حول الباطنية في الفلسفة العربية والإسلامية،الفلاطونية المحدثة، والتقليد الإسماعيلي، وعصر الانقاطاع ومدرسة شيراز،ومدرسة إصفهان وملا صدرا؛ نص مترجم للـد. مهدي أمين رضوي، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة على هذا الرابط، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد، وعلى رأسهم د. إدوارد زالتا، على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF
تتداخل الباطنية -تقليديًّا- مع مفهوم الحِكْمة في السِّياقِ الإسلاميِّ، تلك الكلمة التي تدلُّ على الحكمة والفلسفة كلاهما في آن واحد (نصر Nasr 1996). ولنا أنْ نَتَتَبَّع الباطنية الإسلاميَّة وأصولَها عن طريق القرآن والعقيدة الإسلاميَّة نفسِها. عُولِجَتْ بعضُ الآيات القرآنيَّة من قِبَل باطنيِّي الإسلام وفلاسفتِهم على أنَّها متشابهة وتتضمَّنُ إشارات باطنيَّة لمن يقدر على إدراكها. “هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ”(القرآن 57:3)، “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا”(القرآن 2:269) وآية النُّور المشهورة:
“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (القرآن 24:35).
كلُّ هذه الآيات تتضمَّنُ إشاراتٍ باطنيَّة. وقد ألهمتْ هذه الآياتُ -عبر العصور- عددًا من أهل العِرفان الإسلاميِّ، وقام بعضُهم بكتابة تعليقاتٍ عليها، مثل شهاب الدِّين السُّهروردي (القرن الثاني عشر الميلاديِّ) وملا صدرا (القرن السادس عشر الميلاديِّ) (انظر على سبيل المثال: أسرار الآيات، مُلَّا صدرا). ومن منظور باطنيٍّ، يجب أنْ تُفْهَمَ كلُّ التطوُّرات والتفاعلات التَّالية -بين الفلسفة الإسلاميَّة والتقاليد العقليَّة الأُخرى- على أنَّها تعبيرات عن الأصول الباطنية داخل النَّسَق الإسلاميِّ. وتَسْلُكُ تلك الأصولُ الباطنية في الإسلام طريقين مُخْتَلِفَيْنِ ومُسْتَقِلَّيْنِ. عمليًّا، يُمَثِّلُ التَّصَوُّفُ البُعدَ الباطنيَّ للإسلام في شكله الأَنْقَى، بَيْدَ أنَّ معالمَ الباطنية الإسلاميَّةِ الواضحة قد أُدْمِجَتْ تدريجيًّا في التَّقليد الفلسفيِّ الإسلاميِّ. لذلك، تَنْبَنِي الباطنية الإسلامية على رُكنين اثنين؛ ركنٍ عمليٍّ وآخرَ فلسفيٍّ. يمكنُ التَّحَقُّق -إذن- بالحِكمة الباطنية إما من خلال الحِكمة العمليَّة التي تحوي تزكية النَّفس والتَّزهُّد، أو من خلالِ نوع من الفلسفة يتضمَّنُ -على سبيل المثال لا الحصر- الاستدلال المنطقيَّ.
-
الأفلاطونيَّة المُحْدَثَة والتَّصَوُّف
-
التَّقليد الإسماعيليّ
-
عصر الانقطاع ومدرسة شيراز
-
مدرسة إصفهان وملا صدرا
-
الخاتمة
-
الببلوغرافيا
-
أدوات أكاديميَّة
-
مصادرُ شبكيَّة أخرى
-
مقالات ذات صِلَة
-
الأفلاطونيَّة المُحْدَثَة والتَّصَوُّف
بمتابعة المدارس اللاهوتيَّة [الكلاميَّة]، والتي كان من بينها: القَدَرِيَّة و المُعْتَزِلَة و المُرجِئَة و الوَعِيدِيَّة والعقيدة التي قال بها متكلِّمُو الأشاعرة، نجد التقليدَ الفلسفيَّ الإسلاميَّ حاضرا بمدارسه الفكريَّة الكثيرة والمُخْتَلِفَة. ورغمَ أنَّ الكِنْدِيَّ يُعَدُّ أوَّلَ فيلسوف مسلم إلا أنَّ التَّأثيرَ الكامِلَ للفكر الهِيلِينِيِّ على الفلسفة الإسلاميَّة يُمْكِنُ رؤيتُه بشكل أوضح في البناءِ الفلسفيِّ الذي أقامَه أبو نصر الفارابيُّ (القرن العاشر الميلاديّ). اعتُبِرَ الفارابيُّ أبًا للمنطق في التقليد الفلسفيِّ الإسلاميِّ، كما يُعَدُّ أوَّل مُعْتَنِقِي الأفلاطونيَّة المُحْدَثَة وإنْ بشكل محدود. وقد مَهَّد النَّموذجُ الفارابيُّ الطريقَ للباطنيَّة أنْ تجدَ لها مدخلا للفلسفة الإسلاميَّة.
بقيتِ الأفلاطونيَّة المُحْدَثَة مَعْلَمًا من المعالِم المُمَيِّزَةِ للفلسفة الإسلاميَّة، وكانتْ تُؤَدِّي وظيفتين؛ الأولى: عقليَّة، والأخرى: عمليَّة، وأصبحَ كلاهما جزءًا لا يتجزَّأُ من ممارسَة الحياةِ الفلسفيَّةِ. فلسفيًّا، تُقَدِّمُ الأفلاطونيَّةُ المُحْدثةُ أجوبةً لأكثر الأسئلةِ الكُبرى داخل السِّياقِ الإسلاميِّ، مثل كيفيَّة صُدور الكثرةِ عن الوَحْدَة، وكيف أنَّ المحسُوسَ يفيضُ عن إلهٍ ليس بمحسُوس، وكذلك بيان مراتِب الموجودات صعودا ونزولا. تُظْهِرُ الباطنية نفسَها في فلسفة الفارابيِّ من خلال طريقين اثنين، أحدهما فلسفيٌّ والآخر عمليٌّ. فمن النّاحيَة الفلسفيَّة -كما يظهر في (رسالة في العقل)- نجدُ أنَّ شرحَه لمفهوم العقول الأربعة قد مهَّد الطريق أمام خَلَفه ابن سينا (981-1037 ميلاديًّا) الذي استخدم الأفلاطونيَّة المُحْدَثَة في شكلها الكامل. لم يُحاول الفارابيُّ في كتاباتِه مُجَرَّد الجَمْع بين رأيي الحكيمَيْن؛ أفلاطون وأرسطوطاليس، مع القول بتصوُّف أفلاطونَ إلى حدٍّ ما، ولكن، كما نرى في فلسفتِه السياسيَّة، قام باستبدال مَلِكِ أفلاطونَ الفيلسوفِ بفكرة الإمام؛ صاحبِ الفهم الحدْسيِّ للحقيقة، هذا الذي لم يتحقَّق بالفضائل النظريَّة فحسب، ولكن بالفضائل العمليَّة أيضا. ورغم أنَّ تلاحينَه الموسيقيَّة ما زالتْ تُسْمَع بين بعض الأوساط الصُّوفيَّة الطُّرُقيَّة في تركيا والقارَّة الهندوباكستانيَّة، وأنَّه يمكن لنا ملاحظة التَّأثير الصُّوفيَّ في كتابه (فصوص الحِكمة)، إلا أنَّ الوثائق -القائلة بممارستِه للتَّصوُّف- ليستْ واضِحَة تمام الوُضوح. أمَّا عن شيخ المدرسةِ المشائيَّة؛ ابن سينا، فقد أجمع العلماءُ على أنَّه كان عقلانيًّا، وعلى اعتناقه مفاهيم بعينها من أفلاطون وأرسطوطاليس والأفلاطونيَّة المُحْدَثَة، وأنَّ المَعْلَم المُمَيِّزَ لكتاباتِه الفلسفيَّة طابعُها الاستدلاليُّ. نقول من هنا: بشكل عام، هناك تفسيران مختلفان يتعلَّقان بفهم ابنِ سينا؛ فالبعض يراه فيلسوفا عقلانيًّا لا علاقة له بـ الباطنية ، ويجادل البعضُ الآخر؛ أنَّ ابنَ سينا المُتَأَخِّر قد قال بـ الباطنية كما هو مُنْعَكِس في أعمالِه المُتَأَخِّرَة.
يرى معظمُ دارسِي ابنِ سينا من باحِثِي الغرب أنَّه كان عقلانيًّا فحسب، مثله مثل الفارابيِّ وابن رشد، (غوتاس Gutas 2006، آدمسون Adamson 2013)؛ اعتمادا على كتاباته العقلانيَّة والاستدلاليَّة بشكل أساس. ويقدِّمُ كثير من الفلاسفة المسلمين، دارسي ابن سينا من إيران على وجه الخصوص، قراءةً أكثر شموليةً لكتاباته، تنزعُ إلى القول بتطوُّر اهتمام ابن سينا بـ الباطنية في الحِقبَةَ الأخيرةَ من حياته (نصر Nasr – ليمان Leaman 1996، عِناتي Inati 1996).
وقد كانتِ الغايةُ المُطلَقةُ لابن سينا -على غرار غيره من مسلمي الفلاسفة- رفعَ السِّتار عن سِرِّ الخَلْق، وعلى وجه الخصوص: كيف للوَحْدَة الإلهيَّةِ أنْ تَتَكثَّر في عالَم الموجودات. ومن أجلِ حَلِّ هذه المُعْضِلَة، يتبنَّى ابنُ سينا نظريَّةَ الفَيْضِ التي تقول بها الأفلاطونيَّة المُحْدَثة، والقول بالفيض لم يُسْتَخدمِ من قِبَلِ الصوفيَّة وأهل العِرفانِ الإسلاميِّ فحسب من أجل بيان الطَّريق الرُّوحيِّ الذي يمكن للإنسان أن يسلكه تُجاه الله، ولكن، استخدمها -أيضًا- الفلاسفةُ الباطنيُّون بدءًا من السُّهروردي وملَّا صدرا ووصولا إلى السَّبْزِوَارِي والطَّبَاطَبَائِي. لم يكنِ ابنُ سينا مُتَصوِّفًا معروفًا بانتسابه إلى أيِّ طريقةٍ صوفيَّة. في الحقيقة، يُعَدُّ لقاءُ ابنِ سينا بالشَّيخ الصُّوفيِّ الكبير أبي سعيد أبي الخير (توفي: 1049 ميلاديًّا) موضوعًا في احتمالاته كلِّها، وكذلك القولُ بحضور (الحِكْمَة المَشْرِقِيَّة) في كتاباتِه. وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ حضورَ الأصول الباطنية في أعماله المُتَأخِّرة أمرٌ لا يمكن إنكارُه عند البعض (أمين رَضَوِيّ Aminrazavi 2003). على سبيل المثال، نجد النَّمَطَ التاسِعَ من رائعته الفلسفيَّة (الإشارات والتَّنبيهات) تحت عنوان (في مقامات العارفين)، وفيه يرتدي ابنُ سينا ثوبَ الصُّوفيَّة، شارحًا الاعتقادَ الصُّوفيَّ، مدافعًا -دون أدنى مُوَارَبَة- عن الطريقة الصُّوفيَّة والعِرفَانيَّة في دَرْكِ الحقيقة. ورغم أنَّ نسبةَ بعض كتاباتِه الفارسيَّة إليه مَحَلُّ نِقَاش، إلَّا أنَّنا نجدُ للأصولِ الصوفيَّة والعرفانيَّة في كتاباتِه الرَّمْزِيَّة حضورًا تامَّ الوضوح كما يرى أصحاب هذا القول؛ نجد هذا في (معراج نامه)، و(رسالة الطَّيْر)، و(قصة سلامان وأبسال)، و(حيّ بن يَقظان)، و(رسالة في العشق)، ولا ننسى ذِكرَ قصيدته المشهورة؛ (القصيدة العَيْنِيَّة).
ظهرَ اتجاهان عقليَّان آخَران مع ابنِ سينا الذي يُمَثِّلُ أَوْجَ الفلسفة العقلانيَّة في بلاد فارس. فمن جهة، كان الشَّيخُ الكبيرُ أبو حامد الغزاليُّ الذي رفض الفلسفة كُلَّها، وأصبح داعيَةً إلى التَّصوُّف وحدَه. وعلى جانبٍ آخر، برزتِ الفلسفةُ الإسماعيليَّةُ التي دَمَجَتِ الأفكارَ الصُّوفيَّة والفيثاغوريَّة الهُرْمُسِيَّة في نَسَقٍ فلسفيٍّ واحد.
والغزاليُّ فقيهٌ أرثوذكسيٌّ [محافظ] وواحد من دعاة المذهب الأشعريِّ، درسَ الفلسفة، واعتقَدَ أنَّ الاستدلال المنطقيَّ يقف على أرضٍ صلبة، ولكنَّه لم يلبث إلَّا وانقلبَ على الفلسفةِ، وقدَّم نقدًا تدميريًّا للعقل في كتابه (تهافُت الفلاسِفة). بعدَ أنْ خيَّبَتِ العلومُ العقليَّةُ آمالَه خرج الغزاليُّ في عُزْلَة؛ ممارسا الزُّهْدَ إلى أنْ وجدَ بُغيَتَه في التَّقليدِ الصُّوفيِّ. وتُعَدُّ رحلةُ الغزاليِّ الرُّوحيَّة من كونه فقيهًا أرثوذكسيًّا [محافظًا] إلى أن أصبح صوفيًّا من أبدع ما وصلنا من الروايات التي تحكي عن تَحوُّلِ حكيمٍ مسلم عن الحياة الخارجيَّة إلى الحياةِ الباطنية ؛ فقد وجد الغزاليُّ أخيرا أنَّ التَّصوُّف هو الطريق الوحيدُ الذي يقُودُ نحو الحقيقة. وأمضى آخر حياتِه في التَّعليم والتَّأليف وممارسة التَّصوُّف.
والغزاليُّ واحد من الباطنية القلائل الذين يتضمَّنَ نوعُ تَصوُّفِهِم الأرثوذكسيَّةَ الدينيَّةَ [الدين المحافظ]، وإطارًا غنوصيًّا [عِرفانيًّا] عقلانيَّا، وبُعدًا أكثر عمليَّةً وزُهْدًا للطَّريق الرُّوحيِّ. وخلافًا للصُّوفيَّة المناقِضين له؛ مِمَّنِ انتَهَكُوا الشَّريعَة الإسلاميَّة، وعلى عكس موقف أهلِ التَّصوفِ الآخرين؛ مِمَّنْ كانوا أكثر اعتدالا، برز الغزَّاليُّ مُتَحمِّسًا للشَّريعةِ، مُتْقِنًا لعلومها.
كتبَ الغزاليُّ كثيرا عن التَّصوُّف، وجادلَ أنَّه الطَّريق الصَّحيح الوحيد إلى الحقيقة. ويُعَدُّ كتاب (مشكاة الأنوار) عمَلًا جديرًا بالذِّكْر من بين أعماله الباطنية الأخرى؛ بسبب طابعه الإشراقيِّ، وكونه واحدا من الأعمال التي كان لها أثر في تشكيلِ عقيدةِ الإشراق عند السُّهرورديِّ (أمين رَضَوِيّ Aminrazavi). وأيضا، كرَّسَ بعض الأجزاء من رائعتِه (إحياء علوم الدِّين) بشكل أساسٍ من أجل شرح العقيدة الصُّوفيَّة، مثل الكتاب الخامس والثلاثون من إحيائه؛ (كتاب التَّوحيد والتَّوَكُّل). وفي تعليقات أخرى تُعَدُّ أقلَّ طولًا، تناول الغزاليُّ الأهميَّة الرُّوحيَّة للصيام والصَّلاة والتوسُّل بالأسماء والصِّفات الإلهيَّة، ورأى أنَّ الموسيقى الرُّوحيَّة [السَّماع] من أدوات التَّرويحِ عن النَّفس [التَّزكية].
-
التَّقليد الإسماعيليّ
أما بالنِّسْبة إلى الجانبِ الإسماعيليِّ؛ فإنَّ فلاسفة الإسماعيليَّة اعتمدوا استخدام التَّعاليم الباطنية لعقيدة الهرامسة جنبا إلى جنب مع التعاليم السَّكندريَّة اليونانيَّة الغامِضَة. نذكر على سبيل المثال: الفيض عن الواحد، الزُّهد، وأنَّ الجسَد سِجْن والرُّوح أسيرة به، ومباشرة الغنوسيس gnosis (المعرفة)، ودرجات التَّأويل، والهندسة المُقدَّسَة بمعناها الرَّمزيِّ والباطنيِّ، ودورات النبوَّة، والدَّور الأوَّليّ لأئمَّة الشِّيعة؛ كانتْ تِلكَ من أهم المواضيع التي عالجتْها الفلسفةُ الإسماعيليَّة من بين مواضيع أخرى عديدة. يُعَدُّ جابر بن حيَّان (721-815 ميلاديًّا) من أبرز الشخصيَّات الإسماعيليَّة في القرن العاشر والحادي عشر الميلاديِّ. لم يكن جابر بن حيَّان مُجَرَّدَ عالِم أو كيميائِيٍّ فحسب، ولكنَّه قدَّم في (كتاب الأحجار) تأويلًا غامِضًا لعلمِ الحُروف، وعرض فيه مفاهيمَ رياضيَّة باطنيَّة؛ مُتَأثِّرًا في ذلك بالهندسة الفيثاغوريَّة. رُبَّما تجدر الإشارةُ إلى أنَّ جابر بن حيان شخصيَّةٌ نُشِرَ تحتَ اسمها العديدُ من أعمال مفكرين شتَّى. ومن أبرز الشَّخصيَّات كذلك، أبو يعقوب السِّجستانيُّ، الَّذي قدَّم لنا في كتاباتِه الباطنيَّة مثل (كشف المحجوب) و(كتاب الينابيع) تعليقاتٍ باطنيَّة على أهمِّ الموضوعات الدِّينيَّة والفلسفيَّة (انظر: نصر Nasr – أمين رَضَوِي Aminrazavi 1999/2001). يجب أنْ تُعتَبَر كتاباتُ السِّجستانيِّ مجموعة من التعليقات على العقيدة الغنوصيَّة القائلة بانفلات الرُّوح تُجاه المملكة الفردوسيَّة؛ حيثُ تَتَمركز حول واحديَّة الإله، والعقلين؛ الإلهيِّ والإنسانيِّ، وضروب شتَّى من اجتماع الأرواح بعلائقها مع الجسد. يعالجُ السجتانيُّ -في الأعمال الّتي ذكرناها- مفهوم الخَلْق، ودورَ الأنبياء على أنَّهم هداة روحانيُّون، كما يعالج أيضا الرَّمْزيَّةَ المُتَسَتِّرةَ بتعاليمهم. وإذا ما انتقل الفردُ من الظَّاهِر إلى الباطن؛ وصولا إلى المستوى الباطنيِّ للإسلام، فإنَّه يكتسبُ الوعيَ الذي يُعَدُّ بمثابة مفتاح لفهمٍ رمزيَّة التَّعاليم النَّبويَّة. ويعدُّ أبو حاتم الرَّازي (811-891 ميلاديًّا) واحدًا من أهمِّ الشَّخصيَّاتِ الإسماعيليَّة، وكتابُه (أعلام النُّبوَّة) من أهمِّ النُّصوص الباطنية الغامضة المُتَعَلِّقَة بهذا السِّياق. يُطبِّقُ الرَّازي -في هذا الكتاب- مفهوم الفيض على المفهوم الكونيِّ (كُن)، ويُقدِّمُ لنا تعليقات باطنيَّة؛ تشرح كيف أنَّ الإنسان ليس إلا أَثَرًا لروح كامِلة أعلى منه.
ولا ننسى ذِكْرَ حميد الدِّين الكرماني (996-1021 ميلاديًّا) وكتاباته العديدة حول التَّصَوُّف والغنوصيَّة [العِرفان]، ومن أبرز ما كَتَبَ الكرمانيُّ كتاب (راحة العقل). والكرمانيُّ فيلسوف إسماعيليٌّ مُبَرَّز، عدَّهُ البعضُ ابنَ سينا الإسماعيليِّين. جادل أنَّ فهم الحقيقة يقومُ على مبدأين. الأوَّل، أنَّه على الفرد أنْ يحيا حياة أخلاقية فُضْلى، أما المبدأ الثَّاني، فيقول أنَّ أهلَ النُّبوغ عليهم إعداد أنفسِهم فلسفيًّا. وتُسَمَّى أبوابُ الكتابِ باسم الأسوار، وفصولُه بالمشارع. على المُبتدِئ أنْ يسافر عبر ستَّة وخمسين مشرع داخل سبعة أسوار؛ حتَّى تُحَصِّل الرُّوحُ عِلْمَ الحقيقة. والحقيقة -عند الكرماني- تنقسم إلى أربعة مستويات؛ فالأول عالَم الإبداع، والثَّاني عالَم الجِسم، والثَّالث عالَم الدِّين، وأخيرًا عَوْدَة العالَم إلى أصلِه الأوَّل باتِّحادِه مع الله. (باومستارك Baumstark 1932، كوربان Corbin 1964: 130-1، هونزاي Hunzai 1986).
ربما يُعَدُّ الشَّاعِر والفيلسوف ناصر خِسْرو (1004-1072 ميلاديًّا) أهمَّ شخصيَّة في التَّقليد الإسماعيليِّ. نرى خسرو -سواء في شعره التعليميِّ المعروف باسم (الدِّيوان)، أو في أعماله المَشْرِقِيَّة الباطنية مثل (جامِع الحِكمَتَيْن) والمعرفة والتَّحرير (گشايش و رهايش)- يُقَدِّم -باستمرار- نصيحتَه حول تطهير النفس ومتابعة الرحلة الرُّوحيَّة. يحاول ناصر خسرو الجَمْع بين التَّصوُّف والعقل كما في كتابه (جامع الحكمتين)، حيثُ يجادل أنَّ حكماء الدِّين الحقِّ والفلاسفة متوافقان. والعِلمُ بالنَّفس -عند ناصر خسرو- طريق من طرق التَّحَقُّق بالمعرفة الحقيقيَّة حيث التَّعالِي فوق ثنائيَّة المعرفة والعارِف. كتب في شعره يقول:
هناك، بين العارفِ والمَعرفة،
حيثُ يعلو فوقهما إنسانٌ؛
انْتَبَهَ لتوِّه من نَوْمِ الغَفْلَة.
يُرشِدُ ناصر خسرو السَّالِكَ نحو الطَّريق الرُّوحانيِّ، ويُوضِّح له الأدواتِ اللازمةَ في هذا الطَّريق؛ اعتمادًا على ممارسات زُهديَّة بعينها. وعلى غِرار القدِّيس أوغسطين St. Augustine والقديس فرنسيس الأسيزي St. Francis of Assisi، استهلَّ ناصر خسرو حياتَه المُبَكِّرَة غارقًا في المَلَذَّات، ولكنَّه خضع -بعد ذلك- إلى تَحوُّل روحانيٍّ، ومن ثَمَّ كرَّس نفسَه من أجل الطَّريق الصُّوفيِّ بعد ذلك. ويمكن ملاحظة أصداء هاتين المرحلتين من حياتِه من خلال أعماله (هانزبرجر Hunsburger 2000).
هناك أيضا الكثير من الأعمال الموسوعيَّة للتَّقليد الإسماعيليِّ إلا أنَّ واضعيها ليسوا معروفين. وأكثر هذه الأعمال تُعالج أفكارا باطنيَّة وصوفيَّة. ومن بين أهمِّ الأعمال التي كانتْ سببًا في الانتشار المُؤثِّر للأفكار الغنوصيَّة رسائل مثل (إخوان الصَّفا)، و(أمّ الكتاب) (دفتري Daftary 1990، نصر – أمين رَضَوِي 1999/2001).
-
عصر الانقطاع ومدرسة شيراز
عادة ما يجادل مُؤرِّخو الفلسفة أنَّ النَّشاط الفلسفيَّ قد أَفَلَتْ شمسُ ظهورِه في فارس وبلاد المشْرِق الإسلاميِّ بعد عصر الغزَّاليِّ، وأنَّ النشاط الفلسفيَّ انتقل إلى الأندلس. هناك من يُعيدَ سبب هذا الأفول إلى هجوم الغزاليِّ الضَّارِي على الفلاسفة، ولكن، هذا القول يعد خرافة في غالب الأمر. لقد كان العالَم الإسلاميُّ متراميَ الأطراف، كما كان الحضورُ العقليُّ غنيًّا ومتنوِّعًا؛ ممَّا لا يُمْكِنُ لكتاب واحد أن يضع حدًّا للفلسفة والتَّفكير الاستدلاليِّ. نعم، صحيح أنَّ الفلسفة المشَّائيَّة قد اعتراها خُفوت مُؤَقَّت في فارس، ولكنَّ سببَ ذلك يعود إلى حقائق اجتماعيَّة سياسيَّة تتعلَّق بالأسرة السَّلْجوقيَّة وصراع العالَم الإسلاميِّ مع قوى خارجيَّة مثل الصَّليبيِّين. كشفتْ دراساتٌ حديثةٌ أنَّ عصرَ ما يُسَمَّى بالانقطاع كان -في الحقيقة- عصرَ ازدهار للنَّشاط العقليِّ في الجزء الجنوبيِّ من بلاد فارس، حيث أشرقتْ شمسُ (مدرسة شيراز). وكان من أهمِّ المعالمِ المُمَيِّزَة لهذه المدرسة أنَّها تتألَّف من مزيجٍ من العقلانيَّة، و الباطنية ، والحدْس العقليِّ، وحتَّى من التَّصوُّف الشَّعبيِّ. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ هذه المدرسة تُعَدُّ سلفًا مباشرا لمدرسة إصفهان.
كان ابنُ مَسَرَّة (883-931 ميلاديًّا) واحدًا من أشياخ الفلسفة الباطنية في الأندلس. كانَ زاهِدًا، وقد شكَّل السَّعيُ الباطنيُّ تُجاه وَحْدة الرُّوح بالله مبحثًا أساسًا في باطنيَّتِه الفلسفيَّة. بعضُهم يضُمُّ ابنَ حزم الَّذي أعلى من شأنِ الحبِّ الباطنيِّ (994-1064)، وابن باجة (1095-1138 ميلاديًّا) الذي عالَج مفهومَ الحدس العقليِّ والنَّفسيِّ على أنَّه مَلَكة يمكنُ بها اختبار الحقائق الإلهيَّة، وابن السَّيِّد البطليوسيّ (1052-1127 ميلاديًّا) الذي طوَّر ما دعاه البعضُ باسمِ الباطنية الرياضيَّة، وابن طُفَيْل (1105-1185 ميلاديًّا)، الَّذي كتبَ قصَّتَه الرَّمزيَّة الباطنية (حيّ بن يقظان)، وعالَج فيها مفهوم العقل الفعَّال؛ مما يجعله واحدا من أهمِّ القائلين بـ الباطنية في التَّقليد الفلسفيِّ. أخيرا، هناك الصُّوفيُّ الفيلسوف ابن سبعين (1217-1268 ميلاديًّا) الذي بذل جهده في التَّقريب بين التَّصوف والفلسفة في معالجةٍ منهجيّةٍ للمَبَاحِث الباطنية . ورغم أهميَّةِ من ذكرنا من أعلام، فإنَّ أحدهم لم يصِل إلى ما وصل إليه شيخُ التَّصوُّف الفلسفيِّ والغنوصيِّ [العِرفانيِّ] الأكبر من صَيت. يشار إلى الشيخ محيي الدِّين بن عربي (1165-1240 ميلاديًّا) بالشَّيخِ الأكبر، وتُعدُّ أعمالُه الموسوعيَّة؛ (فصوص الحكم)، و(الفتوحات المكِّيَّة) من أكثر النُّصوص الباطنية تعقيدًا في السِّياق الإسلاميِّ الباطنيِّ، والتي غالبا ما تُنْسَبُ إلى عقيدة وَحْدَة الوُجود. تُقدِّم باطنيَّةُ ابنِ عربي الفلسفيةُ تأليفًا واسِعًا بين الأفكار الغنوصيَّة والصُّوفيَّة، جنبا إلى جنب مع نوع من الخطاب الفلسفيِّ الذي يصوغ الاعتقاد الصُّوفيَّ للمرة الأولى. في صُحْبَة ابنِ عربي يمكن أن نطالع هذا الجَهْدَ الضَّخْمَ من التَّعليقاتِ على أنساقٍ ميتافيزيقيَّة، وكونيَّة، ونفسيَّة كاملة؛ توضِّح جوانب عديدة للغنوصيَّة، الأمر الذي يُمِدُّنا برؤية للحقيقة لا يُمكن دركها إلا عن طريق الممارسة وسلوك الطَّريق الصُّوفي. يقومُ البناءُ الفلسفيُّ الباطنيُّ لابنِ عربي على عمليَّة من التَّأويل الروحيِّ المُعْتَمِدَة على اللغة الرَّمزيَّة، الهادية للسَّالك في رحلته من الظَّاهر إلى الباطن. والكون كلُّه -عند ابن عربي- آيات تمثَّلَتْ في عمليَّة من التَّأويل الرمزي الذي يُعَدُّ الإنسان الكامل أَوْجَها. وابنُ عربي الذي قُرِىء وفُهِمَ على أنَّه يقول بعقيدة وحدة الوُجود pantheism من قِبَلِ كثيرين، كان -رغم ذلك- يتوخَّى الحَذَر قائلا أنَّه رغم سريان الله في كلِّ شيء إلا أنَّه لا يحوي العالَم داخله. والإنسانُ -عند ابن عربي- عالَمٌ مُصَغَّرٌ لهذا الكون؛ العالَم الكبير، والإنسان الكامل هو الإنسانُ الذي أدرك كلَّ إمكاناتِه الأصيلَة، بما في ذلك النَّفَس الإلهيّ الذي نفخه الله في الإنسانِ وقت ابتداء الخليقة كما يقول القرآن. والإدراك الرُّوحيُّ لله داخل النَّفْس هو الذي يقود إلى الوَحْدَة مع الله (انظر: نصر Nasr 1964، تشيتيك Chittick 1989 و2007).
يُعَدُّ الفيلسوف الباطنيُّ الشيخ شهاب الدين السُّهروردي أبرزَ شخصيَّات القرن الثاني عشر ميلاديًّا، خلال ما يُسمَّى باسم عصر الانقطاع عن الاشتغال الفلسفي. السهروردي هو مؤسِّس مدرسة الإشراق، وقد كانَ فيلسوفًا مشَّائيًّا؛ كتب أربعة أعمال رئيسَة تُعنى بالتَّقليد الأرسطوطاليسيِّ. وكتب أيضا مجموعة من الأعمال في تقليد باطنيٍّ غامضٍ؛ مستخدما ما أسماه باسم (لسان الإشراق). يعتمد السُّهرورديُّ في كتاباته الإشراقيَّة على الأفلاطونيَّة المُحْدَثَة، ولكنَّه يستبدلُ بعض المفاهيم مثل الموجود والوجود بالنُّور والإشراق؛ مما يمكن القول معه أنَّه يُقَدِّمُ نسخة غنوصيَّة إشراقيَّة للفلسفة السيناويَّة (أمين رَضَوِي Aminrazavi 2003). يعرضُ السُّهرورديُّ عقيدتَه الإشراقيَّة في أهم أعماله؛ (حِكْمَة الإشراق).
يُوَظِّفُ السُّهرورديُّ في كتاباتِه الصُّوفيَّة كلًّا من اللغة الرَّمزيَّة والتعليميَّة في حثِّ المُبتدِئ على متابعة الطَّريق الصُّوفي، وغالبًا مع بعض التعليمات الخاصَّة بما يتعلَّق بالممارسات الزُّهديَّة. تُشَكِّلُ الحِكمَة العمليَّة جزءا لا ينفكُّ في عقيدة الإشراق، درجة أنَّه حذَّر في مقدِّمةِ رائعته (حكمة الإشراق) القارئَ؛ أنَّ أسرار الكتاب لن تَنجلي له إلا إذا ارتاضَ أربعين يومًا تاركًا للحوم الحيوانات. يشابه السُّهرورديُّ ابنَ عربي في استخدامه الرَّمزَ من الطَّبيعة والحيوان في محاولة للتأويل الذي يبدأُ بالفلسفة التَّحليليَّة وينتهي بالمَعاد الغنوصيِّ والرُّوحيِّ للإنسانِ حيثُ مُقَامِه الأوَّل.
للسُّهرورديِّ الفضل في الدِّفاع عن نظريَّة عُرِفَتْ باسم (العِلم الحُضُورِيّ)، والتي من خلالها يمكن التَّحقُّق بالعِلم تحقُّقًا مُباشرًا، بل يمكنُ اختباره عندما تصيرُ العلاقةُ بين العارِف والمعروف والمعرفة علاقةً أَحَدِيَّةً (يَزْدِي Yazdi 1992). مُعظَمُ أعمالِ السُّهرورديِّ حول التَّصوُّف كُتِبَتْ بالفارسيَّة، مثل العقل الأحمر (عقل سرخ)، وحفيف أجنحة جبريل (آواز پر جبرئيل) و(قصَّة الغُربة الغربيَّة) ولغة موران (لغت موران) و(رسالة في حالة الطفوليَّة) ويوم مع جماعة الصوفيِّين (روزي با جماعت صوفيان) وصفير العنقاء ( صفير سيمرغ) و(رسالة فى المعراج) ورسالة في الإشراق (پرتو نامه) (أمين رَضَوِي Aminrazavi 1994).
كان لفلسفة السُّهرورديِّ الإشراقيَّة تأثير على كثير من الفلاسفة الَّذين كتبوا شروحا هامَّة على نصوص صوفيَّة وغنوصيَّة؛ من بين هؤلاء قطب الدِّين الشِّيرازيِّ (1236-1311 ميلاديًّا)، ومحمد الشَّهْرَزُورِي (توفِّي: 1153 ميلاديًّا)، وابن تُرْكَه الأصفهانيّ (1362-1433 ميلاديًّا)، وقد كانتْ العلاقةُ بين الفلسفة و الباطنية أوثقَ ما بعد السُّهرورديّ. وبرز عدد من الفلاسفة العقلانيِّين ممَّن التزموا ببعض الأفكار الصُّوفيَّة، بل غالبًا ما مارسوا التَّصوُّف كذلك، وأصبحوا من دُعاةِ الفلسفة الباطنية . سُمِّي باطنيُّو فلاسفةِ ما بعد السُّهرورديَّة -الذين استمرُّوا في إحداث التَّقارُب بين الفلسفة والتَّصوُّف- باسم (مدرسة شيراز).
كشفتْ دراسات حديثة أنَّ العصرَ الذي اعتُبرَ -تقليديًّا- عصرَ انقطاع عن النشاط الفلسفيِّ في بلاد فارس، كان في حقيقة الأمر، على كلِّ حال، فترةَ ازدهار للاشتغال الفلسفيِّ في الجزء الجنوبيِّ من بلاد فارس. أصبحتْ شيرازُ -فيما بين القرنين الحادي عشر والسادس عشر- مركزًا للفكر الغنوصيِّ والفلسفيِّ في فارس. ابتداءا بقطب الدّين الشِّيرازيِّ؛ كاتب واحد من أهمِّ الشُّروح على (حكمة الإشراق) للسُّهرورديِّ، في محاولة منه لتوضيح فكر السُّهروردي الإشراقي، بعد ذلك أخرجتْ لنا مدرسةُ شيراز عددًا من متصوِّفي الفلاسفة. خلفَ مير صدر الدين الدَّشْتَكِي (1424 ميلاديًّا) قطبَ الدِّين الشِّيرازيّ. عالج صدر الدين الدشتكي مسألة الوجود، وسؤال أصالته. ويُعدُّ جلال الدّين الدَّوَانِي واحدًا من فلاسفة هذا التَّقليد، كتب الدواني في مواضيع باطنيَّة تتعلَّق بالشريعة، إضافةً إلى أمور باطنيَّة أخرى. يُعَدُّ عملُه المُتَعَلِّق بالعلاقة بين الأخلاق والتَّصوُّف والفكر الإشراقيّ المُسَمَّى باسم (لوامع الإشراق في مكارم الأخلاق)، والمعروف باسم (أخلاق جلالي) ذا أهميَّة خاصَّة. ولا يزال أشياخ التَّصوُّف يستخدمون هذا الكتاب كدليل عمليٍّ يرشدُ الرُّوح إلى كيفية تزكيتِها عن طريق الأخلاق الرُّوحيَّة. كتب الدواني -أيضا- بعض الشُّروح على فلسفة السُّهرورديِّ الإشراقيَّة، مثل (شَوَاكِل الحُور شرح هياكِل النُّور). أمَّا عن الفيلسوف الباطنيِّ التَّالي فهو غياث الدين منصور الدَّشتكي (1461) المُنْتَمِي إلى مدرسة شيراز، وهو الابن الأكبر لصدر الدين الدشتكي وأعظم فيلسوف غنوصيٍّ [عرفانيّ] في هذا العصر. وقد كان بذاتِه مدرسة مستقلة كما كان يُدْعَى، وكان على دراية كبيرة بعلوم الشَّريعة والفقه والتَّصوُّف النَّظريِّ. يُعَدُّ كتابه (مقامات العارفين) من أبرز أعماله العِرفانيَّة العميقة التي جسَّدتْ روحَ المدرسة الشِّيرازيَّة. يقدِّمُ الدَّشتكي في هذا الكتاب تفسيراتٍ باطنيَّة غنيَّة على بعض الآيات القرآنيَّة، والأحاديث النبويَّة، وأقوال أهل التَّصوف كالحلَّاج (858-922 ميلاديًّا)، والرُّومي (1207-1273 ميلاديًّا)، وحافظ (1320-1388)، وغيرهم، موضِّحًا للقارئ كيف أنَّ حبَّ الله يُوصِلُ إلى الوَحْدَة المُتعاليَّة مع الحقِّ. ولا يخفى تأثير ابنُ عربي في هذا الأمر. يحدث هنا مرة أخرى هذا التَّقارُب بين الفلسفة المشَّائيَّة، والاعتقاد الإشراقيِّ، واللاهوت [الكلام]، والعِرفَان؛ ممَّا يساعد السَّالِك في طريقه إلى الحقِّ، وأن لا يقع أسير شِراكِ الدُّروب الرُّوحانِيَّة.
ومن بين فلاسفة هذا العصر -رغم كونهم لا ينتسبون إلى مدرسة شيراز، ولكن كانت لهم عناية بالتَّصَوُّف- نصير الدِّين الطُّوسيّ (1201-1274) الذي كتب كتابا في الأخلاق الصوفيَّة، وأَسْمَاهُ (أوصاف الأشراف)، وأيضا أفضل الدين القاشاني (توفي: 1213)، وهو شاعر صوفي وفيلسوف. كان الأخيرُ أرسطوطاليسيًّا صِرْفا، وقد كتبَ شروحا واسعةً على المنطق الأرسطوطاليسيِّ وجوانبَ أخرى تتعلَّق بالفكر الأرسطوطاليسيِّ. ورغم أنَّ غالبيَّة أعمالِه المُكَوَّنَة من اثين وخمسين عملا، وهي أعمال فلسفيَّة إلا أنَّ القاشانيَّ يرى أنَّ مهمَّة الفلسفة [تنحصِر في] بَسْطِ الطّريق إلى الله كما يقترح عنوانُ أحدِ أعماله. يُصنَّف القاشانيُّ ضمن أهل التَّصوُّف أكثر تصنيفِه فيلسوفًا عقلانيًّا؛ بسبب شروحه على ابن عربي، وإشاراتِه الصُّوفيَّة والعرفانيَّة، وشعره الباطنيِّ. ويظهرُ أثرُ التَّصوُّف جليًّا في (الرُّباعيَّات) لعمر الخيَّام (1048-1131)، يقول في رباعيَّة من رباعيَّاتِه:
أيُّها الصوفيُّ الخالص، الباحث عن ربه،
الله لا مكان له؛ فأينَ بحثُك؟!
وإن كنتَ تعرف مكانه، فلمَ تبحث عنه؟!
وإن كنتَ لا تدري، فما معنى الطَّلَب؟! (تشيتيك Chittick 2001)
فلْنَنْتَقِل الآن من بلاد فارس إلى بلاد الهند. أصبحتِ الفلسفةُ الباطنية والممارسة الصوفيَّة مشتهرةً بين فلاسفة المسلمين هنالك، حيث حكمتِ الدَّولة الغزنويَّة في القرن الحادي عشر الميلاديِّ. ومن أهمِّ الشخصيَّات المحوريَّة التي برزتْ في الهند الشيخ يوسف القادريُّ المُلْتَانيُّ، والشيخ إسماعيل اللاهوري، والإمام الحسن الصَّنعاني، والشيخ أبو الحسن علي الهُجْوَيْري؛ الفيلسوف الصُّوفيُّ، مؤلِّف كتاب (كشف المَحْجُوب). في الوقت الذي نشر فيه دعاةُ الإسماعيليَّة التَّفسيرَ العِرفانيَّ للإسلام في الهند، قاموا أيضًا بخلْق بيئةٍ عقليَّة تتصالح مع الأفكار الصوفيَّة والغنوصيَّة. وبحلول القرن الرَّابع عشر، وبسبب هجرة فلاسفةِ فارس وطلابهم إلى الهند الشَّماليِّ، اكتَسَبتْ الفلسفةُ الباطنية المَشرِقيَّة – لمن ذكرنا من أعلام- شهرةً في الهند كذلك.
وفي إِبَّان القرنين التَّاليَيْنِ، وعلى الرَّغم من سقوط وصعود كثير من الأسر الحاكمة، لم تَغِبِ المُحابَاةُ عن فلاسفة الهند أبدًا. وصلتْ هذه المُحاباةُ إلى مستوى جديد خلال الحكم المنغوليِّ؛ فقد كان حُكَّام المغول مُتَحَمِّسينَ للتصوف خاصَّةً؛ التَّصوُّف بكلِّ أشكاله، لا سيَّما الفلسفة والشعر والفنون المَرئيَّة. وقد انتَقلَ فلاسفةٌ فارسيُّون أمثال التَّفتازانيّ (1322-1390 ميلاديًّا) والجرجانيّ (1097-1127 ميلاديًّا) إلى الهند في هذا الوقت. وتبِعهم شخصيَّاتٌ مثل مير فتح الله الشيرازيّ الذي أصلحَ المناهجَ التعليميَّة بشكل تؤكِّد فيه على تعاليم الفلسفات الباطنية كما قال بها أساتذتُه الفارسيَّون.
استمرتِ الفلسفة الباطنية تمارس دورَها في التَّقليد الفلسفيِّ الإسلاميِّ عن طريق شخصيَّات مثل خواجة محمد الباقي بالله (وُلِد: 1563)، وهو صوفيٌّ مشهور، ومؤسِّس الطَّريقة الصُّوفيَّة النَّقشبنديَّة، واستمَّرتْ كذلك عن طريق تلميذِه الشَّيخ أحمد السِّرْهِنْدِي (1564-1624)، وهو مِن القائلين بعقيدة وَحْدَة الشُّهود، ومؤلِّف كتاب (المكتوبات الرَّبَّانيَّة). وكان من الفلاسفة المسلمين الذين جسَّدوا الباطنية في القارَّة الهندوباكستانيَّة مُلا عبد الحكيم السَّيَالْكُوتي، ومُلا محمود الجُنْبُوري الفارُوقي، وميرزا محمد زاهد الهَرَوِي (1603-1652)، والذي أصبح واحدًا من دعاة فلسفة الإشراق السُّهرورديَّة، وربما يُعَدُّ شاه وليُّ الله الذي عاش في القرن الثامن عشر الميلاديِّ أشهرَ فلاسفة الباطنية . قام وليُّ الله بمحاولة الجمع بين عقيدة ابن عربي القائلة بوَحْدَة الوُجود وعقيدة السِّرْهِنْدِي القائلة بوَحْدَة الشُّهود. أضف إلى ذلك كتاباته العديدة من أجل تأسيس ميتافيزيقا صوفيَّة. ولشاه وليّ الله الفضل في إضفاء نوع من الشَّرعيَّة على الاعتقاد الباطنيِّ، على الرَّغم من هجوم فقهاء الأرثوذكس [الدين المحافظ] ممن كانوا يرون التَّصوف ضَرْبًا من الهرطقة.
-
مدرسة إصفهان وملا صدرا
فلنعد إلى فارس مرة أخرى. بمجيء الأسرة الصَّفويَّة في القرن السادس عشر الميلاديِّ التي كان رجالُها من الصُّوفيَّة العامِلين، من نَسْلِ الشيخ الصُّوفيِّ الكبير صَفِيُّ الدِّين الأَرْدَبِيلِي (1252-1334 ميلاديًّا). هناك بلغ استخدام الاعتقاد الصوفيُّ والفلسفة والزُّهد ذِروَتَه، في إطار نموذج فلسفي واحد. وكانتْ أهمُّ القضايا الفلسفيَّة هي القضيَّة التي أطلقتْ عليها مدرسةُ إصفهان اسمَ (حقيقة الوجود) في مقابل (مفهوم الوجود). أسَّسَ الميردامادُ مدرسةَ إصفهان (توفِّي: 1631 أو 1632 ميلاديًّا)، وكان واحدًا من أتباع فلسفة الإشراق السُّهرورديَّة درجة اختياره كلمة (إشراق) كاسم مستعار له. لم يكتب الميرداماد بشكل واسع في التَّأسيس الميتافيزيقيِّ للباطنيَّة في أهم أعماله فقط؛ أعني: (القبسات)، و(الجَذَوات)، و(خَلْسَةُ المَلَكُوت) و(الخلعيَّات)، ولكن، كتب الشِّعر الباطنيَّ كذلك. رغم أنَّ الميرداماد كتب بشكل واسع عن الفلسفة المشَّائيَّة، لا سيَّما مفهوم الزمان، إلا أنَّ الفضل يعود إليه في تقديم قراءة غنوصيَّة [عرفانيَّة] للفلسفة السيناويَّة. يقوم بناؤه الفلسفيُّ الباطنيُّ على فكرة أصالة الماهيَّة، الذي يمدنا بإطار عقليٍّ لصعود الرُّوح وتوحُّدِها التدريجيِّ بمصدرها الأول.
وربما يُعَدُّ تلميذُه صدر الدِّين الشِّيرازي، المعروف بملا صدرا أعظمَ ميتافيزيقيٍّ في تقليد الفلسفة الإسلاميَّة. عُرِفَتْ فلسفتُه -المُركَّبَة من الفلسفة الاستدلاليَّة، والحدس العقليِّ، والزُّهد- باسم (الحكمة المُتعالِيَة). وقد كُشِفَ له عن هذا المنظور الفلسفيِّ عن طريق الله، بعد سنواتٍ عِدَّة من التَّطهير الدَّاخِلِيِّ. مع ملا صدرا يصِلُ الأمر إلى ذروتِه فيما يتعلَّق بمحاولة تأويل القرآن من وجهة نظر شيعيَّة، وكذلك ما يتعلَّق بمفهوم الولاية.
يعرضُ ملا صدرا في رائعتِه (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة) عرضًا غنوصيًّا [عرفانيًّا] مُفَصَّلًا رفيعَ المُسْتَوَى لرحلة الرُّوح الصُّعوديَّة والنُّزوليَّة منها إلى الله، ويعالجها عِلاجًا مُسْهبًا. يُعَدُّ هذا العمل موسوعة غنوصيَّة، فلسفية، باطنيَّة، تتضمَّن ما قدَّمه ابن عربي وغيرُه من باطنيِّي الفلاسفة حتى تاريخه. ويتضمَّنُ الخَلْق -عند ملا صدرا- أسفارًا أربعة: أولا، السُّقوط، حيثُ تَصِيرُ الوَحْدة مُتَكَثِّرَة، ثمَّ يتبع ذلك سَفر أرضيٌّ، فيه يُحْدِثُ ألمُ الانفصال تَوْقًا وجوديًا تُجاهَ المُقَامِ الأصليِّ. ثم يأتِي سَفر الصُّعود الرُّوحيِّ -طبقًا لملا صدرا- مُشَكِّلًا الجزء الثَّالِث من هذا السَّفر، وفيه يسلكُ الإنسانُ الطَّريقَ الصُّوفيَّ حيث يتَحَقَّق بالوَحدة مرة أخرى. وأخيرًا، يأتي السَّفَرُ من الحقِّ إلى الحقِّ، حيث المُسْتَقَرُّ في المَمْلَكَةِ الإلهِيَّة، وهذا مقام لا يتحقَّق به إلا قليلُ قليلٍ من الصَّفْوَة الرُّوحانيَّة.
يُمكن اعتبار ملا صدرا مُحْيِيًا للحكمة الباطنية الأصيلَة، تلك الحكمة التي يمكنُ إدراكها عن طريق الرُّوحانيَّة والحَدْس العقليِّ غير المُنْفَصِل عن العقلانيَّة. يستخدمُ ملا صدرا التَّحليلَ المَنْطِقِيَّ والبراهين الإشاريَّة القائمة على ما يسميه باسم (القاعِدة الإشراقيَّة)، التي تعني ما ورَد على القلب، أي (الواردات القلبيَّة)، أو (التحقيق العَرْشيّ).
تدلُّ بعض الأعمال على تمسُّكه بالفلسفة الباطنية مثل: (المشاعر)، و(الحكمة العرشيَّة)، و(واتِّحاد العاقل والمعقول)، و(أسرار الآيات)؛ وهو تفسير عِرفانيٍّ على آياتِ النُّور الشَّهِيرة.
ترك ملا صدرا أثرا لا ينمحي في الفلسفة الإسلاميَّة، لا سيَّما في الرَّبط بين الفلسفة و الباطنية ، وجَعْل دَمْجِ الباطنية في فعل التَّفَلْسُف شيءٌ مُفْتَرَض. وقد حمل تلاميذُه تراثَه الفلسفيَّ إلى عصرنا الحاضر على نَحْوٍ جيِّد. كتب عبد الرَّازق اللاهيجي (توفي: 1661-1662 ميلاديًّا) شرحًا على بستان الورد الصوفيِّ (گلشن راز)، وهو عرض مُفَصَّل للطريق الرُّوحاني، ورحلةُ سالكٍ في دروبِ الأحوال والمقامات وهو في طريقه الصُّوفيِّ، وكتب مير الفِنْدِرِسْكِي (توفي: 1640-1641 ميلاديًّا)، تفسيرًا باطنيًّا على يوغا فاسيستا Yoga Vaishishe، وكتب ملا محسن الفيض القاشاني (توفي 1680 ميلاديًّا) رسالة باطنيَّة بعنوان (الكلمات المكنُونَة)، كما كتب أيضًا (المعرفة العِرْفانيَّة). والقاضي سعيد القُمِّي (توفي: 1696 ميلاديًّا) هو تلميذ آخر لملا صدرا، وأفلاطونيٌّ مُحْدَث مُنْغَمِس، ألَّف مجموعة من الرسائلِ العرفانيَّة مثل (أسرار العبادات)، كما ألَّف عملًا عِرفانيًّا هامًّا جدًا بعنوان (تعليقات على أثولوجيا)، وكما هو معروف أنَّ أثولوجيا هي لاهوت زائف لأرسطوطاليس، وأنَّها مُسْتَلَّةٌ من تاسوعات أفلوطين (انظر: لاهوت أرسطوطاليس Theology of Aristotle، تأليف: بيتر آدمسون Peter Adamson).
تُعْتَبَرُ الأعمال المذكورة أعلاه استمرارًا للفلسفة الصَّدريَّة، كما أنَّها تستفيض في شرح الخيوط الدقيقة للثيوصوفيا [التَّألُّه] theo-sophy المُتَعاليَة، والقائمة في أساسها على فكرة أَصَالَةِ الوجود و[ثانويَّة] الماهيَّة، والوَحْدَة التي تَتَجَلَّى في الكثرة. والسُّؤال: كيف للمُتَعالِي على عالَمِ الأشياء أنْ يظهرَ مُتَكَثِّرًا، وكيف للواحديَّة أنْ تستوطِنَ قلب الكثرة؟ كانتْ إجابةُ ما بعد السُّهرورديَّة والصَّدْرِيَّة أنَّ اتِّحاد الحِكمة العمليَّة والحَدْسِ العَقْلِيِّ الذي يتعالى فوق التَّفكير الاستدلاليِّ يقوم بإمدادنا بتلك الرُّؤيَة القادرة على مشاهدة الواحديَّة كامنةً في بطنِ الكَثرة.
-
خاتمة
رغم أنَّ الفلسفة ما بعد الصَّدْرِيَّة في التَّقليد الإسلاميِّ لم تصِل إلى ذلك المستوى من الحِذْقِ الَّذي تحقَّق على يدِ أشياخ العصر الصفويِّ الكِبار، إلا أنَّ مدرسةَ ملا صدرا الميتافيزيقيَّة وجدتْ لها أتباعًا في العصور التَّالية، داخل فارس وخارجها. وفي الوقت الذي كان فيه تأثير ملا صدرا هامشيًّا في العالَم العربي الذي بدا أنَّه ينأى بنفسه عن المشكلات الميتافيزيقيَّة التَّقليديَّة بشكل عام، أحسنَ الهنودُ استقبالَ الفلسفة الصدريَّة أحسنَ استقبال، وما زالتْ تُدَرَّسُ في المدارس التقليديَّة حتى اليوم.
وبمجيء الأسرة القاجارية الحاكمة في إيران في القرن الثامن عشر الميلاديِّ أصبحتِ الفلسفة الصدريَّة مركزَ دائرةِ النَّشاطِ الفلسفيِّ. وكانتْ (مدرسةُ طِهْران) من أكبرِ دُعاةِ الغنوسيس gnosis (المعرفة) و الباطنية الفلسفيَّة في هذا العصر. وكان من أهمِّ رجالاتِها المَوْلى علي النُّوري (توفي: 1830-1 ميلاديًّا)، الذي كتب شرحًا على (أسرار الآيات)، تُعَدُّ تفسيرًا باطنيًّا لآياتٍ بعينها من القرآن، وملا إسماعيل الخَاجُوئِي (توفي: 1759 ميلاديًّا)، الذي كتب عن مفهوم الزَّمان في سياقٍ عِرفانيٍّ، ويُعَدُّ الخاجوئيُّ أشهر شخصيَّة فلسفيَّة في هذا العصر، والحاج المولى هادي السَّبْزِوَارِي (1797-1873 ميلاديًّا) مؤلِّف (شرح المنظومة) التي تُعَدُّ موجزا وافيًا للفلسفة العرفانيَّة. اختار السَّبْزِوَارِي اسم (أسرار) كاسم مستعار له؛ ليكتب شعره الباطنيَّ، وقدَّم في شعره نوعًا من المُقاربة بين اتِّجاهات مختلفة من الفلسفة الباطنية ، وعَدَّ الزُّهدَ جزءا أساسًا من أجلِ ممارسة الحياة الفلسفيَّة. أصبحتْ طِهرانُ بموت السَّبْزِوَارِي عام 1797 ميلاديًّا مركزًا للنشاط الفلسفيِّ الذي يتمحورُ معظمُه حول فلسفة ملا صدرا و السَّبْزِوَارِي. وكان من أهمِّ الملامح التي تميِّزُ مدرسة طهران أنَّ المعرفة هَرَمِيَّة في ماهيَّتِها، وأنَّ الفلسفة الاستدلاليَّة، رغم فائدتها، إلا أنَّها محدودة في النِّهاية. إنَّه يمكن اختبار حقيقة الوجود -في هذا التَّقليد- عن طريق الحدس العقلي، والإشراق، والتَّطَهُّر الدَّاخليِّ فقط (السَّبْزِوَارِي 1969، الآشتياني 1973). وكان من أهمِّ أشياخ هذا العصر ملا عبد الله زَنُوزِي(توفي: 1841-42 ميلاديًّا)، مؤلِّف (اللمعات الإلهيَّة)، وكذلك ابنه ملا علي زَنُوزي(توفي: 1889-1900)، مؤلف (بدائع الحِكَم). وكلا العملين تعليقات عرفانيَّة وباطنيَّة على عدد كبير جدا من المشكلات الفلسفيَّة. سيطر على مدرسة طهران كبارُ العلماء، الذين كانوا من الفقهاء أيضا، وملتزمين بالتَّقليد الصَّدريِّ و السَّبْزِوَارِيِّ، ومع ذلك نَأَوْا بأنفسِهم عن التَّصوُّف الشَّعبيِّ، إلا أنَّ موقفهم اتَّسَمَ معهم بالتَّسامُح، بل وحتى مع أصحاب تلك النَّزعة التي تناقض الشَّريعة الإسلاميَّة. ومن أهمِّ معالِم مدرسة طِهران: الإعلاء من شأنِ الوَرَع، والزهد، وتطهير النفس، مع الالتزام بأوامر الشَّريعة ونواهيها، ربما كردِّ فعل جزئيِّ تجاه الحداثة.
وعدد الفلاسفةِ من أنصارِ الفلسفة الباطنية في العالَم الإسلاميِّ أكثر مِن أن يُذْكَرُوا هنا، بل ومن الواضح أيضًا أنَّ الباطنية لا تزال تقليدًا حيًّا، وأنَّها مستمرَّة في احتلال مركز الصدارة الفلسفيَّة في العالم الإسلامي. ويبدو أنَّه من المستحيل عَدِّ كلِّ التقاليد الباطنية في التقليد الفلسفيِّ الإسلاميِّ، رغم أنَّ مثل هذه التقاليد لا تخلو منها دولة مسلمة في هذه الأيام إلى حدٍّ كبير (انظر: كيليتش Kiliç 1996).
لقد كان تأثير الباطنية على الفلسفة الإسلاميَّة عميقًا؛ ممَّا أدَّى إلى تغيُّر إلى -بشكل كبير- في ماهيَّة وتعريف فعلِ التَّفلسُف. لا يُنْظَر إلى المشروع التَّفلسُفيِّ في التَّقليد الإسلامي على أنَّه مجرَّد عمليَّة عقليَّة، ولكن، على أنَّه البعد العقليُّ لرحلة النَّفْسِ الرُّوحانيَّة حيثُ تُمِيطُ اللثَامَ عن الحقيقة. إنَّ الفلسفة الحقَّة في نظر فلاسفة الباطنية المسلمين هي تلك الفلسفة التي تلتزم بتقديم تفسير عقلانيٍّ لتلك القضايا المُنْتَمِيَة -تقليديًّا- إلى الحقْل الباطنيِّ فقط.
الببلوغرافيا
- Afifi, A.E., 1951. “The Influence of Hermetic Literature on Moslem Thought.” Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 13 (4): 840–855.
- Aminrazavi, M., 1994. “The Significance of Suhrawardī’s Persian Sufi Writings in the Philosophy of Illumination.” in Classical Persian Sufism: From Its Origin to Rumi, ed. L. Lewisohn, London: KNP Press, pp. 259–283.
- –––, 1996. Suhrawardī and the School of Illumination, London: Curzon Press.
- –––, 2003. “The Logic of Orientals: Whose Logic and Which Orient?” in Beacon of Knowledge: Essays in Honor of S. H. Nasr, M. H. Faghfouri (ed.), Louisville, KY: Fons Vitae, pp. 41–49.
- –––, 2003. “How Avicennian was Suhrawardī’s Theory of Knowledge?” Philosophy, East & West, 53 (2): 203–214.
- Ashtiyānī, Mehdi, 1973. Commentary on Sabzawārī’s “Sharḥ-i manẓumah” A. Falaturi and M. Mohaghegh (eds.), Tehran.
- Baumstark, A., 1932. “Zu den Schriftzitaten al-Kirmānīs”, in Der Islam, 20: 308–13; in C. Brockelmann, Geschichte der Arabischen Litteratur, Volume I, Leiden: Brill, 1943, pp. 325–6.
- Chittick, W. C., 2007. Ibn Arabī, Ibn Arabī’s Metaphysics of Imagination, Oxford: Oneworld Press.
- –––, 1989. The Sufi Path of Knowledge, Albany, NY: SUNY Press.
- –––, 2001. The Heart of Islamic Philosophy: The Quest for Self-Knowledge in the Teachings of Afḍal al-Dīn Kāshanī. New York: Oxford University Press, 2001.
- Corbin, H., 1980. Avicenna and the Visionary Recital. W.R. Trask (trans.), Princeton: Princeton University Press.
- –––, 1961. Trilogie ismaelienne, Tehran-Paris: L’Institut Franco-Iranien and Adrien-Maisonneuve.
- –––, 1964. Histoire de la philosophie islamique, Paris: Gallimard.
- Daftary, F., 1990. The Ismā‘īlīs: Their History and Doctrine, Cambridge: Cambridge University Press.
- Gutas, D., 2000. “Avicenna’s Eastern (‘Oriental’) Philosophy: Nature Contents, Transmission.” Arabic Sciences and Philosophy, 10: 159–180.
- –––, 2006. “Intellect Without Limits: The Absence of Mysticism in Avicenna,” in M. Cândida-Pacheco and J. Francisco-Meirinhos (eds), Intellect et Imagination dans la Philosophie Médiévale, Brepols: Turnhout, Volume 1, 351–72.
- Ha’irī, Y. M., 1992. Principles of Epistemology in Islamic Philosophy: Knowledge by Presence, Albany, NY: SUNY Press.
- Houben, J.J., 1956. “Avicenna on Mysticism,” Avicenna Commemoration Volume, Calcutta: Iran Society.
- Hunzai, F. M., 1986. The Concept of Tawḥid in the Thought of Ḥamid al-Dīn al-Kirmānī, Ph.D. Dissertation, McGill University.
- Sabzavārī, M. H., 1969. Sharḥ-i manẓumah, ed. Toshihiko Izutsu and Mehdi Mohaghegh, Tehran: Tehran University Press.
- Houben, J. J., 1956. “Avicenna on Mysticism.” Avicenna Commemoration Volume, Calcutta: Iran Society.
- Hunsburger, A.C., 2000. Nasir Khusraw:The Ruby of Badakhshan, London: I.B. Tauris.
- Inati, Sh., 1996. Ibn Sina and Mysticism, New York, London: Kegan Paul International.
- Kiliç, M. E., 1996. “Mysticism” in History of Islamic Philosophy, Part I, S.H. Nasr and O. Leaman (eds.), London: Routledge Press, pp. 947–958.
- Shirazi, Mullā Ṣadrā, 2004. On the Hermeneutics of the Light Verse of the Quran, Translated, introduced and commentary by Latimah-Parvin Peerwani, London: Islamic College for Advanced Studies Press.
- Nwyia, P., 1970. Exègése coranique et langage mystique, Beirut.
- Nasr, S.H. & Aminrazavi, M., 1999/2001. An Anthology of Philosophy in Persia, Volumes 1 & 2, New York: Oxford University Press.
- –––, 1996. “Introduction to the Mystical Tradition” in History of Islamic Philosophy, Part I, S.H. Nasr and O. Leaman (eds.), London: Routledge, pp. 367–373.
- –––, 1964, Three Muslim Sages, Cambridge, MA: Harvard University Press.
- –––, 1996. “Introduction to the Mystical Tradition” in History of Islamic Philosophy, Part I, S.H. Nasr and O. Leaman (eds.), London: Routledge, pp. 367–373.
- –––, 1967. “Hermes and Hermetic Writings in the Islamic World.” Islamic Studies, Beirut.
- Nasr, S.H. and Leaman, O., 1996. History of Islamic Philosophy, London and New York: Routledge.
- Schimmel, A., 1975. Mystical Dimensions of Islam. Chapel Hill: University of North Carolina Press.
- Ha’iri Yazdi, M., 1992. Principles of Epistemology in Islamic Philosophy: Knowledge by Presence, Albany, NY: SUNY Press.
أدوات أكاديميَّة
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
- Enhanced bibliography for this entryatPhilPapers, with links to its database.
مصادرُ شبكيَّة أخرى
Islamic Philosophy Online, host forThe Journal of Islamic Philosophy.
مقالات ذات صِلَة
Al-Farabi | Al-Ghazali | Ibn Arabi | Ibn Sina [Avicenna] | Ikhwân al-Safâ’ | Mulla Sadra |mysticism | Suhrawardi