مجلة حكمة
مقارنة الثقافات

مقارنة الثقافات: التغريب، احترام الثقافات، ونسويات العالم الثالث

الكاتبأوما ناريان
ترجمةإكرام البدوي

مقدمة

ليست مهمة سهلة أن تحاول المرأة أن تعِّرف نفسها ثقافياً وسياسياً بأنها نسويّة من نسويات العالم الثالث، فهي هويّة غير مستقرة ولا تدعو للاستقرار (كما هي الهويات عادةً وعموماً)، إلا أنها أيضاً هويّة كثيراً ما تضطر إلى شرح ذاتها. ليس ثمة خطأ في مسألة أن يتكلم المرء عن نفسه- عن مكانه كمتحدث ومفكِّر؛ وعن خبراته وتصوراته المعقَّدة وإحساسه بالحياة، والتي كلها تدعم اهتماماته؛ وعن الأسباب والمشاعر والمخاوف التي تؤسس لموقف المرء من قضية ما؛ وعن القيم التي تبني أحكام المرء على الأشياء.

ولحديث المرء عن نفسه أسباب كثيرة تؤيده، وينطبق هذا علينا جميعاً. يمكننا هذا من أن نفهم –بتواضع وعرفان وألم- كيف تشكلت خلفياتنا، وبأن نتحسس حدود رؤيتنا، وأن نفهم كيف تحددنا ظروفنا كما تُلْهِمنا، وأن نكون على وعي ذاتيّ إلى حد ما بمنظورنا تجاه الأشياء. إلا أنني أعتقد أنه من الغريب في العديد من نسويات العالم الثالث هو الإحساس أن هذه الرواية الذاتية –في حالتنا- مطلوبة بل وضروريّة، حيث أن الآخرين يضعوننا موضع المشتبه فيهم، ويرون أن منظورانا هي ناتج فاسد إشكاليّ لاتجاهنا إلى “التغريب (Westernization). يواجه العديد من نسويات العالم الثالث موقفاً يرى أن نقدنا لثقافاتنا ليس سوى تجسيدٍ للوعي الكولونياليّ ولرؤى “النساء البيضاوات الأصليّات ذوات الامتياز”، وأننا نسعى لمهاجمة “ثقافتنا غير الغربيّة” على أساس قيمٍ “غربيّة”([1]). أحاول في هذا المقال الكشف عن بعض المشاكل والتناقضات التي تشتمل عليها اتهامات “التغريب” هذه، كما نحاول فهم محفزاتها ودوافعها.

اعترف منذُ البداية بما هو غريب في وضعي الشخصيّ، حيث عشتُ وتربيتُ في عدة أماكن مختلفة. وُلِدُت في الهند وعشتُ في بومباي حتى وصلتُ سن الثامنة، وحينها انتقلتُ مع أسرتي إلى أوغندا، ثم عدتُ إلى الهند في الرابعة عشرة من عمري وعشت هناك حتى الخامسة والعشرين. كما الحال مع الكثير من الأطفال الهنود من الطبقة المتوسطة، كان تعليمي الرسميّ باللغة الإنجليزيّة. طوال السنوات الماضية عشتُ في الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا فإن اعتباري لنفسي إحدى نسويّات العالم الثالث يجلب لي المشاكل، وهذا مثلاً على عكس النسويات اللاتي يعشن وينشطن كنسويّات داخل السياقات القوميّة للعالم الثالث بالكامل. تصير تسميتي “نسوية من العالم الثالث” مشكلة إذا كان فهم هذا المصطلح محدوداً بالإشارة حصراً إلى النسويات اللاتي يعشن وينشطن في دول العالم الثالث، كما يشير المصطلح بالفعل أحياناً. لكن، مثله مثل مصطلحات أخرى عديدة، لدى مصطلح “نسويات العالم الثالث” حالياً العديد من الاستخدامات. كذلك تستخدم بعض النسويات المنتميات إلى مجتمعات الملونين في الدول الغربيّة مصطلح “العالم الثالث” للإشارة إلى أنفسهن ومجتمعاتهن ونشاطهن السياسي، لاجتذاب انتباه الساسة إلى التشابه بين مجتمعاتهن ومجتمعات العالم الثالث من حيث الموقف والمشاكل اللاتي يوجهنها. كوني نسويّة ملونة تعيش في الولايات المتحدة، فإنني أظلّ “نسويّة من العالم الثالث” بهذا المعنى الأوسع للمصطلح.

ومن خلال هذا المقال، وجدتُ نفسي في صراع بين رغبتي السياسيّة في إقرار استخدام هذا المعنى الأوسع للمصطلح، وبين جوانب مشروعي التي بدت وأنها تصدِّق على الاستخدام الأضيق. غالباً، قررتُ استخدام مصطلح “نسويات العالم الثالث” في نطاقه الأضيق في هذا المقال، للإشارة إلى النسويات اللاتي اكتسبن الرؤى النسويّة وشاركن في السياسة النسويّة في دول العالم الثالث، واللاتي ما تزلن تفعلن ذلك، حيث أن ما أهدف إليه هو تأكيد أن المنظور النسويّ ليس “أجنبياً” عن هذه السياقات “القومية” في العالم الثالث. ثمة سبب آخر لهذا الاختيار، هو أن تهمة “التغريب” أو ممارسة “سياسة غربيّة” التي أتناولها هنا تُعَمَّمُ أكثر على النسويات في السياقات القوميّة للعالم الثالث. مع أن نسويّات “بعض” المجتمعات الملونة في السياقات الغربيّة –مثل نسويات الجاليات الهنديّة المشتتة- يتهمن أحياناً بـ “التغريب”، إلا أن تهم “عدم الأصالة” التي تعمم على الكثير من النسويّات السوداوات والأمريكيات المكسيكيات عادة ما تأتي في صورة تأكيد بأنهم يعتنقن سياسة “البيض” لا سياسة “الغرب”. حينما نواجه مثل هذه التعقيدات في مسألة المصطلحات، فإن أفضل ما نفعله هو أن نوضع استخدامنا للمصطلحات ونقدم شرحاً لأسباب اختيارنا.

أود أن أتحدث بصفتي نسوية من العالم الثالث، لثلاثة أسباب مختلفة. الأول، فلأنني عشتُ ربع القرن الأول من حياتي في دول من العالم الثالث وترعرعتُ سياسياً في هذه الخلفيّات، فإن جزءً كبيراً من أحاسيسي وآفاقي السياسية شكّله الواقع القومي في دول العالم الثالث بشكلٍ راسخ لا يتغير. ثانياً، فهذا المقال محاولة لتفسير مدى تأصل مخاوف وتحليلات نسويات العالم الثالث للمشاكل التي تواجهها النساء في خلفياتهنّ القوميّة، ومدى تجاوب هذه المخاوف والتحليلات مع تلك المشاكل؛ كما هو محاولة لإثبات أنها ليست محاكاة ساذجة للمخاوف السياسيّة للنسويات الغربيات. إنني بحاجة لأن أتحدث كـ “واحدة منهن” لأوضح ما أريد قوله، حتى بينما أحاول الشرح المفصل لمعنى أن يشغل المرء ثقافةَ ما. أخيراً، ومع أن اعتباري نفسي نسوية من العالم الثالث هو أمر خاضع للتأهيل والإصلاح، إلا أنه ليس سوى مسمى آخر ألحقه بنفسي، ليس أكثر من اعتباري نفسي هندية أو نسوية أو امرأة، حيث أن جميع هذه الهويات ليست مجرد هبات، وإنما هي أيضاً تفتح طرقاً أعقد لشَغْلِها، ولا تضمن خبرات أو مخاوف معينة كثيرة، حتى وإن كانت تشكِّل حياة المرء بشكلٍ كبير.

لا “أحدد موقعي” أو أحدد من أنا لأنني “أفترض أن هويتي تحدد كيفية وعلّة معرفتي”، وإنما لأشير إلى التعقيدات المحيطة بذكر هويتي، والتعقيدات وراء اتخاذي هويات معيَّنة في خطابي. إلا أنني مع ذلك أرغب في أن ألمّح إلى بعض “الروابط” بين التعقيدات المحيطة بهويتي وما أدعي معرفته. وأعني بـ “الروابط” صوراً أضعف تأثيراً أو ارتباطاً مما يعنيه مصطلح “محدد”. لستُ فحسب “أفترض” وجود هذه الروابط، وإنما أحاول الحديث عنها، وهو موقف يعطي “أهلية” لخطابي ويجعل طبيعة هذه “الأهلية” مفتوحة للتقييم والاستجواب.

أحاول في القسم الأول من هذا المقال الرد على اتهامات “التغريب” المستخدمة للتلميح إلى أن السياسات النسويّة للعالم الثالث “زائفة” و”ليست في محلها”. كما أحاول في القسم الثاني تفسير السبب الكامن وراء تعميم مصطلح “التغريب” بالخصوص على نسويات العالم الثالث، حيث يبحث القسم في التاريخ الكولونياليّ ليثبت أن تعريفي “الثقافة الغربية” و”الثقافة الأصلية القومية” المتناقضين لمستعمرات معيّنة تأسست في خضم الصراعات السياسية بين الكولونالية وبين الحركات القوميّة، وأن الموقع المحدد لمجموعات مختلفة من النساء في هذه الصراعات = يساعداننا في تسليط الضوء على اتهامات “التغريب” المعاصرة التي يتم تعميمها ضد السياسات النسوية في العالم الثالث. أما القسم الثالث فيستكشف مدى “الانتقائية” في وصم التغيرات الاجتماعيّة في سياقات العالم الثالث بوصمة “التغريب”، ويثبت أن تقسيم الأصوات النسويّة في العالم الثالث والتغيرات في الواقع الاقتصادي والاجتماعيّ والثقافيّ في العالم الثالث إلى عنصر “غربي” وعنصر “غير غربي” هي مهمة أعقد بكثير مما يُظَنّ. لا أنوي تقديم تحليلٍ لمصطلح “التغريب” وإنما الإشارة بالتحديد إلى التوترات والتناقضات في استخدام مصطلح “التغريب”، ومناقشة وجوه الانتقائيّة والإشكاليّة في تطبيقات المصطلح. أما في القسم الأخير فإنني أتناول مدلولات التصورات الإشكالية لـ”الثقافة القومية” و”الهوية القومية” للسياسات النسويّة في السياقات الغربيّة وفي السياقات القومية في العالم الثالث. ورغم أن العديد من الأمثلة الواضحة التي أستخدمها للتوضيح هي مأخوذة من السياق الهندي، إلا أنني أعتقد أنه بالإمكان إيجاد أمثلة موازية في سياقات أخرى من العالم الثالث.

الكلام والصمت باللغة الأم

تواجه الكثير من النسويات المنتميات لسياقات العالم الثالث أصواتاً ترغب في اعتبار أي نقدٍ نسويّ منهن لثقافتهنّ مجرد عَرَضٍ لـ “قلة احترامهن لثقافتهن” سببه “التغريب” الذي يبدو أنهن التقطنه كأنه عدوى. تنبع هذه الأصوات من مصادر مختلفة، منها أفراد الأسرة، و-للسخرية- من مثقفين آخرين مدينين في رؤاهم السياسية لنظريات سياسيّة مثل الماركسيّة والليبرالية، وهي كلها ذات أصول “غربية”.([2]) ويبدو أن هذا الميل لقولبة النسويّة في أنها تقليد للفكر السياسيّ “المتغرب” هو أمر شائع في العديد من سياقات العالم الثالث، فمثلاً، تشير ماري فاينسود كاتزنشتاين    (Mary Fainsod Katzenstein) إلى مسألة أن النشاط النسويّ في الهند مع أنه “ظل ذا أهمية كبيرة في إثارة الانتباه الإعلاميّ وفي تشكيل وعي جديد بشأن العنف الموجه ضد أحد الجنسين”، إلا أنه أيضاً استثار صورة من النقد “تصور النشاط النسويّ على أنه نابع من منظور غربي برجوازيّ حداثي”([3]). وسأحاول الكشف عن هذه الافتراضات الإشكالية التي تكمن وراء هذا الاستبعاد الخطابيّ لأصوات نسويات العالم الثالث على أنها رؤى نخبوية “متغربة”، وأن أثبت أنه، بالنسبة للعديد من نسويات العالم الثالث، أن وعينا النسويّ ليس نبتة تنبت في بيئة أجنبية، وإنما له جذور وطنيّة.

إن إحساسي بأنني أستحق النقاش بشأن “ثقافتي” إحساس أصيل يخالطه اليقين والشك معاً. ترعرعتُ في أسرة من جنوب الهند تقليدية من الطبقة المتوسطة، في حاضرة بومباي. كان يعيش معنا جدايّ لأبي في نفس المنزل، ما يجعلنا ما يُسَمَّى في الهند “أسرة مركبة”. كوني الحفيدة الأكبر –والوحيدة لعدة سنوات- نشأتُ مدللة كثيراً. كما أنني أذكر الحدود على ذلك الدلال. حيث أذكر قول أمي لي: “من تظنين نفسكِ لترديّ على أبيكِ هكذا؟” وما فكرت فيه حينها: “لكنني لم أستحق عتابه لي حينها، وهو رفض الاستماع لي، وهي لا تسمح لي حتى بالكلام”.

كذلك أتذكر أن الأمر بالصمت كان يأتي من طرف أمي، التي أخبرتني مبكراً جداً –لأنه لم يكن لديها من أحد آخر تخبره – عن معاناتها في بيتها الزوجيّ. أتذكر غضب وحزن أمي بسبب لجوء أبي إلى “حيادٍ” صامت جعله يرفض “التدخل” في التعسف المنزلي لأمه على أمي. إلا أن أمي نفسها التي كانت تشكو من إسكاتها كانت تُلْزِمني بالصمت، فاعلة بذلك ما كان عليها فعله، حيث أن عدم التزامي كان يعني لديهم عجزها هي عن تربيتي بشكلٍ جيد.

كذلك أذكر كلام أمي بعدها بسنوات: “حينما أتيتُ إلى بومباي بعد زواجي مباشرة، كنتُ بريئة جداً حتى لم أعرف كيف أبدأ بالنقاش أو الاحتجاج إذا ضايقتني حماتي”، بفخر ورضا تعذر عليّ فهمهما. كانت تلك “البراءة” وذلك الصمت يعنيان أنها كانت زوجة جيدة وكنّة جيدة حسنة التربية، و”امرأة هنديّة صالحة”، كانت مسألة كرامة حتى بالنسبة لها هي التي لم تمنعها “براءتها” من أن تدرك أن ما كانت تتعرض له كان خطأ، وإنما منعتها من أن تعترض عليه صراحة. وتلك المرة فقط أحجمت عن أن أقول: “لكن يا أمي أنتِ لم تكوني صامتة تماماً، بل إنكِ كنتِ تلقين بعبئك كله عليّ. أول ما أتذكره (أنتِ من حددتِ التاريخ بعد أن وصفتُ الحدث لكِ وكنتِ مندهشة من أنني تذكرته) هو منظركِ وأنتِ تبكين. سمعتُ كل حكاياتك عن بؤسكِ. والشكل الذي اتخذه “صمتكِ” هو ما دفعني للكلام”.

أود أن أقول إن مناقشاتي وجدلي النسوي تجاه ثقافتي مرتبطة بالديناميكيات الثقافيّة للحياة الأسريّة التي عشتها في طفولتي، وترتبط بإحساسي المبكر بـ “السياسات المنزلية. كانت جدتي –التي أحببتها وكانت تدللني بطريقتها الخاصة- تعذب أمي التي أحببتها هي الأخرى، بطرق مختلفة منها البسيط التافه ومنها غير البسيط، مستخدمة مواهبها الابتكاريّة في تنويع مخزونها من المظالم المنزليّة التي تسطيعها الحموات الهنديات. ومع أن أبي كان ماهراً متمكناً وذا علم بالكثير من الأشياء، إلا أنه لم يكن ليتدخل. فعلى كل حال كانت “تقاليدنا” الثقافيّة لا تعتبر من اللياقة معاتبة الابن لأبويه، ما قدَّم لأبي عذراً ثقافياً مناسباً لعدم التدخل، رغم أنه قد تعلم “تعليماً متغربا” لا يختلف عن التعليم الذي اعتبروه لاحقاً سبباً لعناد ابنته! فكيف إذاً لا يتأثر ولائي واحترامي لـ “ثقافتي” بسبب افتقار أمي للعدل أو السعادة في منزلنا؟

لذا فمن الغريب –وربما ليس غريباً على الإطلاق- أن أمي تضيف صوتها إلى أصوات أخرى كثيرة تعتبر أن “تغريبي” هو سبب مطاعني النسويّة على ثقافتي. وأودّ أن أذكرها –إلا أنني لا أستطيع أن أحمل نفسي على ذلك- بألمها الذي حاصرني حينما كنتُ صغيرة، وهو ألم يسبق بكثيرٍ دخولي المدرسة و”تغريبي”، وهو صيحة تمرد ذات جذور مختلفة أكثر بدائيّة، لم تكن مفاهيمية أو مستوردة من إنجلترا، وإنما بلغتنا الأم. ما أريد قوله لكل من يفنِّد انتقاداتي النسويّة لثقافتي مستخدماً “تغريبي” كسوط مسلط عليّ، هو أن ألم أمي أيضاً كان صوته يتردد بين صفحات كل الكتب التي قرأتها والتي شكلت “ثقافتي الغربية” وتسربت إلى كل حقائبي التي حزمتها إلى منافيّ العديدة.

أقول أنه، بالنسبة للكثير منا نحن النساء في مناطق مختلفة من العالم، أن علاقاتنا بأمهاتنا تشابه علاقاتنا بأوطان الثقافات التي نشأنا فيها. تقدم لنا أمهاتنا وثقافاتنا الأم رسائل متناقضة كثيرة، حيث يشجعن بناتهن على أن تكنّ واثقات وقحات متأكدات من أنفسنا، حتى مع أنهنّ يحاولن أن يزرعن في البنات الطاعة والاحتشام والصمت، وهنّ يبدون في ذلك غافلات عن هذه التناقضات. وهكذا فإن أمي والكثير من الأمهات في نفس الطائفة والطبقة المتوسطة في السياق الهنديّ الذي تربيتُ فيه كنّ يرين التعليم شيئاً جيداً للبنات، وكنّ يشجعننا على أن نبذل وسعنا في الدراسة، وكنّ يرين من الحكمة أن تمتلك البنات المؤهلات اللازمة لدعم أنفسهنّ مالياً، وكن يرين أنه من الجيد أن نتعلم أداء المهمات المختلفة في مختلف مناحي الحياة والتي كانت منحصرة فقط في السيدات من جيل أمي. في الوقت نفسه فقد كنّ ينتقدن بشدة آثار نفس الأشياء اللاتي كنّ يشجعنّ البنات عليها. حيث كنّ خائفات جداً من تسمُّمِنا بالأفكار ومن إصرارنا على استخدام الأفكار التي تعلمناها من الكتب للتساؤل عن الأعراف المجتمعيّة وتقاليد الحياة. كانت الأمهات قلقات بشأن اعتقادنا أن الوظائف ليست فقط شيئاً مهماً جداً لنا في حالة عجزنا عن الزواج وإنما أيضاً عناصر أساسيّة لنا لنعيش حياة مُرْضِية. كانت الأمهات قلقات لاعتقادهنّ أن استقلالنا وثقتنا في أنفسنا كانت تبدو وأنها تحولنا إلى نساء تفتقرن إلى الطاعة والإذعان والامتثال اللازم وجودهم في الزوجات “الهنديات” الصالحات.

ليس الأمر فقط أن الأمهات والثقافات الأصليّة تربّي البنات على رسائل متناقضة، وإنما أيضاً تبدو الأمهات والثقافات على غير درايةٍ بهذه التناقضات. تعبر الأمهات عن المصاعب التي واجهتهنّ في حياتهنّ كونهنّ نساءً، حيث أنهن يعلمننا ما في مصائرنا الروتينية كنساء من قيودٍ وبؤس، بينما يقاومن محاولاتنا للانحراف عن هذه المصائر التي تقررها الثقافات. ولهذا تميل الأمهات لاعتبار بناتهنّ ذوات الاتجاه النسويّ نتائج لفشلهنّ هن في تربيتنا على “تقاليدنا”، كوننا بنات رفضنا الدروس اللاتي قدمتها الأمهات والثقافات الأصليّة. حين ترانا الأمهات هكذا فإنهن لا يرين أننا بالضبط رد فعل على نفس الأشياء اللاتي علمنها، وأننا صرنا البنات اللاتي شكلننا كما أردن.

بالتالي، فقد كانت أمي تصر على رأيها بأن رفضي للزواج المدبر وعدم تحمسي عموماً لمؤسسة الزواج ككل = هو رفض “تغريبي” للقيم الثقافية الهنديّة. لكنها بفعلها ذلك نسيت كم كانت، منذ طفولتي، تشكو كثيراً هي ونساء أخريات –في حضوري- من زيجاتهنّ القاسية؛ ونسيت مدى انتشار وشيوع الاعتراف الثقافيّ في الهندّ بأن الزواج يعرض البنات لمواقف حياتية صعبة؛ كما نسيت بأنني حينما كنت أشاغب في طفولتي كنت ألاقي بالعتاب: “انتظري حتى تعيشي مع حماتكِ، حينها ستتعلمين الأدب.”

لذلك، أحب أن أؤكد أن رأيي بأن الزواج هو مؤسسة ظالمة للعديد من النساء: سابق لاعتناقي الصريح للسياسة النسوية، كما أنه شيء لم أتعلمه من الكتب وإنما من النساء الهنديات عموماً، ومن قريباتي خصوصاً. ففي النهاية، فالكثير من النساء مثل أمي واللاتي ليست “أصالتهن الثقافية” و”هنديتهن” موضع مناقشة، يعترفن بشكلٍ عام بسوء المعاملة التي تتعرض لها النساء في زيجاتهنّ. كما أن سوء المعاملة هذا هو جزء رئيسيّ من “دراما العائلة” التي تصورها الأفلام الهنديّة، وبالتالي فهو عنصر معترف به صراحة من الوعيّ الثقافيّ الشعبيّ. وأقول أن اعتبار وجهة نظر البنات النسويّات مجرّد عرض لـ”التغريب” ولرفضنا لثقافاتنا “هو عجز عن رؤية الكم الهائل من الطعون في سياقاتنا الثقافيّة، كما أن هذا الاعتبار يتجاهل كمّ انتقاد أهل الثقافة لنفس هذه المؤسسات التي يدعمونها، ويتجاهل الاعتراف بأن انتقادات نسويات العالم السائد ليست عادة سوى إحدى الصور السائدة للانتقاد الثقافي الداخليّ للمؤسسات الاجتماعيّة.

وكما يندر أن تروي البنات قصص أمهاتهنّ بنفس المصطلحات التي تقولها الأمهات، فإن البنات ذوات الفكر النسويّ عادة ما يمتلكن روايات عن ثقافاتهن الأصلية تختلف كثيراً عن الروايات السائدة للثقافة عن ذاتها. إن سرد قصة شخصٍ تتقارب حياتها من حياة الراوية –بمصطلحات مختلفة عن مصطلحاتها هي- هو أمر حساس أخلاقياً، ويستلزم استيعاباً وكياسة وقدرة على إفساح مجالٍ للرواية حتى مع إعطاء المجال لرواية الفرد. إلا أن إعادة سرد قصةٍ عن الثقافة الأصليّة بمصطلحات نسوية هو –من ناحية أخرى- أمر “سياسي”. إنه محاولة عموميّة بالتعاون مع الآخرين للطعن في ومراجعة رواية ليست هي رواية الفرد ولا رواية عن “الثقافة ككل”، وإنما رواية عن بعض من لهم سيادة داخل الثقافة نفسها. إنها طعن سياسيّ في روايات سياسية أخرى تشوه مشكلات وإسهامات العديد من أهل الثقافة وتسيء تصويرها وتعجز عن شرحها. إنها محاولة سياسية لسرد قصة مضادة تطعن في السرديات السائدة التي تزعم ملكيّة كامل صرح “ثقافتنا” و”أمتنا” لنفسها، محولة إياها إلى شكلٍ عجيب من الملكيّة، ومستبعدة جميع أصوات ومخاوف ومساهمات العديدين ممن هم أفراد في المجتمع القوميّ والسياسيّ.

عادة ما تقدم الأمهات والثقافات الأصليّة نفس ردود الأفعال العاطفيّة المعقدّة من جهة بناتهنّ النسويّات- الحب والخوف، والرغبة في التبرؤ والرغبة في أن تَفْهَمَ وتُفْهَم، والإحساس بالارتباط العميق والرغبة المسيئة في الحفاظ على مسافة فاصلة. إن امتلاك الفرد رؤيته الخاصة عن ثقافته الأم ليس أقل أهميّة وحتميّة من أن يكوِّنَ المرء إحساسه بالأم وآرائه التي يتعايش فيها الحبّ والولاء تعايشاً مؤلماً وغير مريحٍ مع النقد. ومهما ابتعدنا عن الأمهات والثقافات فإننا نحمل معنا تأثيرهم في أكثر ما نفعله، حتى في طعوننا وتجديدنا في الدروس التي علمنها لنا. إن من يرون نسويّتنا مجرد عرض لـ “التغريب” أو يتهموننا بعدم “احترام ثقافاتنا” لا يفهمون مدى تعقيد علاقات الفرد بالتأثير القويّ الذي يشكِّل التزامات المرء وصراعاته، ولا يرون التقارب بيننا وبين السياقات التي صرنا فيها بنات ونسويّات.

لا أريد القول بأن هنالك بالضرورة أي ارتباط بين التجارب المبكرة للمرأة مع الأدوار الجنسانيّة الظالمة في الأسرة وبين ما اعتنقته المرأة بعد ذلك من سياسات وآراء نسويّة. حيث قد تكتسب بعض النساء جهات النظر السياسية النسويّة من طرق أقل ارتباطاً بخبراتهنّ العائليّة؛ بينما قد تختبر أخريات الأدوار الجنسانيّة الظالمة من دون أن تتكون لديهنّ وجهات نظرٍ نسويّة تجاهها. إلا أنني أصرّ أنه، بالنسبة للكثيرات منا ممن كونَّ وجهات نظر نسويّة، فخبراتنا المبكرة عن الجنسانيّة في أسرنا كانت ذات دورٍ قويّ في تقبلنا لوجهات النظر النسويّة كوجهات نظر تنويرية.

لم تكن أسرتي المباشرة هي المنبع الوحيد للدروس التي تعلمتها عن الجنسانيّة. فبينما كنت أكبر في السن تعلمت أكثر عن مصائر كثيرات من قريباتي، حيث أن “شؤون النساء الكبيرات” التي كانت تُخْفَى عادة عن الطفلات الصغيرات كانت أقلّ خفاءً عن الطفلات الأكبر سناً. كنت في السابعة حين حضر ابن عم أبي وزوجته لزيارتنا. أتذكر كيف كانت زوجته تبكي وتبكي في المطبخ أمام أمي (بشدة لكن بصوت خافت حتى لا يسمعها زوجها الذي كان يتحدث مع أبي في غرفة المعيشة) عن المظالم التي كانت تلاقيها من زوجها وقريبات زوجها. كانت جدتي بعيدة، وكان غيابها هو ما يجعل من المطبخ مكاناً مثالياً لإعلان هذه الأمور بين الزوجات الشابات وبين بعضهن، مع أن أمي كانت تعتبر غريبة بالنسبة لهذه المرأة. أتذكر كلام هذه المرأة عن الضرب والإذلال وعن محاولة زوجها وقريبات زوجها إبعادها عن ابنيها الصغيرين، وعن عجزها عن العودة إلى منزل أبويها لأن لديها أختين لم تكونا قد تزوجتا بعد. قيل لي بعدها بسنوات أنها قد “أصيبت بالجنون” ولن أنسى أبداً بكاءها الحار أو إحساسي بالفزع في ذلك المطبخ بينما أساعد أمي في مجموعة من النشاطات الصاخبة التي كانت بالتأكيد –ولو جزئياً- مقصودة لإخفاء صوت بكاء تلك المرأة الشابة.

هذه القصص التي أرويها هي بلا شك جزء من “تعليمي” مع أنها لم تكن ذات صلة بالدراسة، وهي بلا شك ذات خلفية “هندية”. ومع أنني كنت أريد الربط بين تجارب النساء في أسرهنّ وبين سياستهن النسويّة، إلا أنني لا أريد تبسيط هذه الرابطة. إن الوعي بالديناميكيات الجنسانيّة داخل الأسرة وداخل “الثقافة” –حتى وإن كان وعياً ناقداً- لا يكفي ليجعل من المرأة نسويّة. فالنساء قد يكنّ واعيات بهذه الديناميكيات إلا أنهن قد يعتبرنها مشاكل “شخصية” يتم التعامل معها بشكلٍ شخصيّ، دون النظر إليها كجزء منهجيّ من الطرق التي تحدد بها الأسرة والثقافة والظروف المادية والاجتماعية المتغيّرة الأدوارَ الجنسانيّة وحياة النساء، أو دون الشعور بأن عليهنّ الوقوف ضد هذه الديناميكيات بطرقٍ أكثر رسميّة وعموميّة وسياسيّة. من أجل أن تصير النساء نسويات بالمعنى الكامل للكلمة، يستلزم الأمر اتصالاً سياسياً لهنّ بالنساء الأخريات وبتجاربهنّ، وتحليلات سياسيّة لمشاكل النساء، ومحاولات لبناء حلول سياسيّة لهن، وهو ما يؤكده لنا تاريخ الحركات النسوية في مناطق مختلفة من العالم.

إن الكثير من الانتقادات النسويّة في العالم الثالث –مثل انتقادات موقف ومعاملة النساء داخل أسرهنّ أو الانتقادات لأعراف مثل القتل بسبب المهور- متأثرة بـ، أو تحمل الشبه بـ، الانتقادات التي تجهر بها بعض النساء غير النسويّات داخل الثقافة المنعكسة على خبراتهن الحياتيّة، كونهنّ متأثرات بهذه الأعراف. في هذا الشأن لا تكاد تجد أية مشاكل نسوية من مشاكل العالم الثالث “مستوردة” أو “أجندات تغريبيّة” تفرضها النسويّات على السياقات التي فيها تعجز النساء غير النسويات “ذوات الأصالة الثقافية” عن فهم كل هذا الضجيج الذي تحدثه النسويّات. إلا أن كون التحليلات النقدية النسويّة تحليلات “سياسية” هو ما يجعلها مختلفة كثيراً عن الانتقادات التي تجهر بها نساء مثل أمي على نفس الأعراف. إن الانتقادات النسويّة لمشاكل مثل القتل والتحرش بسبب المهور هدفها تعميم هذه المشاكل كمشاكل رأي عام وجدال عام، بينما الانتقادات التي تذكرها نساء مثل أمي تُقال في سياقات خاصة. كذلك فالانتقادات النسويّة تختلف من حيث مصطلحاتها التحليلية.

ثمة وجه للاختلاف بيني وبين أمي، هو اختلاف “رواياتنا التفسيريّة” للمعاناة التي تميّز حيوات النساء اللاتي نعرفهنّ. حيث تصف رواية أمي هذه المعاناة بإشارات إلى المعاملة القاسية من قِبَل أقرباء للزوج بعينهم، وقسوة وعنف بعض الرجال، واعتبارها “أحداثاً غير سعيدة” تنبع من الميول النفسية لدى الإنسان إلى الطمع والقسوة والشر. ومع اعترافي بميول الإنسان إلى الشر، إلا أنني في روايتي أصر أن هذه ليست كامل القصة، وأن سوء المعاملة هذا نابع بالأساس من ممارسات معينة ومن أنظمة عرفيّة متأصلة في واقع مادي يشمل ثقافتنا وتقاليدنا ومجموعة من التغيرات المستمرة، والعجز الذي يسببه هذا كله للكثير من النساء. ربما الاختلاف هو أن أمي تعترف أن سوء الطالع هو السبب في هذه النتائج الحزينة، إلا أنني أصر أنه ليس بسوء حظ وإنما هو عمد متعمد. التحليلات النقديّة النسويّة للأعراف والممارسات تميل –كما تميل التحليلات السياسية عادة- للإشارة إلى الجانب المنهجيّ والنظاميّ للمشاكل التي تركز عليها هذه التحليلات. وأرى أن وجه الاختلاف بين رواياتي وروايات أمي لا علاقة له بـ”نقائها الثقافي” أو بـ”تغريبي” وإنما له علاقة بصفات معينة طارئة في تاريخ كل منا تميِّز بين جيلينا. فالنساء مثل أمي تربين على وعي بأن المشاكل مثل التحرش بسبب المهور وسوء المعاملة من قبل قريبات الزوج هي أمر شائع، إلا أن أمي لم تتربَّ في مجتمع تعتبر فيه مسألة القتل بسبب المهر مشكلة متزايدة، أو في مجتمع تشارك فيه الجماعات النسويّة في توليد التحليلات السياسية وفي الاحتجاج العام بشأن هذه المشاكل، كما فعلت أنا.

تنمو الحركات النسوية في مناطق مختلفة من العالم حينما تحفِّز الظروف التاريخية والسياسيّة الاعتراف العام بأن العديد من التقاليد والأعراف والعادات التي تُشَكِّل الحياة الشخصية والاجتماعيّة للنساء وتأثير التغيرات المجتمعية الجديدة كلها ضارة لرفاهية النساء، وحينما تفتح هذه الظروف التاريخية والسياسية الباب للطعون السياسيّة التي تنتقد الأوضاع الراهنة وتقدم تصورات لبدائل لها. إن هؤلاء المنتمين إلى سياقات العالم الثالث الذين يتجاهلون السياسات النسويّة لكونها أحد أعراض “التغريب” ليسوا فقط يجهلون أثر هذه التجارب النسويّة في سياقاتهم في تشكيل وإثراء سياساتهم، وإنما أيضاً يعجزون عن الاعتراف بأن تحليلاتهم النسويّة هي نتيجة للتنظيم والحشد السياسيّ الذي تبتدئه وتحافظ عليه النساء في هذه السياقات في العالم الثالث.

من بين المشاكل التي تناولتها الجماعات النسوية في الهند تناولاً سياسياً: مشاكل القتل بسبب المهور والتحرش بسبب المهور؛ بالإضافة إلى اغتصاب رجال الشرطة للنساء المقبوض عليهنّ في أقسام الشرطة؛ والمشاكل المرتبطة بالفقر والعمل والصحة والإنجاب لدى النساء؛ ومشكلات البيئة والطائفيّة التي تؤثر على حياة النساء.([4]) تراوحت النشاطات السياسية النسويّة في الهند فيما بين الاحتجاجات العامة إلى الترويج والكتابة عن هذه المشكلات، إلى الضغط لإحداث تغييرات في القوانين والسياسات العامة. مثل هذه النشاطات تجعل من النسويات ومن النسويّة جزء من المشهد السياسي القوميّ لعديد من دول العالم الثالث. وأرى أن النسوية في العالم الثالث ليست مجرد محاكاة بلهاء لـ “الأجندات الغربية”، حيث أن النسوية الهندية مثلاً هي –ببساطة- رد فعلٍ على المشاكل التي تواجه بالخصوص العديد من النساء “الهنديات”.

أعباء التاريخ: الكولونيالية، القومية، النسوية والتغريب

في هذا القسم أقدم تعليلاً تاريخياً لأسباب تعميم تهمة “التغريب” ضد نسويات العالم الثالث. إن مصطلحات مثل “متغربات” أو “التغريب” هي ألقاب سلبية المعنى في العديد من سياقات العالم الثالث، تستخدم كتوبيخ ليس فقط للأفراد أو الحركات السياسية وإنما أيضاً لأشكال مختلفة من التغيير المجتمعيّ. أعتقد أنه يصعب تبرير سبب استخدام هذه المصطلحات للازدراء من دون الإشارة إلى تاريخ استعمار القوى الغربية لدول العالم الثالث. تسببت “المواجهة الكولونيالية” في تصورات إشكالية لكلٍ من “الثقافة الغربية” و”الثقافة الأصلية” في مستعمرات معيّنة، وهي تصورات اعتمدت على إحساس قويّ بالتضاد بين “الثقافتين”. وقد كانت وجهات النظر في الجنسانية وفي التقاليد والممارسات المؤثرة على النساء تعتبر أمراً رئيسياً في هذا التضاد. أود القول بأن فهم الحدود التاريخية الواسعة لهذه “المتضادات الثقافيّة” ولمواقع الجماعات النسائية المختلفة في هذه المتضادات = يساعد في فهم سبب اعتبار “التغريب” لقباً سلبي المعنى في سياق رفض دعاوى نسويات العالم الثالث. كما أن الفهم النقديّ لـ”الاختلافات الثقافيّة” الراسخة في الصراعات الكولونياليّة هو من أبرز المهام في الأجندات النسويّة المعاصرة في العالم الثالث.

إن الكفاح ضد الكولونيالية للاستقلال الوطنيّ في العديد من دول العالم الثالث لم يرفض فقط شرعيّة الحكم الكولونيالي الغربي، وإنما أيضًا أسس لهوية سياسيّة قوميّة النزعة، بوضع “الثقافة” الأصليّة و”قِيَمِها” في مقابل ثقافة وقيم الغرب، داعين إلى رفض هذه الأخيرة. كان هذا الإعلاء من قَدْرِ قيم وممارسات “الثقافة الأصليّة” للمستعمرة عادةً ما يكون ردّ فعلٍ للمحاولات الاستعماريّة لمحو أو تنظيم عاداتٍ أو ممارساتٍ في المستعمرات كانت الحكومات الكولونياليّة الغربيّة تعتبرها غير مقبولةٍ أو غير ملائمة. ومن سخرية القدر أن المقابلة بين قيم الثقافة “الغربية” وقيم ثقافات المستعمرات كانت شيئاً تصرّ عليه القوى الاستعمارية نفسها. ففي خطابهم كان “تفوق الحضارة الغربية” سبباً ومبرراً للمشروع الكولونياليّ، كونه يقدِّم الكولونياليّة –جزئياً- كمحاولة لإسباغ منافع “الحضارة الغربية” على الشعوب المستعمرة. إن صح التعبير فبالإمكان القول أن خيوطاً أساسية مهمة لهذه الحركات القومية المقاومة للكولونياليّة اتفقت مع القوى الكولونياليّة بشأن الاختلافات بين قيمهم وثقافتهم، إلا أنها اختلفت معها في قيمة هذه القيم، مُحَوِّلة الاحتقار الكولونياليّ للثقافات “الأصلية” إلى احتقار لـ”ثقافة” مستعمريهم. كانت لجانبيّ هذه المواجهة الكولونياليّة أسباب سياسية مختلفة لهذا الإصرار المشترك على “غيريّة” الثقافة الأخرى.

إن صورة “الاختلافات الثقافية” بين “الثقافة الغربية” وثقافات مستعمرات العالم الثالث المختلفة التي تأسست في أزمنة الكولونياليّة، هذه الصورة التي ما تزال مستمرة في التصورات المعاصرة بعد الكولونياليّة = لم تكن أبداً مجرد مشروع وصفيّ بسيط لوصف “الاختلافات الثقافيّة”. لقد كانت متَضَمَّنةً حتماً في “الصراعات السياسيّة والخطابيّة” التي ميَّزت المواجهة الكولونياليّة، وكانت جزء مهماً من محاولات تبرير مشروعيّة الحكم الكولونياليّ والمحاولات المترابطة للطعن في تلك المشروعية. اتصفت صور الثقافة “الغربية” وثقافات معينة في “العالم الثالث” التي نتجت عن هذه الصراعات ببعض الخواصّ الغريبة المثيرة للاهتمام.

أحد تلك، أن هذه الصور لـ “الثقافات” المختلفة و”القيم المختلفة” كانت بنى “مثاليّة” وليست بأي حال توصيفات أمينة للقيم التي “تغلغلت فعلاً” في ممارساتهم العرفيّة وحياتهم الاجتماعيّة. بالتالي كانت “الثقافة الغربية” ترى نفسها ملتزمة بثبات بقيمٍ مثل الحرية والمساواة، وهو التزام كان يتم التأكيد عليه بصفته الخاصية المميِّزة للثقافة الغربيّة وعلامة على “تفوقها”. تصور الثقافة الغربية لنفسها بهذا الشكل لم يُكَدِّره حقيقة أن القوى الغربيّة كانت متورطة في الاسترقاق والاستعمار، أو أنها قاومت منح الحقوق السياسيّة والمدنية لكثيرين منهم حتى المواطنون الغربيّون، ومن بينهم النساء. وبالمثل كان بعض القوميين الهنود يصرّون أن الثقافة الهنديّة كانت تعتبر النساء “إلهات”، دون النظر لحقيقة أن النساء الفقيرات من الطبقة الدنيا كنّ أبعد ما تكنّ عن كونهنّ “إلهات”، ودون النظر لمقتضيات هذه الحالة حتى على النساء في أسرهم المنتمية للطبقة المتوسطة.

إضافة لذلك فإن كلا التصورين للثقافة “الغربية” و”الثقافات غير الغربية” كانت “تعميمات” – أي تصورات تعتبر أن القيم والممارسات المرتبطة بمجموعات معينة ذات أفضليّة في المجتمع هي قيم “الثقافة” ككل. أما في حالة النزعة القوميّة الهنديّة المضادة للكولونياليّة، فإن الإشكال كان الاكتفاء بتصوير “الثقافة الهندية” على أنها هي جوانب ثقافة الهندوسيين من الطبقات العليا، مع تجاه التنوع الثقافي والديني الحقيقيّ في الشعب الهنديّ. أشارت سوتشيتا مازومدار (Sucheta Mazumdar) متحدثة عن حزب المؤتمر الوطنيّ الهنديّ بقولها: “بما أن أغلبيّة القيادات تأتي من خلفيّات هندوسيّة من الطبقة العليا، فقد صارت الثقافة الدينيّة الهندوسيّة بكلّ سهولة تساوي الثقافة الهنديّة ككلّ”([5]). لم تكن هذه الصورة لـ “الثقافة الهنديّة” مجرَّد تشوش عابر، وإنما كانت صورة ذات عواقب عمليّة ضرّت ببنية العديد من الصراعات السياسيّة للقوميّة الهنديّة. كذلك تقول مازومدار: “كان المؤجرون الهندوس يحتفون بالاحتفالات الدينيّة وكانوا يحولونها إلى مواقع للتجمعات السياسيّة الجماهيريّة؛ كما أصبح الدين والقوميّة والنشاط المعادي للمسلمين شيئاً واحداً.”

في السياق الكولونياليّ للصراعات القوميّة”، كان يتمّ عرض “الثقافة الغربيّة” و”الثقافة غير الغربيّة” لمستعمرة معينة على أنهما مخططان “متعايشان” تتم مقارنة مزايا كل منهما ببعضهما البعض. عادة ما كان يتم التعتيم على حقيقة أن هذه التصاوير لمجموع هذه “الثقافات” لم تكن سوى “نواتج لهذه المقارنات نفسها”، حيث كان إحساس كل طرفٍ بتميزه الثقافيّ ناتجاً عن “مراوغات خطابية” مكرسة لتأسيس وصقل تميُّزه. مثلاً، كشفت العديد من الدراسات التاريخيّة المثيرة للاهتمام أن “التقاليد الهنديّة” قد نتجت وتحددت –إلى حد كبير- من الخطابين الاستعماريّ والقوميّ، وليس هذا فحسب وإنما أن “أقدم التقاليد الإنجليزيّة كلها قد اخْتُرِعَت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.”([6])

من وجهة نظر القوى الغربيّة الاستعماريّة، كان “الاختلاف” المهم بين “الثقافة الغربية” وثقافات متعددة من المستعمرات هو ما ادعوه من الانفتاح المتفرّد لـ “الثقافة الغربيّة” للتغيُّر التاريخيّ، والذي كان يتم تصديره –ولا عجب- كـ “تقدم” ([7]). وبالعكس كانت ثقافات المستعمرات يتم تصويرها على أنها ضحايا لماضٍ راكدٍ من العادات والتقاليد التي لا تتغيّر والمنيعة تماماً للتغيرات التاريخيّة. وبالتالي فإن حتى الفلاسفة المتشبعين حتى الثمالة بالتاريخ، مثل هيجل وماركس، كانوا –بكامل رضا عن النفس- يخرجون أقاليم مستعمرة بالكامل في العالم “خارج حدود” التاريخ، على الأقل حتى مجيء الكولونياليّة. كان هيجل يزعم أن أفريقيا “ليست جزء تاريخياً من العالم. وما نعتبره أفريقيا ليس سوى الروح غير التاريخيّة غير المتحضرة التي ماتزال متورطة في ظروف الطبيعة المجردة” ([8]). ويُسْقِطُ ماركس نفس التمييز على الهند في إعلانه أن “المجتمع الهنديّ لا تاريخ له على الإطلاق، أو على الأقل ليس له تاريخٌ معروف”، جاعلاً منه “مجتمعاً دون مقاومة ولا يتغيَّر”.)[9])

أما المجتمعات المستعمرة التي كان الكولونياليّون الغربيون يعتبرونها منفتحة وتتأثر بالتغيير –كما كان بعض المستشرقين يرون مستعمرات بعينها- فقد كانت التغيّرات تعتبر أعراضاً لـ “الانحدار” و”الانهيار” الثقافيّ. وفي أيّ حالة كانت “الثقافة الغربيّة” تعتبر مليئة بمكوّنات التقدم التاريخي العالميّ، بينما على العكس كانت ثقافات المستعمرات تعتبر كيانات مشلولة بالتقاليد، تُصَوَّر على أنها إما راكدة هامدة أو أنها في حالة مستمرة من “الانحدار”. وكما كان يقول أندريه بيتيلي (Andre Beteille): “إن التضاد بين الحضارة الغربيّة –الديناميكيّة دائمة التغيّر- وبين الحضارات الأخرى بطيئة التغيّر جداً = تضاد شديد حتى أنه لا يلزم أخذه في الحسبان من الأصل”.([10])

وقد اقتنع العديد من المناضلين القوميين في العالم الثالث ضد الكولونياليّة بجوانب هذه التصورات الشموليّة لـ “عاداتهم وتقاليدهم”، حتى مع محاولتهم لإعادة تفسير هذه العادات والتقاليد وإصلاحها في اتجاهات تبعث الكرامة القوميّة ومقاومة الحكم الكولونياليّ. وقد كان التصور الشائع للاستقلال عن الحكم الكولونياليّ في بعضٍ من مناطق العالم الثالث هو تصور (ولو جزئي) عن عودةٍ مستقبليّة لقيم وثقافة ماضٍ غابر. ومن وجهات نظر العديد من قوميي العالم الثالث المكافحين ضد الحكم الكولونياليّ الغربيّ، أن طول أمد “ثقافاتهم وتقاليدهم” أمراً ذا دلالة إيجابية لا سلبية، حيث كانوا يستخدمونه لتصوير الكولونياليّة على أنها مجرّد انقطاع قصير الأمد في قصة حياة أممهم المستقلّة و”الأصيلة”. في هذه السياقات أصبحت “عادات وتقاليد” سياقات معينة في العالم الثالث من أهم ما يهدده الحكم الكولونياليّ و”التغريب”، وكانت خيوط حيويّة من “النسيج الوطنيّ” للأمة المستقلة التي يتصورونها لتنشأ بعد سقوط الكولونياليّة.

كثيرٌ من هذه الصراعات “الثقافيّة” بين الثقافات الاستعماريّة الغربيّة وبين الثقافات الأصليّة المُسْتَعْمَرَة كانت تتضمن مشاكل متعلقة بدور النساء وبجنسانيّة الأنثى، ما أحال هيئة “المرأة المُسْتَعْمَرة” إلى نقطة صراع سياسيّ مهمة بين “الثقافة الغربية” و”ثقافة” المُسْتَعْمَرة. وقد كان الحجاب وتعدد الزوجات وزواج الطفلات وممارسة “الساتي” جميعها من أهم نقاط الخلاف والتفاوض بين الثقافة “الغربية” المُسْتَعْمِرة وبين ثقافات العالم الثالث المُسْتَعْمَر المُختلفة. في خضم هذه الخلافات كانت القوى الكولونياليّة الغربيّة تصوِّر ممارسات الثقافة الأصليّة على أنها أعراض لـ”رجعيّة وبربريّة” ثقافات العالم الثالث على عكس “تقدميّة الثقافة الغربيّة”. وصارت هيئة “المرأة المُسْتَعْمَرة” تمثيلاً لقسوة “التقاليد الثقافيّة” للمستعمرة بكاملها.

وقد كانت نُخَب دول العالم الثالث التي يسودها الذكور تستجيب بالتأسيس لهذه الممارسات نفسها على أنها تقاليد مقدسة طويلة الأمد مُؤسِّسَة لقيمهم ورؤيتهم للعالم، وكممارسات مرتبطة بالمكانة الروحيّة للنساء ولاحترامهنّ في ثقافات هذه النُخَب. كان هنالك جانبان “حداثيّ” و”تقليديّ” في عدد من الخطابات القوميّة المعادية للكولونياليّة. كانت القطاعات “الحداثيّة” من هذه الخطابات القومية المعادية للكولونياليّة تتقبّل بشكلٍ كبير أن بعض جوانب “تقاليد وثقافات” هذه الدول –خاصة الممارسات التي تمسّ النساء- في حاجة إلى درجة معينة من الإصلاح والتغيير. إلا أن حملة هذه الخطابات كانوا عادة ما يجمعون بين تأييد هذا التغيير وبين الإصرار على أن “ثقافتهم” هي ذات رؤى مميزة وخاصة وقيِّمة عن النساء و”موقعهنّ الثقافي”، وهي رؤى كانت أفضل من رؤى “الثقافة الغربيّة”. وقد مال “التقليديون” إلى أن يقاوموا بعض التغييرات في “تقاليدهم” التي أيدها “الحداثيون”، حيث كانوا يرونها تدمِّر بعمق نمط حياتهم واستسلاماً للسيادة الثقافيّة للثقافة الغربيّة للمستعمِر.([11])

ونظراً لخلفية المواجهة بين الأجندات الكولونياليّة والأجندات القوميّة المضادة للكولونياليّة، كان يستحيل عادةً استنباط أيّة نقاشات بشأن ممارسات الثقافة الأصليّة التي كانت تؤثر سلباً على النساء من هذه الخلفيّة السياسيّة والخطابيّة المشحونة بالنزاع. كانت أية نقاشات جادة بشأن تأثير هذه الممارسات على سلامة النساء لا تكاد تفلت من التورط في الصراعات بين الكولونياليّة والقوميّة. وقد جعل هذا الموقف من النساء عرضة للاستقطاب من كلٍ من الأجندتين الكولونياليّة والقوميّة. عادة ما كانت النقاشات بخصوص الممارسات الإشكاليّة المؤثرة على النساء تتحول إلى رهائن خلفيّة خطابيّة من استعراض العضلات الثقافيّة عن التفوق الأخلاقيّ النسبيّ للثقافة “الغربيّة” و”ثقافة” مستعمات بعينات. يشير بارتا تشاترجي (Partha Chatterjee) إلى أن “قضية المرأة” في الهند في القرن التاسع عشر “لم تكن مرتبطة بوضع النساء في مجموعة محددة من العلاقات الاجتماعيّة بقدر ما كانت مرتبطة بالمواجهة بين دولة كولونياليّة وبين ما يفترض أنها “تقاليد” الشعب المستعمر”)[12]). عادة ما كان الغضب الفائر من خلافات “ثقافتي أفضل من ثقافتك” فيما بين الحكومات ذكورية الأغلبيّة وبين الحركات القوميّة في العالم الثالث ذكورية الأغلبيّة تغطي على حقيقة أن النساء كنَّ مواطنات من الدرجة الثانية في كل هذه السياقات الثقافيّة.

شاركت في هذه العمليّة المعقَّدة بعض النساء الكولونياليّات (ومنهنّ نسويّات) وبعض نساء البلاد المستعمرة، حيث كُنَّ تلعبنَ دورهنّ في ألعاب التحايل الثقافيّ هذه، مُقَدِّمات بَيْعَتهنّ لثقافاتهن القوميّة”، ومتمسكات باختلافهنّ وتفوقهنّ الثقافيّ على بعضهنّ البعض. كشفت أنطوانيت بورتون (Antoinette Burton) أن النسويّات البريطانيات كنّ تستخدمن السياق الكولونياليّ لـ “تقويض البناء الفيكتوريّ للمرأة بصفتها (آخر)، عن طريق تعزيز انتمائها إلى ذات الأمة والإمبراطوريّة”.)[13]) وصفت بورتون أن النسويات الفيكتوريات عادة ما كنّ يؤسسن مطالباتهنّ بالحقوق السياسية في أيديولوجيّة إصلاحيّة أساسها المسؤولية الأخلاقيّة الخاصة للنساء عن المضطهدات منهنّ سواء في أوطانهنّ أو في المستعمرات. اختتمت (بورتون) كلامها بأنه، في السياسة الداخليّة، حولت النسويّات الفيكتوريات “الفقراء إلى أمة رمزيّة تتحمل النساء البريطانيّات مسؤولية إنقاذها”([14])، بينما في السياقات الكولونياليّة “بدت النساء الهنديّات لهنّ “عبئاً على النساء البيضاوات” بشكلٍ طبيعيّ ومنطقيّ”.([15])

لم تكن نساء الأمم المستعمرة وحدهنّ كذلك، وإنما أيضاً الرجال قوميو النزعة الذين شاركوا في الصراعات المضادة للكولونياليّة والذين بنوا مطالباتهم بالتمثيل الذاتيّ بتصدير دورهم في تحسين أحوال أغلبية نساء الدولة المستعمرة. مثلاً، كان الرجال الهنديون قوميو النزعة يرون أن دورهم السياسيّ مرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ “تحسين أوضاع النساء الهنديات”.)[16]) بالتالي اعتبر كل من الرجال القوميون الهنود والنسويات الفيكتوريات أن “المرأة الهندية” ليست سوى أرضٍ لتأسيس مطالباتهم بالتحرر والحقوق السياسيّة، ما يمنحهم (آخراً) “يتحدثون باسمه” في السياقات التي يصير فيها “الحديث باسم طرفٍ ما” أحد الشروط الأساسيّة في الذاتيّة السياسيّة.([17]) إن موقع “المرأة الهنديّة” كطرف يتوجب “الحديث باسمه” –سواء في خطاب النسوية البريطانيّة أو خطاب القوميّة الهنديّة- هو مثال واضح على أن التحديّات التي تواجه الوضع السياسيّ الراهن تُكرر وتستنسخ بعض جوانب “المنطق السياسيّ” له.

إن مواجهة المرء لموقف الاختيار بين التصورات الخاطئة أو الإشكاليّة عن دور المرء السياسيّ والاجتماعيّ لا تعني بالضرورة أن المرء لا سبب لديه ليفضل أحدها على الأخرى. بالتالي فقد كانت ثمة عناصر في الخطاب القوميّ جعلته أكثر جاذبيّة لنساء المستعمرات من خطاب الكولونياليّة، وخاصة من خطاب “النسويّة الإمبراطوريّة”. هذه الرؤى القوميّة –رغم مشكلاتها- كانت عادة ما تمنح نساء المستعمرات وضعاً “توقيرياً” ودوراً سياسياً أكثر أهميّة مقارنة بأيّ من الرؤى السياسية للمُسْتَعْمِرين.([18])

بالتالي ففي السياق الهنديّ أيدت العديد من النساء قوميّات النزعة ومثلهنّ من الرجال ما يفترض أنه “تشعب بين “الغرب الماديّ” و”الشرق الروحانيّ” “، وهو التشعب الذي من خلاله اعتنقت النساء القوميّات أدوارهنّ كـ “مستودعات للجوهر الروحيّ القوميّ” يجب أن يظللن نقيّات من “التغريب” وتلوثه.([19]) كذلك فقد أيدت النساء الهنديّات الرؤى القومية القائلة بأن “ثقافتهم” عاملت النساء بتبجيل واحترام وشرف أكثر مما فعلت الثقافة “الغربيّة”، كما أيدن النظرة إلى النساء الغربيّات كنساء “مغرمات بالرفاهية عديمة النفع لا تبالين ببيوتهنّ”)[20]). من ناحيةٍ أخرى فإن هؤلاء النساء طعنّ إلى حد ما في رؤى الرجال القوميين بخصوص الأدوار الجنسانيّة الملائمة. بالتالي فإن بعض النساء القوميات استخدمن القوميّة ليحسنَّ من مواقفهنّ الخاصّة، مطالبات بحقوق كاملة في التعليم العالي للنساء، بشكل تجاوز ما أراده الرجال القوميون لهن، حتى مع اهتمامهنّ بربط هذا الإنجاز بتحقيق مستويات أفضل من الأمومة وتحسن أحوال الأسرة.)[21])

بالتالي فقد لعبت الجنسانيّة دورها كـ (خادمة) لأيديولوجيّات الإمبراطوريات الكولونيالية والحركات القوميّة في العالم الثالث، حيث ساعدت في وضع النساء “الغربيات” و”غير الغربيات” ضد بعضهنّ البعض كتجسيدات ثقافيّة متنافسة للأنثويّة والفضائل السليمة. وفي نفس الوقت لعبت الكولونيالية والقومية كلاهما أدوارهما الأيديولوجية في بناء الأدوار الجنسانيّة سواء في الدول الغربيّة وفي المستعمرات، وبنتائج متشابهة بشكلٍ مفاجئٍ أحياناً. تحمل “المرأة الهنديّة” في الخطاب القومي الهندسيّ شبهاً صادماً بـ “المرأة الفيكتورية” ليس فقط فيما ينسب إليهما من “احترام” و”دماثة خلق” وإنما أيضاً في التباين الصريح بينها وبين أخواتها “الخشنات الفظات” من الطبقات الدنيا!([22])

كانت هذه خطوطاً عريضة لـ “التعريف الذاتي الثقافيّ” للكولونيالية والقوميّة، توضِّح سبب انتشار “التغريب” كتعبيرٍ شائع عن الاستهجان الثقافيّ في العديد من سياقات العالم الثالث وقد استمرّ تأسيس الهوية القوميّة كمضادّ لـ “التغريب” و”الثقافة الغربية” حتى أزمنة ما بعد الكولونياليّة، وذلك في عدد من سياقات العالم الثالث، تدعمه حقيقة أن عديداً من دول العالم الثالث ظلَّت عرضة للاستغلال الاقتصاديّ والتلاعب السياسيّ من قِبَل القوى الغربيّة، حتى في أعقاب الكولونياليّة. وإنّ التحول السريع للبنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة في العديد من سياقات العالم الثالث في العقود الأخيرة –وهي عمليّة تتأثر عادة بالأجندات الاقتصاديّة الغربيّة ورؤى “التنمية”- لم تفعل سوى أنها أعادت تأجيج وتقوية الشعور بأن “الثقافة التقليديّة” يهددها “التغريب”.

من بين أكثر التغيرات الملحوظة خلال العقود الأخيرة في العديد من دول العالم الثالث: اقتحام أعداد متزايدة من النساء من طبقات النخب المحليّة –وبالأخص نساء المدن من الطبقات المتوسطة- مجالات الحياة العمليّة والحياة العامّة، وهي مجالات نشاط كانت فيما سبق محصورة على الذكور. يتسبب إحساس القلق الثقافيّ الذي أحدثته التغيرات الاجتماعيّة السريعة في استجابات تركِّز على التغيرات في الأدوار الجنسانيّة بصفتها عرضاً نمطياً للمخاطر والخسارة الثقافيّة. وهذا بدوره يستدعي العودة إلى “طريقة حياتنا التقليديّة” واسترجاعها، وهي عودة تتحقق بإرجاع النساء إلى “مكانهنّ التقليديّ”.

هكذا، فإن الكبرياء الثقافيّ القوميّ الذي كان مستنداً على العودة إلى “القيم التقليديّة” ورفض “التغريب” الذي بدأ تحت الحكم الكولونياليّ، هذا الكبرياء عاد للظهور مجدداً في مجموعة متنوعة من الحركات “الأصوليّة” بعد الكولونياليّة، حيث رجوع النساء إلى “أدوارهن التقليديّة” ما يزال يعتبر أمراً أساسياً في حفظ الهوية القوميّة والكبرياء الثقافيّ. في سياقات كهذه، فإن كون عدد من نسويّات العالم الثالث نساء مدنيّات من الطبقة المتوسطة دخلن المجالات العمليّة والسياسيّة التي كان يسودها سابقاً الرجال، وأن أولئك النساء عادة ما يطالبن بمساواة ومشاركة أكبر للنساء في المجالات المختلفة من الحياة القوميّة بدلاً من الرجوع إلى “الأدوار التقليديّة” = هذان الأمران يسهِّلان اعتبار أولئك النساء ورؤاهنّ تجسيدات لشيطان “التغريب”. أما نساء العالم الثالث المشاركات في الصراعات بشأن مشاكل النساء في سياقات العالم الثالث –النساء اللاتي لسن من الطبقة المدنيّة أو المتوسطة- فيتمّ تجاهلهنّ وتهميشهنّ بسبب الإصرار على اعتبار نساء الطبقة المتوسطة المدنيّة وحدهنّ “نسويات”. نتيجة لذلك فإن انتقادات نسويّات العالم الثالث للممارسات وطرق الحياة الضارّة والظالمة للنساء، تُصَوَّر وأنها مجرد أعراض للخيانة الثقافيّة المضادّة للقوميّة، وكصورٍ لـ”الزيف الثقافيّ” الناشئ عن اعتماد الطرق والقيم “الغربيّة”.

إن الموقع السياسيّ للعديد من نسويات العالم الثالث يوضح بجلاء أن مجال الصراعات النسويّة يجب ألا يشمل فقط المطاعن على “ممارسات وأعراف معيَّنة” ضارة بالنساء، وإنما أيضاً أن يشمل الطعن على الصور الأكبر للأمّة وللتاريخ القوميّ والتقاليد الثقافيّة التي تستبقي وتبرر هذه الممارسات والأعراف. وهي عادة ما تكون “تصورات للتاريخ” تخفي تاريخ نيّتها وحقيقة كونها تصوُّرات- تلمح إلى أن الأمة وثقافتها هي “مُسَلَّمات طبيعيّة” وليست “اختراعات وبنى تاريخيّة” كما هي حقيقتها فعلاً.

كذلك فإن هذه التصورات لـ “الثقافة والتاريخ” تخفي حقيقة أن الدعوات لـ “العودة إلى التقاليد السابقة” –في العالم الثالث وغيره- تحرِّكها أجندات اقتصاديّة وسياسيّة حالية. إن سرديّات “التقاليد القوميّة” و”الثقافة القوميّة” عادة ما تقدِّم نفسها باعتبارها تتحدث عن الصفات “الفعليّة والوصفيّة” للماضي القوميّ والثقافيّ، إلا أنها دائماً في حقيقتها “أفكار سياسيّة” تستخدم لفرض أهميّة ما لمجموعات معيَّنة من المواطنين تستحقّ طريقة حياتهم التكريم والاحترام، ولافتراض الكيفيّة التي بها يجب أن تتخيّل الأمّة المعيَّنة مستقبلها السياسيّ. يستلزم هذا أن تجمع النسويّات مطاعنهنّ النقديّة لممارسات وأعراف معيَّنة مع محاولات لإعادة تخيّل أمتهنّ وثقافتهنّ وتاريخهنّ بطرق أكثر ملائمة لإسهامات النساء وتجتذب الانتباه إلى مشاكلهنّ. ومع أنني تناولت الديناميكيّات التي عن طريقها يربك التاريخ الكولونياليّ المواقع السياسيّة الحاليّة للعديد من الصراعات النسويّة في العالم الثالث، إلا أن النسويّات في كلّ الأمم يواجهنّ ميولاً قوميّة إشكاليّة وأشكالاً مختلفة لهذه “الأعباء التاريخيّة”. لاحقاً أقول إن الصراعات السياسيّة النسويّة في أيّ سياق قوميّ تشتمل بالضرورة على طرقٍ جديدة لتصوّر وإعادة سرد التاريخ القوميّ.

التصنيف الانتقائيّ، وخرافة الاستمراريّة

في هذا القسم أنتقل إلى استكشاف بعض تأثيرات الإحساس بـ “التميز الثقافيّ” عن “الثقافة الغربيّة” الذي تكوَّن في السياقات الكولونياليّة، على طرق استخدام مصطلح “التغريب” في السياقات القوميّة في العالم الثالث. أتحدث عن أن مصطلح “التغريب” عادةً ما يستخدم لتعريف “الثقافة القوميّة” بما يدفع لتخيّل وجود “استمراريّة ثقافيّة” فيها أكثر مما هو موجود حقيقة. تبدو الثقافات القوميّة في مناطق عدة من العالم عرضةً لأن تنظر إلى نفسها بصفتها “استمراريّات غير متغيَّرة” تمتد عميقاً في التاريخ. عادةً ما يميل هذا التصور لأن يدعم بقوّة ما أعتبره أنا “فكرة الوقار” التي تُهَيئ للناس فكرة أن الممارسات والأعراف تستقي قيمتها “فقط” من كونها موغلة في القِدَم. إنه تصوّر للأمة وللثقافة يركِّز على استمراريّات التقاليد (وهي استمراريّات مُتَخَيَّلة عادة) أكثر من الاستيعاب والتكيُّف والتغيير.

في بعض سياقات العالم الثالث، يبدو وأن التاريخ السابق للاستعمار يزيد هذه المشكلة سوءً. مثلاً، فالعديد من التيارات القوميّة الهنديّة المُعادية للكولونياليّة اتكلت بشكلٍ كبير على الاستعانة برؤية شموليّة لـ “حضارتنا العتيقة”، مصوِّرين الاستقلال عن الكولونياليّة بأنه استرجاع لهذه “الحضارة العتيقة”، مُصَوِّرة في نفس الوقت “الحضارة الغربيّة” بأنها قادم جديد مغرور حديث السنّ في ساحة تاريخ وحضارة العالم. ومثل هذه الخلفيات الخطابيّة عادة ما تعتِّم على مدى تعرّض الممارسات الثقافيّة الفعليّة ومدى أهميّة بعض هذه الممارسات والسياقات الماديّة والاجتماعيّة لها، سابقاً وحاليا، لتغيّرات جذريّة. من الغرائب الملحوظة متكررة الحدوث في هذه التصاوير لـ “الثقافة والتقاليد والقيم القوميّة” في سياقات العالم الثالث: حجم “الرفض الانتقائيّ الشديد” لـ “التغريب”. والجدير بالذكر هنا أنه بينما يتم التعامل مع بعض أشكال الاقتباس الثقافي للممارسات باعتبارها من مظاهر “التغريب”، إلا أنها لا تُعامل كلها كذلك، ما يجعل بعض هذه الاستعارات والتغيرات إشكاليّة ومحل طعن بما لا ينطبق على التغييرات الأخرى. وأعتقد أن مصطلح “التغريب” في سياقات العالم الثالث الكولونياليّة وبعد الكولونياليّة يعمل كمصطلح خطابيّ، وأن المصطلح يستخدم عادة بطرقٍ إشكاليّة غير متسقة.)[23]) حيث يتم “انتقاء” أدوات معيَّنة دون غيرها وتصنيفها “غربيّة”، وتُنْسَبُ تغيرات ومنظورات معيَّنة اعتباطاً إلى “التغريب” بينما لا يُفْعَلُ ذلك مع غيرها. وهذا “التصنيف الانتقائيّ” لتغييرات معيَّنة يتيح للأصوليين الهندوس اعتبار المشكلات النسويّة في الهند أعراضاً لـ “التغريب” حتى مع استخدامهم البارع لوسائل الإعلام المعاصرة مثل التلفاز لنشر رسائلهم الأيديولوجيّة. ولا يبدو أن التزامهم بـ “التقاليد الهنديّة” يهتمّ بتأثير دخول التلفزيون البيوت الهنديّة على “طرق حياتنا التقليديّة”! كما قد يُصَوِّر الأصوليون التزام النسويّات بالسعي نحو الاستقلال أو المساواة بأنه “قِيَمٌ غربيّة”، وهم أنفسهم الذين لا يرون مفارقة في الحديث عن الحقوق حين يلائم هذا مصالحهم.

وللأسف فإن الأصوليين اليمنيين يتفرّدون برفض الانتقادات النسويّة كونها “تغريبيّة”، إلا أنها ممارسة تظهر في نقاط مختلفة من الطيف السياسيّ. فالعديد من مثقفي العالم الثالث غير الأصوليين يتعاونون أيضاً في تصوير النسويّة على أنها “مستورد غربيّ أجنبي” إلى سياقات العالم الثالث. وبهذا يُفْتَرَضُ أن الأجندات السياسيّة النسويّة “ملوثة” بسبب “جذورها” المزعومة في الغرب. لكن يبدو أن الكثيرين من هؤلاء الذين يزعمون أنهم “مناصرون لأصالة ثقافتهم” بينهم بعض الخلافات الشخصيّة بشأن استخدام التقنيات “الغربيّة” أو شراء السلع الاستهلاكيّة “الغربيّة”، كما أنهم لا خلاف سياسيّ فيما بينهم بشأن إنفاق دولهم مواردها المالية الشحيحة على شراء الأسلحة الغربيّة.

إن هذا “التصنيف الانتقائيّ” لتغيرات معيّنة دون غيرها بأنها أعراض لـ “التغريب” يتسبب في تصوير التغيرات غير المرحب بها بأنها خيانات لا تغتفر للتقاليد الراسخة الجوهريّة، وتصوير التغيرات المرحب بها بأنها مجرد تكيّفات نفعيّة تنسجم تماماً مع “الحفاظ على ثقافتنا وتقاليدنا”. ولكن خطر ببالي أن العديد من سياقات العالم الثالث التي تعتبر الانتقادات والطعون النسويّة “تغريباً” تحبّ أن تقنع نفسها بوجود استمراريّة فطريّة غير منقطعة في “تقاليدهم وطرق حياتهم”، حتى كنا نحن البنات النسويّات أول المُقاطعين الوقحين لهذه الاستمراريّة.

تزوّجت جدّتاي كلتاهما في سن الثالثة عشرة، وقد كان هذا معتاداً تماماً عند النساء في هذا المجتمع بالذات في ذلك الجيل. وأحاول ألا أفكر فيما يعنيه هذا لهم، وقبل هذا كله فيما كان هذا ليعنيه لي إن كان هذا “التقليد” بالذات قد استمرّ. ومثل نساء كثيرات من جيلها وطبقتها وخلفيّتها، لم تتزوّج أمي حتى بلغت الحادية والعشرين من عمرها. كيف كانت جداتي لتفسرن تغييراً كبياً مثل هذا خلال جيل واحد، وهو تغيير –مهما كان تفسيره- لا يمكن تفسيره بأنه ثورة من بناتهنّ على ممارسة الزواج فور ظهور أول علامات البلوغ؟ ولا أقول بأن هذه التغيرات المفاجئة في مسألة تعليم النساء وسنّ الزواج قد حدثت دون انتباه ثقافيّ أو تفاوض. حيث كان تعليم نساء الطبقة المتوسطة الهنديّات من أكثر القضايا الخلافيّة في وقتٍ مبكرٍ من القرن التاسع عشر، ويرجع هذا جزئياً إلى أنه كانت تسوده بدايةٍ البعثات التبشيريّة المسيحيّة.([24]) وقد زاد هذا من أطياف تغيير الأديان وتعرض النساء الهنديّات إلى “الآثار الضارة للثقافة الغربيّة”. وبحلول خمسينات القرن التاسع عشر فتح الهنود أبواب مدارسهم للبنات،)[25]) وقبل نهاية القرن لم يعد التعليم النظاميّ “مجرد شرط مقبول، بل شرطاً أساسياً للنساء المحترمات”.([26]) ومن المثير للاهتمام أن هذا التقدم قد أدى إلى تلقي بعض الهنديّات درجات جامعيّة “قبل أن توافق أغلب الجامعات البريطانيّة على قبول النساء في قوائم الاختبارات”.([27])

لستُ أعلم الفائدة أو المعقوليّة من عزو تغيير كهذا إلى “التغريب”. نظراً للتفاعل المعقَّد للبنى المحليّة والكولونياليّة التي عملت على إنتاج هذا التغيير. مثلاً، كانت هنالك كليات للنساء وقت سنوات مراهقة أميّ (“تغريب”؟) أكثر مما كان في فترة شباب جدتيّ الاثنتين. بالتالي فإن المجتمع الذي كان يدرك قيمة التعليم كجزء من روح هذه الطبقة بالذات (تلقت جداتي كلتاهما بعض التعليم رغم زواجهما المبكِّر وكانتا تعرفان القراءة والكتابة) كان لديه حافز لتعليم البنات لفترة أطول، ما دعا لتأجيل سنّ الزواج. وبلا شك فإن القوميون الهنود (وكثير منهم رجال ذوو “تعليم غربي”) الذين كانت محاولاتهم لـ “إصلاح الهندوسيّة” مرتبطة بمحاولاتهم لتعلية الكبرياء القوميّ والذين انتقدوا ممارسة تزويج الطفلات، بلا شك كان لهم بعض التأثير في هذا التغيير. فهل كان هذا التغيير المهم يمثل وجهة نظر أسرة والدتي “تنازلاً عن تقاليدنا”، وخضوعًا لـ “التغريب”؟ لا أعتقد ذلك، وأتساءل عن أسبابه في الوقت الذي يتم التعامل مع التغيير الذي يقوم به جيل جديد من النسويات باعتباره خروجًا عن التقاليد وتأثرًا بالغرب.

ولست أقصد على الإطلاق الإيحاء بأن التغييرات التي أدت إلى عدم زواج والدتي وهي في الثالثة عشرة من عمرها هي تغيرات أثرت على حياة كل النساء الهنديات، حيث تمثل الاختلافات الطبقية والدينية والعرقية مشكلات أما التعميم عند الحديث عن النساء في سياقات العالم الثالث، بنفس الطريقة التي يصعب معها التعميم عند الحديث عن النساء في السياقات الغربية. إن قوى الحداثة التي حمت والدتي من الزواج في سن الثالثة عشر –للمفارقة- المسئولة عن تزويج بعض الفتيات في الثالثة عشر من أعمارهن اليوم، مثلما يتضح لنا من حالة “أمينة” التي انتشرت تفاصيلها مؤخرًا، حيث وجدتها مضيفة الطيران، وهي تبكي على متن طائرة الخطوط الجوية الهندية حيث كانت بصحبة رجل سعودي في الثالثة والستين من عمره في سبيله لإخراجها من الهند مدعياً أنها زوجته الشرعية. حيث يوجد اليوم اتفاقات عمل ومنظومات فعالة بل وروح السمسرة، فيعمل بعض الوسطاء مقابل الحصول على مكافأة مالية على التوسط بين الأسر الهندية الفقيرة الحريصة على تزويج بناتهم على أعتاب المراهقة وبين رجال يأتون بالعملة الصعبة لشراء هؤلاء الفتيات باسم الزواج، وهي ظاهرة تمثل تفاعلاً معقدًا بين التراث والحداثة، وبين الفقر والانحراف تؤدي بالمئات من أمثال أمينة إلى البكاء وهن في طريقهن إلى مصير غريب يجعل جدّتاي –بالمقارنة- في وضع يحسدان عليه.

ولم يقتصر اندهاشي على الأصوليين الدينيين في اعتقادهم بأنهم يواصلون ممارسة “التقاليد القديمة” في الوقت الذي يتجاهلون فيه التغييرات التي ساهموا في حدوثها على مدى حياتهم، وإنما أندهش أيضًا من نساء مثل أمي. إن رؤيتها تنجح في تجاهل الاختلاف الكبير بين طريقة زواجها في الحادية والعشرين وزواج والدتها في الثالثة عشرة من العمر، فترى حياتها وحياة والدتها “محافظة على التقاليد الهندية”، بينما تمثل لها اختياراتي الحياتية كما لو كانت خروجًا ورفضًا للتراث والتقاليد. وحين ألفت الانتباه إلى التغييرات التي أوجدت فجوة بين حياة والدتي ووالدتها فإنما أشير إلى أن الأمر لم يقتصر على تأثر “النسويات التغريبيات” و “مثقفي” العالم الثالث بالتغييرات الكبيرة التي طرأت على التقاليد وأساليب الحياة والأدوار الاجتماعية. إن نسويات العالم الثالث اللاتي تتعرض برامجهن السياسية باستمرار لاتهامات بأنها تمثل خيانة لـ “أساليب الحياة التقليدية” يجي عليهن التنبه إلى نسبة “التغير غير الخاضع للجدل” في “أساليب الحياة” التي تم في نفس تلك السياقات. فعلى الرغم من قربها التاريخي إلا أن بعض تلك التغيرات أصبحت أمراً مسلمًا به في حياتنا إلى الدرجة التي تجعلنا نقف موقف الدهشة عند مواجهة تفاصيل هذه التغيرات ومداها.

وأذكر قدر الدهشة التي أصابتني وأنا أستمع إلى إحدى حكايات والدتي عن طفولتها حيث كانت والدتها شابة وأما متزوجة من جدي الذي كان يعمل محامياً، حيث قصت والدتي كيف كان بعض زبائن جدي يأتون على البيت أملاً في لقائه بينما كان هو في المحكمة، ولم يكن من “الملائم” حينذاك لجدتي أن تقابلهم وتتحدث إلى هؤلاء الرجال مباشرة، مما كان يمثل “مشكلة تفاهم” يتم حلها ببراعة، رغم أنني لا أدري إن كان ذلك الحل هو نتاج براعة جدتي أم أنه كان حلاً “منتشرًا ثقافيا”. فكانت جدتي تقف خلف الباب الخارجي للمنزل وترسل ابنتها أي والدتي إلى عتبة المنزل حيث كان الزبون يتحدث إلى والدتي ويطلب منها أن تسأل والدتها عن مكان أبيها، بينما تقوم جدتي من مكانها خلف الباب بالاعتماد على ابنتها في الرد على الزبون وإخباره بأن والدها في المحكمة وبموعد عودته.

وقد كان الأساس الذي بنيت عليه الحكاية هو طرافة الموقف حيث كانت والدتي تقف على عتبة الباب دون أن تتفوه بكلمة بينما يدور الحديث بين الكبار عبر الباب وكل منهم يوجه كلامه إليها هي. كما أنني أتذكر بعض الحقائق الأخرى التي ثبتت في ذاكرتي من سماع تلك الحكاية، حيث إن جدتي كما عرفتها بعد مرور عقدين على أحداث تلك الحكاية لم تعد تختفي من زبائن زوجها، وأن والدتي وعلى العكس تمامًا من والدتها كانت تصاحب والدها في لقاءاته المختلطة مع زملائه من الرجال، وأن العديد من بنات جيلي كان لهن زملاء من الرجال، ونتعامل مع حياتنا العامة وتعاملاتنا مع الرجال باعتباره أمرًا مسلمًا به. وحين أتأمل هذه التغيرات السريعة بين الأجيال أجد صعوبة في وصف “أسلوب حياتنا التقليدية” دون إدراك أن التغير هو عنصر ومكون دائم يؤثر على التحولات المفاجئة حينما تبدو “مخفية” بفعل كونها أمرًا مفروغًا منه.

وليس من الغريب أن يكون الجنس الذي ينتمي إليه الأطراف هو من العوامل التي تحدد ما إذا كان التغير الطارئ يعتبر تغريبا لا يحترم تقاليدنا، فقد كان جدي لوالدي يرتدي بنطلونات وقمصاناً وهو ذاهب إلى عمله لا الملابس الهندية مثلما كان يفعل أبي. وليس لدي أية فكرة عن إذا كان ذلك التحول قد اندرج عند نشأته تحت إشكالية التغريب، فإذا كان الأمر كذلك فقد كانت خاصية يبدو وأنها قد اختفت. أما النساء من جيل جدتي وجيل والدتي فقد ارتدين الزي “الهندي” التقليدي طوال حياتهن، وأنا على يقين أن قيامهن بأية محاولة في سبيل إحداث تحول مثل الذي حدث بالنسبة لزي الرجال كان سيثير ذعراً ثقافياً. ويبدو أنه يتاح للرجال قدر أكبر من التساهل بالنسبة لمثل هذه التغيرات التي لا يتم وصمها بالتغريب، بينما يطلق ذلك المسمى على التغييرات التي تقوم بها النساء.    

ولم أتبين سوى مؤخراً وجود خيط مشترك يضم كافة المحرمات على مدى الأزمان تحت مسمى “التغريب” ويتمثل في الأنماط الثقافية المتعلقة بحياة النساء الجنسية. فحين كنت في الثانية عشر من عمري وتوجهنا جنوبًا لزيارة بعض أقربائنا، الذين كانوا يعيشون في سياقات أكثر “تقليدية” من مدينة بومباي، وأوضحت لي والدتي أنني قد ظهرت عليّ علامات البلوغ فليس بوسعي ارتداء ملابسي “الغربية” رغم أنها كانت في رأي ورأي والدتي تشبه الملابس “الهندية” بصورة كبيرة عندما كنت أرتديها في بومباي، فقد كان أساس الحكم على ما يجوز لي ارتداؤه في زيارة الأقرباء في جنوب الهند هو أن تغطي الملابس ساقيّ. وقد كنت أتساءل: كيف يمكن لهذه الثقافة المهمومة بساقيّ فتاة في الثانية عشرة من عمرها أن تكون هي نفس الثقافة التي أنتجت التماثيل التي تعبر عن أوضاع حب متعددة الصور والأشكال في معابد “كاجوراهو” تزينها عشرات الأجساد “المقدسة” في أوضاع جنسية متنوعة لا تستطيع القيام بها –بالفعل- سوى الآلهة!

كنت في الخامسة من عمري حين ذهبت للعب مع جارتي الفتاة الصغيرة، واكتشفنا زجاجة طلاء أظافر والدتها. قضينا وقتًا ممتعًا في طلاء أظافر بعضنا البعض باللون الوردي المبهج. عُدت إلى المنزل سعيدة للغاية بأظافري اللامعة، لأواجه سيلًا من غضب جدتي. لقد وضحت لي، على الرغم من أنني لم أفهم تمامًا السبب، أنني فعلت شيئًا مخزيًا، وأن النساء الغربيات فقط من يفعلن هذا النوع من الأشياء. أتذكر بكائي وهي تزيل الطلاء، ليس لأنني شعرت بخيبة أمل بسبب فقدان أظافري الوردية الجميلة، ولكن لأني فعلت شيئًا فظيعًا ولم أفهم حقًا طبيعته المخزية. وللمفارقة أن نفس الجدة لم تغمض لها عينًا عندما كنت أعود في نهاية كل صيف من زيارة أجدادي، ويدي وقدمي منقوشة باللون الأحمر الداكن للحناء التي لا تختفي إلا بعد شهور. وللمفارقة أيضا أن الجدة نفسها غالبًا ما كانت تستقل الحافلات عبر المدينة لمشاهدة أفلام غربية مع أصدقائها، وأحيانا تأخذني معها، لم تكن جدتي منخرطة فقط في سلوك يبدو غريباً للعديد من النساء. كما أنه سلوكاً لم تسمح جدتي لزوجة ابنها (والدتي) الانخراط فيه، على أساس أنه غير لائق للنساء الأصغر سنًا! يبدو أن ما يعتبر “تغريبًا” يختلف اختلافًا كبيرًا مع الزمان والمكان والمجتمع، أما الأشياء ذاتها التي كانت محظورة باسمه على النساء من جيل واحد، مثل العمل خارج المنزل، أصبحت شائعة في الجيل التالي بشكل ملحوظ، ولكن نتعمد عدم الملاحظة.  

يساعد تشاترجي (Chatterjee) في فهم العديد من الأمثلة التي قدمتها عندما ناقش بأن مشروع القومية الهندية في القرن التاسع عشر لم يكن رفضًا تامًا للغرب ولكنها تتمحور حول “تبرير أيديولوجي للتملك الانتقائي للحداثة الغربية”.)[28]) كما يجادل بأن هذا المشروع أُوكل للنساء دور الحفاظ على “التميز الروحي” للثقافة الهندية، والتي كانت “ثقافتنا” متواطئة معها. وبالتالي فإن “العالم الخاص” (المنزل) أصبح أكثر توترًا وإدانة حيث باتت التغييرات التي أثرت على المرأة أكثر إثارة للجدل من التغييرات التي لحقت بالرجل في “العالم الخارجي”، ولكن يجب أن تهمنا سعادة المرأة أكثر بكثير من تخصيص “دور خاص” للمرأة للحفاظ على مفهوم “التقليد”. وأظن أن تخصيص “دور خاص” للمرأة في الحفاظ على الثقافة والتقاليد الوطنية أمرًا شائعًا إلى حد ما في عدد من بلدان العالم الثالث، والتي أدت بدورها إلى إحداث تغييرات تؤثر على المرأة والحياة الأسرية، وتثير مخاوف أكبر. وأتفق مع (تشاترجي) في أن مثل هذه التخصصات الانتقائية للحداثة لا تزال منتشرة في العديد من سياقات ما بعد الاستعمار في العالم الثالث.

يبدو “التغريب” في أحيان كثيرة كما لو كان مجرد مسمّى بلاغيًا يستخدم بانتقاء لوصم التغيرات، ومظاهر الخروج عن التراث، التي لا يوافق عليها من بأيديهم سلطة تعريف “التراث”. فما الذي يميز التغييرات التي نقوم بها “نحن نسويات العالم الثالث”، وخروجنا عما هو مألوف في ثقافتنا، عن كافة التغييرات والتعديلات التي تتم طوال الوقت؟ أعتقد أن هنالك شيئًا ما يميزنا في النقاشات التي نقوم بها حول ثقافتنا والتي نعبر عنها من خلال أصواتنا النسوية في العالم الثالث مما يجعلنا نحن والتغييرات التي نحدثها هدفا للهجوم البلاغي، حيث إن معظمنا شابات نحسن التعبير عن أنفسنا ونرفع صوتنا بآرائنا مؤكدات على حقنا في مناقشة ثقافتنا، وهو ما نقوم به في ثقة يراها البعض غير لائقة بالنساء. كما أننا نتمتع بقدر من الاندفاع فنمارس ذلك الخروج على “تقاليدنا” على مستوى حياتنا الشخصية، ولا نكتفي بذلك بل نقوم بـ “تبرير” أفعالنا ورفضنا أن نكون “بريئات” صامتات. إننا نثير جوًا من التوتر والمقاومة لأننا نحملّ الثقافة العار لما تسبب فيه تقاليدها وممارساتها الثقافية من معاناة للنساء، متمثلة في الموت والوحشية بل صور المعاناة اليومية التي تتعرض لها النساء في “ثقافتنا” والتي نعتبر “ثقافتنا” متواطئة فيها. إننا نثير جوًا من التوتر والمقاومة لأننا نصر على أن اختيارات النساء وسعادتهن لابد وأن تكون أكثر أهمية من المحافظة على التقاليد التي تتجاهل مصلحة هؤلاء النساء.

وعلى الرغم من تلك الاتهامات بـ “التغريب” إلا أن أصواتنا لن تختفي في هدوء ولن تنجح محاولات إحراجنا لنصمت، إننا أخوات وزوجات وبنات هؤلاء الرجال الذين يريدون استبعادنا، كما أن آراءنا لا تحتل موقعًا “خارج” تقاليدنا الثقافية أبعد من آراء من يصفوننا بالتغريب. إننا نتاج التعليم الغربي بنفس القدر الذي هم نتاج له، بينما يمنحون أنفسهم مكانة المحافظين على تقاليدنا. إننا نعلم جيدًا أن نقدنا ونقاشنا لا يمثل خاصية تقتصر على ثقافتنا فحسب، كما نتمتع بالقدرة على التساؤل حول مدى كون أصوات منتقدينا هي الأخرى تمثل خاصية تقتصر على واقعنا الثقافي المعقد والمتغير. إنني على يقين من أنه من حق نسويات العالم الثالث أن يقلن ما قلته أنا لوالداتي حينما وصفتني مرة بأنني منزوعة الثقافة (De cultured) (وهي كلمة اخترعتها في إطار حوار ساخن بيننا) فأخبرتها بأنها تأبى إدراك أنني نسوية بل وهندية من نوع مختلف.

  ولا أقصد من وراء ذلك الإيحاء بأن لنسويات العالم الثالث موقفًا صحيحًا تجاه ثقافاتهن، حيث إن النقد النسوي لثقافتي كأي جهد فكري قد يقوم على فرضيات خاطئة ويفتقد إلى الحساسية تجاه السياق العام ولا يلتفت بالقدر الكافي إلى مصالح المهمشين والمستضعفين، وهلم جرا. إن وجود مثل هذه الأخطاء يجب أن يثير حواراً نقديًا جادًا بدلاً من محاولات “استبعاد” الآراء المقترحة بأن يتم تحويل دفة النقاش نحو مدى أصالة المتحدث أو وصف النسوية بأنها تنتمي إلى الأجندة السياسية الغربية. إن هذه الاستراتيجيات القائمة على الاستبعاد تقوم على وصم المواقف السياسية بأنها “غريبة” و “أجنبية” وممثلة لآراء الآخر، وبالتالي يتم وصف الأفراد الذين يتبنون تلك المواقف بأنهم خانوا مجتمعاتهم وخذلوا أمتهم أو هوياتهم الجماعية. إن هذه الاستراتيجيات لا تستخدم ضد نسويات العالم الثالث فحسب، وإنما يتم توظيفها أيضًا لنفي الشرعية عن عديد من الأفراد والمواقف والمجموعات السياسية. كما يتم استخدام نفس الاستراتيجيات ضد النسويات الملونات في السياقات الغربية حيث يتم استبعاد آرائهن في صالح تبني أجندة سياسية بيضاء. كما تشير شيري موراغا Cherrie Moraga)): فهي تقلل من أهمية الحركة النسائية، مرارًا وتكرارًا، باعتبارها تعبر عن الطبقة الوسطى (البيضاء)، وليس لديها ما تقدمه للنساء ذوات البشرة الملونة. ومن المثير للاهتمام، أنه من المقبول تمامًا بين الذكور الشيكانو Chicano))(*) استخدام المنظرين البيض، على سبيل المثال “ماركس” و “أنجلز”، لتطوير نظرية اضطهاد تشيكانا. ومع ذلك، من غير المعقول أن يستخدم الشيكانو المصادر البيضاء من قبل النساء لوضع نظرية اضطهاد تشيكانا.)[29])

أريد التأكيد على أنه لابد من مواجهة محاولات استبعاد الآراء والسياسات النسوية في العالم الثالث باعتبارها تغريباً عن طريق لفت الانتباه إلى الاستخدام الانتقائي لمصطلح “التغريب” وتوظيفه بما يحقق مصالح البعض، وكذلك عن طريق التأكيد على أن نقاشنا لبعض جوانب ثقافتنا متأصل في خبراتنا النابعة من ثقافتنا ولا تمثل حقيقة واقعنا بقدر يقل بأية حال من الأحوال عن آراء أبناء وطننا ممن لا يوفقوننا الرأي. يجب على نسويات العالم الثالث إلقاء الضوء على أن مطالبتهن دومًا بتبجيل ثقافتهن وتقاليد وأوطانهن أدت دائمًا إلى مطالبتهن بتأجيل التعبير عن القضايا التي تؤثر على أوضاع النساء، وهو ما توضحه نسوية جزائرية فتقول: (لا توجد لحظة مناسبة أبدا للاحتجاج.. باسم مصالح النساء وحقوقهن): “لا أثناء حركة التحرر ضد الاستعمار حيث يجب تعبئة كل القوات في مواجهة العدو الرئيسي، أي الاستعمار الفرنسي. كما أنه لا يتحقق الآن حيث تقوم الحكومات الغربية الإمبريالية العنصرية بمهاجمة الإسلام والعالم الثالث… إن الدعوة إلى مناصرة حقوق النساء الآن (والمقصود بـ “الآن” هي أي لحظة تاريخية) يتم اعتبارها خيانة: للشعب أو الوطن أو الثورة أو الإسلام أو الهوية الوطنية أو الجذور الثقافية أو العالم الثالث…”([30])

ولا أقصد القول بأن كل التغيرات التي شهدها العالم الثالث هي تغيرات للأفضل، كما أنني لا أتبنى مقولة أن نسويات العالم الثالث يعملن ببساطة على قلب المحاولات التقليدية والوطنية والأصولية لنشر شعارهم “التغيير شر والتقاليد خير” رأسًا على عقب بتبني النسويات شعار “التقاليد شر والتغيير هو الخير”. وإذا كان من الممكن القول بأن بعض التغييرات التي حدثت في سياقات العالم الثالث قد أدت إلى تحسين حياة النساء، إلا أن بعض التغييرات الأخرى كان أثرها عكسيًا، ففي سياقات العالم الثالث مثل غيرها من السياقات نجد أن التغيرات التي تؤدي إلى تحسين حياة بعض النساء لا تكون مؤثرة في حياة باقي النساء بل وقد تنعكس سلبًا عليهن. ولذا وجب على النسويات الانتباه لكافة الاحتمالات وتشجيع قيام وانتشار الحوار النقدي حول جوانب متنوعة من التغير الاجتماعي. ويتعين على كافة السياقات الثقافية التي يجب المحافظة عليها وتلك التي تتطلب النقاش والجدل حولها، مع فتح مجال تلك التساؤلات وغيرها من أجل قيام حوار وجدل سياسي على نطاق واسع. إن الإيحاء بأن نسويات العالم الثالث يفتقدن إلى الشرعية الثقافية التي تؤهلهن لتحديد عيوب معاملة النساء في إطار الثقافة السائدة إنما هي محاولة لتقليص ذلك الحوار الساسي والحفاظ على إحساس زائف بـ “الزهو الثقافي” الذي يعادل بين احترام ثقافة ما وبين غض البصر عن مشاكل هذه الثقافة.  


المراجع

  • ([1]) ليس لدي رغبة في التأكيد على مفهوم “نسوية العالم الثالث” بالإشارة ضمنيًا إلى أن جميع النسويات من خلفيات العالم الثالث يواجهن هذه الرفض. ولا أرغب في الإشارة إلى أن جميع نساء العالم الثالث اللائي ينخرطن في أنشطة تتمحور حول النساء، تتبنى السياسة مصطلح ” Feminism”. وقد تم التشكيك في مصطلح Feminism” ” ورفضه أحيانًا من قبل نساء العالم الثالث نظرًا لما به من قصور. ويمكن الرجوع إلى:
  • Madhu Kishwar, “Why I Do Not Call Myself a Feminist,” Manushi 61 (Nov.—Dec., 1990).
  • في حين ترفضن أخريات التنازل عن مصطلح Feminism”” مثلما يرد في:
  • Cheryl-Johnson-Odim’s, “Common Themes, Different Contexts: Third World Women and Feminism,” in C. Mohanty, A. Russo, and L. Torres, eds., Third World Women and the Politics of Feminism. (Bloomington: Indiana University Press, 1991).
  • ([2])   Valentine M. Moghadam, ed., Identity Politics and Women: Cultural Reassertions and Feminisms in International Perspective, (Boulder, Westview Press, 1994).
  • ([3])  Mary Fainsod Katzenstein, “Organizing Against Violence: Strategies of the Indian Feminist Movement,” Pacific Affairs 62, 1 (1989), p. 69.
  • ([4]) Sucheta Mazumdar, “Women on the March: Right-Wing Mobilization in Contemporary India,” Feminist Review 49 (Spring 1995), p. 4.
  • ([5]) Ibid, p.45
  • ([6]) For instance, see Lata Mani, “Contentious Traditions: The Debate on SATI in Colonial India,” Cultural Critique 7 (1987), pp. 119—156.
  • ([7]) Richard Shannon, The Crisis of Imperialism, 1865—1915 (St. Albans: Paladin, 1976), p. 13.
  • ([8]( G,W.F. Hegel, The Philosophy of History, trans. J. Sibree (New York: Dover, 1956), P. 99.
  • ([9]) Karl Marx, “On Imperialism in India” in The Marx-Engels Reader, ed. Robert Tucker (New York: Norton, 1972), p. 578-79.
  • ([10] (Andre Beteille, “Some Observations on the Comparative Method,” Economic and Political Weekly, October 6, 1990.
  •  ([11]) الخط الفاصل بين “التقليديين” و “الحداثيين” ضبابي وليس حادًا ، وهو الخط الذي غالبًا ما يتغير بمرور الوقت.
  • ([12]( Partha Chatterjee, “Colonialism, Nationalism and Colonized Women: The Contest in India,” American Ethnologist (1989), p. 623
  • ([13] (Antoinette Burton, Burdens of History: British Feminists, Indian Women, and Imperial Culture, 1865-1915 (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1994), P. 35.
  • ([14] (Ibid, p.35
  • ([15]) Ibid, p. 211.
  • ([16] (Ibid, p. 20.
  • ([17] (Ibid, p. 31.
  • ([18]) Suruchi Thapar, Women as Activists; Women as Symbols: A Study of the Indian Nationalist Movement,” Feminist Review 44 (Summer 1993), p. 81.
  • ([19] (Valentine M. Moghadam, ed. Cultural Reassertions and Feminisms in International Perspective, (Boulder, Colo.: Westview Press, 1994), p. 257.
  • ([20] ( Partha Chatterjee, “Colonialism, Nationalism and Colonized Women: The Contest in India,” American Ethnologist (1989), p. 625.
  • ([21] (Himani Bannerji, “Fashioning a Self: Educational Proposals for and by Women in Popular Magazines in Colonial Bengal,” Economic and Political Weekly (Oct. 26, 1991), p. 58.
  • ([22]) ” Partha Chatterjee, “Colonialism, Nationalism and Colonized Women: The Contest in India,” American Ethnologist (1989), p. 627.
  • ([23] (Arati Rao, “The Politics of Gender and Culture in International Human Rights Discourse,” and Ann Elizabeth Mayer, “Cultural Particularism as a Bar to Women’s Rights: Reflections on the Middle Eastern Experience,” both in Women’s Rights, Human Rights, Julie Peters, and Andrea Wolper, eds. (New York: Routledge, 1995).
  • ([24] (Kumari Jayawardena’s discussion of nineteenth-century missionary girls’ schools in India and Sri Lanka in her chapter, “Christianity and the ‘Westemized Oriental Gentlewomen}’ in her The White Women’s Other Burden (New York: Routledge, 1995).
  • ([25] (Partha Chatterjee, “Colonialism, Nationalism and Colonized Women: The Contest in India,” American Ethnologist (1989), p. 628.
  • ([26]) Ibid.
  • ([27] (Ibid.        
  • ([28]) Partha Chatterjee, “Colonialism, Nationalism and Colonized Women: The Contest in India,” American Ethnologist (1989), p. 624. Also see his Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse? (London: Zed Books, 1986.)
  • (*) شيكانو أو شيكانا هي هوية مختارة للعديد من الأمريكيين المكسيكين في الولايات المتحدة.
  • ([29])  Cherrie Moraga, “From a Long Line of Vendidas: Chicanas and Feminism,” in Theorizing Feminism: Parallel Trends in the Humanities and Social Sciences, Anne C. Herman and Abigail J. Stewart, eds. (Boulder, Colo.: Westview Press, 1994), p. 38.
  • ([30] (Marie-Aimee Helie-Lucas, quoted by Gayatri Chakravarti Spivak in “French Feminism Revisited.” In Feminists Theorize the Political, Judith Butler and Joan W. Scott, eds (New York: Routledge, 1992), p. 71.