مجلة حكمة

بنديكت أندرسون: رجل بلا وطن – جيت هير / ترجمة: منال آل سعيد

 مراجعة: سارة العبدالله


توفي المفكر القومي ومؤلف كتاب “الجماعات المتخيلة” في عمر يناهز ٧٩.

تلميح*

لو كان لأندرسون وطن، ستكون إندونيسيا، البلد التي وهبها قلبا وعقلا ليس بدراساته فحسب، بل حتى باستقراره العاطفي *جيت هير

امتلك بنديكت أندرسون -والذي توفي بالأمس عن عمر يناهز التاسعة والسبعين في ( مالانج ) بإندونيسيا- شهرة عالمية لكتابه “الجماعات المتخيلة”، الذي صدر عام ١٩٨٣، ويعد هذا الكتاب أكثر دراسة قومية مؤثرة. على العكس ممن سبقه من العلماء، ممن كانت لهم نظرة سلبية تجاه القومية ، رأى أندرسون القومية كعملية خيالية متكاملة تُتيح لنا التضامن مع الغرباء. “في عصر شاع فيه إصرار المفكرين التقدميين، العالميين (خاصة في أوروبا؟) على طابع ربما مرَضي للقومية، مبني على الخوف وكراهية الآخر، والانتماءات العنصرية، لذا يجدر بنا تذكير أنفسنا بأن الدول ملهمة للحب، وفي الغالب حب التضحية بالنفس”. كتب أندرسون في كتابه “الجماعات المتخيلة “، ” يوضح لنا الإنتاج الثقافي للقومية من شعر، ونثر قصصي، أو حتى في الموسيقى والفنون التشكيلية، ذلك الحب بصورة واضحة عبر آلاف من الأنماط والصور المختلفة”

بالنسبة لباحث قومي، يدهشني صعوبة القول لأي دولة انتمى بنديكت أندرسون . كان أندرسون طفلاً متجولاً للإمبراطورية البريطانية. وُلد عام ١٩٣٦ في مدينة كونمينغ، الصين، حيث عمل والده  الأنجلو-إيرلندي للجمارك البحرية الصينية، وهو اتحاد إمبراطوري يجمع الضرائب، مما اضطر بعائلة أندرسون للرحيل إلى ولاية كاليفورنيا عام ١٩٤١ ، حينما بدأ توسع الإمبراطورية اليابانية في البلاد ، عادت عائلته إلى أيرلندا عام ١٩٤٥، و لكنهم شغلوا منصبا غامضا في أراضي أسلافهم. كانت أحدها أرضا قومية إيرلندية لزمن طويل، لكنهم كأقلية أنجلو-إيرلندية كان لهم امتياز ومكانة عالية، ولكن في الغالب يستثنون من ذات الهوية الكاثوليكية للدولة.

لو لم تكن عائلة أندرسون إيرلندية ، فلن تكون إنجليزية أيضا . كان لتجربة العائلة في الصين دورا في تقديرهم للطبقة الدنيا من الإمبراطورية . كان الشقيق الأصغر بيري أندرسون مؤرخا بارزا مثلما كان أخيه بنديكيت، وألمحا مرة بأن تجربة والدهم في مكافحة فساد هيئة الاستعمار الصيني خلّفت بصمة دائمة على الأطفال. عام ١٩٥٦ كان بنديكت أندرسون طالبا جامعيا متطرفا في كامبردج باحتجاجات على أزمة السويس، حيث وجد نفسه بجانب طلاب معادين للإمبريالية – العديد منهم قد ولدوا مثل بنديكت، في عالم مستعمر سابقا- وضد القوميين البريطانيين الذين دعموا المحاولة الانجلو-فرنسية للاستيلاء على قناة السويس. خارج تجربة كامبريدج، سلك أندرسون طريقا ليصبح ماركسيا، وباحثا ضد الاستعمار.

التحق أندرسون، عقب كامبردج، بكلية كورنيل  للدراسات العليا، وانهمك  في دراسة أندونيسيا. رغم أن أندرسون قضى جزءا كبيرا من حياته في الولايات المتحدة، لكن  ليس من سليم القول أنه أصبح أمريكيا، في الواقع، لو كان لأندرسون وطن، ستكون إندونيسيا، البلد التي وهبها قلبا وعقلا ليس بدراساته فحسب، بل حتى باستقراره العاطفي.

كانت الفصاحة اللغوية لعائلة أندرسون خارقة للعادة تقريبا. كان بيري اندرسون متمكنا في قراءة جميع اللغات الأوروبية الأساسية، رغم هذا، أعلن مرة بأسف، أن أخاه الأكبر هو متعدد اللغات للعائلة، ، فبنديكيت يقرأ الهولندية، الألمانية، الإسبانية، الروسية، والفرنسية، وكان مُلماً بشكل كامل بالإندونيسية، الجاوية، التغالوغ، والتايلاندية. وادعى أنه يُفكر غالبا بالإندونيسية. ( كانت القدرة على اكتساب لغات متعددة أمرا ملحوظا لعائلة أندرسون، فالشقيقة الصغرى ميلاني أندرسون، عالمة الأنثروبولوجيا كانت  تُجيد اللغة الألبانية واليونانية والصرب-كرواتية).

تعجب صديقي الإندونيسي مرة من بنديكت أندرسون لإجادته اللغة الجاوية لدرجة تمكنه من إطلاق النكت بهذه اللغة.  قارن صديقي بين اندرسون و خبير آخر مُلّم بإندونسيا، عالم الانثروبولجيا كليفورد جيرتز، يقول:  ” دائما أستفيد من قراءتي لجيرتز ، بكل بساطة يعمق فهمي لإندونسيا، لكنّ اندرسون يجعلني أرى أشياء حول إندونيسيا لم ألحظها من قبل ، إنه يعرف إندونيسيا كأي إندونيسي آخر “

  غرقت إندونسيا بأعمال عنف لثورة مضادة بين عامي ١٩٦٥-١٩٦٦ مما حدا بالدكتاتور ومناهض الشيوعية والداعم الأمريكي سوهارتو لاتخاذ القوة اللازمة عام ١٩٦٧. قُتل مايقارب  ٦٠٠،٠٠٠ ومليون إندونيسي، في عملية تطهير، كان معظمهم من أنصار أكبر حزب شيوعي في البلاد. شاركت وكالة الاستخبارات المركزية في مساعدة الجيش الاندونيسي بتحديد الأهداف، بعملية عرفت بالعملية السريّة ١٩٦٨ . “واحدة من أسوأ جرائم القتل الجماعي في القرن العشرين.”

كان العنف الحاصل من انقلاب سوهارتو نقطة تحول أساسية في حياة أندرسون . كتب اندرسون: ” كان شعورا باكتشاف أن من أحبه شخص قاتل ” . كرّس أندرسون نفسه في قضية تأريخ التاريخ الحقيقي للإنقلاب ومواجهة أكاذيب نظام سوهارتو. بينما ألّف في جامعة كورنيل عام ١٩٦٦ إلى جانب زملاؤه مؤلفا سريّا سمي بـ “بحث كورنيل” وهو بمثابة تقرير أصبح لاحقا وثيقة رئيسية لفضح الحساب الرسمي للانقلاب، والتي تم تعميمها على نطاق واسع في الأوساط الإندونيسية المعارضة.  كان أندرسون بالإضافة لذلك، أحد الشهود الأجانب في محاكمة سوديسمن عام ١٩٧١ ، الأمين العام للحزب الشيوعي الإندونيسي، والذي حُكم عليه بالإعدام. بعد ذلك قام اندرسون بترجمة ونشر شهادة سوديسمن، والتي تعد أيضاً نصا مهما في التاريخ الإندونيسي.

طُرد أندرسون من إندونيسيا عام ١٩٧٢، و أصبح منفيا من وطن أنشأه. سُمح له بالعودة لإندونيسيا عام ١٩٩٨، بعد الإطاحة بنظام سوهارتو ، وبعد زيارة وجيزة وخاصة لأصدقاءه ، نظّم أندرسون حدثا عاما برعاية صحيفة ( تيمبو ) الإندونيسية الرائدة .

في مقالة رائعة بمجلة ( لينقوا فرانكا )، وصف الصحفي سكوت شيرمات عودة أندرسون لإندونيسيا بقوله:

في فندق فاخر وسط مدينة جاكرتا، خرج أندرسون الذي يبلغ من العمر اثنين وستين عاما-مرتديا قميصا خفيفا وسروالا لشدة الحرارة-على جمهور كثيف كان بانتظاره، قرابة ثلاثمائة من العامة، كبار الصحفيين، أساتذة كبار في السن، طلاب سابقين، ومتفرجين. بإندونيسية فصيحة، هاجم أندرسون  المعارضة السياسية لجبنها وإخلالاتها التاريخية- خاصة المجازر التي وقعت عام ١٩٦٥-١٩٦٦.

خلال عودته إلى إندونيسيا، التقى أندرسون مجددا بشاب شيوعي صيني كان يحاكم مع سوديسمن. اعتقد  أندرسون بأن هذا الشاب قد قتل مع سوديسمن . لكنّ معجزة بقائه على قيد الحياة كانت دليلاً على أن نظام سوهارتو لم يُدمّر كل شئ .

برز  أهم أعمال أندرسون (الجماعات المتخيلة )

من قسوة التاريخ الإندونيسي ، كيف لشعوب مختلفة مثل إندونيسيا، تتكون من عدة لغات وعدة قبائل أن يعيشوا مع بعضهم البعض ؟ ولماذا يسقطون  أحيانا؟ مالذي يمنع البشر في المجتمعات الكبيرة من قتل بعضهم البعض، ولماذا يفشل تماسك الشعوب أحيانا؟ لم تكن هذه الأسئلة بالأسئلة المجردة لأندرسون بل أنها تولّدت من تعمقه بالتاريخ الإندونيسي .

رغم أن أفضل ماقدم أندرسون من أعمال كان “الجماعات المتخيلة”، إلا أن كل ماكتبه يستحق القراءة ، هناك أيضا بعض من الدراسات الرصينة حول الإرهاب العالمي، وعمله ( تحت ثلاث رايات :الأناركية وخيالات مناهضة الاستعمار (٢٠٠٥). كما حسُن نظمه ونثره في الروايات والشعر، تماما مثلما كان في علميته. كان أندرسون مدافعا بليغا للثقافات العالمية، ، مثيرا الانتباه  للأدب الإندونيسي والفلبيني. من الجيد أن أندرسون -كمتجول حول العالم- توفي في إندونيسا ، البلد التي يمكن أن يسميها وطنا.