مجلة حكمة

عادات حسنة وأخرى سيئة – كريبيل & سميث


يحدد الباحثون بدقة دارات الدماغ التي يمكنها مساعدتنا
على تكوين عادات حسنة والتخلص من العادات السيئة.

<M .A. گريبيل> – <S .K. سميث>

باختصار-3

نقوم يوميا بعدد مدهش من السلوكات الاعتيادية. والعديد منها، من تنظيف أسناننا بالفرشاة إلى القيادة في طريق مألوف لنا، يسمح لنا ببساطة بالقيام ببعض الأمور بصورة آلية بحيث لا نثقل على أدمغتنا بالتركيز على كل تصرف وعلى ما لا يعد ولا يحصى من عمليات الضبط الصغيرة لمقود القيادة. ويمكن لعادات أخرى، مثل الركض، أن تساعد على المحافظة على صحتنا. ولكن المُتع التي تظهر من طبق الحلوى بانتظام قد لا تفعل ذلك. أما العادات التي تحوم وتضل السبيل في مجال الدوافع والإدمان، من قبيل الإفراط في الأكل أو التدخين، فيمكن أن تهدد حياتنا.

ومع أن العادات تشكل جزءا كبيرا من حيواتنا، إلا أن العلماء قضوا أوقاتا صعبة لأجل تحديد الكيفية التي يُحوِّل بها الدماغ سلوكا جديدا إلى عادة. لكن، من دون تلك المعرفة، كان من الصعب على المختصين مساعدة الناس على التخلص من العادات السيئة، سواء باستخدام الأدوية أو بعلاجات أخرى.

وأخيرا أصبحت التقنيات الجديدة تسمح لعلماء الأعصاب بتحديد الآليات العصبية التي تكمن وراء ما نمارسه من طقوس، بما في ذلك تحديد ما يسمى دارات عاداتنا(1)، وهي مناطق الدماغ والروابط المسؤولة عن تكوين التصرفات المعتادة والمحافظة عليها. وتساعد الأفكار الواردة في هذه الأبحاث علماء الأعصاب على أن يستنتجوا كيف يقوم الدماغ ببناء العادات الحسنة، ولماذا يبدو أننا نكافح جميعا للإقلاع عن العادات السيئة التي لا نوليها اهتماما خاصا، وذلك إلى جانب تلك التي يطلب إلينا الأطباء أو الأحبة التوقف عنها. ويفيد هذا البحث بأننا عندما نخضع أدمغتنا عمدا لعلاقة شرطية، فإننا قد نتمكن من التحكم في عاداتنا، حسنها وسيئها على حد سواء. وتأتي هذه البشرى من واحدة من عدة مفاجآت: وهي أنه حتى وإن كان الأمر يبدو وكأننا نتصرف بصورة آلية، إلا أن جزءا من دماغنا يرصد سلوكنا ويضبطه على أكمل وجه.

لكن ما العادة حقا؟(**)

تبرز العادات على ما يبدو بوصفها تصرفات محددة واضحة المعالم؛ ولكنها، من وجهة نظر علم الأعصاب، تقع على امتداد سلسلة متصلة من السلوك البشري.

وفي أحد طرفي هذه السلسلة المتصلة تقع السلوكات التي يمكن أداؤها آليا بما يكفي لتحرير مجال من الدماغ لأداء أعمال مختلفة، هذا بينما يمكن لسلوكات أخرى أن تتطلب الكثير من وقتنا وطاقتنا. وتظهر سلوكاتنا طبيعيا بينما نقوم باستكشاف بيئاتنا المادية والاجتماعية وأحاسيسنا الداخلية. ونحن نجرب سلوكاتنا في سياقات معينة، ونبحث عن أيها تبدو مفيدة ولا تكلف كثيرا، ومن ثم نلتزم بتلك التي سوف تشكل عاداتنا.

إننا نبدأ جميعا هذه العملية في سن مبكرة جدا. ومع ذلك، فإنها تأتينا بما يمكن ألا يكون في صالحنا. وكلما أصبح سلوك ما عاديا، أصبحنا أقل إدراكا له، ومن ثمّ فإننا نفقد حالة الانتباه التام إلى ذلك السلوك. هل حقا أطفأت الفرن قبل مغادرة البيت؟ هل أغلقت الباب بالمفتاح؟ فقدان السيطرة هذا لا يتداخل مع عمل حياتنا اليومية فحسب، بل إنه يسمح أيضا للعادات السيئة بأن تتسرب إلينا. وسرعان ما يدرك العديد من الأشخاص الذين يزداد وزنهم بضعة كيلوغرامات مرة واحدة، أنهم أصبحوا يذهبون إلى جناح الأكل الخفيف أو محل كعكة «الدونت»(2) أكثر فأكثر، ولا يكادون يفكرون في ذلك وهم يقومون به.

وهذا الإخفاق الذي يؤثر تدريجيا في ضبط تصرفاتنا يعني أيضا أن العادات يمكن أن تصبح شبيهة بالإدمان. لاحظوا ألعاب الحاسوب، والقمار عن طريق الإنترنت، والرسائل القصيرة والتغريدات المستمرة، وبطبيعة الحال تعاطي الكحول والمخدرات. يمكن لنمط من السلوك المتكرر القائم على الإدمان أن يحل محل ما كان اختيارا إراديا متعمدا. ولا يزال علماء الأعصاب في صراع مع مسألة ما إذا كانت عمليات الإدمان تشبه العادات العادية، ولكنها أكثر كثافة منها، مع أنه يمكن بالتأكيد اعتبارها حالات متطرفة على الطرف الآخر من السلسلة المتواصلة. وعلى هذا النحو يمكن أن تكون بعض الظروف العصبية النفسية، مثل الوسواس القهري(3) الذي تستحوذ فيه الأفكار أو التصرفات على كامل الكيان، وبعض أشكال الانهيار العصبي الذي يمكن للأفكار السلبية فيه أن تدخل في تحلقات مستمرة. وربما تكون الأشكال المتطرفة من العادة متورطة في التسبب في مرض التوحد وفي انفصام الشخصية اللذين تعد فيهما السلوكات المتكررة والمفرطة في التركيز مشكلة.

السلوك الإرادي المتعمد يستحيل سلوكا عاديا(***)

مع أن العادات تندرج ضمن جوانب مختلفة من طيف السلوك، إلا أنها تتقاسم معا بعض السمات الجوهرية. فحالما تتكون، فإنها، على سبيل المثال، تصبح عنيدة. اطلب إلى نفسك «التوقف عن فعل ذلك»، ولكن درس التأنيب يخفق في تحقيق ثمرته في أغلب الأحيان! ويمكن أن يعود جانب من السبب إلى أن هذا الانتقاد غالبا ما يأتي متأخرا، أي بعد أن يكون السلوك قد فعل فعله وأصبحت آثاره ملموسة.

وقد أصبح هذا العناد، بوجه خاص، مفتاح الحل لاكتشاف مجموعة دارات الدماغ المسؤولة عن تكون السلوك والمحافظة عليه. فالسلوكات تصبح متأصلة إلى درجة أننا نقوم بها حتى عندما لا نرغب في ذلك، ويعزى ذلك في جانب منه إلى ما يسمى «طوارئ التعزيز»(4). وليكن مثلا إنك تفعل «أ»، وهو ما يترتب عليه أن تحصل على مكافأة بشكل ما. لكنك إذا ما أنت قمت بالأمر «ب» فإنك لا تحصل على المكافأة وقد تعاقب. وهذه النتائج الناجمة عن تصرفاتنا – الطوارئ – تدفع بمستقبل سلوكنا في هذا الاتجاه أو ذاك.

ويبدو أن الإشارات التي تم اكتشافها في الدماغ تتوافق مع هذا التعلم المرتبط بالتعزيز، وهو ما تبينه الدراسات الجديدة التي ابتدرها <W. شولتز> و<R. رومو>، وكانا كلاهما آنذاك يعملان في جامعةFribourg السويسرية، وهي الإشارات التي أصبحت تصمم اليوم على يد علماء الحاسوب. والأمر المهم، بوجه خاص، هو «إشارات الخطأ في توقع المكافأة»، وهو ما يدل، بعد وقوع الحدث المعين، على تقدير الذهن لمدى دقة وصحة تنبؤ ما بشأن تعزيز مستقبلي. وبطريقة ما يقوم الدماغ بحساب هذه التقديرات التي تشكل توقعاتنا وتضيف أو تطرح قيمة من مسارات عمل بعينها. وبالمراقبة الداخلية لتصرفاتنا وإضافة ثقل إيجابي أو سلبي إليها، فإن الدماغ يرسخ سلوكات بعينها، محولا التصرفات من تصرفات مقصودة متعمدة إلى تصرفات اعتيادية، حتى عندما نعلم أن علينا ألا نقامر أو نفرط في الأكل.

لقد تساءلنا مع غيرنا عمّا يجري في شبكة أسلاك الدماغ لإحداث هذا التحول، وعما إذا كان بإمكاننا إيقافه. وبدأ فريقنا في مختبر <گريبيل> في المعهد (.M.I.T)ا(5) بإجراء تجارب لفك شفرة المسارات المعنية في الدماغ، وكيف يمكن لنشاطها أن يتغير مع تشكل العادات.

وفي بداية الأمر، كنا في حاجة إلى اختبار تجريبي لتحديد ما إذا كان سلوك ما عادة. وكان عالم النفس البريطاني <A. ديكنسون> قد صمم اختبارا في الثمانينات لا يزال مستخدما على نطاق واسع، حيث قام مع رفاقه بتعليم الجرذان في صندوق للتجارب الضغط على ذراع للحصول على طعام كمكافأة.

وعندما تعلمت الحيوانات هذه المهمة جيدا، وأعيدت إلى أقفاصها، «خَفَّض» القائمون على التجربة من قيمة المكافأة، سواء بترك الجرذان تأكل المكافأة إلى درجة التخمة أو بمنحها مخدرا يؤدي إلى غثيان خفيف بعد أكل المكافأة. وبعد ذلك، قاموا بإعادة الجرذان إلى صندوق التجارب، ومنحوها الخيار بين الضغط على الذراع أم لا. فإذا ضغط جرذ على الذراع، حتى وإن أصبحت المكافأة عندئذ غير سارة، فإن <ديكنسون> كان يعتبر السلوك عادة. ولكن، لو كان الجرذ «يقظا» –إذا جاز لنا أن نتحدث عن يقظة لدى جرذ – فإنه لا يضغط على الذراع كما لو كان يدرك أن المكافأة أصبحت الآن غير سارة، فلا تتشكل عادة. وقد أتاح الاختبار للعلماء طريقة لرصد ما إذا كان قد حدث تحول من سلوك هادف إلى سلوك معتاد.

انطباع عادة على الدماغ(****)

باستخدام تنويعات من هذا الاختبار الأساسي وجد الباحثون، بمن فيهم <B. بالين> [من جامعةSydney] و <S. كلكروس> [من جامعة New South Wales]، دلائل على أن دارات الدماغ تأخذ زمام المبادرة عندما تتحول الأعمال المقصودة المتعمدة إلى عادة. وتشير اليوم أدلة جديدة من التجارب على الجرذان وعلى البشر والقردة أيضا، إلى وجود دارات متعددة تربط بين القشرة الجديدة neocortex، التي ينظر إليها على أنها مفخرة دماغ الثدييات فينا، وبين المخطَّط striatum، في مركز العقد القاعدية basal ganglia، وهو ما يقع في قلب المركز من دماغنا. [انظر لإطار “نشاط الدماغ”]. وتصبح هذه الدارات منخرطة إلى درجة تعلو أو تنخفض عندما نتصرف إما عن قصد أو بالعادة.

وقد قمنا بتعليم جرذان وفئران تنفيذ سلوكات بسيطة. ففي إحدى المهام تعلمت الركض على طول متاهة على شكل T عندما تسمع نقرة. ويتوقف الأمر على إيحاء ينطوي على «إيعاز» instruction” cue“ صوتي ينطلق عندما تركض، حيث تلتفت يسارا أو يمينا إلى أعلى الشكل T وتركض في ذلك الاتجاه وتحصل على نوع آخر من المكافأة. وكان هدفنا أن نفهم كيف يميز الدماغ بين مزايا ومساوئ اتخاذ سلوك بطريقة ما، ثم الختم على سلسلة من السلوك بوصفها «حافظة»، أي عادة. فمن المؤكد أن جرذاننا كونت عادات لها! وحتى عندما تصبح مكافأة ما غير سارة، فإن الجرذان قد تركض نحوها عندما ينطلق صوت الإيعاز.

ولمعرفة الكيفية التي يقوم بها الدماغ بالختم نهائيا على سلوك ما على أنه يمثل عادة، بدأ مختبر المعهد .M.I.T بتسجيل النشاط الكهربائي لمجموعات صغيرة من النورونات(6) (عصبونات) neurons في منطقة المخطط. وقد أثار ما وجده فريقنا دهشتنا. فعندما كانت الجرذان تتعلم المتاهة أولا، كانت النورونات في الجزء من المخطط الذي يتحكم في الحركة نشطةً طيلة الوقت الذي كانت تركض فيه الجرذان. ولكن عندما أخذ سلوكها يصبح أكثر اعتيادا، بدأ نشاط النورونات يتكدس في بداية الركض وآخره، ويسكن طيلة ما بين ذلك من الوقت. فقد كان الأمر كما لو أن كل السلوك أصبح مُغلَّفا، مع قيام خلايا المخطط بتسجيل بداية كل عملية ركض ونهايتها. [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. فقد كان هذا نمطا غير مألوف، والذي بدا أنه ربما كان يحدث هو أن خلايا المخطط كانت طيعة، بحيث يمكن أن تساعد على تغليف الحركات وضمها معا، بينما تترك «خلايا خبيرة» قليلة العدد نسبيا للتعامل مع تفاصيل السلوك.

وقد ذكرنا هذا النسق بالطريقة التي يرسخ بها الدماغ الذكريات. نحن نعلم جميعا مدى الفائدة من تذكر سلسلة من الأرقام كوحدات أوسع عوض تذكرها رقما رقما، مثل التفكير في رقم هاتف على أنه 1212-555 بدلا من 212-1-555. لقد وضع عالم النفس الأمريكي الراحل <A .G. ميلر> مصطلح «التقطيع إلى كتل»(7) للإشارة إلى عملية عزل الأشياء في وحدة ذاكرة. وبدا نشاط النورونات الذي لاحظناه في بداية الجري ونهايته أمرا مماثلا. ويبدو الأمر كما لو أن المخطط يسم حدودا لكتل السلوك – العادات – التي قررت عملية التقييم الداخلية أنه ينبغي تخزينها. وإذا كان الأمر صحيحا، فإن هذه المناورة ستعني أن المخطط يساعدنا أساسا على الجمع بين سلسلة من التصرفات في وحدة واحدة. أنت ترى طبق الحلوى، وتمد يدك إليه آليا، وتتناول قطعة وتأكلها «دون تفكير».

وقد حدد الباحثون أيضا «دارة التفكير التدبري»(8) التي تشرك جزءا آخر من المخطط، وتكون نشطة عندما لا يجري القيام بالاختيارات بصورة آلية، بل تتطلب بدلا من ذلك بعضا من التفكير لاتخاذ القرار.

ولفهم التفاعل بين دارتيّ التدبر والعادة هاتين، سجلت <Th. ثورن> [من فريقنا] وجود إشارات في كلتا الدارتين في الوقت نفسه. فكلما تعلمت الحيوانات مهمة يصبح النشاط في القسم الخاص بالتفكير التدبري من منطقة المخطط قويا في منتصف الركض، لا سيما عندما يكون على الجرذان أن تقرر أي طريق يجب أن تدور معه في نهاية المتاهة T على أساس نغمة الإيعاز. وكان هذا النسق معاكسا تماما تقريبا لنسق التقطيع إلى كتل الذي أشرنا إليه في المخطط الخاص بالعادة. ومع ذلك، فقد انخفض النشاط مع التحول التام للسلوك إلى عادة. ويعني وجود هذا النسق أنه بينما نتعلم سلوكات، على الأقل مثلما تفعل الجرذان، فإن الدارات المرتبطة بالعادة تكتسب قوة، ولكن هناك تغيرات تحدث أيضا في الدارات المعنية.

 

[التجربة]

التصرف دون تفكير(*****)

  أثبتت التجارب على الجرذان أن الدماغ يعامل العادة بوصفها وحدة سلوك فردية. وقد تعلمت الجرذان الركض عبر متاهة بشكل T وأن تدور يسارا أو يمينا نحو مكافأة، استنادا إلى صوت يُصدِر إيعازا. وأثناء عمليات الركض الأولى (الشكل T الأول الملون)، كان النشاط في منطقة المخطط striatum من الدماغ مرتفعا (أصفر وأحمر) أغلب الوقت. ومع تكوّن عادة (الشكل T الثاني) خَفُت النشاط (أخضر وأزرق) باستثناء عندما يكون على الجرذ أن يقرر الدوران أو الشرب. وحالما تستقر عادة ما (الشكل T الثالث)، فإن النشاط يكون مرتفعا فقط في البداية والنهاية، وهو ما يشير إلى وحدة واحدة من السلوك.

ولأن المخطط يعمل مع الجزء المرتبط بالعادة في القشرة الجديدة في مقدمة الدماغ المعروفة باسم القشرة الحوفية السفلى(9)، فإننا قمنا بتسجيل نشاط يحدث عند ذلك في تلك المنطقة. وكان هذا مفاجأة أيضا. ومع أننا كنا نرى عملية تراكم النشاط عند بدايته وعند نهايته في المخطط الخاص بالعادة، فإننا لم نشاهد في فترة التعلم الأولى إلا القليل جدا من التغيير في القشرة الحوفية السفلى. ولم يجرِ تغير نشاط القشرة الحوفية إلا بعد أن تدربت الحيوانات لفترة طويلة حتى ترسخت لديها العادة. واللافت للنظر هو أنه عندما حدث ذلك تطور هناك نسق التقطيع إلى كتل أيضا. وكان الأمر كما لو أن القشرة الحوفية السفلى هي العنصر الحكيم الهادئ الذي ينتظر حتى يتخذ نظام التقييم في المخطط قرارا نهائيا بأن السلوك المعين كان قيما قبل أن يُعهد به إلى الدماغ الأوسع.

أوقف ذلك!(******)

لقد قررنا اختبار ما إذا كانت القشرة الحوفية السفلى تتحكم بصورة مباشرة في إمكان التعبير عن عادة باستخدام تقنية جديدة تسمى بصريات وراثية(10). وبفضل هذه التقنية تمكنا من وضع جزيئات حساسة للضوء في منطقة صغيرة جدا بالدماغ، ثم بتسليط الضوء على تلك المنطقة تمكنا من إيقاف عمل النورونات أو إثارتها فيها. وجربنا إيقاف عمل القشرة الحوفية السفلى في الجرذان التي اكتسبت تماما عادة المتاهة وتكون لديها نسق التقطيع إلى كتل. وعندما أوقفنا عمل القشرة الجديدة لثوان معدودات فقط، بينما كانت الجرذان تركض، وضعنا حدا للعادة كليا.

وظهر أنه يمكن إيقاف العادة بسرعة، وأحيانا فورا، وأن يستمر الإيقاف حتى بعد إطفاء الضوء. ومع ذلك لم تتوقف الجرذان عن الركض في المتاهة. والشيء الذي زال فقط هو الركض المعتاد إلى المكافأة التي تم تخفيض قيمتها. وبقيت الحيوانات تركض فقط للوصول إلى المكافأة الجيدة على الجانب الآخر من المتاهة. وفي الواقع، بتكرارنا الاختبار، فإن الجرذان طورت عادة جديدة: الركض نحو الجهة التي توجد فيها المكافاة الجيدة من المتاهة مهما يكن الإيحاء الذي يعطى إلى هذه المتاهة.

وعندما قمنا، بعد ذلك، بكبح عمل القطعة الصغيرة جدا نفسها في القشرة الحوفية السفلى أوقفنا العادة الجديدة، وظهرت العادة القديمة على التو. وهذه العودة إلى العادة القديمة حدثت في ثوان معدودات وبقيت بعدد عمليات الركض التي اختبرناها دون الحاجة إلى إيقاف عمل القشرة الحوفية السفلى مرة أخرى.

وكثير من الناس يعرف الشعور بالعمل المضني الذي قاموا به للتخلي عن عادة، لتعود من جديد كاملة بعد فترة مجهدة أو انتكاسة. وعندما درس العام الروسي <I. پاڤلوف> هذه الظاهرة على الكلاب قبل سنوات طويلة، خَلُصَ إلى أن الحيوانات لا تنسى أبدا السلوكات الشرطية العميقة مثل العادات. وأكثر ما يمكنها القيام به هو كبتها. ونحن نجد العناد نفسه من جانب العادات لدى جرذاننا. لكن، وبشكل ملحوظ، يمكننا تشغيل العادات وإيقافها بالتعامل مع جزء صغير جدا من القشرة الجديدة أثناء السلوك الفعلي. لكننا لا ندري المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا التحكم. فعلى سبيل المثال، لو علَّمنا الجرذان ثلاث عادات مختلفة على التتابع ثم أوقفنا الثالثة: فهل تظهر العادة الثانية؟ وإذا أوقفنا الثانية، فهل تظهر الأولى؟

ثمة سؤال رئيسي هو ما إذا كان بإمكاننا منع عادة من التشكل في المقام الأول. فقد قمنا بتدريب جرذان بما يكفي لجعلها تبلغ النهاية الصحيحة للمتاهة T، ولكن ليس بما يكفي ليستقر السلوك كعادة. وبعد ذلك واصلنا التدريب، ولكن خلال كل ركض استخدمنا تقنية البصريات الوراثية لكبح القشرة الحوفية عن العمل. وواصلت الجرذان الركض جيدا في المتاهة، ولكنها لم تكتسب عادة قط، على الرغم من الأيام العديدة من التدريب المكثف الذي عادة ما كان يجعل العادة دائمة. وقد تكونت العادة بشكل طبيعي لدى مجموعة الجرذان الضابطة التي خضعت للتدريب نفسه دون الانقطاع الناجم عن إعمال تأثير تقنية البصريات الوراثية.

التخلي عن العادات السيئة(********)

تتيح التجارب التي أجريناها بعض الدروس المثيرة للفضول. أولا، ليس من المدهش أن تستعصي أي عادة على التخلي عنها، فهي تترسخ وتوسم لتبدو كتلا نمطية لنشاط حيادي، وهي عملية تشمل عمل دارات دماغية متعددة.

وما يثير الدهشة هو أنه حتى وإن بدت العادات آلية تقريبا، فإنها في الواقع تقع تحت التحكم المستمر لجانب واحد على الأقل من القشرة الجديدة، وهذه المنطقة يجب أن تكون عاملة وعلى ارتباط مباشر حتى يتم إعمال العادة. والأمر هو كما لو أن العادات كامنة هناك، وجاهزة للظهور إذا ما وجدت القشرة الجديدة أن الظروف مواتية لذلك. ويحدث هذا حتى وإن كنا لا نعي رصد سلوكاتنا الاعتيادية – فهذا هو، على كل حال، ما يشكل قدرا كبيرا من قيمتها بالنسبة إلينا – لذلك فإن الواقع هو أن لدينا دارات تقوم بتتبعها بصورة فعالة لحظة بلحظة. وقد نصل إلى طبق الحلوى دون «تفكير»، ولكن هناك نظاما للمراقبة يعمل في الدماغ شبيها بنظام التحكم الموجود في الطائرة.

إذن، ما مدى قُربنا من تحقيق مساعدة الناس في العيادة الطبية النفسية؟ فمن المرجح أن الأمر سيستغرق وقتا طويلا حتى يتمكن أحد ما من إدارة زر للتخلص من عاداتنا المزعجة. والطرق التجريبية التي نستخدمها نحن وآخرون لا يمكن نقلها إلى حد الآن إلى البشر مباشرة. ولكن العلوم العصبية آخذة في التغير بسرعة البرق، والذين يعملون منا في هذا المجال يقتربون من شيء مهم حقا: ألا وهو تحديد الأسس التي تعمل بها العادات. فإذا تمكنا من أن نفهم تماما كيف تبنى العادات وكيف تهدم، فإنه يمكننا أن نفهم بصورة أفضل سلوكاتنا الذاتية الغريبة، وكيف يمكن لنا أن نوجهها أو نسددها.

ويمكن أيضا أن تكون معرفتنا الآخذة في الاتساع قادرة حتى على مساعدة الأشخاص الذين هم في أقصى حالات التطرف في عاداتهم، وذلك بإتاحة أفكار عن كيفية معالجة اضطراب الوسواس القهري ومتلازمة توريتTourette، والخوف أو اضطراب الإجهاد في مرحلة ما بعد الصدمة.

ويمكن للعلاج بالدواء، أو لعلاجات أخرى آخذة في الظهور، أن تساعد على التخلص من مثل هذه العادات الضارة. ولكننا مندهشون أيضا من الكيفية التي يمكن أن تُدعِّم بها الدروس، التي تعلمناها من هذا البحث المتعلق بالدماغ استراتيجيات المعالجة السلوكية، وهو ما يُنصح به عادة لمساعدتنا على اتخاذ عادات سليمة والتخلص من العادات غير السليمة. فإذا ما أردت التعود على الركض صباحا، فقد يتعين عليك إذن أن تخرج حذاء الركض في الليلة السابقة حتى لا تنساه في اليوم التالي عندما تستيقظ. فهذا الإيحاء البصري يحاكي الإيحاء الصوتي الذي استعملناه لتدريب الجرذان، وسيكون الأمر فعالا بوجه خاص لو قدمت مكافأة إلى نفسك بعد الركض. قم بهذا الأمر عدة صباحات، فقد يطور دماغك نسق التقطيع إلى كتل الذي تريد. أما إذا ما أردت التخلي عن طبق الحلوى فيمكنك إبعاده من غرفة الجلوس أو المكتب، أي إلغاء الإيحاء.

وقد لا يكون تغيير العادات سهلا أبدا. وكما قال <M. توين>، فإن «العادة هي العادة، ولا يمكن لأي كان أن يلقيها من النافذة، بل يتم التخلي عنها خطوة خطوة». غير أن تجاربنا تقودنا إلى رأي متفائل مفاده أنه بمزيد من التعلم عن الكيفية التي تَبني بها أدمغتُنا العاداتِ وتحتفظ بها، فإننا نأمل بأن ندرك كيف يمكن للمرء إقناع نفسه بالتخلي عن العادات غير المرغوب فيها واتخاذ العادات المرغوب فيها.

(مجلة العلوم –  ديسمبر2014)


المؤلفين:

Ann M. Graybiel

<گريبيل> أستاذة في المعهد .M.I.T وباحثة في معهد ماگوڤرن لبحوث الدماغ التابع للمعهد .M.I.T.

 ——–

Kyle S. Smith

<سميث> أستاذ مساعد في علوم النفس والدماغ في كلية دارتماوث.


مراجع للاستزادة

Habits, Rituals, and the Evaluative Brain. Ann M. Graybiel in Annual Review of Neuroscience,
Vol. 31, pages 359–387; July 2008.
Human and Rodent Homologies in Action Control: Corticostriatal Determinants
of Goal-Directed and Habitual Action. Bernard W. Balleine and John P. O’Doherty in
Neuropsychopharmacology, Vol. 35, pages 48–69; 2010.
Optogenetic Stimulation of Lateral Orbitofronto-Striatal Pathway Suppresses Compulsive
Behaviors. Eric Burguière et al. in Science, Vol. 340, pages 1243–1246; June 7, 2013.
A Dual Operator View of Habitual Behavior Reflecting Cortical and Striatal Dynamics. Kyle
S. Smith and Ann M. Graybiel in Neuron, Vol. 79, No. 2, pages 361–374; July 24, 2013.


(*)GOOD HABITS, BAD HABITS

(**)WHAT IS A HABIT, REALLY?

(***)DELIBERATE BEHAVIOR BECOMES ROUTINE

(****)IMPRINTING A HABIT ON THE BRAIN

(*****)Acting without Thinking

(******)STOP THAT!

(*******)How Habits Form

(********)BREAKING BAD HABITS


(1) habit circuits

(2) the doughnut

(3) obsessive-compulsive

(4) reinforcement contingencies

(5) the Massachusetts Institute of Technology

(6) أو: خلايا عصبية دماغية

(7) ”the term “chunking

(8) ”deliberation circuit“

(9) the infralimbic cortex

(10) optogenetics

*مجلة العلوم