مجلة حكمة
صراع العروش لعبة العروش

صراع العروش بصفته نظرية – فورين أفيرز / ترجمة: سارة العقيل

تشارلي كاربنتر
بقلم: تشارلي كاربنتر

مسلسل صراع العروش ليس واقعياً بالدرجة التي يظهر بها، وذلك أمر جيد


أكد المحللون المختصون بالسياسة الخارجية أن الموسم الأول من مسلسل صراع العروش والذي يعرض على قناة HBO يحمل في طياته واقعية سياسية. وهكذا ادعى أحد الكتاب أن المسلسل وروايات كاتبه جورج آر. آر. مارتن -والتي اُقتبس منها المسلسل- “تستعرض بوضوح سلطة القوة على سلطة الحق”، ويتفق آخر قائلا “في هذا العالم القاسي ذو المكاسب النسبية، يكون نمط السلوك المتوقع مبنيًا على الواقعية السياسية”. ولكن بتمحيص أدق لمسلسل صراع العروش، نجد منظوراً مختلفاً يظهر لنا.

مما لا شك فيه أن الحياة في ويستروس حياة فقيرة، قذرة، قاسية، وقصيرة، وهي كذلك في سلسلة روايات مارتن (أغنية الجليد والنار) كما هي في المسلسل التلفزيوني المقتبس عنها بواسطة ديفيد بينوف ودي. بي. ويس، فقد حيك كل من العملين حول مجازات هوبز، وألغاز ميكافيلي، وما يشبه حسابات كار للسلطة. ولكن الرسالة الأعمق في صراع العروش هي أن الواقعية لوحدها -حيث يتجاهل القادة المواثيق الأخلاقية، واحتياجات عامة الشعب، والعالم الطبيعي المحيط بهم- غير مرضية ولا ناجحة. وهذا السباق المحموم للسلطة بواسطة من انغمس في أهدافه الشخصية لم ينتج عنه توازن واستقرار، بل فوضى عارمة ومخططات تحاك للوصول لأهداف قصيرة المدى والتي تشتت انظار جميع الأطراف عما هو أكثر إلحاحاً وأهمية، وهو نجاة الانسانية واستقرارها.

ظاهرياً، تُخرق مواثيق الشرف والأخلاق في المسلسل، هذه المواثيق -المعتقدات الجمعية التي تشكل ماهية السلوك المقبول– يتم استحضارها، ولكن ما ذلك إلا تمهيد لانتهاكها. (ذكر لبعض الأحداث) كما رأينا في بداية الكتاب الأول والموسم الأول حيث يشرح نيد ستارك لابنه القوانين التي تحكم عقوبة الإعدام، لينتهي هذا الموسم بإعدام جائر لنيد ستارك بسبب سذاجته. ولكن غالبية تصرفات الشخصيات يعتبر منتظماً وملتزماً بالقوانين، فلم تكن كيتلاين ستارك لتتمكن من القبض على تيريون لولا اخلاص حاملي راية والدها للمواثيق، ولم يكن تيريون ليتمكن من الإفلات من قبضتها لولا أن مواثيق “عدالة الملوك” الجمت رغبة ليزا بالإعدام (بالإضافة الى رغبة كيتلاين بالاحتفاظ برهينة). حتى الشخصيات القوية تلتزم بهذه المواثيق حتى لو كانت على حساب أهدافهم قصيرة المدى.

العلاقات الاجتماعية في ويستروس تقوم على طقوس السعي للقمة العيش، الزواجات المرتبة مسبقاً، والحفاظ على العهد، بنفس الدرجة التي أيضا تقوم على الخيانة والطعن في الظهر، ويسلط الضوء على قوة هذه القوانين والاتفاقيات عندما يتم مخالفتها. فيُعاقب الملوك والأسياد -كما محنثي العهد-  لمخالفتهم العادات وانتهاك الاتفاقيات، وذلك إما بشكل ظاهر أو عن طريق عجزهم عن النجاح رغم السلطة القوية في أيديهم. ونقيضاً لتصريح سيرسي، لا يستطيع “الملوك أن يفعلوا ما يشاؤون”، فكما ظهر نيد والمروءة التي يمثلها كخاسر في نهاية الكتاب الأول، تعود أفعال جوفري وانتهاكاته لأبسط معايير العدالة وتطارده كما فعلت مع أسلافه. فالدرس المستفاد من ذلك هو أنه عندما يتم تجاهل القوانين الصحيحة، يظهر الخراب والفوضى. يتطابق ذلك مع قصة المؤرخ ثيوسيديدس عن ميلوس- كما يقول البعض- عندما يتم مقارنته مع وصفه لموت بيركليس وسقوط اثينا، والمقصود هنا أن المكاسب التي تحققها السلطة بدون عدالة لا تدوم.

في ويستروس، كما هو في عالمنا، تستغل العادات السلطة لخلق محفزات لسلوكيات معينة ولتعريف الهويات، وهو بدوره يشكل دوافع البشر، واهتماماتهم، واستراتيجياتهم: باتباع قوانين وعادات الحراسة الليلة، يعاد تعريف المجرمين العاديين كحماة الملك، ولا يتلخص الفرق بين الدوثراكي والويستروسي بالعرق، بل يمتد الى مجموعة معايير ثقافية مميزة حول الموت، والجنس، والطعام، والسفر. باختصار، السلطة والمعايير الثقافية معاً هما ما يخلقان النواتج، والفاعلين الحكماء هم من يدرك كيفية توظيف كل منهما.

بتحييد تركيز الواقعية الحصري على الأقوياء، سنجد أن صراع العروش يولي اهتمامه لكل شرائح المجتمع، حتى من هم في القاع. استخدم مارتن أدوات متنوعة في حبكته تجبر المشاهدين على رؤية عالم النخب وعلية القوم بعيون الصبيان، والعاهرات، واللقطاء، والأقزام. حتى الشخصيات التي قد تبدو مهمشة تُجبر على أن تٌظهر امتيازاتها النسبية مثلما دعا تيريون جون لشرب النبيذ معه احتفالاً بكونه ابن غير شرعي، وبران لتذمره من اعاقته في حين قد نشأوا وترعرعوا في القلاع.

قد تكون أكثر وجهات النظر تهميشًا في أدب الحرب، والرواية السياسية بشكل عام، هي وجهة نظر العدو نفسه. وبالرغم من ذلك، يتم تصوير حتى الطغاة، وقتلة الملوك، ومنفذي الإعدام، وتجار العبيد في صراع العروش كبشر ضمن سياق خاص بهم. لاحظ الصحفي ادام سيروير ذلك قائلاً “وحوش تولكين [مؤلف ملوك الخواتم] وحوش حقيقية، بينما معظم وحوش مارتن هم بشر، فورما تكنّ لهم مشاعر البغض والكراهية، يكتب مارتن فصلاً من منظورهم بحيث يجبرك على التفكير من منطلقاتهم”. يُظهر مارتن كيف يجتمع الجندر، والعرق، والطبقة، والعمر، والاعاقة لينتجوا اشكال ودرجات متعددة للسلطة في المجتمع الويستروسي، بالضبط كما ينتج اختلافات في الإمكانيات المادية. بالإضافة الى ذلك، بخلطه للمعطيات، يذّكر مارتن المشاهدين بأن هذه الفئات تم خلقها وصنعها وليست معطى ثابت، فالقوي والوسيم يجد نفسه مقعدًا، والأمير يصبح عبدًا، والمرأة النبيلة تتحول الى عاملة في اسطبل، واللقطاء يكبرون ليصبحوا قادة للجيوش.

بلا شك، أحجية السلطة من حلقة (صدام الملوك) والتي تم تسليط الضوء عليها في اعلان إحدى حلقات الموسم الثاني تقترح ذلك: “يجلس ثلاثة رجال عظماء في غرفة، ملك، وراهب، ورجل ثري مع ذهبه. يقف بينهم مرتزق، رجل من العامة لا يتمتع بذكاء خارق. قام كل رجل من الثلاثة بتوجيه أمر بقتل الرجلين الاخرين للمرتزق، قال الملك “افعلها، فأنا حاكمك الشرعي”، قال الراهب “افعلها، فأنا آمرك بأسماء الآلهة”، قال الرجل الثري “افعلها، وكل هذا الذهب لك”. قل لي اذن، من سيعيش ومن سيموت؟”. كانت إجابة الكتاب للأحجية “أن الأمر بيد المرتزق”، وهو ما يظهر السلطة والقوة الغير المعترف بها للطبقة السفلى. الفلاحون، جنود المشاة، البحارة، الصبيان، الحدادون، الطحانون، التابعون، ومثلائهم هم من يشكلون الأساس الاجتماعي الذي يقف عليه علية القوم والذين بتحالفاتهم ينهضون أو يسقطون. فواقعية اليوم الأكاديمية تفتقر الى نظرية اجتماعية متقدمة كهذه، بينما تضعها مناهج نقدية بديلة في مركز إطار عملهم.

ومن الجائز أن نقول إن أكثر ما يُظهر ذلك ويشدد عليه هو تصوير العلاقات الجندرية في المسلسل، مما لا شك فيه أن ويستروس والبلدان المجاورة هي مجتمعات كارهة للنساء بعمق، ولكن ذلك بالكاد يجعل المسلسل أو الرواية عنصرية ضد النساء كما يزعم البعض. بل على العكس، كلاهما يجبرون المشاهدين على مواجهة الواقع المر للعلاقات الجندرية الاقطاعية.  تصوير مارتن الفج للشهوات، الاعتداءات الجنسية، التجارة غير الشرعية، الاجبار على الزواج، واللاشرعية تدحض الخرافة الجندرية أن الملوك والجيوش وجدوا لحماية النساء والأطفال، كما يدحضون الخرافة السياسية أن الدول وجدت لتحمي الأمم من التهديدات الخارجية الخطيرة. في الفانتازيا التقليدية، الشخصيات النسائية التي لا تنصاع لهذه الخرافات غالباً تعاقب (قارن أوين بآروين في ملك الخواتم). ولكن هذا لا يحدث في مملكة مارتن، حيث سانسا – الشخصية الوحيدة التي تصدق هذه الأفكار عن الشهامة- صوِّرت كشخصية ساذجة بشكل مثير للشفقة.

الشخصيات النسائية الأقوى في عالم مارتن بالفعل مقيدة بالأدوار الجندرية، بيد أنه بدلاً من اعتناق هذه الأدوار، نجد النساء في ويستروس يحاولن تحييد هذه الأدوار والمناورة حول الظروف المحيطة بهن، حيث تمثل كل واحدة منهن نقداً مختلفاً للسرد الواقعي الأعمى جندرياً تجاه عالم السياسة والدول. فكيتلاين تستعين بسلطتها كأم لتوجه جيش ابنها، في حين تستعين دينيريس بأساليب خادمتها لتستحوذ على سلطة زوجها بعد وفاته، مستخدمةً إياها -بالإضافة الى غيرها من الأمور- لتتقدم في سياسة تحرير نسوية في بلدان البحر الضيق. تستخدم سيرسي جمالها وعلاقات عائلتها بضراوة، مغامرة بأن يتم الإيقاع بها بذات السياسات الجندرية التي تلاعبت بها. تتلاعب أوشا المتوحشة (wildling) بطبقية ويستروس وعاداتها الجندرية في حواراتها مع ثيون، ثم تضرب بها عرض الحائط لصالح حياة متحررة من أي قيود. ترفض آريا الأدوار التي فرضها المجتمع على الفتاة. وأخيراً، سلك كل من بريان وآشا طرق مختلفة للسلطة بشروط ذكورية (واللتان تم تغيير اسمائهن للمسلسل التلفزيوني).

وأخيراً، يقدم صراع العروش نقداً للتركيز عديم البصيرة على الأمن القومي وتقديمه على احتياجات الافراد والخير الجمعي، وهو موضوع أكثر اتساقاً مع مذهب الأمن البشري من الواقعية السياسية التقليدية.

فلنتفكر في السياسة الخارجية لدينيريس، الأمة العروس التي أصبحت الملكة البدوية للدوثراكيين، بتنانينها الجدد، ولكن بزوج وطفل أموات والقليل من التابعين وبدون أرض، بدأت الموسم الثاني بالقليل من القوة الناعمة، سموح، واهتمام بالمقموعين. لم يثق بها أسياد القبائل، ولكن العبيد المحررين واللاجئين انضموا اليها حيث أن موقفها الأخلاقي كان حاسماً في مساعدتها على الحصول على قوة متزايدة في بلدان ما وراء البحر الضيق. واجهت دينيريس خيارات صعبة وتبنت متضادات عديدة، حيث انتهى بها الأمر أمام تحديات وحدود التدخلات الإنسانية والامبريالية الليبرالية المألوفة. ولكنها كانت تحاول أن توازن بين متطلبات السلطة والمبدأ عوضاً عن الانسحاب إلى اللامبالاة والسخرية، وهو ما يندر وجوده كرد واقعي اعتيادي.

في ذات الحين، تهدد الكارثة البيئية الجميع حتى لو تجاهلها الغالبية. بعيداً عن كونه صورة للإصلاح في الهجرة، قصة جدار الشمال والقوى التي يحول دون قدومها ترمز الى الاعتقاد الخاطئ ان الحضارة الصناعية تستطيع الصمود في وجه قوى الطبيعة المتغيرة. لشعار (الشتاء قادم) معنى حرفي ومجازي: القوى الكوكبية تتحرك ببطء ولكن بلا هوادة تجاه كارثة مناخية في حين اقتتال الملوك والملكات يلهيهم عن الصورة الأكبر. هذه تعد قصة جمعية، حيث تصدر الحراسة الليلية تحذيرات متزايدة ويائسة وتأتيها الردود اللامبالية. الشر الأبيض أسبغ على المصطلح (الأمن الإنساني) معنى جديد، مقدماً لويستروس تهديد مشترك يمكنهم من التحالف ضده، ولكن حتى في هذه كان التعاون صعباً. الرد أتى أخيراً من التحالفات مع جماعات الشمال البربرية، السكان الذين سيكونون أول ضحايا التغيير البيئي، وبهذه التحالفات سيحدث تبادل دراماتيكي في الثقافة السياسية، حيث احضر القادمون معهم أفكارهم المتفردة عن السياسة، المجتمع، والدين، لتصبح القضية واضحة: إذا كانت الهياكل الحاكمة لا تستطيع إدارة التهديدات العالمية الجديدة، من المتوقع ان تتطور او تتهاوى في الطريق.

كقصة سياسة خارجية، حكاية مارتن ابعد ما تكون عن قصة محافظة، وأكثر تحولية مما ترى العين. هي حكاية عن عواقب تطبيقات السياسة الواقعية عندما تغفل عنها الاعين، حكاية لا تحتفي بالقوة والاقوياء، بل بالتحديات والعقبات التي تواجههم. فالمجتمع معقد، الأدوار والهويات متنوعة ومتداخلة، والانقسامات تهدد بكارثة، حتماً ستكون هنا تنانين.

المصدر