مجلة حكمة
الدين والفكر عند العرب و الثقافة

قضايا في الدين والفكر – محمد عابد الجابري


حوار في قضايا الدين والفكر مع مجلة مقدمات المغربية. أجرى الحوار: محمد الصغير جنجار


مقدمات: بنيتم مشروعكم الفكري من خلال نقد الخطابات العربية التي انتظمت حول الحدث القرآني في مرحلة التدوين. وفي الوقت الذي صارت فيه قراءة النص التأسيسي أو تأويله تشكل إحدى أهم بؤر الصراع من دائرة عملكم النقدي. هل مرد ذلك إلى تقييم خاص للتجارب القاسية التي عاشها عدد من المفكرين المسلمين في هذا الباب، أم لأنكم تعتبرون أن الوقت لم يحن بعد ليتناول المسلمون النص القرآني تناولا نقديا تاريخيا كما حدث في الحقلين المسيحي واليهودي؟ وهل لديكم تحليل خاص للسبيل التي يمكن أن ينهجها المسلم المعاصر ليتعامل مع النص القرآني على ضوء العلوم والمناهج والمعارف الحديثة التي لم ينفك يكتسبها منذ قرابة قرن؟

م.ع.ج: إن المسألة الأساسية التي يطرحها هذا السؤال هي ما عبرتم عنه بتناول المسلمين “النص القرآني تناولا نقديا تاريخيا كما حدث في الحقلين المسيحي واليهودي”. والخطوة الأولى في الجواب عن هذا السؤال تتطلب استحضار نوع “النقد التاريخي”ّ الذي مورس في أوربا على الكتب المقدسة، التوراة والأناجيل، والنتائج التي أسفر عنها هذا النقد. وتأتي بعد ذلك الخطوة الثانية وهي التساؤل عما إذا كنا نحن في حاجة إلى مثل ذلك النقد، كما كان الحال في أوربا، وما هي النتائج التي يمكن الحصول عليها في حال القيام به؟

معروف أن النقد التاريخي للنصوص الدينية اليهودية بدأ مع سبينوزا في رسالته الشهيرة “رسالة في اللاهوت والسياسة” (وكان بعض علماء المسلمين قد مارسوا على التوراة والأناجيل نقدا مشابها قبل سبينوزا بقرون). وقد استمر هذا النوع من النقد الذي دشنه في الثقافة الأوربية هذا الفيلسوف اليهودي الهولندي منذ القرن السابع عشر إلى القرن العشرين. وليس هاهنا مكان استعراض تاريخ هذا النقد ولا أنواعه ومراحله ولا ردود الفعل التي قامت ضده، حسبنا أن نشير هنا إلى أن النقد الحديث للنصوص المقدسة في أوربا قد انكب على مناقشة صحة نسبة تلك النصوص إلى من تنسب إليهم عادة، النبي موسى وأصحاب الأناجيل، من جهة، وعلى بيان العلاقة بين تلك النصوص وبين التجارب الحية للجماعات الدينية الأولى التي ظهرت تلك النصوص بين ظهرانـها من جهة ثانية، ثم ما يتبع ذلك من قضايا تخص مسألة التفسير، تفسير النص المقدس.

لقد أسفر هذا النقد بأنواعه ومستوياته عن نتائج هامة إذ تبين أن النصوص الدينية اليهودية والمسيحية لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لأناس عاشوا في ظروف مختلفة وأحقاب متباعدة وأن تدوين هذه النصوص يمتد على مدى قرون… وبالتالي فهي تعكس أو تعبر عن تجارب في الحياة مختلفة. ومن هنا ضرورة اختلاف التفسير وتنوعه وعدم التقيد بوجهة نظر واحدة أو الرضوخ لأية سلطة أخرى غير سلطة العقل والمنهجية العلمية.

والسؤال الآن هو: هل النصوص الدينية الإسلامية، أعني القرآن والحديث، هي في حاجة إلى مثل هذا النقد التاريخي؟

إن الرأي الذي أراه بخصوص هذه المسألة يتلخص فيما يلي:
فيما يخص القرآن لا نستطيع الشك في صحة النص الذي بين أيدينا اليوم. إنه نفس النص (المصحف) الذي جمع ورتب وأقر كنص رسمي زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وكما هو معروف فلقد كان للنبي كتاب يكتبون الوحي، أي القرآن، وكان هناك حرص شديد على أن لا يكتب غيره من كلام النبي حتى لا يقع اختلاط. وكان لكل من كتاب الوحي “مصحف” يتكون من مجموع ما كتبه من الآيات، وكان نزول القرآن قد استمر مدة 23 سنة إذ كان ينزل منجما مقسطا حسب ما تقتضيه الظروف والأحوال. ويتحدث المؤرخون عن عمليات تمهيدية لجمع القرآن تمت زمن أبي بكر وعمر.

ومهما يكن فإن الثابت تاريخيا هو أنه في زمن عثمان شكلت “لجنة” من كتاب الوحي لجمع ما عندهم من القرآن ومقارنة مصاحفهم بعضها مع بعض والخروج بنسخة واحدة رسمية هي المصحف المتداول منذ ذلك الوقت إلى اليوم. أما النسخ الأخرى، أعني ما كان قد جمعه كتاب الوحي أو غيرهم، كلا على حدة، فقد صدر الأمر بإحراقها لتجنب الخلط.

هذه الوقائع تجمع عليها كتب التاريخ من مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية. ولا شئ يشجع أو يبرر الشك فيها ولا حتى اصطناع الشك المنهجي بصددها. نعم تتحدث بعض الروايات عن “مصحف ابن مسعود” أو غيره وعن بعض الاختلافات بينه وبين المصحف العثماني، كما تشير روايات أخرى إلى أن سورة من سور القرآن كانت أطول مما هي عليه اليوم. ولكن جميع هذه الاختلافات -على الأقل كما تذكرها الروايات التي بين أيدينا- لا تمس من قريب ولا من بعيد صحة النص القرآني ككل، مثلما أن اختلاف “القراءات”، وهو شئ معترف به لا ينال هو الآخر من صحة النص القرآني، كما تداوله المسلمون عبر العصور(1).

ولا يستقيم القول مثلا بأنه من الممكن افتراض أن تكون هناك اختلافات جوهرية بين النص كما جمع ورسم زمن عثمان وبين القرآن كما تلقاه الناس زمن النبي. ذلك لأن المسلمين والصحابة أنفسهم قد اختلفوا وتنازعوا وقامت بينهم حروب الخ… ومع ذلك لم يتهم أي منهم طرفا ما بالمس بالقرآن كنص. وكان هناك من بين كبار الصحابة خصوم لمعاوية (الذي كان من كتاب الوحي)، قاتلوه يوم صفين وهم يخاطبونه وقومه الأمويين قائلين: “قاتلناكم على تنزيله واليوم نقاتلكم على تأويله”. بمعنى أن هؤلاء الصحابة قاتلوا قريشا بزعامة بني أمية وعلى رأسهم أبو سفيان -قبل أن يدخلوا الإسلام ويؤمنوا بالقرآن وحيا منزلا- و “اليوم”، يوم صفين، يقاتلونهم على “تأويله”: تأويل القرآن. وإذن فالخلاف والنزاع زمن عثمان ومعاوية كان حول “التأويل” ولم يكن يمس في شئ “التنزيل” (=النص). أما ما يروى عن بعض الشيعة من أنهم شككوا في آية أو آيتين، سواء على مستوى الصيغة أو على مستوى البتر، فإن أيمة الشيعة في الماضي والحاضر يتبرأون من ذلك ويجمعون على أن القرآن كما هو متداول اليوم هو نفسه القرآن كما كان زمن النبي(2).

وإذن فليس هناك مجال لممارسة “النقد التاريخي” حول صحة النص القرآني، ولا أعتقد أنه قد يكشف عن شئ آخر غير ما هو معروف أي ما ذكرناه أعلاه ملخصا.

هذا بالنسبة لصحة نص القرآن. أما بالنسبة للحديث فالأمر يختلف. والمسلمون يميزون فيه بين المتواتر وبين حديث الآحاد. أما المتواتر، وهوالذي روته جماعة لا يصح اتفاقها على الكذب لكثرة أفرادها وتفرقهم، فقليل جدا وليس فيه ما يحمل على الشك فيه إذ يتسق اتساقا تاما مع ما يقرره القرآن من عبادات وأخلاق. وأما حديث الآحاد ، أي الذي رواه شخص عن آخر إلى النبي فقد كان موضع نقد واسع. إن نقد الرواية في هذا النوع من الحديث قد مورس منذ عصر التدوين، وهناك من علماء المسلمين وأئمتهم من يتشدد في صحة ما يروى عن النبي من حديث الآحاد فلم يقبل إلا بضعة أحاديث تتعلق بالعبادات. وهناك بالعكس من هؤلاء من يتساهل ويقبل الصحيح والضعيف. والوضع في الحديث معروف مدروس. وكتب الحديث الصحيحة، كصحيح البخاري وصحيح مسلم إنما هي صحيحة بالنسبة للشروط التي وضعها أصحابها لقبول الحديث. الحديث الصحيح ليس صحيحا في نفسه -بالضرورة- وإنما هو صحيح بمعنى أنه يستوفي الشروط التي اشترطها جامع الحديث كالبخاري ومسلم. ونقد الحديث يتناول نقد السند، كما قد يتناول مضمونه. أما نقد السند أو الرواية فلهم في ذلك قواعد وأساليب تقوم على “التعديل والتجريح”. أما نقد المضمون -ولو أن الاهتمام به أقل- فيقوم على اعتبار السنة النبوية (قولا وعملا وإقرارا) مبينة للدين شارحة للقرآن وبالتالي يجب ألا يتناقض الحديث مع القرآن. وإذن “فالنقد التاريخي” بالنسبة للحديث قد مورس على نطاق واسع منذ عصر التدوين وهو يشكل جزءا من التراث وهو قابل للنقد كغيره من أجزاء التراث الأخرى.

أما ما يتعلق بفهم القرآن، أعني تفسيره وتأويله، فالباب مفتوح على مصراعيه أمام كل من يأنس من نفسه القدرة على ذلك من حيث الكفاءة اللغوية والاطلاع على تاريخ نزول القرآن، أعني الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول الخ… مما هو مفصل فيما يعرف بـ”علوم القرآن”. والقرآن مفتوح بأسلوبه البياني لأنواع من التفسير والتأويل. وهناك فعلا أنواع كثيرة من هذا وذاك.

أما علاقته بالجماعة الإسلامية الأولى وحياتها اليومية فموضوع للدراسة والبحث منذ زمن الوحي: فالتمييز في القرآن بين المكي منه والمدني، بين الناسخ والمنسوخ، وربطه بأسباب النزول وبسيرة الرسول وبأساليب العرب في التعبير الخ… كل ذلك كان وما يزال مجالا للاجتهاد ولا شئ يمنع من تطبيق الأساليب الحديثة في هذا المجال. وفي نظري أنه يصعب الخروج بثيء جديد يكون في مستوى أهمية النتائج التي أسفر عنها النقد الذي مورس على التوراة والأناجيل قديما وحديثا. ولذلك أرى أن نقد التراث، أعني أنواع الفهم التي كونها المسلمون لأنفسهم عن دينهم وتاريخهم وثقافتهم هو ما يجب أن نشتغل به. أما بناء فهم جديد للنصوص الدينية فهذا ليس من مهمتي فلست مصلحا دينيا ولا صاحب دعوة ولا لدي رغبة في إنشاء “علم كلام” جديد. إن اتجاهي ومجال تحركي هو “نقد العقل” نقدا إيبيستيمولوجيا. وبطبيعة الحال فهذا لا يقوم مقام أنواع النقد الأخرى ولا يلغيها، وإنما لكل مجاله واتجاه اهتمامه.

مقدمات: في سياق تحليلكم لبنية العقل العربي حصرتم نكوناتها في ثلاثة هي: المعقول الدين (العقل البياني ذو الأصل العربي) والمعقول العقلي (العقل البرهاني وجذوره يونانية) ثم اللامعقول العقلي أو العقل المستقيل (العقل العرفاني المرتبط بفارس، والهند) أي ذلك الذي تردون أصوله إلى الديانات والمنظومات الفكرية الشرقية القديمة (الغنوص اليوناني، الإشراق الفارسي والتصوف الإيراني والتصوف الهندي). وكذلك الشأن في الجزء الأخير من مؤلفكم –ذلك الذي أنتم بصدد إعداده- والمتعلق بالعقل الأخلاقي العربي، حيث تؤكدون، كما ورد في إحدى آخر محاضراتكم، بأن القيم الإيجابية مثل المروءة وأخلاق العمل الصالح تضرب بجذورها في أرضية أخلاقية عربية إسلامية. أما القيم السلبية من نوع الاستبداد والاتكالية والانعزالية فترجعونها إلى أصول ومرجعيات غير عربية. ألا ترون أن الإلحاح على معالجة مسألة الحدود بين المعقول واللامعقول، أو الكشف عن بنية القيم في المنظومة الثقافية العربية باستخدام مفهوم الهوية القومية، سيعزز رأي بعض نقادكم الذين يأخذون عليكم توجها مركزيا اصطفائيا حيث يبدو التحليل الإبيستيمولوجي الذي تضطلعون به وكأنه موضوع في خدمة الهم السياي القومي؟ وهل ترون أنه بالإمكان القيام على المستوى النظري المحض بتأسيس وتسويغ أطروحة تفرد وتمايز العقل من مجال ثقافي وحضاري إلى آخر؟

م.ع.ج: بالنسبة للنقطة الأولى في هذا السؤال أؤكد أن عملي كناقد لنظم المعرفة ونظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية لا يصدر عن هاجس قومي. كلا، إن تصنيف نظم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية إلى بيان وعرفان وبرهان تصنيف أملاه علي التشريح البنيوي -إذا صح التعبير- للعلوم العربية الإسلامية: لقد كانت هذه العلوم تصنف من قبل إلى علوم عقلية (فلسفة، كلام، أصول الفقه، العلوم الطبيعية الخ) وإلى علوم نقلية (الحديث، الفقه، اللغة، النحو الخ). وهذا التصنيف هو، من الناحية الإيبيستيمولوجية، تصنيف خارجي شبيه بتصنيف الحيوانات إلى برية ومائية الخ، ولا يساعد قط على الكشف على الأرضية الإيبيستيمولوجية للعقل العربي. لذلك فضلت القيام بتصنيف آخر من نوع تصنيف الحيوانات إلى فقريات ولا فقريات. وهكذا فضلت التمييز في العلوم العربية الإسلامية بين علوم البيان وعلوم العرفان وعلوم البرهان، باعتبار أن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة يشكل نظاما معرفيا متميزا بمنهجه وجهازه المفاهيمي ونوع الرؤية التي يحملها عن الإنسان والعالم.

وعندما بدأت أبحث في موضوع القيم تبين لي أن هذا التصنيف لا يستوعب جميع الاختلافات والنزعات التي يزخر بها التراث العربي الإسلامي في مجال القيم. وقد رأيت أنه قد يكون من الأفضل تصنيف القيم في هذا التراث حسب الموروث الثقافي الذي ينحدر منه. وبما أن عصر التدوين كان العصر الذي تلاقت فيه ثقافات مختلفة، تدون وتتنافس الخ، وبما أن لكل ثقافة نظام قيم خاص بها،فقد رأيت أنه من المناسب التمييز في الثقافة العربية -كخطوة منهجية- بين نظام القيم في الموروث العربي قبل الإسلام ونظام القيم في التراث الإسلامي ونظام القيم في الموروث الفارسي ونظام القيم في الموروث اليوناني ثم نظام القيم في الموروث الصوفي الغنوصي.

وواضح أن في كل نظام من هذه النظم قيم إيجابية. غير أن ما تم تكريسه في الثقافة العربية منذ عصر التدوين من قيم تنتمي إلى الموروث الفارسي هي قيم “الطاعة”. وهذا لا يعني أن هذا الموروث لا يحتوي على قيم أخرى إيجابية، كلا. كل ما في الأمر هو أن ما تكرس في مجال الأخلاق والسياسة (مجال الآداب السلطانية خاصة) في الثقافة العربية هو قيم “الطاعة” كما عرفها الموروث الفارسي، أو كما نسبت إليه -لا فرق. وأنا في هذا كله لا أصدر عن نزعة قومية أو غير قومية. إنني أستخلص الرأي والموقف من النصوص وحدها. وهل يجوز أن أفعل غير ذلك.

أما عن الشق الثاني من السؤال وهو الذي يتعلق بمدى “إمكانية القيام على المستوى النظري المحض بتأسيس وتسويغ أطروحة تفرد وتمايز العقل من مجال ثقافي وحضاري إلى آخر”، فقد سبق لي أن ناقشت هذه المسالة في “تكوين العقل العربي” من خلال توظيفي للتمييز الذي أقامه لالاند بين العقل المكون (بالفتح) والعقل المكون (بالكسر). لقد ميزت في هذا الصدد بين العقل اليوناني والعقل الأوربي والعقل العربي. واقتصرت على هذه الثلاثة لسبب واحد هو أننا لا نملك -على الأقل في حدود إطلاعي- أي خطاب عن العقل خارج هذه الثقافات الثلاث: اليونانية، والعربية الإسلامية، والأوربية الحديثة. وبما أن البحث الإيبيستيمولوجي يختص بالخطاب العالم (خطاب العقل والمعرفة) فإن الاقتصار على هذه الثقافات الثلاثة مبرر من هذه الزاوية، فنحن لا نتوفر على نصوص علمية كافية عن الثقافات الأخرى السابقة. غير أن هذا لا يعني أن هذه الثقافات الأخرى، بما في ذلك الثقافة الشفوية والمتخيل لا تستحق الدراسة. كلا، إن المسألة هي مسالة تخصص لا غير. ولست باحثا أنتروبولوجيا ولا ناقدا أدبيا.

هذا من جهة ومن جهة أخرى أعتقد أن “أطروحة تفرد وتمايز العقل من مجال ثقافي وحضاري إلى آخر” أطروحة مقبولة وسائدة في الفكر المعاصر. سأقتصر هنا على الإشارة إلى التمييز الذي أقامه جان بيير فيرنان بين العقل اليوناني والعقل الأوربي الحديث، على أساس أن الأول تشكل من خلال علاقات الناس بعضهم ببعض (المدينة ومناقشة الشؤون العامة) بينما تشكل الثاني من خلال التعامل مع الطبيعة (العلوم التجريبية، العقل التجريبي أو العقلانية التجريبية). وفي نظري أن العقل العربي تشكل أساسا من خلال التعامل مع النصوص، مع اللغة (النحو والفقه والتفسير والبلاغة…). إذن فهاهنا نوع من التفرد والتمايز على صعيد “تكوين العقل” من مجال حضاري إلى آخر. وواضح أننا نتحدث هنا عن “أطروحة”، ولا شك يمنع من قيام أطروحة أو أطروحات مخالفة.

مقدمات: لعلكم من بين المفكرين المغاربة الأوسع شهرة في المشرق العربي. أقصد أن أفكاركم تحظى بتداول واسع في أوساط النخب الثقافية بالمشرق التي تشعبت بخطابات عروبية أدمجت الإيديولوجيا القومية في نسيج تكوينها الفكري. وقد خصصت لأعمالكم دراسات كثيرة، بعضها علمي موضوعي، وبعضها يكتسي طابعا هجوميا، وهو أمر يكاد يكون طبيعيا، نظرا للمكانة الكبيرة التي تحتلونها في الحق الثقافي العربي. أما في المغرب العربي حيث نجد نخبة مثقفة واسعة ذات تكوين غربي أو مزدوج، فإن الموقف من أعمالكم يبدو أكثر تعقيدا، وتشكل أفكاركم مصدر حيرة بالنسبة للكثيرين. فانتم في اعتبار بعضهم مفكر سلفي جديد، على الرغم من أن مشروعكم النظري يتوخى إعادة بناء العلاقة مع التراث ومع الماضي وفق منظور نقدي وعقلاني منفتح على المكتسبات المنهجية التي حققها العقل الحديث. وما استخدامكم المنهجي للإبيستيمولوجيا إلا دليلا على ذلك. لكن استحضاركم المتواصل لمفهوم الهوية القومية والثقافية، وكونكم لا تترددون في التأكيد على دور الباراديجم الذي لا يزال يلعبه في نظركم “النموذج الأمثل” الذي تكونت عناصره في مجتمع المدينة إبان الدعوة المحمدية، بالإضافة إلى أن مواقفكم من بعض القضايا مثل العلمانية –التي سنعود إليها في سؤال آخر- وكلامكم عن فائدة “التعبئة الدينية” في مجال العمل القومي، كلها تقوي عناصر الغموض والتعقيد الذي يطبع علاقة أعمالكم بقطاع من المثقفين المغاربيين. ما هو تفسيركم لهذا الأمر، أي كيف تنظرون إلى هذه المفارقة: شهرتكم الكبيرة في المشرق العربي، والغموض إن لم نقل سوء الفهم الذي يكشف علاقتكم بالكثير من المثقفين المغاربيين؟

م.ع.ج: يمكن النظر إلى هذا السؤال من زاويتين. فإذا اعتبرتم أعمالي من منظور يوظف مفهوم “القومية”و”الهوية” فإن موقفكم سيكون إيجابيا ومساندا إذا كنتم مسكونين بهاجس القومية والهوية كما هو حال المثقفين العرب “المعربين” عموما. أما إذا كان هاجس القومية والهوية -أقصد العربية أو العربية الإسلامية- لا يحتل حيزا كبيرا في وعيكم فإن موقفكم سيكون مختلفا. وإذن فالمسالة ليست مسألة الكاتب بقدر ما هي أيضا مسألة القارئ.

فعلا، قد تكون هناك “نخبة مثقفة واسعة ذات تكوين غربي أو مزدوج” يمكن أن يكون موقفها من أعمالي أكثر تعقيدا. غير أن هذا لا يصدق على عدد كبير من المنتمين لهذه النخبة الذين أعرف شخصيا تجاوبهم العميق مع ما أكتب دون أن يعني هذا بالضرورة اتفاقهم معي في جميع أطروحاتي. أما الذين لا يقوم بينهم وبين أعمالي هذا النوع من التجاوب فليس ذلك راجعا -في نظري- إلى تعقيد أو ازدواج في موقفي بل يمكن أن يفسر بالتعقيد والازدواج الذي ينشأ بسبب اللغة. فاللغة في هذا الميدان لها دورها، وأعني باللغة ليس فقط لغة الكلام والكتابة بل أيضا حمولة هذه اللغة، حمولتها الثقافية الحضارية. إني أعتقد أن النقص النسبي بالمعرفة بالتراث العربي الإسلامي من خلال نصوصه العربية، وهو نقص يعاني منه بعض الذين لديهم تكوين غربي هو المسئول -ربما- عن الشعور بالتعقيد المشار إليه، تماما كما هو الحال بالنسبة لموقف المثقفين المعربين من كتابات المثقفين المغاربيين الذين يكتبون بالفرنسية. هنا أيضا نلاحظ نفس التعقيد والازدواجية. والمسألة في نهاية الأمر ترجع إلى غياب أو ضعف الحوار والاحتكاك بين الفريقين. إن الحل سيكون في تعرف كل طرف على مرجعية الطرف الآخر. وربما كانت الخطوة الضرورية الأولى لتحقيق هذا التعرف التكاملي هو الترجمة من جهة واللقاءات المباشرة من جهة أخرى.

مقدمات: المعروف عنكم في الساحة الثقافية العربية أنكم صاحب مشروع فكري متكامل، ما يبرز ذلك جليا في مؤلفكم المخصص لنقد العقل العربي. ثم إن عملكم لا يقتصر على فهم الأفكار والتصورات، بل يتعدى ذلك إلى دراسة أدوات التفكير وآليات الإنتاج المعرفي. مقاربتكم لأغلب القضايا هي ذات طابع إبيستيمولوجي فلسفي، غير أننا نلاحظ أنه كلما واجهتم قضية العلاقة بين الدين والسياسة في الواقع الراهن، أو مسألة العلمانية، فإنكم تتخلون عن مقاربتكم النظرية الصرف لتنتهجوا سبيلا براغماتيا أو سياسيا. فأنتم لا تتركون فرصة تمر دون أن تؤكدوا على أن العلمانية قضية مصطنعة لا أساس لها في الواقع العربي، وأن الرهان الحقيقي يتمثل في تحقيق الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان. لكن الكثير من الدارسين، بمن فيهم علماء الاجتماع والحقوقيون، يرون أن مجتمعاتنا العربية مثل غيرها من المجتمعات الحديثة، لم تنفك تعيش علمنة فعلية تتجلى في كل مظاهر الحياة. ثم إن هذه المجتمعات هي في رأيهم، سواء شاءت أم أبت، قد دخلت طور التعدد الإيديولوجي وتضارب المرجعيات، فهي لا تملك كما كان الحال في الماضي إجماعا أو حدا أدنى من التوافق حول مسائل أساسية من بينها مسألة تحديد مساحة الفضاء الذي يجب أن يحتله الدين في النظام المجتمعي والسياسي. ولعل بعض أوجه الصراع العنيف أحيانا الذي تعرفه بعض البلاد العربية اليوم يترجم هذا الواقع الجديد. هل تعتبرون أن المقاربة الفلسفية المحض لقضية العلمانية لا جدوى منها في الحقل الفكري العربي المعاصر؟ وهل تعتقدون أنه بالإمكان بلوغ إجماع جديد أو ميثاق مجتمعي جديد دون طرح جدي لقضية العلمانية وإيجاد حلول مرضية وحديثة لمشكلات مزمنة، مثل إصلاح الوضع القانوني للمرأة، ومسألة إقرار حرية الرأي والاعتقاد وغيرها من القضايا الشائكة التي يتشابك من خلالها الديني بالسياسي؟

م.ع.ج: مسألة العلمانية هي في نظري مسألة سياسية في الأساس: مسألة العلاقة بين الدين والفكر السياسي. ومن هنا يمكن القول إن ما أسميته بـ “المقاربة الفلسفية المحض لقضية العلمانية” شئ صعب إن لم يكن مستحيلا. إن أية مقاربة في موضوع سياسي إيديولوجي لا بد أن تكون “مدخولة” بالسياسة والإيديولوجيا. ولعل مما له دلالة في هذا الصدد هو أن النص الرائد في مجال العلمانية في أوربا هو كتاب سبينوزا “رسالة في اللاهوت والسياسة” وهو عنوان ينطق بنفسه. وإذا كان الأمر كذلك فإن ما يجب أن يحظى بالأهمية ليس هو الموقف، بل استراتيجية الخطاب. ومعلوم أن أي خطاب سياسي، أو في السياسة، إنما تقاس جدواه لا بمقدماته الفلسفية بل بنتائجه العملية. وأعتقد أن غياب الكنيسة في الإسلام يجعل شعار العلمانية شعارا غير استراتيجي في أي خطاب يطرح قضية العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمع الإسلامي. ذلك لأنه لا وجود لمؤسسة دينية يمكن أن ينصرف غليها وحدها خطاب العلمانية كما كان الشأن في أوربا.

في الإسلام هناك الدين وهناك الجماهير وليس هناك وسيط آخر غير “السياسة”. وإذن فالطرف الذي يجب أن يكون موضوع اتهام هو “السياسة”، والبديل بالتالي هو العقلانية والديمقراطية. وفي إطارهما يمكن أن تجد حقوق المرأة وحرية الرأي والاعتقاد “وغيرها من القضايا الشائكة” مجالا للمعالجة، مجالا للنقاش…الخ.

مقدمات: يلاحظ المتتبعون لمسيرتكم العلمية بأن الهم السياسي حاضر باستمرار في أعمالكم، بما فيها تلك التي تدخل في دائرة البحث الإبيستيمولوجي والتنظيري. بل إن بعض نقادكم يعتبر بأن محاور بحثكم النظري إنما تتغير بتغير اهتماماتكم السياسية أكثر مما ترتبط بالديناميكية الداخلية لبنائها. كما يلاحظ البعض أيضا بأن التحليلات والمواقف السياسية للجابري تغيرت بعد حرب الخليج. يتجلى ذلك في نقدكم للإيديولوجيا القومية وإبراز مواطن ضعفها، كما يظهر أيضا من اتخاذكم موقفا أكثر مرونة وواقعية من النظام الدولي الجديد، وفي دعوتكم إلى تشييد “كتلة تاريخية” تشمل الحداثيين والسلفيين (بمن فيهم العنصر الأصولي) وذلك قصد تحقيق توافق سياسي أدبي يساهم في إقرار الديمقراطية في البلاد العربية. والواضح أن لتحليلاتكم السياسية وقعا مهما ليس فقط هنا في المغرب، حيث أن اسرتكم السياسية لها تأثيرها ومكانتها، بل أيضا على المستوى العربي بشكل أعم. ما هي الحدود التي تضعونها لتدخل المثقف في الحقل السياسي، وأي دور للمثقف في المجتمع العربي الحديث.

م.ع.ج: أما أن تكون “محاور البحث النظري لدي تتغير بتغير اهتماماتي السياسية أكثر مما ترتبط بالدينامية الداخلية لبنائها” فهذا ما لا أوافق عليه. فمنذ “نحن والتراث” الصادر سنة 1980 والبحث النظري لدي يتمحور حول نقد العقل العربي الذي أنجزت منه “الخطاب العربي المعاصر” سنة 1982 ليكون بمثابة تمهيد منهجي ثم توالت الأجزاء الثلاثة من “نقد العقل العربي”: تكوين العقل العربي 1984، بنية العقل العربي 1986، العقل السياسي العربي 1990، وأنا الآن منهمك في إعداد: “العقل الأخلاقي العربي: نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية”.

وخلال هذه السنوات كلها، أي منذ أوائل الثمانينات كنت أكتب في محور “الفكر العربي المعاصر”: مقالات في مجلة “اليوم السابع” ما بين 1984 و1990. وقد جمعت هذه المقالات في كتاب صدر سنة 1992، ثم واصلت الكتابة في نفس المحور وفي منابر أخرى منها “مقالات رمضان”. وقد أضفت هذه المقالات إلى السلسلة الأولى وأدرجتها، حسب موضوعاتها في كتيبات صغيرة تحمل العناوين التالية: المسألة الثقافية، مسألة الهوية، الديمقراطية وحقوق الإنسان، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، المشروع النهضوي العربي. هذا إضافة إلى دراسات أخرى نشرت بعنوان:إشكاليات الفكر العربي المعاصر. كل ذلك في إطار محور استمر موازيا لمحور نقد العقل العربي، منذ أوائل الثمانينات إلى اليوم.

وإضافة إلى هذين المحورين كان هناك محور خاص بقضايا المغرب وقد استمر العمل فيه هو الآخر منذ أوائل السبعينات (أشير إلى كتبي التالية: “أضواء على مشكل التعليم”، الذي صدرت الطبعة الأولى منه في أوائل السبعينات، ثم “من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية” الذي صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1977، ثم “سياسات التعليم في المغرب العربي” الصادر سنة 1989 و “المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية والحداثة والتنمية” الذي صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1988).
والانتقال من محور إلى آخر لم يكن يتحكم فيه أي عامل سياسي ولا أي عامل آخر يقع خارج ظروف العمل والكتابة، باستثناء البحوث والدراسات التي يتم إعدادها لهذه الندوة أو تلك. أما القول بأن “التحليلات والمواقف” قد تغيرت لدي بعد حرب الخليج لكوني كتبت في نقد الإيديولوجيا القومية (المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية 1996) فهذا في نظري ليس صحيحا ذلك أن أقوى نقد للإيديولوجيا القومية هو الذي كتبته في “الخطاب العربي المعاصر” سنة 1982 وفي بعض مقالات “اليوم السابع” قبل حرب الخليج.

يبقى بعد هذا الشق الثاني من السؤال وهو المتعلق بـ “تدخل المثقف في الحقل السياسي ودوره في المجتمع الحديث”. هنا لابد من التذكير بأني نشأت وقضيت شبابي وكهولتي (إلى اليوم) في بيئة مغربية وعربية كان من أهم سماتها إعطاء الألوية للسياسي على الثقافي بسبب ظروف الكفاح الوطني من أجل الاستقلال والالتزام الوطني والسياسي بقضايا الحرية والتحرر. فالسياسة كانت حاضرة، ومازالت، في اهتمام مثقفي جيلي والجيل السابق له، سواء في المغرب أو خارجه. أما بالنسبة لتجربتي الشخصية فيمكنني القول إن الثقافي كان حاضرا فيها دوما حتى عندما كنت أمارس السياسة كفاعل سياسي. وإذا كانت الظروف الصحية هي التي جعلتني أتخلى عن موقعي ذاك فلأن تلك الظروف قد فرضت علي أن أختار إما الانصراف إلى الثقافة أو الانقطاع عنها إذ لم تكن صحتي تتحمل الاثنين، وقد اخترت الثقافة، ولكن دونما قطيعة مع القضايا الوطنية. ولم يكن هذا الاختيار في الحقيقة سوى تأكيد لميول سابقة رافقتني منذ انخراطي في الثقافة والسياسة معا سنة 1959.

والحق أني أغبط نفسي على ما أتيح لي من فرص المزاوجة بين السياسة والثقافة. لقد اكتشفت أن التجربة السياسة في الحاضر تعين كثيرا على فهم الثقافة (في الماضي والحاضر) بصورة أعمق، أقصد الثقافة بوصفها جزءا من العملية الاجتماعية التاريخية. ولنا في ابن خلدون مثال حي على هذا. فلولا تجربته السياسية لما استطاع أن يكتب “المقدمة” بالشكل الذي هي عليه. وقد وعى هذا وعيا تاما وعميقا وعبر عنه بقوله إن الحاضر “أشبه بالآتي من الماء بالماء”، بمعنى أن الشبه الذي يقوم بين الحاضر (والماضي) وبين الآتي (=المستقبل) كالشبه الذي يقوم بين ماء وماء. وأعتقد أن دور المثقف في المجتمع العربي، قديما وحديثا، دور سياسي في جوهره. أما في عصرنا فإنه لم يعد ممكنا الفصل بين الثقافة والسياسة، خصوصا في الظرف الراهن الذي يتميز بـ “غياب” الإيديولوجيا. فالسياسة أصبحت اليوم -بعد غياب الإيديولوجيا- “تتكلم” الثقافة، سواء تحت عنوان “نهاية التاريخ” أو عنوان “صراع الحضارات” أو الثقافات أو غيرهما من العناوين.

مقدمات: يلاحظ أن معظم المفكرين الذين عملوا خلال العقود الأخيرة على تجديد الفكر الإسلامي، هم في الواقع باحثون لهم تكوين أكاديمي عصري في مجالات التاريخ أو الفلسفة أو غيرهما من العلوم الإنسانية والاجتماعية. وموازاة لذلك نرى أن أغلب المؤلفين من أصحاب التكوين الديني المتخرجين من مختلف الجامعات الإسلامية، هم إما غارقون في التقليد وتكرار ما أنتجه الفكر الإسلامي في فتراته الكلاسيكية، وإما نجدهم يوظفون الخطاب الديني في منحى إيديولوجي يتوخى التعبئة والمعارضة السياسية. ما هي أسباب هذه الأزمة في نظركم؟ وهل تعتبرون أنه بإمكان باحثين محدثين تجديد الفكر الإسلامي وإحداث نقلة نوعية على مستوى الوعي الديني، علما بأنهم يتعاملون مع المعطيات الدينية بمنهجيات ومقاربات آتية من خارج الحقل الديني، عكس ما حدث في الغرب مثلا حيث جاء التحديث، في جانب كبير منه، على يد رجال الدين ومن قلب المؤسسة الدينية نفسها.

م.ع.ج: ناديت منذ أواسط الثمانينات بما أسميته “الاجتهاد المواكب” (مجلة اليوم السابع 25 مارس 1985، وقد نشرت المقالة في “وجهة نظر”، ثم في “الدولة والدين وتطبيق الشريعة”). لقد أكدت في هذه المقالة أنه بما أن مشاكل عصرنا تختلف اختلافا نوعيا عن مشاكل الماضي فمن الضروري أن يكون الجهد الفكري المطلوب في المجتهد اليوم مختلفا اختلافا نوعيا عن الجهد الذي كان مطلوبا في مجتهدي الأمس، وأن التغير الهائل الذي حصل مع الحضارة الصناعية أولا ومع الثورة العلمية والمعلوماتية راهنا، يجعل الانفتاح على علوم العصر وأسسها المعرفية ونتائجها على المستوى الإنساني ضروريا للحصول على الكفاءة التي تمكن من الاجتهاد اليوم. إن الحاجة إليها لا تقل في هذا الشأن عن الحاجة إلى الكفاءة في علوم اللغة وعلوم الدين.

هذا من جهة ومن جهة أخرى لابد من أن نقول الشيء نفسه بالنسبة للحداثة وحاملي لوائها. إن انخراط المثقف العربي في الفكر الأوربي المعاصر مهما بلغ من العمق والاتساع لا ينتج حداثة في العالم العربي، فالحداثة لا يمكن نقلها كما تنقل البضائع الاستهلاكية، وهي ليت مسألة فرد أو أفراد مهما كثروا. إنها مسألة مجتمع، فلابد من غرس بذورها وتعميق جذورها في جسم المجتمع ككل، وذلك لا يكون إلا بالاستيعاب الواسع والعميق للتراث العربي الإسلامي الذي يحكم الفكر والسلوك في جميع أجزاء العالم العربي، والعمل على تحريك عوامل التجديد فيه من الداخل.

إن الانخراط العميق والواعي في الفكر المعاصر والاستيعاب العميق والواعي كذلك لتراثنا يشكلان معا، في نظري، الشرط الضروري لقيام اجتهاد مواكب. إن التجديد الذي حصل في أوربا زمن عصر النهضة، ابتداء من القرن الثاني عشر، سواء في مجال الدين أو الفلسفة أو العلم، قد تم من داخل الثقافة الأوربية مع توظيف مكتسبات الفكر العربي الدينية والفلسفية والعلمية والارتباط بالتراث اليوناني والروماني. إنه “قانون” النهضة الذي يمكن اكتشافه أيضا في الحضارة اليونانية التي نقرأ فيها بوضوح التراث الثقافي اليوناني المحض مع الرياضيات المصرية والفلك البابلي الخ…

مقدمات: في الملف الخاص الذي سيتضمنه عدد “مقدمات” الذي نحن بصدد إعداده، نحاول تسليط الضوء على بعض من محاولات تجديد الفكر الإسلامي المعاصر. نريد أن نعرف رأيكم، بحكم أنكم من الفاعلين الأساسيين في عملية التجديد هذه. فهناك من يرى بأن شروط تجديد فعلي وعميق للاهوت الإسلامي ليست اليوم متوفرة بالقدر الكافي في المحيط العربي، وأن المبادرة قد تجيء من الأطراف مثل الإسلام الآسيوي، أو لعلها تعرف مخاضا في أمريكا وأوروبا حيث تعيش مجموعات إسلامية كبيرة لا تتوافر لها فقط ظروف الحرية السياسية. بل أيضا تملك فرص الاحتكاك بالمعارف والمناهج الحديثة والحوار مع ديانات توحيدية واجهت منذ زمن طويل تجربة الاستجابة لتحديات الحداثة. مما ساهم في إخصاب منظوماتنا اللاهوتية والأخلاقية. ما رأيكم بهذا الخصوص، وهل تعتقدون أن هناك اليوم إمكانية لتجديد الفكر الإسلامي في المحيط العربي، وما هو تقييمكم للجهود التي بذلت في العقود الأخيرة؟

م.ع.ج: التجديد في الفكر الديني الإسلامي لا يتأتى إلا انطلاقا من داخل التراث العربي الإسلامي ومن القرآن والسنة، وهذا يتطلب المعرفة باللغة العربية. نعم قد يتم التجديد في قطر إسلامي خارج المحيط العربي ولكن تأثيره في العالم العربي لن يكون ذا شأن. فالتجديد في جهة ما من “الأطراف” لا يؤثر في “المركز” إلا إذا تحولت تلك الجهة إلى “مركز”، وبما أن النصوص الدينية الإسلامية هي نصوص عربية فإن “المركز” سيبقى عربيا، أقصد المركز الثقافي الديني وليس المركز الجغرافي. إن اختلاف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي هو من العمق والاتساع بحيث تبدو معه الأوضاع الاجتماعية والثقافية في العالم العربي أكثر انسجاما. وبالتالي فالعالم العربي هو المؤهل أكثر من غيره ليكون مركز إشعاع في مجال التجديد الديني. إن تجربة تركيا العلمانية من جهة وتجربة باكستان الإسلامية من جهة أخرى إضافة إلى التجربة الإيرانية، كل هذه التجارب تؤكد على أن “التجديد” الذي عرفته تلك البلدان الإسلامية، سواء في هذا الاتجاه أو ذاك، لم يكن له انعكاس ولا امتداد فاعل في العالم العربي. إن التجديد من الداخل يجب أن يتم فعلا من “داخل” العالم العربي ومن “داخل” الأقطار الإسلامية الأخرى، ذلك لأن “الداخل” هنا وهناك مختلف. وبما أن العالم العربي هو المركز الثقافي الديني فإن التجديد الذي قد يحصل فيه من داخله سيكون أكثر حظوظا في التأثير على الجهات الأخرى.

وبمناسبة ذكر تركيا وباكستان يمكن أن نتساءل: هل أدى تبني الدولة للعلمانية في تركيا منذ سبعين سنة إلى ” خلق ” مجتمع علماني؟ بل هل تمكنت الأنظمة الشيوعية في روسيا ودول أوربا الشرقية والأقطار الإسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقا، هل تمكنت من ترسيخ العلمانية في جسم مجتمعات تلك الدول؟ وبالمقابل يمكن أن نتساءل أيضا: هل نجحت “الدولة الإسلامية” في باكستان وبنغلاديش وإيران، وأيضا في دول عربية أخرى مماثلة، في إقصاء كل أثر لما هو “غير إسلامي” في نظمها وسلوكها وحياة الناس فيها؟ أعتقد أن هذه التجارب تستحق التأمل والدراسة سواء من طرف دعاة العلمانية أو حاملي شعار “الدولة الإسلامية”

مجلة الجابري – العدد التاسع