مجلة حكمة

الأهمية العلمية لحملة نابليون على مصر – تشارلز كليبسي

مجلة العلوم (1995 فبراير)


في الأول من الشهر 7 / 1798، ظهر قبالة شاطئ الإسكندرية من بعيد، أسطول مكون من 400 سفينة، نزل منها على الشاطئ مع غروب شمس ذلك اليوم، وبوساطة الزوارق الطويلة، جيش مكون من 36000 جندي تحت إمرة نابليون بونابرت. ولما لم يلقَ هذا أي مقاومة، سارع إلى تسيير جنوده، الذين كانوا يتصببون عرقا داخل ملابسهم العسكرية المصنوعة من الصوف، في أتون الصحراء، لكي يلحقوا الهزيمة بحكام مصر من المماليك في معركة الأهرام في 21 من الشهر نفسه. وبعد عشرة أيام، دمر الأميرال <هوراشيو نلسون> الأسطول الفرنسي، تاركا قوة الحملة معزولة في الأرض التي ستدير شؤونها وتستكشفها طوال السنوات الثلاث التالية.

 

وبعد عام ترك نابليون جنوده وتسلل عبر الحصار البريطاني عائدا إلى فرنسا، حيث تسلم زمام السلطة في انقلاب 9 / 10 / 1799. وكان بين القليل من مرؤوسيه الذين عاد بهم معه <G. مونج> و<L-.C. برتوليه>، أي العضوان البارزان في أول بعثة علمية ترافق حملة عسكرية. أما زملاؤهما من لجنة العلوم والفنون الذين تركاهم وراءهما مع الجيش فكانوا مجموعة من 151 عالما ومهندسا وعاملا في مجال الطب، مع عدد قليل من الباحثين scholars. وقد اختيرت النخبة من هؤلاء لتكوين المجمع العلمي المصري، الذي تأسس بمبادرة من بونابرت لكي يكون نسخة استعمارية معدلة من المجمع العلمي الفرنسي. وكان يقوم فيه بأعباء أمانة السر الدائمة خلال فترة الاحتلال <B-.J. فورييه> الذي لم يكن قد ابتكر بعد ذلك التحليل الذي يحمل اسمه.

 

ويظل أشهر اكتشاف حققته هذه البعثة هو حجر رشيد، الموجود حاليا في المتحف البريطاني. وقد تنازل عنه الفرنسيون، بعد ممانعة شديدة، للقوات البريطانية التي طردتهم بعدها من مصر في أواخر عام 1801. ولكن لجنة الخبراء التقنيين أنجزت أيضا في أرض الفراعنة أشياء كثيرة أخرى ذات أهمية علمية، وقد جمعتْها كلها في سِفْر خالد ضخم سَجَّل أعمالهم في المسح الآثاري، وأبحاثهم في الظواهر الفيزيائية والكيميائية، وكذلك في التاريخ الطبيعي الخاص بالمنطقة، إضافة إلى تحقيقاتهم في الشؤون الاجتماعية لهذا البلد الغريب.

 

هذا السِّفر الذي طبع بين عامي 1809 و1828 تحت اسم وصف مصر، تطلب لتغليفه تصميم قطعة أثاث خاصة به من خشب الماهوگني mahogany. وتتضمن عشرة من أجزائه، وهي من القطع الكبير، لوحات مصورة قياس كل منها (20 × 26 بوصة). وهناك أطلسان قياس كل منهما (26 × 40 بوصة) يشتملان على 837 لوحة حفر على النحاس (منها 50 ملونة، والعديد منها يحتوي على الكثير من الرسوم التوضيحية). وهناك أطلس ثالث يتكون من خارطة طبوغرافية لمصر وللأرض المقدسة، مصورة على 47 مزدوجة ورقية (ملزمة ورق). وهناك إلى جانب هذه الأجزاء، تسعة أخرى للنصوص تصغر بجانبها أي موسوعة حديثة. وهي تتضمن على وجه التقريب 7000 صفحة للمذكرات والوصف والتعليق. وقد قُسم السِّفر كله إلى ثلاثة أقسام هي: مصر القديمة، ومصر الحديثة، والتاريخ الطبيعي.

 

تكوّن اللوحات الآثارية للقسم الأول أكثر من نصف مجموع ثروة الكتاب من الرسوم التوضيحية، وإليها يرجع الفضل في تكوين الرؤية الحديثة الأولى لعصور مصر القديمة، إذ إن الأوروبيين قدروا حجم وادي النيل من تأملهم للشمول والتفصيل في هذه النقوش المهولة الرائعة، في حين كانت أول معرفة للغرب بأرض الفراعنة تقوم بالدرجة الأولى على ما يروى من أقاويل عن حجم الأهرام واتجاهها ولغز أبي الهول. ولم يكونوا يعرفون عن مصر العليا أي شيء أكثر من حكاية غريبة لسائح عن ذراع جبارة، تذكرنا بذراع أوزيماندياس في قصيدة <شيلّي>(1)، كانت تندفع خارجة من الرمال. ولكن رواية الفنان <V. دينون> الذي رافق الجنود في حملتهم على أعالي النيل، تحمل إلينا تأثير الدوران حول أحد منعطفات النهر والوصول منه إلى معابد الكرنك، والأقصر بين أطلال طيبة: “وقف الجيش بأسره فجأة ومن تلقاء نفسه، في حالة ذهول.. وأخذوا يصفقون ببهجة وسرور.”

صوّر المهندسون أطلال بوابة الكرنك الجنوبية كما كانت عليه حين التقوها فجأة، ويمكن أن نشاهد معبدي آبت(2) Apet وخنسو Khons الصغيرين في مقدمة اللوحة، وكذلك قسمًا من المعبد الكبير الواقع في مركز خلفية اللوحة. وكانت أول لوحة في كل سلسلة من الرسوم المعمارية في وصف مصر، تخصص لرسم الأثر رسما توضيحيا دقيقا كما كان يبدو عام 1799.

لقد دون المساهمون في وصف مصر على الورق جميع الأوابد، بدءا من جزيرة فيلة في الجنوب. كانوا يرسمون ويقيسون وينقبون على طول الطريق، سائرين مع مجرى النهر، يقتربون مرة من ضفته اليمنى ومرة من اليسرى، فمروا من كوم أمبو وإدفو الواقعتين على ضفتي النهر اليمنى واليسرى على التوالي، وإسنا القديمة التي تنحرف انحرافا طفيفا إلى الغرب من النهر. ثم توقف جمعهم طويلا عند مجموعة الأوابد الكثيرة في طيبة، مأخوذين بمدينة هابو ومعبد رمسيس الثالث Ramasseum الجنزي، وتمثاليْ مِمْنون الضخمين اللذين تقع خلفهما أضرحة وادي الملوك، وتلوح في مواجهتهما عبر النيل أعمدة الأقصر والكرنك الهائلة. وفي سيرهم مع مجرى النهر أطلوا فجأة على أروع الأعمال المعمارية والفنية في دندره. وبعد أن سجل الفريق صور هذه التحف الرائعة، استأنف سيره نحو الشمال إلى مِمْفيس وأهرامات الجيزة.

 

كان كل موقع من هذه المواقع يُرسم على ثماني أو عشر لوحات متتابعة، تبدأ بطبوغرافية المكان، تليها صورة شاملة للبناء بالوضع الذي كان فيه حينذاك، مترعا بالرمال، وحوله الأعمدة المحطمة والمطروحة على الأرض، والأسوار المتداعية، مما كان يزيد ـ إلى حد ما ـ من روعة المهابة التي تجلله. ثم تأتي بعد ذلك الرسوم المعمارية التي تتضمن مخططات أساسية وقطوعا وتلالا. ويليها مزدوجات ورقية تصف التفاصيل المعمارية والنقوش الخفيفة البروز والمنحوتات الأخرى، إضافة إلى السطوح المغطاة بالكتابة المنقوشة. وبعد أن ينتهي المصممون أخيرا من عرض ما رأوه بكل دقة، يطلقون لأنفسهم العنان ليعيدوا على اللوحة الأخيرة ـ وبعين الخيال ـ صورة البناء بأكمله كما كان في الماضي.

 

رسم أعضاء لجنة نابليون للعلوم والفنون البوابة الجنوبية للكرنك كما تخيلوا شكلها الأصلي. وربما استخدم هذا المشهد ليكون إطارا “للمارش” العظيم في أوبرا عايدة لفيردي: في حين يتفرج الجمهور، يمر أحد ملوك طيبة تحت قوس النصر، يتقدمه الخدم ومن ورائه أسراه.

 

لم تكن هذه الإبداعات من عمل فنانين أو آثاريين، بل من عمل مهندسين وعدد قليل من المعماريين، صغيري السن جدا، بعضهم تخرج حديثا وبعضهم الآخر ما زال طالبا في مدرسة البوليتكنيك التي تأسست عام 1794، وكان الرسم والمساحة فيها الموضوعيْن الرئيسيين. فكان المهندسون المدربون، المزودون بلوح للرسم وورق للتصوير وقلم ومسطرة وبوصلة، قادرين على رسم صورة مبدئية لأي بناء كان. وبعد قياس جميع الأبعاد، كان بإمكانهم إظهار الرسم في صورته النهائية، وهكذا أصبح بالإمكان، عن طريق هذه الصور المكتملة، إحياء تجربة الوقوف أمام واجهة الكرنك بأكملها مثلا، أو التمعن المباشر في الأهرامات عبر الرمال، الأمر الذي لا يمكن أن نشعر به عند التفرس في أحدث مجموعة من الصور الفوتوغرافية وأكثرها إتقانا.

 

بالطبع لم يكن هدف نابليون من رفد حملته بهؤلاء الشبان الحسني الإعداد هدفا فنيا، لأن مهمتهم الأساسية كانت بناء أو ترميم التحصينات والطرق والجسور والقنوات وكل الأشغال العامة. ولقد أدى هؤلاء الرجال، بالفعل، مهماتهم كما لو كانوا يؤدونها في فرنسا. ومع ذلك، كانت مصر هي المغامرة العظيمة في حياتهم. بل إن فريقا من هؤلاء العلماء نجح في عمل آثاري باهر، ألا وهو التنقيب عن طريق القناة التي كانت تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط في العصور القديمة. (ولكن سوء حظهم ساقهم إلى تقدير أن الطريق من طرف البحر الأحمر أعلى منه من طرف البحر المتوسط بـ 33 قدما. وبدهيُّ القول إن هذا الاستنتاج خاطئ، لأن مستوى البحر هو مستوى البحر في كل مكان من العالم.)

 

لم يكن رجال البعثة يعرفون أي شيء عن إقليم مصر حين أقلعوا من فرنسا، بل لم يعرفوا أن وجهتهم هي مصر، فقد ظل هذا الخبر سرا محجوبا عن الجميع إلا عن القيادة العليا. ولم يكن مِنْ بين أعضاء لجنة العلوم والفنون مَنْ يفسر لهم مجموعة الرموز التي رأوها ودلالاتها إلا مؤرخو العصور القديمة وجغرافيوها، مثل هيرودوت واسترابون وديودوروس الصقلي. أما الحقائق الأولية التي تقدمها الكتب المرشدة الحديثة بأبسط أشكالها للسياح، فلم تكن لديهم فكرة عنها. لذلك تصوروا أن الأبنية الصغيرة مزارات، والمتوسطة معابد، والأضخم منها قصور، وحسبوا أن تاجي مصر العليا والسفلى تسريحتان متقنتان للشَّعر.

 

معبد إيزيس كما يبدو من أطلال إسنا Esna عبر نهر النيل، وقد دمر عام 1828 أثناء حكم محمد علي الذي أدخل الحداثة إلى مصر. ويعدّ “وصف مصر” La Description de l’Egypte مرجعا مهما للآثار، لأنه يحوي العديد من اللوحات التي تحتفظ بسجل لأبنية ونقوش كتابية لم تعد موجودة.

وعلى الرغم من ذلك، ومن كل ما واجههم من مئات المنحوتات الخفيفة البروز وآلاف الكتابات الهيروغليفية، فقد قام هؤلاء المهندسون الشبان بنسخ ذلك كله بأمانة شديدة، حتى أنهم احتفظوا، في كثير من الحالات، بشواهد البناءات والكتابات المنقوشة التي اختفى أثرها منذ ذلك الحين، ومن ذلك مثلا معبد إيزيس عبر النيل من إسنا Esna الذي دمر عام 1828 أثناء حكم محمد علي. ويمكن القول إن علم المصريات بدأ مع وصف مصر ـ باستثناء أن المؤلفين لم يكن لديهم مرشد إلى معنى ما كانوا يسجلونه. لذا كانت هذه المناسبة ـ التي أتاحت الإعجاب بعملهم ـ فريدة في تاريخ العلم، إذ عرضت لوحاتهم مادة موضوع علمي مع غياب العلم. وفي عام 1822، وليس قبله، نجح <جين ـ فرانكويس شامبليون> في مقابلة اسم بطليموس في الكتابات الثلاث المنقوشة على حجر رشيد، وهي الهييروغليفية والديموقراطية والإغريقية. ولم يستطع الباحثون ترجمة النصوص بأكملها قبل خمسينات القرن الماضي.

 

وفي مجال العلم بمعناه المألوف، أوجدت البيئة المصرية فرصا استثنائية، منها مثلا ظاهرة السراب التي فسرها مونج في أشهر تقرير أسهم به في أعمال المجمع العلمي.

 

فبعد أن قاسى الجيش إبان مسيرته المرهقة من الإسكندرية، من منظر قرى كانت تومض وكأنها جزر في مياه بحيرة تظل تتراجع أمامه باستمرار، تقدم مونج في 28 / 8 / 1798، أي بعد أربعة أسابيع من الاستيلاء على القاهرة، ببحث فسر فيه هذا الوهم، وقال: إنه نتيجة لانعكاس الأشعة الضوئية، الآتية من وراء الأفق، عن سطح طبقة الهواء التي ارتفعت حرارتها ارتفاعا شديدا عند مستوى الأرض بفعل الرمال المشبعة بأشعة الشمس. وعلى الرغم من أن البصريات الحديثة تعزو هذه الظاهرة إلى انكسار ثنائي dual refraction داخل الطبقة السطحية، فقد كان الأساس الفيزيائي لتفسير مونج صحيحا.

 

دائرة البروج التي وجدت في دندره. وقد وضعت في سقف ضريح قائم بعيدا عن إيوان أوزيريس في المعبد. وكان على المهندسيْن اللذين قاما برسمها أن يعملا على ضوء الشموع وهما مستلقيان على ظهريهما في ظلام حجرة مغلقة. وفي عام 1821 نقلت هذه القطعة الثمينة إلى باريس، وهي معروضة الآن هناك في اللوڤر.

 

وكان لتقرير زميله، العالم الجليل برتوليه، نتائج أعظم تأثيرا في مسيرته العلمية وكذلك في العلم الذي تخصص فيه، إذ يمكن أن يُعَدّ بحثه ملاحظات حول النطرون (كربونات الصوديوم)، نقطة بدء للكيمياء الفيزيائية. فقد كانت هناك بحيرات مالحة جدا تقع في حوض نهر جاف على بعد 60 كم غربي القاهرة، وكانت تعرف حينذاك باسم “نطرون”، وهو اسم يوناني “للصودا”. ويحيط بهذه البحيرات تكوينات من حجر جيري، عليها ترسبات من هذه المادة (النطرون) موجودة بصورة طبيعية.

 

وبين هذه الترسبات (الرُّقَع) انتشرت مساحات طينية في معظمها. وكانت التربة في هذه المساحات مفعمة بالملح وخالية من الصودا، فاستنتج برتوليه أن الجير (كربونات الكالسيوم) في التكوينات الجيرية، مع وجود الحرارة والرطوبة، قد فكك الملح (كلور الصوديوم)، وبعدها جفت قشرة النطرون (كربونات الصوديوم) الناتجة، وتصلبت على السطح مكونة الترسبات. أما الناتج المصاحب، أي كلور الكالسيوم، فقد امتص الماء نتيجة لقابليته الشديدة للتميع ثم غار عميقا داخل الأرض.

 

والسمة البارزة في اكتشاف برتوليه هي أن التفاعل المعروف في المخبر (المختبر) كان هو العكس تماما. فالكيميائيون المعنيون بالتآلف بين المواد كانوا يفترضون عادة أن الطبيعة الكيميائية للكاشف reagent هي التي تضبط اتجاه التفاعل، في حين كانت توجد هنا حالة تهيمن فيها بعض العوامل الفزيائية. وقد بدأ برتوليه البحث الذي يذكر فيه هذه الملاحظات، في مصر، ثم أتمّه في باريس. وهناك طوّر حجته فأصبحت نقطة جوهرية في عمله الرئيسي ـ مقالة عن علم التوازن الكيميائي ـ الذي نشر عام 1803، وفيه يعالج آثار الضغط والحرارة والضوء والتركيز النسبي للكواشف في تحديد مجرى التفاعلات.

 

وإلى جانب العالميْن الجليليْن، كان هناك أيضا علماء في الطبيعة شبان، ربما كان يتوقع من وجودهم في مصر القيام بعمل يختلف اختلافا بينا عما عرف في فرعهم المعرفي. كان عددهم اثني عشر، أي ثاني أكبر فريق في البعثة بعد المهندسين، وكانوا يبحثون عن النباتات والحيوانات غير المعروفة في أوروبا. وبالفعل برز منهم اثنان حقّقا لنفسيهما الشهرة. أحدهما، وهو <G.E. سان إيلير>، كان في المرحلة الباكرة من مسيرته العلمية، والثاني <L.C-.J. دو ساڤيني>، كان في البداية الأولى من هذه المسيرة، وقد أخذ على عاتقه دراسة الحيوانات اللافقارية والطيور وبعض الزواحف. أما جوفروي فقد غطى جميع الفقاريات الأخرى.

 

كان جوفروي وساڤيني عالمي طبيعة متماثلين في الاهتمامات وشخصيتين علميتين مختلفتين أشد الاختلاف، كما كانا على النقيض من <G. كوفييه> الذي لم يكن يكبرهما بكثير، ولكنه كان في ذلك الحين مهيمنا في باريس على متحف التاريخ الطبيعي. وكان كلاهما (جوفروي وساڤيني) عالمين في الحيوان، انتقلت أبحاثهما أبعد من التاكسونوميا taxonomy، أي عملية التصنيف، إلى المورفولوجية، أي دراسة الأشكال والبنى. فالتصنيفية كانت في القرن الثامن عشر الشغل الشاغل للتاريخ الطبيعي، أما المورفولوجية فقد صارت فرعا مهما في علم البيولوجيا الذي بزغ في القرن التاسع عشر. وقد حقق جوفروي هذا الانتقال متأثرا بالروح الرومانتيكية، أما ساڤيني فقد حققه توخيا للدقة الشديدة.

لوحات تاريخ طبيعي تصور نباتات وادي النيل وحيواناته وتكويناته المعدنية. وقد كان لدى <E. جوفروا سَنْت ـ إلير> الذي رسم هذه السمكة الرئوية (في الأعلى) مَيْل إلى الكائنات ذوات الشكل المبهر غير المعتاد. أما رسوم مهندس المناجم روزيير، لهذه العينة من البريشة breccia (الحجر المؤلفة من شظايا زاويّة متلاحمة) (في اليمين) فهي تصلح معيارا جديدا للرسوم التوضيحية الجيولوجية الدقيقة.

 

كان جوفروي ذا مزاج أريحيّ معطاء حتى الإسراف، فرسائله إلى زملائه، لاسيما كوفييه (الذي رفض الانضمام إلى البعثة)، تكاد تبلغ حد الإحراج في إظهار المودة ـ وزاد من إحراجها أن توسلاته التي ابتغى من ورائها التأكد من أنهم لم ينسوه، قد ظلت بلا جواب. وكان جوفروي كذلك محبا للجديد غير المألوف، إذ يزداد تشوقه لوصف الكائن الحي وتشريحه تبعا لدرجة الانبهار به. فمن بين الأنواع المثيرة التي شقها بمبضعه، نجد التمساح وسلحفاة النيل الكبيرة وسمكة البشير المتعددة الزعانف polyptere bichir (وهي سمكة رئوية لها 16 زعنفة ظهرية) والشفين الطوربيدي والسمك الرعّاد. وكان أسلوب جوفروي، من وجهة معينة، يذكرنا كثيرا بأسلوب <L.L-.G. دو بوفون> العظيم في القرن التاسع عشر، كما تتضمن تقاريره عن الحيوانات تصويرا مجملا لطبيعتها المميزة، أي لعاداتها وسلوكها، بل إنها لتكاد تصف أخلاقيتها. وكان تشريحه للحيوانات من ناحية أخرى يدل على مهارة فائقة، وتفصيل مضبوط، ورسومه وأوصافه واضحة. لقد كانت لديه خبرة بالصنعة الأدبية.

 

تجلى المنحى المورفولوجي، الذي كانت تسير فيه اهتمامات جوفروي، في ثلاث مذكرات حول تشريح السمك نشرت عام 1807. فعندما كان عاكفا على بحثه في علم الأسماك لـ “وصف مصر”، كتب يقول: إن إلهاما قد واتاه. فقد كان حتى ذلك الحين متفقا مع الرأي السائد بين علماء الطبيعة بأن التكوين العضوي الداخلي للسمك يختلف في نواح مهمة اختلافا مطلقا عن الفقاريات بوجه عام. أما بعد أن تفحص عن كثب النماذج المصرية ومجموعة كوفييه، فقد كتب يقول: إنه متأثر جدا لاكتشافه أن الأعضاء الحقيقية التي قاومت في السابق بكل عناد كل وجه للمقارنة، تُظهر بالفعل تماثلات عميقة مع أعضاء الفقاريات الأخرى.

 

إن التحول إلى المورفولوجية أدى بجوفروي إلى تأليف عمله الرئيسي الفلسفة التشريحية Philosophieanatomique بين عامي 1818 و1822، وحجته أن هذه الاختلافات في تعضي جميع أصناف الفقاريات تمثل تنوعات مبنية على وحدة أساسية في المخطط العام، وهي فكرة وسَّعها بعد ذلك لتشمل اللافقاريات. وقد تضارب تطرُّف هذه الأفكار مع التزام كوفييه بفكرة ثبات الأنواع، مما أوقع الصديقين القديمين في مجادلات مشهورة عام 1830.

 

أما ساڤيني فلم يكن مثل جوفروي، بل قامت شهرته في البداية على عمل صغير متعلق بمجال اهتمام عام، ولم ينتقل من التعميم إلى التخصيص إلا في مرحلة متأخرة جدا. فكان كتابه التاريخ الطبيعي والميثولوجي لأبي منجل، الذي نشر عام 1805، جمعا ساحرا بين سعة اطلاعه على التراث الكلاسيكي والدقة التامة في علم الحيوان. وقد ذكر فيه أن تبجيل قدماء المصريين للطائر أبي منجل الأبيض كان انعكاسا لتصورهم أن لديه شهية للأفاعي الطيارة التي لولاه ـ حسب زعم الخرافة ـ لغزت أرض مصر. والحقيقة أن مصر لم تكن معرضة لخطر الأفاعي المجنحة أو الزاحفة؛ وإنما كانت تُتخَذُ عندهم رمزا للشيطان، فضلا عن أن أبا منجل من الطيور التي تخوض في الماء ولا تأكل الأفاعي. والمصدر الحقيقي لطبيعته المقدسة هو قدومه مع الرياح الصيفية. فهو يعود إلى الظهور سنويا كبشير بالمياه المانحة للحياة. ومن هنا كانت مطابقته مع الإله تحوت الذي يحمل رأس أبي منجل الذي يناظر ميركوري (عطارد). وقد أشار ساڤيني إلى أنه وإن كانت تجاويف المعدة في مومياء أبي منجل تحافظ على بقايا أفاع ـ وهذا هو الوضع النموذجي ـ إلا أن ذلك كان بسبب أن المحنطين قد قاموا على خدمة حقائق أعمق من أن تكون مجرد وقائع في التاريخ الطبيعي.

عازف القيثارة الإلهية: لوحة مأخوذة عن جدار قبر رمسيس الثالث، وهي واحدة من خمسين رسما توضيحيا ملونا في السِّفْر.

أحرز كتاب ساڤيني نجاحا رائعا، فوطّد العزم على وضع عيناته المصرية في تنظيم متسلسل. ولكنه كان حتى ذلك الحين يجد نفسه في حيرة من أن يعزو للنماذج المتعددة الأشكال من الحشرات والقشريات التي جمعها خواص تميزها كوحدة واحدة، إذ لم يكن أي مختص بالحشرات قد طابق بعد بين منظومات من الأعضاء المنظمة بوجه عام بطريقة مطردة ـ على نحو ما كان <لينايوس> قد فعل بالأعضاء الجنسية في النباتات ـ بحيث تمكن مقارنة تغيرات من نوع إلى آخر ومن جنس إلى آخر. ومن ثم بدأ ساڤيني بحثه على مجموعة من نحو 1500 عينة، وذلك بفصل القسمات الخارجية، والقيام برسم كل منها على حدة. ولم يكن أمامه سوى عدد قليل من الكائنات التي يبلغ طولها سنتيمترا واحدا، أما معظمها فكان أصغر من ذلك. وبعد المسح الشامل لآلاف الرسوم تمكن من وضع يده على مفتاح التصنيف. فقد كانت الأجزاء نفسها من أقسام الفم تظهر في جميع الأشكال، أما التعديلات الموجودة بين بنية وأخرى، فقد زودته بالمقارنات الموثوقة أشد الوثوق بين الأنواع.

 

خصص ساڤيني بحثه الأول لعث الملابس والفراشات، أي للحالة الأكثر إثارة للجدل. وقد عارض في هذا التقرير شيخيه <كوفييه> وأكبر عالم حشرات في فرنسا <P.A. لتري>، اللذين كانا يريان أن فكي اليسروعcaterpillar يختفيان عند تحوله إلى فراشة. أما ساڤيني فقد وجد غير ذلك، إذ تمكن من تمييز أشكال من الشفاه المنمنمة والفكوك السفلى والفكوك بوجه عام، وكلها معدلة أو محوّرة لدرجة يتعذر معها تعرُّفها عمليا ـ الأمر الذي صادق عليه لتري وكوفييه مصادقة كلية. وقد مكنت هذه المعايير ساڤيني من تعريف صنف الحشرات بمعناه المحدَّد تعريفا مورفولوجيا، وذلك بتسميتها سداسيات أرجل، أي ذوات ست أرجل وقرني استشعار.

“طائرا أبي منجل” أبيض وأسود، وقد رسمهما ساڤيني أحد مؤسسي المورفولوجيا. ويشير كتابه عن التاريخ الطبيعي لطائر أبي منجل إلى أن الأبيض منه، الذي كان مقدسا عند المصريين لأنه يحمي أرضهم من الأفاعي، لا يأكل الأفاعي أبدا. ولكن المحنطين القدماء احترموا الخرافة وحافظوا عليها بوضع أفاع محنطة في تجاويف معدة الطائر الذي كانوا يحنطونه.

ثم تحول ساڤيني في مذكرته الثانية إلى التقسيم الثاني الأوسع لمفصليات الأرجل(1) اللافقارية ـ أي كثيرات الأرجل (بما فيها أم أربع وأربعين) والعناكب والقشريات ـ التي كان <لنايوس> قد جمعها معا تحت اسم “حشرات”. وكان مفتاح التصنيف هنا أيضا هو أقسام الفم، ولكن التغيرات كانت خارقة إلى درجة أن ساڤيني أورد تقابلات وظيفية بجرأة ومهارة لا يمكن أن يوصف بهما أبدا عالَم التصنيفية الرصين. ففي بعض الفئات، مثل سرطان البحر، أمكن مقابلة الأعضاء التي تستخدم للمضغ، مع تلك التي تستعملها رتب أخرى للتنقل، وما كان أقداما عند سداسيات أرجل يبدو أنه تحول إلى فكوك عند سرطانات البحر. أما بحثه الأخير عن الزقياتascidians، أو الديدان الزقية tunicate worms، فلم يكن أقل إثارة للنقاش. فقد أثبت ساڤيني أن الكائنات التي دعيت لأمور غامضة الزوفيتات(2) zoophytes، هي أبعد ما تكون عن اعتبارها أمثلة للبساطة القصوى، لأنها تبدو بشكل أنساق معقدة من التراتبات. وكذلك عجّلت دراسة أخيرة للديدان الحلقية في تقدم التنظيم المنهجي لصنف كوفييه الذي يضم الديدان ذوات الدم الأحمر red-blooded worms.

 

وباختصار تعتبر أعمال ساڤيني بداية دراسة علم الحيوان للتماثل homology (في الشكل والوظيفة) بوجه عام. كما أن دقته في التفصيل كانت في الوقت نفسه من الإتقان بحيث أعيد طبع لوحاته عن الرخويات حتى عام 1926، ولم يكن ذلك لأنها من الكتب الأثرية القديمة، بل لأسباب علمية بحتة. على أن ساڤيني لم يكمل قط مبحثا شاملا أيا كان، بل إنه لم يستطع أن يجهز الحواشي والتعليقات لإرفاقها بلوحاته في وصف مصر. ففي حين كان يعمل على جعل تفاصيلها في غاية الدقة، عانى هجماتِ اضطرابٍ عصبي متكرر سلب منه الرؤية الناجعة عندما ثبت هذا الاضطراب بشكل دائم منذ عام 1824. أما هو فقد عزا هذه المشكلة إلى هجمة متأخرة من هجمات الرمد ophthalmia الذي ابتلي به العديد من أعضاء الحملة على مصر. والواقع أن المسؤول عن عماه، بحسب تشخيص المختصين الحاليين، ربما كان شكلا من أشكال الصرع المؤقت.

 

وهكذا أمضى ساڤيني الثلاثين سنة الأخيرة من حياته يغلف رأسه بخمار أسود طيلة فتح مصاريع النوافذ، لأنه لم يعد يتحمل ضوء الشمس. وكان الكتاب الوحيد الذي نشره بعد ذلك هو عمل تصنيفي على درجة عالية من الهلوسة النموذجية الناتجة من اضطراب في عصبه البصري، كان أشبه بشفق قطبي داخل رأسه.

 

وعلم النبات في وصف مصر مخيب للآمال إلى حد ما مقارنة بعلم الحيوان، أما علم التعدين فكان بالفعل مثيرا للاهتمام. فهناك 15 لوحة تحتوي على أكثر من 100 رسم توضح صخور مصر، إضافة إلى دراسة شاملة عن جغرافية مصر الفيزيائية وكان مؤلف هذا القسم <M.F. دو روزيير> مهندس مناجم لم يشارك بَعْده بأي عمل علمي منهجي آخر أو بأي بحث. ولكنه عالج، مثل زميله ساڤيني، مادة موضوعه الرفيع الاختصاص بطريقة لاقت اهتماما عاما.

 

كان علم التعدين حتى ذلك الحين آخذا في التمايز عن التاريخ الطبيعي والدخول في فرع الجيولوجيا الصاعد. وقد صمم روزيير لوحاته بوضوح لتكون مثالا عن أهمية فنون الرسم في العلم الجديد. وكان ما زال على الجيولوجيين أن يطوروا لغة مثل لغة علم الكيمياء (أو علم النبات) يمكنها أن تساعد على تعريف المعادن بأسماء تخصها. لذلك كان وصف الصخور في الكتابات الجيولوجية بلا معنى ما لم يكن مُرْفَقًا بعينات من هذه الصخور، إلا أن الرسم التوضيحي المناسب كان بإمكانه أن يغطي هذا العجز. وقد أخذ روزيير على عاتقه ألاّ تكون رسومه مجرد صور للصخور الخاصة الموجودة على طاولته في لحظة الكتابة، بل تعبيرا مجملا عن كل الصفات المميزة لنموذج كل صخر ممثل بهذه العينات. وكان من الضروري كتابة العناصر المكونة في الأسفل مع الشرح، أما الشكل واللون والمزيج، وقبل كل شيء النسيج ـ أو باختصار الخواص المطلوبة لتعرف الصخر ـ فكان لا بد من إظهارها بالرسم.

 

إن العنوان الذي اختاره روزيير لرسالته هو: حول التكوين الفيزيائي لمصر وحول علاقاته بمؤسساتها الاجتماعية القديمة. ولو كان المؤلف فيلسوفا أو أيديولوجيا من نوع ما، لاعتبرت دعواه جريئة، لأنه كان يهدف إلى إظهار الكيفية التي تستمد بها الثقافة من الظروف المادية، لا من تدبير إلهي، أو عوامل أخرى عالية ولكن معالجته للموضوع، بوصفه مهندس مناجم، ظلت معالجة واقعية فحسب. وقد لاحظ أنه ما من بلد آخر ارتقى مجتمعه رقيَّ مجتمع مصر القديمة، وكان لرقيه مثل هذا الاعتماد على مجموعة واحدة من العوامل الفيزيائية. فكل شيء في قوانين هذا البلد وفي عادات شعبه مستمد من سلوك النيل.

 

ولم يَصُغْ ارتفاع النيل وانخفاضه حضارة مصر فحسب، بل إنهما يفسران تأثير ثقافتها في علوم وفنون وحرف العصور القديمة كلها وفي أصول وأنساب آلهتها. أضف إلى ذلك أن هذه الظاهرة تمكن دراستها في عزلة شبيهة بعزلة المخبر الذي كانته مصر من أجل هذه الأغراض.

 

يستوفي مؤلَّف وصف مصر، إلى حد كبير، ما يعد به عنوانه في القسم الثاني الذي عني بوضع البلاد في نهاية القرن 18. وقد شغلتْ المذكرات والدراسات الطبوغرافية قسما كبيرا من نصه. وكان لدى فرق المهندسين، التي اجتازت العوائق والحواجز لتنشئ منها الخرائط، مهمة أبعد من مجرد رسم الخرائط. فالمساحون الذين كانوا يمشطون جميع القرى عبر الدلتا وأعالي النيل صدرت إليهم التعليمات بإنجاز ما يمكن أن يقترب من التعداد العام، وذلك بإعداد التقارير عن عدد السكان والعوائل وأوضاعهم وأشغالهم، وطرق الزراعة عندهم وتعداد الخيول والجمال وكيف تتم العناية بالحيوان، وأنماط التجارة والصناعة ومواضع المقالع والواحات والقنوات والعبّارات، ووسائل النقل والاتصال، إضافة إلى الأصول العرقية وطبيعة الناس الدينية، المستقرين منهم والرحل على السواء.

 

كانت الطبوغرافيا موضع اهتمام طبي وفيزيائي لأن الطب في القرن الثامن عشر كان يهدف إلى موازنة البيئة مع التكوين الفيزيولوجي للرجال والنساء والأطفال. وكان على رأس الأطباء في الحملة <N. ديجينيت> وعلى رأس الجراحين <J.D. لارِّيْ>. ولما كان وضع مصر مأساويا مؤثرا، فقد ألف ديجينيت طبوغرافية مصر الفيزيائية والطبية التي تضمنت مساعدة من الفلكي <A-.N. نويه>، كما جمع ديجينيت أثناء فترة الاحتلال بيانات عن الحراك السكاني في مصر ووضع سجل الوفيات في القاهرة عن السنوات الثلاث التي كانت فرنسا فيها تسيّر الأمور، وألف مرجعا كلاسيكيا في الطب العسكري الذي رسم سياسة وخطط الصرف الصحي والصحة العامة وتنظيم المستشفيات.

 

أما لارِّيْ فقد كتب من جانبه، بصورة أساسية، عن المرض وقدم وصفا سريريا للرمد (والتراخوما بعامة) والطاعون الدبلي والكزاز والحمى الصفراء والجذام ومرض الفيل وضمور الخصيتين والعملقة. وفي رأيه أن سبب الطاعون والحمى والكزاز يتضمن بوضوح عاملا خارجيا محددًا استخدم له أحيانا اسم ” ڤيروس” وأحيانا أخرى اسم “جرثوم”. وكان مفهومه عن المرض محددا وموضوعيا ككل شيء أدخل في طب القرن التاسع عشر من خلال مزاولة المعاينة السريرية الجديدة. في باريس، فسبق غيره فيما يبدو بهذا المنهج وطوره بمفرده.

 

ويوجد بين المذكرات والأبحاث المتخصصة في القسم الثاني من وصف مصر العديد من الموضوعات المشروحة التي تُصنَّف في وقتنا الحاضر بين العلوم الاجتماعية أو الإنسانية. فهي تتضمن موضوعات في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) [من الوجهتين الثقافية والجسمانية] وفي علم السكان والأحوال الجوية والعلوم السياسية وعلم الاجتماع والسياسة الجغرافية والزراعة والاقتصاديات المحلية microeconomics وتاريخ العصور الوسطى والتاريخ الإداري واللسانيات وعلم الموسيقى ـ وهي كلها فروع معرفية لم يكن لمعظمها وجود حينذاك. وكان مؤلفو هذه الأقسام أيضا مهندسين وعلماء وعسكريين ورجالا دُربوا على أن يكونوا منهجيين، وعرفوا كيف ينظرون إلى ما حولهم وأن يقدروا ما رأوه حق قدره.

 

كان وضعهم إذًا وضع من يرصد الظواهر. وكثيرا ما قال أحدهم للآخر: ليس في العالم بلد، ولا حتى فرنسا حتما، كان في يوم من الأيام موضع دراسة شاملة كدراستهم لمصر. ولكن هذه الحقيقة بدأت تتغير بعد عودتهم إلى فرنسا. فهناك ظل معظمهم في خدمة الدولة، وأصبح نهمهم إلى جمع الوقائع، وهو الذي الذي مارسوه في مصر، طبيعة مميزة لكل من النظام النابليوني والملكي ـ الذي استعيد عام 1815.

 

ولدينا مثال واضح على ذلك هو المهندس <C. فولفيك> الذي صمم، على الرغم من صغر سنه، عدة لوحات عن العصور القديمة وكتب مقالة عن عادات سكان مصر المحدثين. وقد أنهى فولفيك مسيرة حياته العملية مشرفا عاما على السين في عشرينيات القرن الماضي. وعنها أمر بجمع وتصنيف الوثائق المتعلقة بطبوغرافيا المدينة تحت اسم إحصائية مدينة باريس فكان هذا في النتيجة تطبيقا على عاصمة فرنسا للتقنيات التي استخدمها مع زملائه في وصفهم العميق لمصر.

 

لقد كان لإسهام العلم في البعثة معنى آخر يتجاوز مجرد تجميع المعلومات الهائل عن مصر، إنه العلاقة التي أقامها بين المعرفة الصُّوَرِية formal والسياسة، إذ كان لاحتلال مصر جانب حضاري مختلف عن النزعة الاستعمارية التجارية التي سبقته.

 

وهكذا كانت الكفاءة التقنية دعامة قوية للثقافة والحضارة. ولم يدرك بونابرت هذه الحقيقة بطريقة مجردة، بل بالحدس المباشر نفسه الذي أدرك به أي شيء يرتبط بممارسة السلطة، فانبثق منه الحافز الذي مكَّن من غرس مجموعة من نباتات العلْم الفرنسي على ضفاف النيل. وهذا ما لم تحاول الإمبريالية السابقة شيئا منه، لا بريطانيا في الهند، ولا هولندا في أندونيسيا، ولا الإسبان والبرتغاليون في أمريكا. فانتشار العِلْم الأوروبي وامتداد آثاره ونتائجه إلى المجتمعات الإفريقية والآسيوية مع الغزو العسكري والسلطة السياسية، بدآ مع غزو فرنسا لمصر.

 

لذلك يمكن أن نستعيد هنا قراءة الدافع الذي عزاه فورييه لبونابرت في مقدمة وصف مصر على اعتبار أنه نبوءة معقولة: “لقد كان واعيا للتأثير الذي سيخلفه هذا الحادث “غزو مصر” على علاقات أوروبا مع الشرق ومع باقي إفريقيا، إضافة إلى تأثيره في شؤون الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط وفي مستقبل آسيا. لقد وضع لنفسه أهدافا هي القضاء على استبداد المماليك، وتعميم الري والزراعة، وتأسيس تجارة منتظمة بين البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب، وتشجيع المشاريع التجارية، وتقديم أمثلة مفيدة للشرق عن الصناعة الأوروبية”، وأخيرا تحسين مستوى معيشة السكان وإعطاؤهم كل مزايا الحضارة المتقدمة. ولم يكن من المستطاع تحقيق هذه الأهداف من غير التطبيق المتواصل للعلم والفنون والتقنية.”


 المؤلف

Charles C. Gillispie

مؤرخ علوم عُرف عنه أنه محرر قاموس السير العلمية. بعد أن أتم دراسته الجامعية الأولى في الكيمياء في جامعة ويزليان، حصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة هارڤارد. وهو حاليا أستاذ فخري في جامعة برنستون التي قام بالتدريس فيها منذ عام 1947 والتي أسس فيها برنامج تاريخ العلم في الستينات.


مراجع للاستزادة 

SCIENCE AND POLITY IN FRANCE AT THE END OF THE OLD REGIME. Charles C. Glllispie. Princeton University Press, 1980.

SCIENTIFIC ASPECTS OF THE FRENCH EGYPTIAN EXPEDITION: 1798-1801. Charles C. Gillispie in Proceedings of the American Philosophical Society, Vol. 133, No. 4, pages 447-474; December 1989.

MONUMENTS OF EGYPT: THE COMPLETE ARCHAEOLOGICAL, PLATES FROM THE DESCRIPTION DE L’EGYPTE. FOURTH printing. Edited by Charles C. Gillispie and Michel Dewachter. Princeton Architectural Press, 1994.

هذه الطبعة متوفرة أيضًا بعدة لغات أرى، منها اللغة العربية، ويمكن الحصول عليها عن طرق (معهد الشرق)

Institut d’Orient – 51 , rue Lacepede – 75005 Paris (France) – Fax (33 – 1) 43 37 94 91.

Scientific Americart, September 1994


(1) شيلّي هو الشاعر الرومانسي الإنكليزي الشهير، وعنوان قصيدته (أوزيماندياس) هو تسمية غير صحيحة لملك مصر رمسيس الثاني، وكان الأوروبيون في القديم يسمون معبد رمسيس الجنزي معبد أوزيماندياس.

(2) آبت: كما نظن هي الملكة حتشبسوت التي عدت نفسها ابنة لآمون أي أختا لخنسو وقد بَنَتْ لها معبدا في طيبة. (التحرير)

(3) لأن الحشرات هي مفصليات أرجل أيضا.

(4) الزوفيت كائن حيّ بين الحيوان والنبات وكان يظن أن المرجان من هذا النوع.  (التحرير)