذا كان الأمر كذلك، فإن السلبيّة البحثيّة واللا فاعلية، هي أبعد ما تكون عن الحياد والخلوّ من الأغراض؛ هي تقوم بخدمة تلك القيم الفاعلة والمسيّرة للمجتمع. ما هو مطلوب منّا إذن هو أن نقتلع أنفسنا من سلبيّتنا، ونقوم بجعل حياتنا المهنيّة تتكامل مع إنسانيّتنا.
لدي فقط طلبان من أمناء الأرشيف: الأول هو أن يشاركوا في حملة تطالب بفتح جميع السجلّات والوثائق الحكوميّة أمام العامة. فإذا كانت هناك استثناءات نادرة لذلك، فليكن عبؤ الإثبات على أولئك الذين يدّعون أهميّة وجود تلك الاستثناءات، لا علينا نحن المواطنين الذين نطالب بالمعلومات—كما هو الأمر عليه الآن. والأمر الثاني هو: أن يتكبّدوا العناء لجمع عالم جديد من المواد التوثيقية حول حيوات، ورغبات، واحتياجات الناس العادييّن. كلا هذين الطلبين منسجم مع روح الديموقراطيّة، تلك الروح التي تتطلب أن يعرف الشعب ما تقوم الحكومة بفعله، وأن تصبح حالة الطبقات الضعيفة، وهمومها، وإرادتها قوة فاعلة في المجتمع.
علينا أن نرفض أن نصبح أدواتاً للتحكّم المجتمعي في مجتمع ذو جوهر لا ديموقراطيّ، وأن نبدأ بلعب دورٍ صغير في صناعة ديموقراطيّة حقيقيّة: هذه وظائف جديرة، حقّا، بالمؤرخ وأمين الأرشيف وبنا جميعاً.
[1] يمكن الحصول على نسخة من المقالة الأصلية من صفحة جامعة ويسكانسن هذه: https://minds.wisconsin.edu/handle/1793/44118
[2] قام الرئيس الأمريكي آنذاك، رتشارد نيكسون، بإعلان يوم حداد عند وفاة دوايت آيزنهاور، أي قبل 6 أشهر من تاريخ الحوار في المحكمة تقريبا.
[3] Herman Kahn. بروفسور أمريكي من الذين نظّروا في الاستراتيجيات العسكريّة ونظم المجتمعات فترة الحرب الباردة.
]4[ السامبو Sambo هو أحد الشخصيات الكاريكاتورية التي كان يتم تصوير السود وخلق صوة نمطيّة عنهم من خلالها، في الرسومات والقصص والأفلام وما شابه ذلك. وهي لشخص أسود بليد وكسول وغير قادر على الاعتماد على ذاته، ولهذا كانت شخصيّته تصلح للتبعيّة، وتلائمها وظيفة الخادم الموالي والقنوع. كان هذا أحد الكاريكاتورات التي تم تبرير العبوديّة والفصل العنصري ضد السود من خلالها، إلى جانب كاريكاتورات أخرى مهينة مثل الـ Coon.
]5[ New Deal Legislation. تشريع ضم حزمة إصلاحات وبرامج اقتصاديّة واجتماعيّة. تم تشريعها فترة رئاسة فرانكلن روزفلت في ثلاثينيّات القرن الماضي.
]6[ Good Neighbor Policy. سياسة تم إقرارها فترة رئاسة فرانكلن رزوفلت، وتلتزم بمفادها الولايات المتحدة في العلاقات الخارجية باحترام حقوق الشعوب الأخرى ومبادئ حسن الجوار وعدم التدخلّ. جاءت المطالبات بسياسة كهذه ردّاً على السياسات العدوانيّة والتدخّلات العسكريّة التي كانت تنتجها الولايات المتحدة تجاه دول جوارها، دول أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص، منذ مستهلّ القرن الماضي. لم تترك هذه السياسة أثراً يذكر على أرض الواقع، حيث عاودت الولايات المتحدة تدخّلاتها عبر سلسلة من الانقلابات والعمليّات العسكريّة، في أمريكا اللاتينيّة نفسها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
]7[ Marshall Plan. خطة أمريكية تضمّنت تقديم الدعم والمساعدات المالية لدول غرب أوروبا، من أجل مشاريع إعادة الإعمار ما بعد الحرب العالميّة الثانية. يرى اقتصاديون كثر أن أثر الخطة على تعافي اقتصادات الدول الأوروبية تم تضخيمه، وأن الدافع الأساس وراءها كان قطع يد الاشتراكيّة عن اقتصادات تلك الدول، وتجهيز الأرضية لاستثمارات أكبر للرأسمال الأمريكي في أوروبا.
]8[ Alliance for Progress. مبادرة قامت بها الولايات المتحدة لتعزيز “التعاون الاقتصادي” مع دول أمريكا اللاتينية وتقديم الدعم والمساعدات لتلك الدول. تم انتقاد تلك المبادرة لاحقا بسبب عدم تقديمها منافع تذكر للدول اللاتينية، ويحاجج البعض بأن الشركات الأمريكيّة كانت هي المستفيدة من تلك المبادرة عبر توفير ظروف استثماريّة مناسبة لها في أمريكا اللاتينية.
]9[ New Freedom. مشاريع الإصلاح التي بشّر بها وودرو ويلسن لإعطاء حريّات سياسيّة واقتصادية أكبر، عبر التخلّص من قيود الشركات الكبيرة والاحتكار، حسب دعاياته.
]10[ Fair Deal. قانون إصلاحات اجتماعية لهاري ترومان يتعلّق بمسائل الضمان الاجتماعي، والأجور، والسكن، وقوانين التوظيف والعمل.
]11[ New Frontier. مصطلح استخدمه جون كينيدي في خطاب فوزه بترشيح الحزب الديموقراطيّ، وصار مرتبطاً بحزمة الوعود والإصلاحات التي كان يتحدّث عنها في حملته الانتخابية، في مجالات التعليم والاقتصاد وقانون العمل وغيرها.
]12[ Great Society. مصطلح استخدمه ليندون بينز جونسون في أحد خطاباته الرئاسية، وصار مرتبطاً بحزمة وعود وإصلاحات محليّة. ويتشابه كثير منها مع وعود سلفه جون كينيدي.
]13[ Ku Klux Klan. جماعة دينيّة مسيحيّة بروتستانتية كان يتبعها الملايين في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي. تحمل أفكاراً عنصرية حول سموّ الإنسان الأبيض وتفوّقه على بقية الأعراق، وساهمت بشكل كبير في موجة الاضطهاد والقتل والتنكيل الموجّهة ضد الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة.
]14[ الولايات الجنوبيّة في الولايات المتحدة. وهي الولايات التي رفضت إلغاء العبوديّة وملكيّة الرق، وحاربت ضد أبراهام لنكن في الحرب الأهليّة سنة 1861.
]15[ Missionary Imperialism. نمط من الاستعمار مقرون بمبرّرات أخلاقية، مثل تخليص الشعوب من الرجعيّة والجهل وتقديم حياة أفضل لهم. ويمكن أن يستخدم المصطلح بمعنى ديني أو لا ديني حسب السياق.
]16[ عسكري وسياسي أمريكي عارض قانون الحقوق المدنيّة بشدّة فترة نيابته في الكونغرس.
]17[ محاكمة 9 ناشطين كاثوليك أحرقوا ملفات المدرجين في التجنيد الإلزامي بالنابالم احتجاجاً على العدوان الأمريكي على فيتنام.
]18[ My Lai Massacre. مجزرة مروّعة قام فيها الجنود الأمريكان بقتل واغتصاب مئات النساء والأطفال الفيتناميّين العزل.
]19 Presidio Mutiny. [أحد أول مظاهر المعارضة الداخليّة ضد الحرب على فيتنام. حصل التمرّد في سجن بريسيدو العسكري، وقامت به مجموعة صغيرة المساجين الذين رفضوا المشاركة في الحرب لأسباب مختلفة.
]20[ Booker T. Washington. معلّم ومؤلّف أمريكي من ذوي البشرة السوداء. عمل مستشارا لعدة رؤساء أمريكيين، وكان يدعو السود للتوقّف عن محاربة قوانين الفصل العنصريّ الظالمة.
]21[ Bill Haywood. قائد حركة “عمال الصناعة حول العالم” وعضو الحزب الاشتراكي الأمريكي، وأحد منظّمي أهم الإضرابات في بدايات القرن الماضي.
]22[ Eugene Debs/Clarence Darrow. يوجين اشتراكي أمريكي قاد “اتحاد عمّال سكك الحديد الأمريكي” ومنظم احد أكبر الإضرابات في أمريكا، ومحامي كلارنس دارو.
]23[ Jefferson Davis. قائد قوات الاتحاد الكونفدرالي الذي واجه أبراهام لنكن في الحرب الأهلية، وطالب بتوسيع رقعة العبودية في أمريكا.
]24[ Kenneth Bancroft Clark. بروفسور أمريكي من ذوي الأصول الأفريقية. قام بعمل أبحاث وأنشطة اجتماعية لتمكين الطبقة الفقيرة والمهمشة.