مجلة حكمة

هجمات باريس: عن المأساة وتسييسها – سام كريس / ترجمة: مهند نجار


أكتب هذه الكلمات في صباح هذا اليوم، بعد سلسلة من الضربات العنيفة في باريس والتي خلَّفت أكثر من 120 قتيلاً، الكتابة عما حدث ستبدو أمراً قاسياً. وفي هذا الوقت الذي يترنَّح فيه العالم، هناك شيءٌ وحشيٌّ جداً خلف الفكرة التي تقول أنه وقتٌ مناسب لتطالب الآخرين بسماع رأيك «الحصيف». إذا كانت من الوحشية أن تكتب قصيدة بعد إبادات معسكر أوشفيتز، فمن الوحشية أيضاً أن تكتب تأملات فكرية بعد باريس. لا تُسيِّس، لا تستخدم مآسي القتل الجماعي لتتفوَّق خطابياً على خصومك، لا تصرخ: سبق وأخبرتكم، لا تجعل من الجثث لعبة شد الحبل الخاصة بك، لا تجعل من هذه المأساة شيئاً يتعلّق بك، هذه مأساة وليست سياسة.

ووجه الغرابة في هذه المقولات أن الموت هو دائماً سياسي، ولا شيء أكثر وضوحاً في تسييسه من الهجوم الإرهابي. هذه الأحداث حصلت لأسباب سياسية، ولها عواقب سياسية. حسنٌ أن تمتلك رأياً في أوقات السلام، ولو كان هذا الرأي يُشكِّل إحباطاً لدى الكثير، لكن امتلاكك لرأي في وقت الأزمات ضروريٌ جداً. ومن ناحية أخرى، شعورٌ بالتقزّز يتنامى من تعليق البعض على إجراء فرنسا غير المسبوق في إغلاق الحدود، أنهم لو فعلوا ذلك مبكِّراً، «كان يمكن لنا أن نتجنَّب كل هذا». عندما كانوا يثرثرون عن «الخطر العالمي للإسلام والأجانب الذين يقطنون بيننا»، وعندما يعلنون بكل عجرفة أن قوانين تقييد السلاح «تترك السكَّان بلا حماية».

هذه العادة ليست مقتصرة على اليمين السياسي، هناك الكثير ممَّن يُوصفون باليسار أيضاً يستخدمون المذبحة باعتبارها جسر العبور المناسب لاستعراض مثُلهم الأخلاقية. ماذا لو كان المهاجمون بيضاً؛ ألم نكن لنتحدَّث الآن عن الصحة العقلية والجنون؟ ألا تعرفون أن غير المسلمين يرتكبون أعمالاً وحشيّة أيضاً؟ لماذا الآن تُبالون بهذه القضية، دون كل المآسي التي تحصل حولنا في العالم؟ ألا ترون أن كل هذه الجثث موجودة فقط لتثبت لكم أنني كنت على صواب من البداية؟

بالعادة، القليل من الناس يُطالب بألا يعبِّر عن رأيه، لكن خلال السنوات الماضية؛ أصبحنا جميعاً نُطالَب بذلك. أكثر هذه المُطالبات تحصل على الانترنت، فيبدو أنه من الشنيع أن تتحدَّث عن توقّعاتك بالنهايات المأساوية التي قد يتعرَّض لها المئات؛ في ذات المنصة الالكترونية التي نتحدَّث فيها عن آراؤنا في مباريات كرة القدم والبرامج التليفزيونية. أحد الأسباب لهذا مرتبط بالأسلوب المتبع في هذه الخدمات: خانات فارغة تنتظرِك وتشجِّعك على أن تملأها بالكلمات. أن تشارك بالمحادثة وتُعلِّق. لأنَّك تؤمن بأهمية ما تريد أن تقوله. وفجأة ومن حيث لا تدري، وأثناء مشاركتك وانضمامك للمحادثة، يُقال عنك أنك تقفز على جثث الموتى. وأننا نعبث بأفكارنا في وسط الدماء. فالتعبير عن أي شيء غير الحزن، سيُعَد وحشيّة وقسوة.

وبعد ذلك، لننظر فيما قيل. في ليل يوم الجمعة، وقف الرئيس الفرنسي هولاند بخارج قاعة مسرح باتاكلان، حيث العشرات من الموتى، ليقول: “سوف نُحارِب، المعركة ضد هؤلاء ستكون بلا رحمة”. ستكون هناك مزيدٌ من الحروب، مزيدٌ من الموت والمآسي. وتستضيف المحطات التلفيزيونية الخبراء الذين يصرُّون على أن هذا خطأ المهاجرين والأجانب، كما لو أن اللاجئين جلبوا معهم العنف الذي هربو منه أصلاً. مزيدٌ من القمع، مزيدٌ من الوحشية والمذابح.

الهجمات الإرهابية، وكما نعرف جميعاً، تهدف إلى ضرب الناس بعضهم ببعض، وتكثيف عنف الدولة، وهذا ما حصل تماماً. استجاب الناس على ذلك النحو، وأعلنت الدولة عن عزمها للعنف. وهذا كله تسييسٌ للمأساة. والحديث علناً ضدّه هو كذلك تسييسٌ للمأساة، فهل كلا الوجهين مرفوضَيْن؟

في اليوم الذي سبق هجمات باريس، قام انتحاريِّيْن بتفجير أنفسهما في برج البراجنة، الضاحية الشيعية -في الغالب- من بيروت، وقُتِلَ 43 شخصاً بريئاً. الوكالات الإخبارية مثل رويترز أذاعت الخبر على أنه هجوم على «معقل حزب الله». إنسانيّة الضحايا تلاشت، وبكل قسوة تم اختزال الضحايا في حزب سياسي ربما يدعمه بعضهم وربما لا. لكنّهم لم يكونوا بشراً، كانوا «حزب الله»، كما لو أن المكان الذي هُوجِمَ قلعةٌ مُسوَّرة وليس حياً سكنياً تقطن فيه عائلات. الكثير أبدى رفضه لهذا الاختزال، وهذا أيضاً كان تسييساً للمأساة، فهل هو غير مقبول؟

عندما نقولها بصراحة أكثر، فكرة عدم التسييس تعني أن لا نجعل من موت أحد مرتبط بأي شيء آخر: فالموت لا علاقة له بالقضية التي طالما تبنّيتَها وتهتمّ بها، الموت لا علاقة له بك. لكن، هذا القول بحد ذاته نوعٌ من أنواع السياسة. زِد على ذلك، الإصرار على إنسانية الضحايا هو أيضاً فعلٌ سياسيٌّ. وحيث أصبحت المأساة تتداول في سياق صراع الحضارات، أو كذريعة لإلقاء اللوم على من هم أصلاً ضحايا، يعني هذا أن المأساة سُيِّسَت لأقصى درجة.

هناك التسييس الذي يتغذّى على الموت لأهداف سياسية محدودة، وهناك أيضاً التسييس الذي يرفض أي إملاءات مقرّرة مسبقاً غير السعي إلى التحرُّر. هذا التسييس يركِّز على الطبيعة السياسية للمأساة، وليس بإلقاءها على طرفٍ هنا أو هناك، ولا بالنظر إلى صور الدماء بعدسة اليسار أو اليمين. لأن السياسة هي الحلّ الأمثل للخروج من كل هذا.

المآسي الفظيعة تتطلَّب تضامناً، تضامناً مطلقاً لجميع الضحايا. الإصرار على أن تملك رأياً لا يعني نظرة غير المبالي الذي يعتقد أنه كان على حق منذ البداية. بل التضامن غير المشروط والذي لا يميِّز في مواجهة الدمار. أن تحارب هؤلاء الذين يفجِّرون المقاهي والمسارح، كما تحارب أيضاً هؤلاء الذين يفجِّرون المدُن بالطائرات المقاتلة وبأجسادهم، وهؤلاء الذين تركوا المهاجرين إلى البرد يأويهم على الحدود، وهؤلاء الذين هرب المهاجرين منهم. أن تناضل: أن تناضل النضال المشترك لكل هؤلاء الذين يعانون، ضد المعاناة.