مجلة حكمة
البيروني : رحلة حياة وعطاء – د. يسري عبدالغني عبدالله

البيروني: رحلة حياة وعطاء – يسري عبدالغني عبدالله

البيروني
ابو الريحان محمد بن أحمد البيروني

  • البدايات: نشأة أبو الريحان البيروني

        رجلنا هو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، كان مولده في ضواحي خوارزم، في شهر ذي الحجة عام 362 هـ، الموافق شهر سبتمبر عام 973 م.

        وتدل نسبته على أنه من ضواحي خوارزم، لا من المدينة نفسها، لأن كلمة (بيرون) باللغة الفارسية تعني (الضاحية) .

        وقد وهم شيخنا / ابن أبي أصيبعة حين ترجم لـ البيروني  [1]، وقال: هو الأستاذ / أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، منسوب إلى بيرون، وهي مدينة بالسند !!،وتابعه في ذلك أستاذنا / أحمد أمين . [2]

        والواقع خلاف ذلك، إذ لم يكن أبو الريحان سندياً، كما لا نعرف مدينة في بلاد السند تسمى (بيرون) .

        وفي تفسير نسبة العلامة / البيروني إلى (بيرون) يقول لنا (ياقوت الحموي): وهذه النسبة (أي البيروني) معناها: البراني، لأن (بيرون) باللغة الفارسية معناها (براً)، وسأل ياقوت بعض الفضلاء عن ذلك، فزعم أن مقامه في خوارزم أو بخوارزم كان قليلاً، وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم …كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريباً .

        ويعلق ياقوت على ذلك قائلاً: وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق (أي السواد أو القرى أو الضواحي المحيطة بالمدينة) .

        وحين بلغ أبو الريحان العشرين من عمره، كان قد عب من بحر العلوم والمعارف عباً، وتفتح عقله على شتى مجالاتها، فرحل إلى جرجان، والتحق فيها ببلاط أميرها / قابوس بن وشمكير ، الملقب بـ (شمس المعالي)، وكان بلاطه في تلك الحقبة يحفل بالعلماء الأعلام، ومنهم الشيخ الرئيس / ابن سينا، الذي تعرف عليه البيروني واتصل به، وبهذا اتصل حبل الود والصداقة والتعاون في العلم بين العالمين الكبيرين .

        وفي بلاط جرجان كتب ابو الريحان البيروني كتابه المهم: (الآثار الباقية من القرون الخالية)، وأهداه إلى الأمير / شمس المعالي .

        وهذا الكتاب الذي ـ في رأينا ـ يعتبر أول مؤلفات البيروني، هذا الكتاب  يبحث ـ أكثر ما يبحث ـ في تقاويم الأمم القديمة، وأعيادها، ومواسمها، وموازنة ذلك بما كان على عهد البيروني، وتتخلل هذا كله العديد من  البحوث الفلكية، والرياضية، والفيزيائية المهمة .

        وإلى خوارزم عاد أبو الريحان البيروني حوالي  عام 400 هـ = 1010 م، عاد إلى مسقط رأسه، فاستخلصه لنفسه أميرها / أبو العباس المأمون بن محمد خوارزم شاه، وأصبحت له عند هذا الأمير الحظوة التي ما بعدها حظوة، والقدر الذي لا يدانيه قدر، إذ عرف الأمير المأموني لـ البيروني العالم مكانته في مضمار العلم، فاتخذه مستشاراً خاصاً له، وأسكنه معه في قصره، وكان يبدي له من مظاهر الاحترام والتقدير ما لا مزيد عليه .

        يحكي لنا ياقوت عن محمد بن محمود النيسابوري: إن خوارزم شاه دخل قصره يوماً ـ وكان يركب على دابته ـ فأمر باستدعاء أبي الريحان من حجرته، ولما أبطأ عليه قليلاً تصور الأمير / خوارزم شاه، الأمر على غير صورته، فثنى عنان فرسه نحو حجرة البيروني، ورام النزول، فسبقه أبو الريحان إلى الخروج، وناشده الله ألا يفعل، فتمثل خوارزم شاه مقولة: (العلم من أشرف  الولايات، يأتيه كل الورى، ولا يأتي هو لأحد)، ثم قال: (لولا الرسوم الدنيوية لما استدعيتك، فالعلم يعلو ولا يعلى عليه)[3] .

  • عندما تضطرب الأمور ..!

        ولأن دوام الحال من المحال، فإن أيام أبي الريحان في بلاط خوارزم شاه لم تدم، فسرعان ما اضطربت الأمور، وقتل الأمير خوارزم شاه المأموني، وسادت بعده فوضى أدت إلى اضطراب في الإمارة كلها، مكنت السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي من الاستيلاء على خوارزم، فكان ابو الريحان البيروني من جملة الأسرى  مع آخرين من العلماء، الذي اتهمهم السلطان / محمود الغزنوي (على عادته من التشدد في الدين)، اتهمهم بالكفر والزندقة، وأعمل في بعضهم السيف .

        وهذا أسلوب يرفضه الإسلام كل الرفض، فالإسلام يشجع العلم والعلماء،ويطالبنا باحترامهم وتكريمهم لأنهم ورثة الأنبياء، ويقرر أن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة في كل زمان ومكان، ويعلمنا أن العلماء أكثر عباد الله خشية لله، وبدونهم لا يكون رقي الأمم وتقدمهم .

        أعود لأقول لك: كاد البيروني يهلك في غمرة تلك الأحداث الجسام، لولا أن أسعفه الله ـ بل أسعف الله العلم ـ سبباً خلصه من القتل، إذ قال بعض مرافقي السلطان: (هذا تمام وقته في علم النجوم، وأن الملوك لا يستغنون عن مثله .)، فأبقى عليه السلطان، وأخذه معه إلى بلاده .

        وإن كانت هناك روايات أخرى نطالعها في المصادر التي تحدثت عن البيروني، روايات عن سبب انتقال البيروني من بلاط خوارزم إلى بلاط غزنة، إلا أن المتفق عليه الرواية التي ذكرناها لك آنفاً .

        ودخل البيروني الهند مع السلطان / محمود الغزنوي في فتوحاته في تلك البلاد التي استمرت إلى عام 415 هـ = 1024 م، واستحق من أجلها لقب (الغازي)، ولعله أول من لقب بذلك في الإسلام، على حد قول بعض المؤرخين.

        وطالت إقامة البيروني في بلاط غزنة مع السلطان/ محمود وخلفائه من بعده، وكانت هذه الفترة أبرز فترات نشاطه العلمي، وأحفلها بالإنتاج الغزير .

        ويبدو لنا أن أبا الريحان بعد أن رجع إلى غزنة من الهند لم يغادر تلك المدينة منقطعاً إلى القراءة، والبحث، والدرس، والتجربة، والتأليف، إلى أن توفاه الله تعالى في الثالث من شهر رجب عام 440 هـ = 13 من ديسمبر 1048 م ، عن عمر يناهز 78 عاماً .

      هذا هو تاريخ وفاة البيروني المتعارف عليه بين مؤرخي العلم، غير أن المستشرق / (ماكس ماير هوف)  لا حظ ـ بحق ـ أن البيروني لا يمكن أن يكون قد توفى قبل عام 1050 م = 442 هـ، لأن البيروني في كتابه: (الصيدلة في الطب) ذكر أنه نيف على الثمانين سنة، فإذا صح ميلاده سنة 362 هـ، تعين أن يكون على قيد الحياة في عام 442 هـ، وتكون وفاته في تلك السنة أو بعدها .[4]

  • من هو البيروني؟

1. عن سعة آفاق علمه

        لعل الطابع المميز لـ أبي الريحان البيروني بين العلماء المسلمين، هو تنوع اهتماماته العلمية، واتساع أفاق دراساته، مع الإتقان التام، بل التقدم والتبريز في كل باب طرقه من أبواب العلوم المختلفة .

        فلقد كان البيروني: طبيباً، فلكياً، رياضياً، جغرافياً، مؤرخاً، عالماً بالطبيعيات، مقارناً للأديان، وكانت له اليد الطولى في كل هذه العلوم، مع مشاركة فاعلة في الفلسفة، والعلوم اللغوية، والأدب، والشعر، والفقه .

        ولئن كانت سعة الأفق والموسوعية طابع كثير من علماء المسلمين في عصرهم الذهبي، فلا نبالغ إذا قلنا: إن البيروني قد بزهم جميعاً في هذه الناحية، ليس فقط في تعدد فنون العلم التي تناولها بالبحث والدرس والتأليف، بل كذلك لمساهمته مساهمة بناءة في تقدم كل علم من تلك العلوم، وتطوره على وجه لا يتأتى إلا لعالم فذ، وأستاذ راسخ القدم في علمه .

        ونضيف هنا: أن البيروني امتاز بين العلماء المسلمين ـ سواء من معاصريه، أو سابقيه، أو لا حقيه ـ بأنه كان حريصاً كل الحرص على الاطلاع على ثقافات الأمم الأخرى من مصادرها الأصلية، غير معتمد على الترجمات التي شاعت في وقته في العالم الإسلامي، وبمعنى آخر: فإن البيروني انفتح بفكره على الثقافات الأخرى، يأخذ منها، ينقدها، يصوبها، يضيف إليها، يتقبل فكر الآخر دون رفض مطلق، يأخذ من الأخر أحسن ما عنده، ويرفض ما لا يتفق مع العقل والمنطق والعلم، وما لا يتفق مع ثوابته الإسلامية، واضعاً في الاعتبار أن يقدم للناس العلم الحقيقي الذي يفيدهم، وينهض بهم إلى حياة أفضل بعيدة عن الجهل أو الخرافة .

        أقول لك: لقد درس البيروني من أجل هذا اللغتين: السريانية، والعبرية، كما عني بوجه خاص باللغة السنسكريتية، وعن طريقها تمكن من أن يتعمق في دراسة الثقافة الهندية بفروعها المختلفة والتي لم تكن حتى عصره تحظى بكثير من عناية العلماء المسلمين .

        وقد ظهرت نتائج هذه الدراسات والأبحاث الجادة العميقة في كتابه الكبير المهم عن بلاد الهند، والذي عنوانه: (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)، والذي طبع لأول مرة في مدينة ليبتزج الألمانية، سنة 416 هـ = 1925 م، في 365 صفحة، وهذا الكتاب يعد بحق نسيج وحده في موضوعه، وفي مادته، وقد ترجم إلى اللغة الإنجليزية خلال القرن التاسع عشر الميلادي، كما ترجمت أجزاء منه إلى لغات أخرى، ولا يزال حتى وقتنا الراهن كثير الفائدة لطلاب الدراسات الهندية، بما حواه من معلومات واسعة، ونظرات تقديرية صائبة تلقي الأضواء الكاشفة على ثقافة الهند القديمة: الفلسفية، والعلمية، وقد اشتمل هذا الكتاب على مجموعة قيمة من المعلومات والبيانات والأفكار، لولا مجهود أبي الريحان البيروني لكان مصيرها النسيان والضياع .

  • رجل العلم محور وجوده

        لقد كان ابو الريحان البيروني عالمًا واسع المعرفة ـ وكما ذكرنا ـ فقد كان جغرافياً طبيعياً، ورياضياً فلكياً حاسباً، وغيرها من المجالات التي برع فيها، وهو وإن لم يكن صاحب مذهب فلسفي بمعنى الكلمة، فقد كان على جانب عظيم من الثقافة الفلسفية، خبيراً بعقليات الأمم، ونزعاتها، والطابع الغالب عليها، عارفاً بأديانها، وبكتبها، ومميزاتها، نضيف إلى ذلك: أنه كان صاحب روح علمية ومنهج علمي، وكان واضعاً بحق لأصول طريقة النقد التاريخي .

        لقد صحب البيروني السلطان / محمود الغزنوي في غزواته لبلاد الهند، وأقام هناك عشرات السنين، ورغم صعوبة اللغة، وكثرة الحواجز التي أقامها الهنود بينهم وبين غيرهم، فإن البيروني قد استطاع بفضل الصبر والدأب أن ينفذ إلى أعماق تفكيرهم، ويحيط بأصناف علومهم ومعارفهم، ودقائق حساباتهم المختلفة .

        وقد دون البيروني ثمرة هذا كله في كتابه الذي أشرنا إليه من قبل: (تحقيق ما للهند من مقولة …) الذي يعتبر خير ما كتب عن بلاد الهند، وهذا الكتاب يتضمن بياناً مفصلاً بعقائد الهنود، وكتبهم الدينية، وآرائهم الفلسفية، وآدابهم، وتاريخهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأعرافهم، وأحوالهم الاجتماعية، وجملة معارفهم، وحساباتهم في التاريخ، والفلك، والتنجيم، كل ذلك على سبيل تقرير الأشياء كما هي، هذا مع مقارنة بين ما عند الهنود، وعند اليونان، ومع إشارة إلى ما عند الصوفية وتأثرهم المعروف ببعض الآراء والأفكار الهندية مثل: وحدة الوجود وتناسخ الأرواح، وعند بعض أصناف النصارى الذي يؤكد الباحثون أنهم تأثروا بفكرة التثليث التي كانت عن الهنود، مما يشبه ما عند اليهود، كل ذلك نراه عند الرجل منطلقاً من نظرة صائبة، وحكم نافذ، وعبارة محكمة.

        ولعل هذا الكتاب أقرب كتب البيروني إلى علم مقارنة الأديان، ومن أمثلة ذلك حديثه عن اعتقاد الهنود بتناسخ الأرواح، وقوله: إن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين، والتثليث علامة النصرانية، والأسباب علامة اليهود، كذلك التناسخ بين الأرواح علم النحلة الهندية، فمن لم ينتحل لم يك منها ولم يعد من جملتها .

        ومثال آخر كلامه عن كيفية الخلاص من الدنيا، على رأي الهنود، فيقول: إذا كانت النفس مرتبطة في العالم (أو بالعالم)، ولرباطها سبب، فإن خلاصها من الوثاق يكون بعدم ذلك السبب … سبب الوثاق هو الجهل، وخلاص النفس إذن بالعلم، وإذا أحاطت النفس بالأشياء إحاطة تحديد كلى مميز مغن عن الاستقراء، تلف المشكوك، لأنها إذا فصلت الموجودات بالحدود عقلت ذاتها، وما لها من شرف الديمومة (الاستمرار)، وما للمادة من خسة التغير والفناء في الصورة، فاستغنت عنها، وتحققت أن ما كانت تظنه خيراً ولذة، هو شر وشدة، فحصلت على حقيقة المعرفة، وأعرضت عن تلبس المادة، فانقطع الفعل وتخلصت بالمباينة .

        أقول لك: إن البيروني كان بحق هو كاشف بلاد الهند، وبمعنى آخر مكتشف بلاد الهند من الناحية الثقافية والاجتماعية، وكتابه: (تحقيق ما للهند …) أكبر دليل على ذلك، نظراً لما فيه من تصور شامل جامع، ومعرفة مستقصية مستفيضة للأشياء، يجب أن يعتبر أهم ما أنتجه علماء الإسلام في مجال معرفة الآخر، وبمعنى آخر معرفة الأمم الأخرى .

        لقد تغلغل حب العلم في نفس البيروني، حتى كان العلم محوراً لوجوده ككل، وهدفاً لحياته، فعاش يطلب العلم للعلم، يطلب العلم من أجل واقع أفضل لمجتمعه وللبشرية جمعاء، لذلك كان البيروني مكباً على تحصيل العلوم والمعارف، منصرفاً إلى تصنيف الكتب لا يكاد يفارق يده القلم، وعينه النظر، وقلبه الفكر، على حد قول النيسابوري عنه .

        كما كان يضع في أبحاثه العلمية روحه كلها، ولم يكن يقوم بعمل من الأعمال إلا مخلصاً فيه الإخلاص كله، لوجه الحق والعلم والإنسانية، وحسبنا دليلاً على مقدار تشبع هذا العالم النادر المثال بحب العلم والمعرفة الموسوعية، ما يرويه لنا (ياقوت الحموي).

يقول ياقوت[5]:

لقد دخل النيسابوري على أبي الريحان البيروني، وهو يجود بنفسه (يحتضر)، وقد تحشرج نفسه، وضاق به صدره، فقال له في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة ؟، فقال له إشفاقا عليه: أفي هذه الحالة ؟، قال له: يا هذا، أودع الدنيا، وأنا عالم بهذه  المسألة، ألا يكون خيراً من أن أخليها، وأنا جاهل بها .. !!

فما كان من النيسابوري إلا أن أعاد عليه شرح المسألة، وحفظه إياها، وعلمه لها، وخرج من عنده، وهو في الطريق، سمع الصراخ، ونعي الناعي..

        فما ظنك برجل يحتضر على فراش الموت، فلا يلهيه ما هو فيه عن العلم والمعرفة، ولا يدع زائره دون أن يسأله عن مسألة من مسائل علم المواريث، وعنده أن يودع الدنيا الفانية وهو عالم بتلك المسألة، خير من أن يموت وهو جاهل بها، فيشرحها له صاحبه، وما أن يخرج من عنده حتى ترتفع روحه إلى باريها، تلك الروح الطيبة المدلهة بحب العلم والمعرفة والبحث، فيسمع صاحبه العويل عليه، وهو في الطريق .. !!

        أين الآن نجد مثل هذا العالم الجليل العاشق للعلم، وهو على فراش الموت.. ؟ !!

  • عفة نفس، وحب للعلم الحق

        نقول: ومن كانت هذه حاله مع العلم، فإنه لا شك لا يمارسه ليتقرب به إلى الملوك والحكام، ولا ليكتسب به الجاه والشهرة والأضواء الزائفة عند الناس، وهكذا كان ابو الريحان البيروني مستغنياً عن السلطة والسلطان، وما عندهم من جاه أو مال، غير مبال بأن يفوز من عامة الناس، أو يشتهر عندهم بالعلم.

        أما استغناؤه عن الملوك والسلاطين، وزهده فيما لديهم، فحسبك ما جرى له مع السلطان / مسعود بن محمود الغزنوي، حين ألف له كتابه المحيط بأوائل علم الفلك وأواخره، والمعنون بـ (القانون المسعودي في الهيئة والنجوم)، فلقد أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي، فلم يقبل البيروني تلك الصلة السنية التي تتناهى دون بعضها آمال كثيرين من الناس، ورد المال إلى الخزانة شاكراً بعذر الاستغناء عنه .[6]

        أما عدم اكتراث البيروني بما يقوله الناس عنه ـ ما دام قد أرضى ضميره، وأخلص لوجه العلم النافع للناس ـ فشاهدنا على ذلك ما رواه أحد تلاميذه، حيث يقول: كان من عادة شيخنا الأستاذ الرئيس (رحمه الله)، إذا أمر في كتبه من مؤامرات الأعمال لم يجئ بالمثال، وإذا جاء على النزر منه جاء بالطرق المنغلقة، والألفاظ الفصيحة البعيدة عن التفهم .

        وقد سأله هذا التلميذ عن ذلك، فقال له سبب ذلك:أنه يخلي تصانيفه من المثالات ليجتهد الناظر فيما أودعه فيها متى كان له دراية واجتهاد، وهو محب للعلم، ومن كان من الناس على غير هذه الصفة،فلا يبالي به، فهم أو لم يفهم، فعنده سواء .. !!

        هذا، وقد ورد هذا الكلام ضمن كتاب البيروني (الآثار الباقية من القرون الخالية، ص 71، مقدمة الناشر)، وكما أسلفنا فإن هذا الكتاب طبع بعناية المستشرق / سخاو، سنة 1923 م، في مدينة ليبتزج الألمانية .

  • تأملات في النقد التاريخي عند البيروني

        إن كتاب (الآثار الباقية من القرون الخالية) من كتب البيروني الأولى، وبمعنى آخر تعد ثمرة مبكرة رائعة لعبقرية البيروني العلمية، فقد ألفه حوالي عام 390 هـ، وهو لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره، وفي هذا الكتاب عرض علمي للمناهج التاريخية والتقويمية والحسابية لمعظم الأمم ذات الحضارة في المشرق، مع كل ما يتصل بذلك من وسائل فنية وتاريخية .

        ويتجلى في هذا الكتاب سمو عقل البيروني، واهتمامه بما يليق بالعلماء الحقيقيين الجادين، من كد الذهن في ضبط حسابات الأمم وتقاويمها، كما تتجلى روحه العلمية ومنهجه في البحث في الطبيعة (العلوم الطبيعية)، وفي التاريخ بوجه عام .

        ويمكن للباحث أو الدارس عندما يقرأ كتاب (الآثار الباقية) لـ البيروني أن يقارن ما يقوله الرجل في هذا الباب بكلام المؤرخين قبله وبعده .

        وسوف نحاول أن نذكر لك أمثلة قليلة من كلامه، لنبين أصول النقد التاريخي عنده:ـ

  • المثال الأول:

        يقول البيروني فيما يتعلق بتمحيص أخبار الأمم: أنه لا سبيل إلى التوسل إلى ذلك من جهة الاستدلال بالمعقولات والقياس بما يشاهد من المحسوسات، سوى التقليد لأهل الكتب، والملل، وأصحاب الآراء والنحل، وتصيير ما هم فيه مما يبنى عليه بعده، ثم قياس أقاويلهم وآرائهم في إثبات ذلك بعضها ببعض، بعد تنزيه النفس عن العوارض المردية لأكثر الخلق، والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق، وهي: كالعادة المألوفة، والتعصب، والتظافر، واتباع الهوى، والتغالب بالرئاسة، وأشباه ذلك [7]

  • المثال الثاني:

        ويواصل شيخنا البيروني حديثه العلمي قائلاً: ليست الأخبار كلها داخلة في حد الامتناع فتميز وتهذب، لكن ما كان منها في حد الإمكان جرى مجرى الخبر الحق، إذا لم تشهد ببطلانه شواهد أخرى، بل قد يشاهد وشوهد من الأحوال الطبيعية ما لو حكى عن زمان بعيد عهدنا به لثبتنا الحكم على امتناعها، وعمر الإنسان لا يفي بعلم أخبار أمة واحدة من الأمم الكثيرة، علماً ثاقباً فكيف بعلم أخبار جميعها ؟ [8]

  •  المثال الثالث:

        ويقول: وكل ما يتعلق ببدء الخلق وأحوال القرون السالفة فهو مختلط بتزويرات وأساطير لبعد العهد به، وامتداد الزمان بيننا وبينه، وعجز المعتني به عن حفظه وضبطه، وقد قال الله تعالى: { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم لا يعلمهم إلا الله } [9]

  • المثال الرابع:

        يقول: لا يليق بطريقتنا التي أسلفناها أن نضيف الشك إلى اليقين، والمجهول إلى المعلوم[10].

        إن قراءة كتاب (الآثار الباقية) تكشف لنا عن تقاويم وتاريخ الأمم السالفة، في نفس الوقت الذي يكشف لنا عن منهج البحث التاريخي عند البيروني، مما يسمح للباحث المهتم بتطور المناهج التاريخية في الفكر الإسلامي أن يعقد مقارنة بين منهج البيروني التاريخي ومنهج الذين سبقوه، أو جاءوا بعده، وكنا نود الخوض أكثر في هذه المسألة ولكن المجال لا يسمح.

  • تعليق وتعقيب

        قبل أن نشير إلى النقد التاريخي عند البيروني، كنا في الجزئية السابقة، نبرهن على عدم اكتراث البيروني بما يقوله الناس عنه، ما دام قد أرضى ضميره وأخلص لوجه العلم والمعرفة، وذكرنا ما رواه أحد تلاميذه، وعرفنا من كلام هذا التلميذ أن البيروني كان يخلي مؤلفاته من الأمثلة أو يأتي بالقليل منها، من أجل أن يجتهد القارئ فيما أودعه البيروني في    كتاباته، متى كان للمطالع دراية واجتهاد، وحب للعلم، أما إذا كان القارئ على غير هذه الصفات، فعالمنا البيروني لا يبالي به ولا يهتم، سواء فهم ما كتب أو لم يفهم ..!!

        ولنا على هذا الكلام تعقيب بسيط: إن العالم لا ينبغي له أن يتجاهل القارئ بأي شكل من الأشكال، ولا يصح بحال من الأحوال أن يغض الطرف عنه تماماً، زاعماً أنه من المحتم أن يصعد القارئ إلى تفكيره وبالتالي عليه أن يفهم كل ما يكتب، أو يقول العالم أو الكاتب: أنني أكتب لخاصة المتخصصين، وليس لي شأن بعامة القراء..

        وفي رأينا: إن دور العالم الحق أن يقيم جسراً قوياً بينه وبين القارئ، فيكتب له قدر طاقته وإمكاناته، إسلوباً سهلاً مفهوماً، فيعلمه العلم، ويفيده ويرتقي به إلى الأحسن والأفضل .

        الأسلوب العلمي عندنا هو الذي يعرض الحقائق من علمية أو تاريخية أو اجتماعية، عرضاً يلتزم الصدق والواقع في غير تأنق، أو قصد إلى أداء لغوي خاص، أو تعبير يعتمد على وسائل الخيال بقصد التأثير والإمتاع .

        وغني عن البيان أن الأسلوب العلمي هو أداة العالم في تقرير الحقائق، بينما الأسلوب الأدبي هو أداة الأديب في التعبير بغية التأثير والإمتاع ونقل المشاعر .

        والأسلوب العلمي له عدة خصائص منها: أن له عنصرين فقط هما: التفكير والتعبير، وإنه يقف عند أداء الحقائق   المحايدة، وهو يستخدم العبارات المحددة الواضحة في معناها، ويعتمد على الفكر المستقيم، لأنه يخاطب العقل وحده، وهو يستخدم بعض المصطلحات والمفاهيم العلمية، ويتجنب التصوير الخيالي …

        ويزعم كاتب هذه السطور أن البيروني في كتاباته التي عدنا إليها، قد اقترب إلى حد كبير من هذه الخصائص التي من الواجب توافرها في الكتابة العلمية .

        نضيف إلى ذلك أن الكاتب العلمي عليه أن يلتزم جمال الأسلوب قدر الإمكان، والجمال يأتي من سهولة العبارة، وحسن اختيار الكلمات، والدقة في تقرير الحقيقة ..

        وبذلك يفهمه الناس، فالكاتب في أي زمان أو مكان من الناس، وهو يكتب للناس، وعليه فيجب أن تفهمه الناس، وإلا فلماذا يكتب أصلاًَ ..؟!

  • دفاعاً عن العروبة!

        برغم العرق الذي كان يمت بـ ابو الريحان البيروني إلى الفرس، فإنه كان عربي الثقافة، عربي الروح، عربي العصبية، لا يدين بالولاء إلا للعروبة والإسلام، ولا يرضى أن ينسب إلى غير العرب والمسلمين .

        والبيروني هو القائل في كتابه (الصيدنة) أو (الصيدلة في الطب): الهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية .. !!

        ويقول في نفس الكتاب: ديننا والدولة عربيان توأمان، يرفرف على أحدهما القوة الإلهية، وعلى الأخر اليد السماوية، وكم احتشدت طوائف من التوابع … في إلباس الدولة جلابيب العجمة، فلم يتفق لهم في المراد سوق، ومادام الآذان يقرع آذانهم كل يوم خمساً، وتقام الصلوات بالقرآن العربي المبين خلف الأئمة صفاً صفاً، ويخطب به لهم في الجوامع بالإصلاح … كانوا لليدين وللفم، وحبل الإسلام غير منفصم، وحصنه غير منثلم ..

        أرجو أن يراجع القارئ المفضال ما سبق ذكره من   سطور، والتي اقتبستها منكتاب (الصيدلة) لـ البيروني، وبعد ذلك يقول لي: أهذا الرجل يمكن أن يتعاطى الإلحاد، أو يصل إلى مرتبة الإلحاد، أو يكون من الملحدين، كما كتب البعض ؟!

  • البيروني ليس شعوبياً

        وبناءاً على ما تقدم نرى أنه لا يمكن بأي وجه من الوجوه أن يصح أيضاً ما قاله  الأستاذ / فيليب حتى[11]، من أن ابو الريحان البيروني كان ممن تزعموا معسكر الشعوبية ضد المعسكر العربي .. !!

        وفي الواقع أنه إذا راجعنا مفهوم الشعوبية، وتطوره التاريخي، وتعرفنا على الداعين إليها، و دورهم، سوف نتأكد تمام التأكد من أن البيروني عالمنا الموسوعي لم يكن من أهل الشعوبية، ولم يكن في يوم من الأيام من الداعين إليها، فالرجل عالم جليل، يفهم جيداً معنى المنهج العلمي وأصوله، ويرفض كل الرفض أي نوع من أنواع الهوى أو الميل أو التعصب أو التحيز، وبمعنى آخر فإن كل هذه الآفات محال أن تتواجد في العالم الحق .

  • لماذا تعصب للعربية ؟

        يعلق الأستاذ / لويس ماسينيون على تعصب البيروني للغة العربية، فيذهب إلى أن الرجل تعصب لهذه اللغة بوصفها ـ بين اللغات السامية ـ أهم لغة حضارية (أو لغة حضارة)، فقد أدرك مقدرتها على التركيز والتجريد، ومدى ثرائها عن طريق الاشتقاق بدلاً من الزوائد، وكذلك قيمتها ودورها في توحيد المتكلمين بها ..

        ونحن لا نشك ـ وهذا موقف البيروني من العربية والعروبة ـ في أنه لو عاش إلى أيامنا هذه لكان يدهش كل الدهشة من تنازع الأمم المختلفة إياه، وتنافسهم على أنه منهم، أي على ادعائه، فالترك يعدونه تركياً، والإيرانيون يحتفلون به بوصفه إيرانياً، والروس يرون أنه ينتمي إليهم بحكم مولده في خوارزم التي تقع في جمهورية تركستان التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق.. !!

  • عندما يعرف أهل العلم  فضله

        وقد عرف معاصرو ابو الريحان البيروني فضله جيداً، وقدروا سبقه في مختلف العلوم حق قدره، فذاعت شهرته في حياته، وصار يعرف بين علماء عصره باللقب الذي انفرد به، وهو “الأستاذ “كما كان معاصره، وقرينه في الشهرة العلمية “ابن سينا “يعرف بلقب “الرئيس “، وهما لقبان إذا أطلقا من غير إضافة كانا كافيين للدلالة على شخصي البيروني وابن سينا كدلالة الأسماء سواء بسواء .

        وكما كان أبو الريحان البيروني يعرف في المشرق بلقب الأستاذ كان يعرف لدى الغربيين في القرون الوسيطة باللقب نفسه مضافاً إلى اسمه مُحرفاً، فهو عندهم “الأستاذ البيرون “كما تجده في الكتب اللاتينية لذلك العهد .

        وعالم مثل أبي الريحان البيروني في سعة آفاق وعلمه، وتعدد مناحيه، يصعب على الباحث ـ مهما كانت إمكاناته البحثية ـ الإلمام بما أحرزه العلم على يده من تقدم وازدهار، وما حقق في مختلف الميادين من سبق علمي .

        وإذا كنا في هذه السطور سوف نقتصر على إلقاء الضوء على إسهام البيروني في علم مقارنة الأديان، فتلك إشارات قليلة تدل على ما وراءها من كنوز خبئيه من مؤلفات البيروني ـ ما نشر منها، وما لا يزال ينتظر من أهل الاختصاص الدراسة والتحقيق والنشر .

        والحق ما قاله المستشرق / ساخاو، ناشر كتب البيروني في القرن التاسع عشر، من أن تقدير أبي الريحان حق قدره، والاعتراف بكل فضله، يحتاج إلى عمل أجيال من الباحثين ينكبون على تراثه العلمي بحثاً ودراسة، وتحقيقاً .

        يقول البعض: إن البيروني كان شيعياً، وهذا أمر لا يعنينا في شئ، فمسألة شيعي أو سني لا يصح الخوض فيها، فكيف نترك علم الرجل، وفلسفته، وأبحاثه الرياضية والفلكية والجغرافية والتاريخية، وأبحاثه في الأدب واللغة ومقارنة الأديان، ونشغل أنفسنا بالبحث في مسألة هل كان البيروني شيعياً أم سنياً؟ ألا يكفي أن نعرف أن الرجل كان مسلماً، مدافعاً عن العروبة والإسلام ؟ .

  • كتب البيروني:

        وعالم له سبقه في أبواب العلوم العديدة التي طرقها، لا بد أن تكون قائمة كتبه حافلة بالعدد الجم من المؤلفات .

        وفي هذا الصدد يقول ياقوت الحموي في كتابه: “معجم الأدباء “بعد أن يمهد بتبرير إدراجه ترجمة هذا العالم في كتابه “معجم الأدباء “إنما ذكرته أنا ها هنا، لأن الرجل كان أديباً، أريباً لغوياً، له تصانيف في ذلك …

        وأما سائر كتبه في علوم النجوم، والهيئة، والمنطق، والحكمة، فإنها تفوق الحصر، رأيت فهرسا لها في وقف الجامع بمرو في حوالي ستين ورقة بخط مكتنز.

        وقد استأنف في عصرنا هذا حصر كتب أبي الريحان، ومؤلفاته الأب / جاك بوالو الدومنيكي، فتتبعها في مظانها، ما بين مطبوع ومخطوط، وما بين موجود ومفقود، فخرج بقائمة ببليوجرافية، تحوي (180) عنواناً، وذكر كل مؤلف منها مشيراً إلى موضوعه، وإلى مكانه إن كان مخطوطاً، وطباعته إن كان مطبوعاً .

        كما سرد المراجع التي تشير إلى كل كتاب منها أو تتناوله بالشرح أو الترجمة، أو التعليق .

        وختم هذه الببليوجرافية الحافلة بجداول صنف فيها كتب أبي الريحان البيروني بحسب فنون العلم المختلفة التي تناولها، وحصر المخطوطات وأماكن وجودها …إلى غير ذلك من الجداول المفيدة المهمة للدارس والباحث[12] .

  • عبقرية البيروني العلمية

        وفي ضوء سطورنا المتواضعة السالفة عن ابو الريحان البيروني، فلا عجب إذا رأينا اسم البيروني قمة شامخة لا تطاول في تاريخ العلم والمعرفة، ترنو إليها الأبصار، وتقر بفضلها الألسنة .

        وعليه فلا مبالغة الباتة في قول المستشرق / (إدوارد ساخاو) عن أبي الريحان: إنه من أضخم العقول التي ظهرت في العالم، وإنه أعظم علماء عصره، ومن أعظم العلماء في كل العصور .

        وقد ذكرنا لك من قبل حصر كتب البيروني ومؤلفاته التي قام بها الأب / جاك بوالو الدومنكي، والذي شغل منصب رئيس دير الرهبان الدومنكيين بالقاهرة، وعمل كمدير لمعهدهم للدراسات الشرقية، وهو كاتب مقالة (البيروني) في الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية، فقدم العديد من الجوانب الرائعة والمضيئة عن شيخنا الأستاذ / البيروني، وإنجازاته العلمية .

        ونذكر ما قاله  المستشرق (ماير هوف): إن اسم البيروني أبرز اسم في موكب العلماء الكبار، واسعي الأفق، الذين يمتاز بهم العصر الذهبي للإسلام .

        وكذلك قول الأستاذ / فيليب حتى: إن البيروني يعد أعمق المفكرين المسلمين، وأكثرهم أصالة في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية .

        كما لخص الأستاذ / جورج سارتون مكانة البيروني العلمية في عبارة وجيزة، إذ قال في كتابه المعروف “المدخل في تاريخ العلم “: إن النصف الأول من القرن الحادي عشر للميلاد، يمثله ـ من وجهة نظر العلم العالمي ـ البيروني، أكثر مما يمثله ابن سينا .

        ويقول المستشرق الأمريكي / (آرثر إيهام بوب): في أية قائمة تحوي أسماء أكابر علماء الدنيا، يجب أن يكون لأسم البيروني مكانه الرفيع، وغير ممكن أن يكتمل أي تاريخ للرياضيات أو الفلك أو الجغرافيا، أو علم الإنسان، أو مقارنة الأديان، دون الإقرار بمساهمته العظيمة في كل علم من تلك العلوم .

        ويواصل (آرثر) كلامه عن أبي الريحان البيروني، فيقول: لقد كان البيروني من أبرز العقول المفكرة في جميع العصور، وكان يتميز بالصفات التي تعد جوهرية، والتي تخلق العالم، فالبيروني بذلك مظهر من مظاهر الشمول وعدم التقيد بالزمن، شأن العقول العظيمة، وأنه لفي الإمكان تجميع عدد كبير من الاقتباسات عن مؤلفات البيروني، كتبها منذ ألف سنة، وهي تستبق الكثير من المناهج  الحديثة، ومن المواقف العقلية التي يفترض اليوم أنها حديثة ..

        ولعلنا لا حظنا معاً إشارة الباحث الأمريكي (آرثر إيهام بوب) إلى دور البيروني في علم مقارنة الأديان، وقليلاً ما نجد الكتاب أو الباحثين الذين كتبوا عن البيروني يشيرون إلى دوره وسبقه في دراسة علم الأديان المقارن، وهو ما دفعنا إلى كتابة هذه الصفحات .

        أعود بك ـ أيها القارئ المفضال ـ لأقول: إن هذا التقدير العالي، والعالمي الذي يتمتع به الأستاذ / البيروني لدى العلماء والبحاثة ومؤرخي العلوم في القديم والحديث، والذين تناولوا بعض إنجازاته لا كلها، تجلى في صورة مجسمة على يد جامعة موسكو الروسية، والتي يضم متحفها الجيولوجي تمثالاً نصفياً لـ البيروني مع تماثيل بقية العلماء الكبار الذين ساهموا في إبداع ذلك العلم .

        والزائر لتلك الجامعة، في مبناها الفخم الضخم المطل على مدينة موسكو عبر نهر (الموسكفا) تطالعه في المتحف الواقع في الطابق الثامن والعشرين صورة البيروني في تمثاله، وهذه علامة تقدير تضاف إلى كل ما سبق أن ناله أبو الريحان من إقرار العلماء له بالفضل في مشارق الأرض ومغاربها .

        كما كان تراث البيروني العلمي محل اهتمام خاص من المحافل العلمية في شتى بقاع الدنيا، ولعل المتقدمين في العمر من أمثالي قد يتذكرون أنه بمناسبة مرور ألف عام هجرية على مولد العلامة / البيروني، أصدرت أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفيتي  (سابقاً) مجلداً كبيراً عنوانه: (البيروني)، وهو يحوي مجموعة مهمة من الأبحاث والمقالات والدراسات لعدد كبير من الكتاب والبحاثة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ / لويس ماسينيون، والمستشرق الأمريكي / آرثر بوب .

        ونذكر أن إصدار هذا المجلد القيم كان تحت إشراف المستشرق الروسي / س. ب . تولوستوف، وقد نشر هذا المجلد في كل من (موسكو) و (لينينجراد)، عام 1950 م، في 139 صفحة .

        كما صدر في الهند مجلد قيم آخر في عام 1951 م، تحت عنوان: ”المجلد التذكاري لـ البيروني“ نشر في مدينة (كلكتا) الهندية، حاوياً (21) بحثاً بلغات مختلفة: الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والأردية … وساهم في كتابة هذه البحوث العديد من العلماء والمستشرقين، وتتناول هذه الأبحاث التي تميزت بالمنهجية العلمية، جهود البيروني وأثره الكبير في: علم الهيئة (الفلك)، والجغرافيا الوصفية، والدراسات الهندية، وعلم حساب المثلثات، والجغرافيا الرياضية، يضاف إلى ذلك بعض إشارات إلى جهوده في علم مقارنة الأديان، فضلاً عن ترجمة حياة البيروني، وبيان مكانته المحترمة في تاريخ العلم بوجه عام[13] .

 


   [1] إبن أبي أصيبعة ،  عيون الأنباء ،  2 / 30 .

[2] أحمد أمين ، ظهر الإسلام : 1 / 28.

[3] ياقوت ، معجم الأدباء ، 17 / 182 ـ 183 ، بتصرف من عندنا

[4] ماير هوف ، مجلة المجمع العلمي المصري ، ص 138 وما بعدها .

[5] ياقـوت الحموي :  معجم الأدباء ، 17 / 182، يتصرف من عندنا

[6] ياقوت الحموي ،  معجم  الأدباء ، 17 / 181  ، والسيوطي ، بغية الوعاة ، ص 20 ـ 21 .

[7]  الـبيروني ، الآثار الباقية ، ص 4 ـ 5 ، بتصرف

[8] البيروني ، المرجع السابق ، ص 5 ، بتصرف

[9] البيـروني ، المرجع السابق  ، ص 14 ، بتصرف

[10]  البيروني ، المرجع السابق ، ص 68

[11] فيليب حتى ، تاريخ العرب ، ص 402 ، الطبعة الإنجليزية

[12] وقد طبع هذا الدليل القيم باللغة الفرنسية ضمن مجموعة معهد الدراسات الشرقية للأباء الدومنكيين ، بالقاهرة سنة 1955 م ، وشغل من تلك المجموعة نيفاً وتسعين صفحة ، من صفحة 161 ، إلى صفحة 256 .

[13] أحب أن أشير إلى الدراسة الجادة التي كتبها الأستاذ / جمال مرسي بدر ،عن البيروني ، والتي نشرت في دائرة معارف الشعب ، العدد 82 ، سنة 1960 م ، وكذلك الدراسة التي كتبها الأب / جاك بوالو الدومنكي ، عن البيروني ، والتي نشرت في دائرة المعارف الإسلامية ، وقد استفدنا من هاتين الدراستين ، ومن غيرهما ، ونحن نلقي أضواءً كاشفة على شخصية البيروني ، وعطائه العلمي المتفرد ، فجزى الله خيراً كل من اجتهد وكتب كلمة خير عن علمائنا الأجلاء الذين خدموا العلم والمعرفة ، فلعلهم يقدمون بذلك مثلاً أعلى وقدوة صالحة تحتذي لشبابنا الذي افتقد القدوة في أيامنا هذه .