مجلة حكمة
معركة داروين مع القلق - ماريا بوبوفا

معركة داروين مع القلق – ماريا بوبوفا /  ترجمة: سارة الصمعان


لا شك أن شارلز داروين كان من أهم المفكرين الذين شهدتهم البشرية ،لكن سيرته لا تخلو من ذكر أطباع ذهنية غريبة، من روتينة اليومي الصارم إلى مزاجه اليائس القانط إلى  وسواسه تجاه محاسن الزواج ومساوئه. ويمكننا اعتبارها استراتيجية التكيف الدارويني للتحكم بتوعكاته التي سيطرت على حياته. تلك التوعكات التي عانى منها بدرجات مختلفة “فنسنت فانجوخ”، والتي بدورها وهبته إبداعا ميزه عن بقية العقول العظيمة الأخرى ، وكثيرا ما استخدم هذين المثالين لتكريس العلاقة بين الأمراض النفسية والإبداع.

وفي سيرة سكوت ستوسل الذاتية “محرر صحيفة اتلانتك” (My Age of Anxiety: Fear, Hope, Dread, and the Search for Peace of Mind)   القلق في حياتي: خوف، امل ،رهبة وبحث عن السكينة والذي استقصى فيه عن حياة داروين من خلال تمحيص مذكراته ورسائله ،خصوصاً تلك المتعلقة  بالصحة النفسية لمحاولة استكشاف الثقافة الغربية  والقلق وكلفته. ليستنتج  في نهاية الأمر أن القلق الذي عانى منه هذا العالم العظيم كان هو السبب في قضائه ثلث نهاراته على متن سفينة البيغل على فراشه، منهكا من أعراض القلق المختلفة.

ويستطرد ستوسل قائلا: 

لطالما كانت العلاقة بين اضطرابات المعدة العصابية و بين الإنجاز الفكري جلية للمختصين، فقد دونها أرسطو في كتاباته. كما اشتكى سيقموند فرويد كثيرا من اضطرابات المعدة وحالات الإسهال المتكررة أثناء رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1909 والتي قدم فيها التحليل النفسي إلى العالم الجديد. ومن الظريف أن العديد من الرسائل  المتبادلة بين وليام وهنري جيمز، وهما عصابيين قلقين من الطراز الأول. كانت  ببساطة عبارة عن تبادل لوصفات شعبية لمعالجة ماكانوا يعانون منه من  اضطرابات معوية.غير أن  معاناتهم  لا تقارن بما ابتلي به شارلز داروين المسكين الذي امضى عقوداً من حياته أسيرا للإضطرابات المعدية.

تلك المعضلة الجسيمة ، كما يقول ستوسل ، ومحاولات داروين  التغلب على معاناته مع القلق  قد تكون أحد أسباب اهتمامه العميق  بدراسة  المشاعر الإنساية . حيث انه كتب مذكرات يوميه سجل فيها كل مايتعلق بصحته و قد  كتبها آنذاك بناء على طلب طبيبه المعالج خلال فترة علاجه التي  استمرت ست سنوات منذ ان بلغ سن الأربعين وحتي سن السادسة والأربعين . كانت صفحات تلك المذكرات مملوءه بالشكوى من التعب المزمن و ألم المعدة المستمر والإحساس بالإنتفاخ والتقيوء العرضي والإحساس بالدوار والرجفة والأرق والطفح الجلدي والدمامل وخفقان القلب بالإضافة  إلى الإحساس بالكآبة.

  في عام ١٨٦٥ – أي بعد ست سنوات من اتمامه لكتاب أصل الجنس البشري –  كتب داروين ذو ال ٥٦ عاما رسالة لطبيب آخر يدعى جون تشابمان وصف  فيها الأعراض المتعددة التي أنهكته  لعقود وكان محتواها:

منذ ٢٥ عاما وأنا أعاني صباح مساء من انتفاخات في المعدة وقيء عرضي مزمن يستمرلاشهر متتالية  مصحوبا برعشة ونوبات  بكاء هيستيرية واحساس بدوار شديد” وغزارة في التبول مع بهتان في اللون. وطنين في الأذن وضيق في النفس وضعف في النظر، وتوتر وقلق شديد عندما تهجرني إيما.”

وكما هو معروف للبعض فإن إيما هي زوجة داروين التي أحبها بشدة وأنجبت منه عشرة أطفال  يجدر لنا أن نذكر أن القلق  الذي تحدث عنه داروين كان يظهر جليا في مواقف معينه غير مرغوبة كما أنه أيضاً أشار الى القلق الذي نسميه حاليا بقلق الانفصال.

دراسة ستوسل لنسب داروين: 

كان داروين شديد الإحباط لفشل الأطباء ومن بينهم والده في علاجه، فقد امضى  حوالي ثلاثة عقود وهي السنوات التي إستبسل فيها  في كتابة أصل نشأة البشرية وكان حينها معتلا جسديا ملازما لمنزله. وبناء على ما أورده داروين في مذكراته ورسائله نستطيع القول بانه ومنذ سن الثامنة والعشرون كان يمضي  ثلث يومه  تقريبا مريضا وطريح الفراش . ثم كتب رسالة للطبيب تشابمان  يشكو فيها حالته الصحية. و كان  تشابمان قد أشرف على علاج عدد من المثقفين و المشاهير في العهد الفيكتوري و الذين كانوا يعانون من القلق المرضي في فترة من فترات حياتهم

وكان على حد قوله متخصصا  في علاج فئة المصابين بالمرض العصابي والمتميزين بعقول مصقولة ببراعة  ومعقدة التركيب ولديهم حدة في  الذهن ء وذكاء خارق وتسيطر عليهم اضطرابات جسديه  وعلل يصعب تحملها.

كان يعالج معظم الامراض العصابية  بوضع الثلج على منطقة الحبل الشوكي للمريض ، قام تشابمان بزيارة داروين في قريته في أواخر مايو من عام١٨٦٥ لعلاجه ، فآمضى داروين ساعات طوال وظهره مكسوا بالثلج  وإستمر على هذا الحال أشهرا عديدة.  قام خلالها بعمل أبحاثه وذلك بتشكيل أقسام للحيوانات والنباتات المدجنه لديه وهو يحمل أكياسا من الثلج مثبته الى ظهره.

ولكن طريقة تشابمان لم تجد نفعا في علاج داروين فالقيء المزمن والاعياء الشديد وألآم  المعدة كلها كانت مستمره طيلة فترة العلاج. رغم أن داروين وعائلته استمتعوا جدا بصحبة تشامبان حيث كتبت زوجة داروين ” لقد استمتعنا كثيرا بصحبة الدكتور تشابمان فهو رجل ظريف، ولكننا في الوقت ذاته شعرنا بالأسى لأن طريقته في العلاج لم تجد نفعا” ، وعند حلول الصيف وفي شهر يوليو تحديدا أوقف داروين المداواة وعاد الطبيب الى موطنه في لندن. لم يكن تشابمان الطبيب الأول الذي يفشل في مداواة داروين، ولم يكن الأخير أيضا.

 إن قراءة مذكرات داروين ورسائله تظهر جليا معاناته واعتلال جسده والتي بلغت أوجها بعد عودته من رحلة الصيد الشهيرة التي قام بها في عام ١٨٣٦ . وكان هناك جدل طبي واسع النطاق حول التشخيص الصحيح لمرض داروين  واستمر هذا الجدل مايقارب المئة والخمسين عاما.  حيث تطول قائمة الأمراض المتوقعة التي أوردها الأطباء والباحثين والتي اعزوا  إليها معاناة داروين وإعيائه المستمر  فمنها مثلا الالتهاب الاميبي، التهاب الزائدة الدودية،  القرحة المعوية، و المعدية ، عسر الهضم، الصداع النصفي المزمن، التهاب المرارة، التهاب الكبد الوبائي ، الملاريا، التسمم بالزرنيخ، البرافيريا، نوبات النوم المفاجئ، سكري ناتج عن فرط الانسولين، داء النقرس، التهاب المفاصل،  الحمى المالطية التي قد تكون إنتقلت اليه عن طريق العدوى عند زيارته للأرجنتين وكانت متفشيه فيها حينذاك. وشخص بعضهم إصابته بمرض شاغاس الذي قد يكون إنتقل إليه من حشرة كانت  منتشره في الأرجنتين ذلك الوقت. وكتب البعض أنه قد يكون لديه تحسس من طيور  الحمام التيكان يجري عليها دراسته أو قد يكون معتلا بداء دوار البحر حيث أنه كان يقضي أياما طوال في رحلاته البحرية  بغرض الصيد. كما أنه كان يعاني من إنحراف في البصر وقد اطلعت مؤخرا على مقاله كان عنوانها” كشف أسباب مرض داروين” والتي نشرت في صحيفة بريطانية أكاديمية  عام ٢٠٠٥ كتب فيهاأنه كان يعاني من سوء إمتصاص اللاكتوز.

يستطرد روسل قائلا:

 تم تقصي مرض داروين  خلال حياته وحتى بعد وفاته ، وكانت المنافسة بين الاطباء و الباحثين على قدم وساق لمحاولة فهم الاسباب الحقيقية  وراء معاناة داروين ومرضه المستمر ولكني أرى أن القلق كان العامل الرئيسي ،والمسبب الفعلي لجميع الأعراض المرضية التي قاساها داروين،   وحجتي في ذلك أمام الكم الهائل من النقاشات الطبية  أمر بسيط يبدوا لي جليا و يثبت صحة  ماأقول  وهو أن داروين عندما يكون في إنقطاع عن العمل وعندما يقوم بالتنزه وركوب الخيل في تلال إسكوتلاندا أو شمال ويلز تكون صحته على مايرام ولايشكو من أي علة ، ولاشك أنه لاينبغي لنا  أن ننتظر أن يسيطر علينا القلق المرضي حتى نعرف  المنافع الجسدية والعقلية التي نجنيها من المشي والذي يعتبر بحد زعمي” القابل للنقاش” أسهل وأبسط الوسائل لإعادة التوازن النفسي كما أنه محفز قوي للإبداع.

كتاب القلق في حياتي سوف يأسرك  ويستحق أن تقرأه بتمعن،  ويكمله كتاب آلان  واتس  والذي وضع فيه ترياقا سحريا للقلق   ثم عد بعد ذلك  لقرائة الجانب المشرق في حياة داروين وأفكاره النيرة المتعلقة بالأسرة  والعمل والسعادة.


المصدر