مجلة حكمة

هاروكي … راكضًا! – هاروكي موراكامي / ترجمة : بثينة الإبراهيم


في كل مقابلةٍ أُسأل عن أهم صفةٍ يجب أن تتوفّر في الروائي، والجواب واضحٌ جدًا: لا بد أن يتمتّع بالموهبة، إذ ليس مهمًّا مقدار الحماس الذي تملكه أو الجهد الذي تبذله في الكتابة، فإن كنتَ تفتقر إلى الموهبة كليًا عليك أن تتخلّى عن رغبتك في أن تصبح روائيًا. وهذا شرطٌ أكثر من كونه ضرورة، لأنك لا تستطيع تحريك أفضل نوعٍ من السيارات ما لم تملؤها بالوقود!

لا يمكن للمرء، مع ذلك، أن يتحكّم بمقدار الموهبة أو جودتها، إذ قد يجدها غير كافيةٍ ويرغب في زيادتها، أو قد يحاول أن يكون مقتصدًا فيها لجعلها تستمر لزمنٍ أطول، لكن الأمر في كلتا الحالتين ليس بهذه السهولة. إن الموهبة مستقلّةٌ بذاتها فتسيل وقتما تشاء وتجفّ وقتما تشاء، هكذا تجري الأمور. هناك بلا شك عددٌ من الشعراء ومغنّي الروك الذين انطفأ نبوغهم في أوج عظمتهم– أشخاصٌ مثل شوبرت و موزارت اللذين جعل موتهما المأساوي المبكر منهما أسطورتين-يتمتعون بجاذبية ما، لكن هذا ليس النموذج الذي ينطبق على الأغلبية الساحقة منا.

وإن سألوني عن ثاني أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الروائي، فالجواب سهلٌ أيضًا: التركيز؛ قدرتك على تكثيف كل مواهبك المحدودة فيما بين يديك مهما يكن، ودون هذا لن تتمكن من إنجاز أي شيء ذي قيمة، في حين أنك لو استطعت التركيز بشكلٍ كامل، عندها ستتمكن من تعويض تذبذب الموهبة أو حتى قصورها. أركز عادةً في عملي لثلاث أو أربع ساعات كل صباح، فأجلس إلى مكتبي وأستغرق كليًا فيما أكتب، فلا أرى أو أفكر بأي شيءٍ آخر، فلا يمكن للروائي الذي يتمتع بقدر هائل من الموهبة وبذهن عامر بالأفكار العظيمة الجديدة، لا يمكنه أن يكتب كلمة إن كان يعاني ألمًا في أسنانه المسوّسة، لأن الألم يعيق التركيز. وهذا ما عنيته بقولي إنه لا يمكن تحقيق شيءٍ دون تركيز.

والأمر المهم الذي يلي التركيز هو ببساطة: الصبر. إن ركزت على الكتابة لثلاث أو أربع ساعات في اليوم ثم شعرت بالتعب بعد أسبوع من ذلك، فلن تكون قادرًا على كتابةٍ عملٍ روائي طويل. الذي يحتاجه الكاتب – على الأقل من يطمح بأن يكون روائيًا- هو الجلد على التركيز كل يوم لستة أشهر أو لعام أو لعامين. يمكنك مقارنة ذلك بعملية التنفس، فإن كان التركيز يشبه الشهيق، فإنّ الصبر هو فنّ الزفير ببطء، أن تتنفس و تحتفظ بالهواء في رئتيك في الوقت نفسه. ومالم تتمكن من الموازنة بين الاثنين- الاستمرار في التنفس والاحتفاظ بالهواء- سيكون من الصعب أن تكتب الرواية باحترافية على المدى الطويل.

تختلف هاتان الصفتان – التركيز والصبر- عن الموهبة لحسن الحظ، إذ يمكن اكتسابهما و شحذهما عبر التمرين. يمكنك أن تتعلّمهما عندما تجلس كل يوم إلى مكتبك وتدرّب نفسك على التركيز على نقطة محددة، وهذا يشبه كثيرًا تمرين العضلات، إذ عليك باستمرار أن تنقل موضوع تفكيرك إلى جسدك كاملًا وتتأكد أنه استوعب جيدًا المعلومات الضرورية لك لتكتب كل يوم وتركز على العمل الذي بين يديك. وستتوسع تدريجيًا حدود مقدرتك، وسترتفع معاييرك بشكلٍ غير ملحوظ. هذا ينطبق على الجري بشكل يومي لتقوية عضلاتك و خلق بنية العدّاء لديك.

اعترف كاتب الروايات البوليسية العظيم رايموند تشاندلر** مرةً في إحدى رسائله الخاصة أنه يحرص على الجلوس إلى مكتبه والتركيز كل يوم حتى وإن لم يكتب شيئًا. أفهم تمامًا الغرض من ذلك، فهذه هي الطريقة التي يمنح بها تشاندلر نفسه القوة الجسدية التي يحتاج إليها الكاتب المحترف، إنه يقوّي عزيمته، وقد كان هذا نوعًا من التدريب اليومي الذي لا يستغني عنه.

إن كتابة الرواية بالنسبة لي هي نوعٌ من العمل اليدوي جوهريًا. الكتابة بحد ذاتها عملٌ ذهني لكن إنهاء كتاب كامل هو عمل يدوي، صحيحٌ أنه لا يتضمن رفع أوزان ثقيلة أوجريًا سريعًا أو وثبًا عاليًا، لكن رغم ذلك لا يرى الناس واقع الكتابة إلا ظاهريًا، ويظنون أن عمل الكاتب عمل ذهني هادئ ينجزه في مكتبه. فإن كان لديك القدرة على رفع كوب القهوة إذن يمكنك أن تكتب رواية كما يرون! ولكنك حينما تحاول الكتابة ستجد أنها ليست عملًا هادئًا كما يبدو. إن العملية بأكملها – الجلوس إلى مكتبك وحصر تفكيرك في أمر ما مثل شعاع الليزر وتصور شيءٍ من الأفق الفارغ وابتكار قصة واختيار الكلمات المناسبة واحدة تلو الأخرى والحفاظ على الاستمرار في المسار نفسه – تتطلب طاقة قصوى لوقت طويل أكثر مما يستطيع معظمنا أن يتخيل. قد لا يكون جسدك يتحرك لكن هناك جهدًا مضنيًا ديناميكيًا يبذل في داخله.

هناك أشخاص في العالم ( بعدد أصابع اليد فقط) يتمتعون بموهبة هائلة لا تبهت أبدًا، وتكون أعمالهم ذات جودة عالية. هؤلاء القلة المحظوظون يمتلكون ينبوع مياه لا يجف أبدًا بغض النظر عن مقدار ما يستخدمونه منه، وهو أمرٌ رائع في الأدب، فمن الصعب أن نتخيل تاريخ الأدب دون كتاب مثل شكسبير أ و بلزاك أو ديكنز، غير أن العمالقة في نهاية الأمر عمالقة، شخصيات أسطورية استثنائية، أما البقية الباقية من الكتّاب الذين ليس باستطاعتهم بلوغ قمم كهذه ( بمن فيهم أنا طبعًا) عليهم أن يكملوا ما ينقصهم من موهبتهم المخزونة بأي وسيلة استطاعوا، وإلا فإنه من المستحيل أن يواصلوا كتابة روايات قيمة، وهذه المناهج والاتجاهات التي يتبعها الكتاب لفعل ذلك تصبح جزءًا من شخصياتهم وهو ما يميزهم عن غيرهم.

إن أكثر ما أعرفه عن الكتابة قد تعلمته من خلال ممارسة الجري كل يوم، فهي دروس جسدية عملية أعرف بها مدى دفعي لنفسي، مقدار الراحة المعقولة أو المفرطة، والمدى الذي يمكنني به بدء أمر ما والحفاظ عليه لائقًا و متجانسًا، متى يصبح الأمر ضيق الأفق وجامدًا، إلى أي حد علي أن أكون واعيًا للعالم الخارجي وإلى أي مدى عليّ التركيز على عالمي الداخلي؟ إلى أي حد علي أن أكون واثقًا بقدراتي، ومتى يجب أن يراودني الشك حيالها؟ أعرف أنني لو لم أصبح عداءً للمسافات الطويلة بعد أن بدأت الكتابة لم يكن عملي ليصبح مختلفًا على نحو واسع. مختلفًا بأي شكل؟ يصعب علي القول، لكن الأمر كان سيختلف حتمًا.

بكل الأحوال، أنا سعيدٌ أنني لم أتوقف عن ممارسة الجري كل هذه السنوات، والسبب في ذلك يعود لكوني أحب الروايات التي كتبتها، وأنا متلهف لمعرفة الرواية القادمة التي سأكتبها. وباعتباري كاتبًا بقدرات محدودة – شخص غير كامل يحيا حياة ناقصة محدودة- فإن شعوري هذا يعد إنجازًا حقيقيًا، ولو وصفته بالمعجزة فسأكون مبالغًا لكنني أشعر أنها كذلك فعلا. وإن كان الجري كل يوم يساعدني في تحقيق هذا فعلي أن أكون ممتنا له.

يسخر الناس أحيانًا ممن يمارسون الجري كل يوم زاعمين أنهم يفعلون كل ما يستطيعون ليعيشوا عمرًا أطول، لكني لا أعتقد أن هذا هو السبب الذي يدفع أولئك لممارسة الجري، بل لأنهم يريدون أن يعيشوا الحياة إلى أقصى مدى. إن كنت تنوي أن تعيش سنواتك بسعادة، فمن الأفضل أن تحياها بأهداف واضحة وأن تكون حيًا بمعنى الكلمة على أن تحياها بشكل ضبابي، وأنا أؤمن أن ممارسة الجري تساعدك على ذلك. أن ترهق نفسك إلى أبعد حد ضمن نطاق قدراتك الفردية هو جوهر الجري ومجاز الحياة، وبالنسبة لي فإن ذلك ينطبق على الكتابة أيضًا.

 

 

 

* مقتبس من كتاب «What I talk when I talk about running»، سيرة يخصصها الكاتب للحديث عن تجربته في الجري والكتابة، نشرت باللغة الإنجليزية عام 2009 عن دار فينتاج/ نيويورك.

– هاروكي موراكامي **

** رايموند تشاندلر:(23 يوليو 1888 – 1959)، أديب أمريكي، من أعماله: السبات العميق/ الأخت الصغرى/ الوداع الطويل.

ترجمة: بثينة الإبراهيم – القاهرة