الكاتب | وليد القبلان |
يصعب حصر التعاريف الكثيرة التي عُرّفت بها الثقافة ، ولعل اشهرها تعريف الأنثروبولوجي الانكليزي ادورد تايلور ، الذي قدمة في كتابة ( الثقافة البدائية ) عام 1871م حيث قال : ” هي كل مركب يشتمل على المعارف و المعتقدات و الفن و القانون و الأخلاق و التقاليد ، وكل القابليات و العادات الأخرى التي يكتسبها الانسان كعضو في مجتمع معين “(1) و يعرفها (هوريو) : بـ” أنها ذلك الذي نحتفظ به حينما ننسى ما تعلمناه “(2) . فكل ما يكتسبه الإنسان بعد ولادته ، ليس فطرياً أو وراثياً هو ثقافة. “ولابد للثقافة لكي تستمر من تحقيق الإشباع لمن يمارسها……..وعملية الإشباع لابد لها من تحقيق توازن تتفوق فيه اللذة على الألم….فالإشباع يدعم العادات و يساندها بينما ينجم عن قلة الإشباع أن تنطفئ العادات و أن يخبو و هجها و أن تختفي تماماً. وهذا ما يحصل عملياً ويترتب عليه أن ما يناسب جيلاً لا يناسب آخر”(3)
وحيث إن الدين مكون رئيس من محددات الثقافة ، فإن الدراسات الفلسفية الدينية المعاصرة تُشير الى أن الاديان لابد أن تحتوي في بنية الحد الادنى منها على العقيدة والعبادة والقصة الكونية، أي قصه كونية تتحدث عن اصل الكون و مصيره وأصل الإنسان ومصيره، هذا في بعض الاديان . وهناك بنية الحد الاقصى تزيد على العقيدة و العبادة و القصة الكونية أخلاقً ؛ كما في المسيحية ، وتشريعاً وهويةً و جماعة ، كما في الاسلام .
وهناك خمس نظريات في الفلسفة الدينية المعاصرة تتحدث عن أصل الدين:
الأراوحية والطبيعية و العاطفية والنفسية و البراغماتية ، وهذه النظريات جميعها لا دينيه ، وتقسم الاديان الى نازلة ، مثل الديانات التوحيدية ؛ أي بوحي نازل من الإله المطلق ، وصاعدة ، مثل الفلسفات البشرية التي صعدت في تأملها للكون ، وبحثت عن معنى للوجود ، و افترضت أن هناك مدبراً له ، ثم تحولت تلك الفلسفات إلى أديان .
تقول جينفر مايكل هكت صاحبة كتاب ( تاريخ الشك ) ” ان الدين سيظل موجوداً
مادام الإنسان موجوداً ، لأن الدين لا يفتأ يبحث عن معنى الوجود”(4)
ويتميز الدين عن الثقافة بأن الدين يعد في حالته النقية الأصلية – في الاديان النازلة على الاقل – أكبر من قدرات الإنسان ، لكن الثقافة من صنع الإنسان و الاجتماع البشري .
للثقافة تأثير على الدين لامتزاجها بالاجتماع، فالدين ليس مجرداً ، بل يوجد داخل مجتمع بشري هو بالضرورة مكتنز بمفاهيم و اعتقادات و أساطير وبيئة وخبرات تحكمه ، و بالتالي تؤثر في أي وافد عليه ؛ سواءً أكان ذلك لغةً ام علماً ام دينا. فالدين مثل المطر، حينما ينزل من السماء و يلامس الارض يفقد طهرة ، وبذلك يصبح جزءاً من هذا المرَكَّب، ليس هو بالمطر و لا بالارض.
ليس بوسع العقل الديني تجاهل التأثير الاجتماعي على الفكرة المطلقة ؛ لأن المطلق لا يعمل في الفراغ ، بل من خلال الاجتماع البشري المحكوم بالطبيعة.
فالمسيحية حينما نقلها بولس الرسول من بيئتها الاصلية من القدس إلى روما ، تشربت الثقافة الرومانية في كثير من طقوسها ؛ فمثلاً في عام 274م أسس الإمبراطور أورليان عبادةً رسمية لإله الشمس (ميثرا) ، و أعلن عيد ميلاده الخامس و العشرين من ديسمبر عطلة وطنية ، ثم بعد قرن تقريباً أعلن الإمبراطور قسطنطين المسيحية ديانة رسمية لإمبراطورية روما ، وهنا استطاعت الكنيسة المسيحية عام 354م تحويل عيد ميلاد (ميثرا) الوثني ، عيداً لميلاد عيسى المسيح عليه السلام ، متأقلمة بذلك مع المعطى الثقافي الموجود ، و مبقيةً على العيد المزروع في وجدان شعب الامبراطورية ، ولكن بعد تأميمه لصالح الدين الجديد ، أي أن الثقافة تضيف و تبدل أو تستبعد في الدين.(5)
وفي الديانة اليهودية ، وبحكم التزامن مع الثقافة اليونانية والقرب منها ، فقد تأثر مفهوم الإله عند اليهودية بالتجريد الذي كان من خصائص الإلهة عند اليونان ،فهي روح شخصي يعمل لغايات بدون صورة حسية . بينما انتقلت المسيحية الى البيئة الرومانية المشبعة بوثنية هيلينية اكثر تقبلاً للتعاطي مع فكرة التجسيد ؛ مما جعل تأثرها بالتجسيد الوثني الموجود عند الرومان أمراً حتمياً. ويتجلى ذلك واضحاً بتماثيل المسيح وصوره في الكنائس و الوجدان المسيحي.(6) وكما تؤثر الثقافة في الدين فإن للدين تأثيراً على الثقافة ؛ فما يزرعه الدين في عقل الفرد من مفاهيم و قناعات مسلم بصحتها القطعية عنده ينعكس ، دون شك ، على سلوكه و بيئته و العقل الجمعي لديه .
فالمسيحية الكاثوليكية ترى أن الثراء هو امتحان من الرب ، و أن الغني حينما لا يتخلى عن ثروته من أجل الرب لن يدخل الجنة . بخلاف البروتستانتية التي ترى أن الثراء دلالة على النجاح ، وأن النجاح الدنيوي علامة على الخلاص الشخصي ورضا الرب ، وأن العمل ليس لعنة و إنما هو رسالة و أستجابه لدعوة إلهية ؛ فالعمل عبادة ووظيفة مقدسة ، وبناء على ذلك فالمؤمن الحق هو من يسعى و ينجح ، وهذا عكس الجبرية التي تؤمن بها الكاثوليكية ، وبذلك كانت الأخلاق البروتستانتية كما قال ماكس فيبر : هي الحاضن لروح الرأسمالية التي غيرت مفهوم العالم عن الانتاج والاستهلاك و الادخار و تراكم رأس المال.
أي أن البروتستانتية تؤكد بأن أعمال الإنسان خيرها و شرها ، هي ما تحدد مصيره، وهذا يعني أن أوامر الله المطلقة قابلة للتعديل بتغير أعمال البشر ، وهو أمر في الكاثوليكية غير مقبول بتاتاً. وهذ التغيير الجذري الذي احدثته البروتستانتية على بنية المسيحية ، ثم على ثقافتها ، جعل من (المانيا) و (بريطانيا) اللتين اعتنقتا البروتستانتية على هرم الرأسمالية . أي أن الدين حينما حل في ثقافة ما استطاع التأثير فيها.(7)
حينما تُصَدَّر الاديان لبيئة اخرى فإنها تقوم بتخفيف الحمولة الثقافية للدين (العقيدة و العبادة و السردية الكونية )، و ذلك يجعل المتلقي في البيئة الجديدة قادراً على التحول وزرع الدين الجديد في الثقافة و البيئة المحليتين . تسعى العولمة و الاصولية ( تزعم الاصولية ان الدين ثابت و لا تؤثر فيه الثقافات ) إلى فصل الديني عن الثقافي ، وهذا يجعل من الدين على وجه الدقة منتجاً معداً للتصدير. فالهندوسية وثيقة الارتباط بمجتمع (طبقات مغلقة) ، لكن بعد حلولها في البيئة الغربية تمت إعادة صياغة لنظامها الاعتقادي ، وتبسيطه ليتناسب مع قيمة المساواة في الغرب ، وكذلك تم التنازل عن الطقوس المرتبطة بنهر الغانج الموجود بالبيئة الاصلية للهندوسية ، و لكن مع الاحتفاظ باللمسة الشرقية و ملابس الشيوخ الروحيين التي يمكن ان تغوي المؤمن الجديد . هذا التغيير جعل من الممكن لهذه الديانة ان تعمل في البيئة الغربية.
وعند وصول البوذيين الى كاليفورنيا ، في نهاية القرن التاسع عشر، سميت المعابد (كنائس) و الكهنة (محترمين) ، وصورة الراهب المركزية في البوذية محيت في النسخة المعدة للتصدير ، كذلك عكست الهندسة المعمارية البيئة الجديدة للبوذية ، واصبح هناك مقاعد و مقارئ للترتيل تخلق مناخ معبد بروتستانتي ، و من إطار مفردٍ و غير نظامي انتقلت الى طقس مبرمج يوم الاحد ، يشمل تأملاً و قراءةً أو غناء نصوص بوذية و أناشيد وبخور، وهذا مختلف عن البوذية في بيئتها.(8)
ليس تصدير الدين لثقافةٍ ما ،هو فقط ، ما يؤثر فيه ، بل حتى التغير الحاصل في الثقافة الاصلية للدين ، لأي سبب كان ، يفعل فعلة في الدين .
فالتأثير الذي يستهدف ثقافة دين ما ، سواء بالهيمنة عليها من قوى خارجية ، أو ثورة سياسية ، او فلسفية (الثورة الشيوعية و الفلسفة المادية) ،لابد ان ينحت تأثيره في دين تلك الثقافة .
فما حل بالمسيحية في بيئتها الاصلية عندما تغيرت ثقافتها الاوربية تأثراً بفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة ، هو انحرافٌ في ثوابت مسيحية ، كعزوبة الكهنة لدى الكاثوليك ، ورفض الطلاق لدى الإنجيلين و الكاثوليك ، و حق الإجهاض و غيره . باتت تلك المعتقدات لا تتماشى مع الثقافة الغربية الجديدة (المحلية).(9)
إن ما حل في هذه الاديان من (انحرافات) سواءٌ أ كان ذلك ناتجاً عن تغير في ثقافاتها الاصلية ، او عن طريق التصدير لثقافات مغايرة عمّا نشأت فيه يطرح جملة من الاسئلة :
فهل هو تغير في مطلق الدين ام هو تغير في الثقافة و الاجتماع؟ وهل بمقدورنا تمييز ما هو ديني عمّا هو ثقافي في موضوعنا هذا؟ علماً أن الدين ظاهرة اجتماعية لا توجد خارجه ؟ وهل الاديان في بيئاتها الجديدة ، بعد تغيراتها للتماهي مع البيئة الجديدة ، احتفظت بالمطلق من الدين و تنازلت عن الثقافي فقط؟ أم أن ذلك انسحب على المطلق؟ وهذه اسئلة كبيرة لا يسعني الاجابة عنها.
1- عبدالغني عماد ، سوسيولجيا الثقافة ، الطبعة الاولى ، بيروت ، لبنان ،مركز دراسات الوحدة العربية ، فبراير 2006 ،ص 31 .
2- مالك بن نبي ،مشكلة الثقافة ، الطبعة الرابعة ،الإعادة الثانية عشر ، سوريا ، دمشق ، دار الفكر ، 2006 ،ص135.
3-سوسيولوجيا الثقافة ص122.
4- أنظر : محاضرة للدكتور محمد مختارالشنقيطي في اليوتيوب بعنوان الدين و البحث عن المعنى.
5- روبرت غرين ،كيف تمسك بزمام القوة ،الطبعة العربية الخامسة ، ترجمة محمد توفيق البجيرمي ،السعودية ،الرياض ، العبيكان،
2011 ،ص639.
6- أنظر: عبدالجواد ياسين ، اللاهوت ,الطبعة الاولى ، المغرب ، الرباط ، مؤمنون بلا حدود ،2019.
7- أنظر : ماكس فيبر ، الاخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية ،ترجمة محمد علي مقلد، بيروت ،لبنان، مركز الانماء القومي.
8- أنظر : أوليفيه روا ، الجهل المقدس ، الطبعة العربية الاولى ، بيروت ،لبنان ، دار الساقي، 2012.
9- نفس المرجع السابق .