مجلة حكمة
هل يكمن الجمال في عين الرائي ؟ - يكمن الجمال في عين الرائي

هل يكمن الجمال في عين الرائي؟ / ترجمة: مريم الراشدي


عندما يكون هناك جدال واسع بخصوص ما هو جيد أو سيء في الهندسة المعمارية…

The-Shard-from-Parliament-Hill

أو الفن…

1280px-Ai_Weiwei_documenta_12

عادةً ما يسرع أحدهم بإنهاء النقاش بقوله:

“يكمن الجمال في عين الرائي”

وهي عبارة تتمتع بقوة الإخراس. فبمجرد نطقها، يمكن أن تأخذ كل المحاولات لمناقشة مزايا أو عيوب مناظر محددة منحى حاد ومصادم اجتماعيًا، أو تعتبر ببساطة ضربًا من الوقاحة.

ما الميل للاستسلام لمبدأ النسبية إلا عارض تناقضي في عصر العلوم. فالعلم أعظم قوة في المجتمع الحديث، يعمل بالحقائق النظرية. وكل ما يخضع تحت أحكامه، هو قطعًا ليس كما يظهر في عين الرائي. فلا يمكن لأحد القول: “لا أشعر حقًا بصحة درجة غليان الماء أو بطبيعة الجاذبية” لأنه يجب علينا الرضوخ للحقائق التي يقدمها العلم لنا.

يفترض روتينيًا أنه يتحتم لمفهومي القبح والجمال أن يأخذا بمذهب النسبية الكلية لأنهما مازالا مفهومين طليقين خارج نظام الإثبات العلمي، ولا يمكن لأي تطور مهما كان أن يؤدي إلى إجابات أفضل أو أسوأ بخصوص ما يبدو جيدّا. وقد خلقت الحقائق العلمية – بشكل عفوّي – جدالًا حساسًا بمشاعر البشر الفياضة والمستبدة.

على كلٍ، عبارة ‘يكمن الجمال في عين الرائي’ حقيقةً غير مبرر لها، ودائما ما تتسبب بالإزعاج الشديد. ومن وجهة نظرنا، ينبغي استبعادها مهما كان الثمن.

وبادئ ذي بدء، لا أحد يؤمن بماهية هذه العبارة. فمن الممكن أن نوافق على وجود اختلافات مشروعة في الذوق في إطار معقول؛ ولكن لا نعتقد حقيقة أن جميع الأذواق متساوية.

فلو كان الجمال يكمن ببساطة في عين ناظره، فيمكن إذا احتمال أنه من الطبيعي الوقوف والجزم على أن مكب النفايات الذي تفوح منه روائح الفضلات المتعفّنة مكان جميل.

landfill rubbish dump uk

وأن منازل أمستردام الحديثة بمحاذاة القناة بشعة:

amsterdam architecture tour broneo2 c kapungo

ويمكن أن يكون من المنطقي أيضا اقتراح أنه لا بأس بسحب المنازل للأسفل واستبدالها بمكب نفايات.

ولكن بالطبع، لا أحد يريد ذلك، وهذا يظهر، في الواقع، أننا لا نؤمن يقينًا بأن الجمال يكمن في عين الرائي بكل ما تعنيه الكلمة. إن لدينا خلفيات لمبادئ الجمال -ولو أننا نادرًا ما نعرب عن ذلك –  ونحرص بشدة على أن تنسجم أذواقنا مع الآخرين ولا تتصادم معها.

وعندما نستخدم العبارة، يبدو أننا نحاول القول بوجوب أن تكون هناك مساحة واسعة للاختلافات الذكيّة حول الجماليّات – وبأننا لا نشعر بالراحة من فرض أفضليّة أسلوب أو توجّهات أحد ما على الآخر. إن سلوكنا يضمر عن حساسية فائقة من الصراع والخوف من أن يصبح الشخص وقحًا أو لئيمًا مع الآخرين. ومع ذلك، فإن ما نفعله باللجوء لهذه العبارة حقيقة هو إطلاق موقف أقوى وأكثر تهورًا، فما نقوله حقيقة هو أنه لا شيء أكثر جمالا – أو قبحا – من أي شيء آخر!

لهذا الإيحاء طريقة يضمّن بها أن جميع الموضوعات في جوهرها تافهة. وبالرغم من كل ذلك، لا يمكن أبدا القول بأن الحقائق المتعلقة بالاقتصاد أو العدالة تبدو في عين ناظرها فحسب. نحن نعلم بأن شيئًا مهما هنا في خطر، ومع مرور الزمن، مررت علينا مواقف حرجة متعلقة بمقاربات للصحيح أو الخاطئ لهذه المواضيع، ونحن مستعدون للمناقشة والدفاع عن أفكارنا. ولا يمكننا أبدا القول بأن ‘معالجة الفقراء أمر يفضل تركه بالكلية لعين الرائي’ أو ‘أن أفضل طريقة لتربية الأطفال متروكة حسب ما تراه عين الرائي’ أو ‘أن مستقبل البيئة متروك لعين الرائي’. نحن نقر بأن هنالك مخاطرًا من الجدال جدالا عدائيًا وعقيمًا. ولكننا مطمئنين لوجود طرق واعية ومهذبة للخوض في هذه النقاشات الشائكة والأساسية. وبالطريقة ذاتها يجب الشعور بالمصداقية حول الجمال.

يبدو أن نفورنا جزئيًا من المشاركة في النقاشات الجمالية علامة على نقص ثقتنا بذائقتنا. ولك أن تقارن بين طريقة تصرفنا مع الجماليات من جهة، ومع الطعام والموسيقى من جهة أخرى، حيث أنهما المجالان اللذان يتمتعان بالآراء القوية، ومن الطبيعي نشوء حبنا للجدال دفاعًا عن رأينا. ووفقًا لتقييم مطعم جنوب آسيوي على موقع “تريب أدفايسور”، فإنه من غير المحتمل قولنا بأن ‘المطاعم الجيّدة تكمن في بطون الآكلين.’ بل سيكون لدينا وجهة نظر؛ وسنرغب بأن نوضح لم كان المكان أ جيدًا، بينما المكان ب قد يفتقر إلى استعمال للتوابل. وقد نكون متشبّثين برأينا تشبّثًا ملفتًا للنظر. فمثلًا، نادرًا ما نقول بأن الموسيقى تكمن في أذن السامع، بل نقول بكل ثقة أن موزارت كان في مرحلة تجلٍ عندما ألف “تلف عجلات الباص لفًّا دائريًا”[1] أو “قواعد لندن”[2] عكس مقطوعة “النشاط”[3]. لسنا هنا للتأكيد على أن موسيقيّ أحد أفضل من الآخر؛ وإنما نشير ببساطة إلى شرعية وفائدة النقاش وإلى الرفض الغريب عند البدء في مناقشة ما له صلة بالهندسة المعمارية والفن. إن اتخاذنا لموقف حيادي حيال الجماليات يبدو عارضًا على ذوق متردد أكثر من أي التزام صحيح للمذهب النسبي.

علاوة على ذلك، مع المطالبة بإنهاء النقاش حول الجمال تبدو خطوة سمحة وكريمة، إلا أنها تناسب لأقصى الدرجات المطورين العقاريين كي يستثمروا في مجتمع تنقصه الثقة في مقدرة الناس على إصدار الأحكام على الأشياء جمالًا أو قبحًا. مما يعني أن ليس على هؤلاء الباحثين عن الربح القلق من المزيد من الإنفاق لمحاولة جعل مظهر أي شيء جيدًا: لأنه لا أحد يعلم ما هو الجميل بكل الأحوال.

3798657_23229d73

ظهرت عبارة ‘يكمن الجمال في عين الرائي’ أصلا بصفتها درعًا يقي من التعجرف.

فهي تؤكد على حقوق الناس العاديين في اتباع ما يحمسهم في الوقت الذي يمسك فيه الخبراء المستبدون بزمام الحضارة، ويحاولون تشكيل الذوق بسلطة متجبرة ومحقّرة. وقد لقّن هؤلاء الخبراء الناس ما يحبون، ويزدرون كل من يبدي اعتراض. كانت عبارة ‘يكمن الجمال في عين الرائي’ وسيلة دفاعية ضد التعصب. وتعني شيئًا من قبيل: ‘توقف عن محاولة إرغامي على الرضوخ. تفضيلاتي تنبع من قرارة نفسي. ويمكنني الشعور والتفكير كما أحب.’

ولكن إعطاء تلك الحرية للتفكير والشعور كما نحب محتفظة الآن بقدسيتها جيدًا (ولربما هي بالفعل محتفظة بقدسيتها احتفاظًا أكثر من جيد)، ولا نحتاج لأن نبقى حبيسي حركة التحرر المبكرّة.

 لا تكمن مشكلتنا اليومية في انقيادنا للبذخ الحضاري، وإنما باحتماليات ضياع السحر في الفن والهندسة المعمارية، وذلك بسبب الثقافة المهووسة بالربح السريع ورفض إشراك المهندسين المعماريين والفنانين في حوار عن مخططاتهم وتطلعاتهم. بإمكان إغلاق المحادثة بقول ‘يكمن الجمال في عين الرائي’ خلق موقف مخادع أكثر سوءًا بكثير. سيحكم المجتمع الذي لا يمكنه التحدث بما يُعقل أمام الملأ- وبشيء من التفصيل ربما- عن الجمال على نفسه بالقبح من غير قصد.

المصدر


[1] The Wheels on the Bus go round and round.

[2] London Grammar.

[3] Verve.