مجلة حكمة

مسألة في العلمنة – أبو العباس ابرهام

hgufhs
أبو العباس ابرهام

نقاط في العلمنة

مسألة:
يُنبِئُنا ابن عساكر، صاحب “تاريخ دمشق”، أن الممارسة والنظرية الإسلامية لا تقبل التسمي والتكني معاً باسم الرسول (ص) وكنيته، لما في ذلك- نخمِّن- من المحاكاة ورصِّ الكَفِّ بالكف. ويُخبِرُنا ابن الجوزي في “المنتظم” أن الأمر خصوصية لمحمد بن الحنفية، إذْ رخّصَ الرّسول (ص) ذلك لوالِده، علي بن أبي طالب. ومع القرون اللاحقة لابن عساكر انتفت من الثقافة تلك العلاقة بين جمع الاسم والكنية مع التطاول أو المحاكاة وبطلُ من المنظور الثقافي بُعدُها الدِّلالي، تماماً كما أفلت في عصرنا ثقافة الاكتناء. ولم يحل القرن السابع عشر والثامن عشر حتى دالَ الأمرُ إلى انفصامٍ بين الممارسة والنظرية إذ نرى كثيراً من أعيان الشامِ ومصر يتسمون ويتكنّونَ باسم الرسول وكُنيته. ولا شكّ أننا أمامَ شكلٍ من النسيان أفنى الرّتابة بين التحريم النّصاني والتحليل المُمارِس. هذه هي العلمنة.

في العلمنة

بمعنى ما فإن العلمنة هي انقطاع العقلنة أو الخيط الواصِلِ ما بين النّص والممارسة، بين النظرية والتاريخ. فعندما تفقد الممارسة علاقتها الجدلية مع النّص، وتضطرُ لتجاوزه أو لنسيانِه نسياناً رغائبياً فرويديا، أو لإزاحته، إما جزئياً أو إما كُلياً، من خلال فهومِ تقريب تدّعِى “العلاقة مع الواقع” و”التماشي مع العصر” (وكأن هذا خيارٌ أساسيٌّ من النّص الأصلي) فإنّنا أما حالة علمنة. وبهذا المعنى فالعلمنة هي حالة تنتابُ الذاكرة واللغة ومنطق المؤسسات والثقافة. وبهذا التّصوير فإن العلمنة لم تنتظر حالة الحداثة، وإن كانت الأخيرة مطيّتُها الأهم، وبمعنى ما روحها، بل ظلّت مصاحِبة للتحولات الاجتماعية ومرافقة للتحولات الثقافية (ويُشجِّعُنا بيتر براون على رفض مصطلح “الإنحطاط” لصاح مصطلح “التحول الثقافي”) والقطيعات المعرفية والروحية المُتكرِّرة عبر تاريخ الأديان. ويُنبّئُنا تشارلس تايلور، وإن من تعريف مختلف للعلمنة، أن المشروع العلماني قائمٌ، وإن ام يكن معيارياً، في القدامة من خلال الأبيقورية وأشكالِها الرواقية. وقد بيّن مارسيل غوشيه أن الأديان التوحيدية كانت أولى حالات العلمنة لإبعادها الآلهة عن الحياة اليومية ورفعِها إلى السماء. أما سيريل أوريغان فينبِّهُنا إلى البعد الديني في العلمنة الهيغلية أو ما يُسميه “الغنوصية الحداثية”.

ويُنبئُنا ابن حزم الظاهري أن حالة العلمنة، أي حالة العيش خارج مجال نصوصي، هي حالة أصلية، وإن مجال النّصِّ محدود ومرّقمٌ بآياتٍ نصية ظاهرية؛ أما الباقي فهو مجالٌ للترشيد الإنساني. وليس صُدفةً أن أولى حالات العلمنة المؤدلجة الحداثية في مجال الإسلامي، ونقصدُ بها الإصلاحية الإسلامية القرن التاسع عشر عند جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده و وعبد الرحمن الكواكبي ونُضيف من عندنا الشيخ حسين المرصفي وعبد الله النّديم وحفني ناصف، كانت حركة قرآنية رامت فكّ الشرعية النصانية لحالة “التخلُّف” وأرادت نفيَ غيرِ ما هو قرآن أو ثابتُ الحديث، فقلّصت التفاصيل الفقهية وحجّمت الدنيوية النصية للعالم الصوفي، بل ولم تقبل من العالم الصوفي إلاّ روحانيته،، لا مشيخانيتُه (وهي اجتماعيته)، ففتحت مسافة كبيرة بين النص والممارسة و، كما تقول الصورة النمطية، “فتحت باب الاجتهاد” و”التّجديد”.

النصانية كحالة علمنة

وبطبيعة الحال فليست النظرية التقليدية، أو حتى الأصولية، على ما يمكنُ انتقادُها به من تواطئ مع العلمنة (إذ هي قائمة على فصل بين الفقه والتاريخ)، غافلةً لحالات الفناء بين النصِّ والصورة الاجتماعية. بل هي تُحيك لهذه الحالات مصطلحا فنياً وهو “السُّنة المماتة”. ولسوء الحظ لا توجد لدينا في هذه النظرية سوسيولوجيا لموت السُّنن وتعليلاً لكيفية حدوثه، هل يحدُثُ بغلبة الاستعارات الثقافية أم بالقطيعة المدرسية مع النّص أو بانتهاء سلطة أو نفوذ “المجتمع المدني” المُتوّسِطِ بين العوام والنص: العلماء ورجال الدين، وهم سدنة النظرية وباثوها في الجسم الاجتماعي قبل ظهور مجتمع القراءة وفردانية الفهم. ولكننا نعرفُ أن كلّ الحركة الدينية الوسيطة هي ناجمة من حالة anomie بالمعنى الدوركايمي مردُّه الشكوى من انحلال الممارسة الإسلامية من عقالها المتصوّر والمُودع في “الأصل” النبوي والعالم الصّحابي. ومع العصر الأموي ظَهرت حركة اجتماعية أساسُها التابعون والقرّاء الذين تلقّوا الإسلام في مجالات الصحابة الأجلاّء وتربّى الكثيرُ منهم في بيوتات زوجات النبي عليه السلاّم. وقد وجدَ هؤلاء حالة قطيعة ما بين العصر الأموي والعصر النبوي. وقد صرّحَ التّابعي معاوية بن قُرّة (تـ80 هـ) بمرارة قائلاً “أدركتُ سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله (ص) لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئاً ممّا أنتم عليه”. وقد ظهرَت حركة القَصاصين والوعاظ والقُراء وازدهرت كحركة تريد إعادة الشعب المسلم إلى سابق الممارسة وأصلِ النّص.

ويبدو لناهذا تصوراً شبه مألوف؛ لكن من الغريب، ليس فقط من منظور العلمانية بل حتى من منظور التاريخ الإسلامي، أن الحس الاعتيادي لم يقبل دوماً أولوية الحركة النّصانية وقيادتها للمجتمع الإسلامي. وربما يكون من الغريب بالنسبة للقارئ الحداثي أن الرّجلَ الطبيعي ورجلَ السُّلطة في العصر الأموي ردّ أحياناً باعتبار الحركة التابعية والقُرّائية حركة ابتداعية ومُحدِثة وداخلة على الدين وخارجة على عُرفه. وتُظهرُ لنا الممارسات الأموية المُضطهدة للصحابة والتابعين أن الوضعَ القداسي لهؤلاء هو من إنتاج القرون اللاحقة. وقد انتقد الشاعر مساور الورّاق على مدرسة أبي حنيفة الرائدة ممارساتها القرائية معتبراً أنّها إضافة في الدين، فقال متذمِّراً، بعد أن أزعجته “ضوضاء” كُتّاب أبي حنيفة:

كنّا من الدين قبل اليوم في سَعةٍ
حتّى بُلينا بأصحاب المقاييــس
قومٌ إذا اجتمعوا ضجوا كُأنهم
ثعالبٌ ضَبَحَت بين النّواويس

 

وقد اضطُرّ أبو حنيفة إلى شراء لسان الشاعر بمنحه وتأليف قلبه. وما نريدُ قوله هو أن كثيراً من النّاس لم يقبل أن الحركة النّصانية هي أصلُ الإسلام. ومن الواضح أن سيطرة الحركة القُرّائية على الشرعية الدينة هو عملية مُنتجة تاريخياً، وليست بديهية، كما يعتقد القارئ الحداثي. ويُنبئُنا الدارسون الحديثون عن مراتب تاريخانية الخطاب الإسلامي وإنتاج النظرية الدينية. ويُبيِّنُ لنا وائل حلاّق أن ظهور السلطات المذهبية هو عملية تاريخية لاحقة لحيوات سادة المذاهب الإسلامية الأساسية بقرنين على الأقّل. ويُنبِّهُنا جورج طرابيشي والكثيرون من قَبلِه، إلى أن كلّ العلوم الدينية، وأولُّها علوم الحديث، كانت أيديولوجيا الموالي، الصاعدين اجتماعياً، ورغبتُهم في احتكار الشرعية الدينية من خلال نزعِها من القرآن، المتاح للعوام والأقلّ قانونية، وإضافتِها إلى العلوم الدينية النخبوية، والتي تحتاج إلى إكليروس. وكما يُخبرنا عبد القادر البغدادي، صاحب “خزانة الأدب”، فإنه يظهر من موقف اللغويين العرب، وعدم استشهادهم بألفاظ الحديث، اعترافهم بالقطيعة، اللسانية على الأقل، ما بين العلوم الحديثة و”الأصل” اللغوي العربي.

وما نُريد قولَه بهذا هو أنّه بدلَ أن ننظرَ إلى “النص” باعتباره أصل ومستودَعَ الدين فإنّه من الأجدى النظر إليه كمنافس من داخل الدين، وكمُجادِلٌ ومناقشٍ للممارسة، وليس بالضرورة ترجمتها أو صياغتها. وليس القول بمطابقة النص والممارسة في الإسلام غير تعميم استشراقي ورثته الحركات الإسلامية المعاصرة ودوّلته. وعلى هذا فإنّ دخول النص في التقنين الحديث، معزولاً من التاريخ، عكس ما بغته علمانوية القرن التاسع عشر، يُحدِثُ قطيعة مع ممارسات إسلامية تاريخية ويستبدلُها بالترتيبات القانونية والجِدالية التي أنتجتها أو ولّدتها هذه الممارسات. وما نريده بهذا هو النظر إلى لحظات التّجديد الأصولي، وحتى إحياء “السُّنن”، باعتبارها لا تنجو من اختزال الحالة التاريخية وقطعها من ثرائها التاريخي الخصب.

الجزية مثالاً

وحالة الجزية هي نموذج مهمٌ هنا. فمنذ 2014 فرضت الدّولة الإسلامية بالعراق نموذج الجزية، وهو، زعماً، نموذج إسلامي. وقد رفضَ “نصارى” الموصل التخيير بين الجزية والقتل فاختاروا التّهجير أما “نصارى” الرّقة فقد وقّعوا عقد الجزية ودفعوها لـ”الدولة الإسلامية”. وبطبيعة الحال فقد دافعت الاعتذارية السلفية عن “إحياء سنة الجزية”، باعتباره استعادة لماضي الدين وآفلِه وباعتباره حميداً من المنظور الوظيفي والبراغماني. وما نريده هنا هو إثبات أن العودة السلفية للجزية لا تستكمل العودة التاريخية أو النصية لماضي الإسلام، بل هي عودة متوّسَطة بإكراهات العلمنة والحداثة وأفقُها وتصوراتِها، حتى في أكثر حالات هذه العودة قروسطية. وعلى أن النص أو النظرية نشأت في جدالٍ وإملاءات من الممارسة، وهو ما كان نصر حامد أبو زيد يسميه بـ”أولوية الجدل الصاعد على الجدل الهابط”، فإن هذا لا يعني إملاءً أو تبعية من النص للتاريخ، بل هو في جدل معه، وأحياناً هو ذمُرٌ منه ومقاومةً له. ويُمكننا أن نلاحظ حالات من تفاوت تصوُّر الجزية في النص والتاريخ الإسلامي بما يتقاطعُ ويتناقشُ مع التبريرات السلفية للجزية.

تفاوت

لقد ذهبَ مُعظَمُ العلماء السلفيين المتعاطفين مع الدولة الإسلامية إلى موقفٍ منافِحٍ عن الجزية التي فرضتها “الدّولة الإسلامية” في الرّقة والموصل. غير أن المثير هو أن هذه الاعتذارات، على جرأتِها في القطيعة مع “الواقع”، لا تخرجُ من التّرسيم العلماني؛ وفي ابتِغائها لهذا الترشيد المعلمن فإنّها إنّما تُلغي أبعاداً من الظّاهرة الدينية التي تُدافع عنها، فتمنع منها كليانتها الدينية totality، بما يُفضي إلى حالاتٍ من النسيان وتفكيك الذّاكرة الذي سميناه أعلاهُ “علمنة”. فنُلاحظُ في النظرية الاعتذارية عن الجزية، والدّاعمة لسياسات الدولة الإسلامية، كالمقال “التأصيلي الشرعي” للشيخ حسين بن محمود أن الجزية بالنسبة له هي ممارسة ضريبية كضريبة الإقامة في الدولة الحديثة. وهو نفسُ ما يذهبُ إليه الشيخ علاء الدين الموصلي.

أما بالنسبة لمقال الشيخ غريب السرورية فالجزية هي آليّة لهداية أهلِ الذِّمة وإدخالهم الإسلام. وبطبيعة الحال فإن التاريخ الإسلامي لا يُقِرُّ بهذا التصور للجزية فلم تكن الجزية مُدرّة للدخل على عهد الرسول عليه السلام، الذي فرض ديناراً واحداً على كُلِّ ذمي؛ بل كانت كما يبدو مجرّد رمز سيادي، ولم تتحوّل الذمة إلى حالة دخل مهم لبيت المال إلاّ مع الإصلاحات المالية لعمر بن الخطاب، المؤسِّسُ العملي للدولة. أما العصر الأوي فيقولُ لنا أن الجزية لم تكن للهداية إذْ لم تُسقَط عمّن أسلَمَ حتى إصلاحات عمر بن عبد العزيز، التي قايضت مع أهل الذمة إسقاط الجزية عنهم حالِ إسلامِهم مع عدمِ توظيفِهم في البيروقراطية الإسلامية. وعلى كُلِّ حالٍ فإن الخراجَ لم يُسقط عن ذمي أسلمَ، بل ظلّ مستمراً غالباً. ومع العصر العبّاسي تعمّمت الضرائب إلى غير أهل الذِّمة فتضائلت الفروق الضريبية، لولا اضطهاد المتوكِّل لأهل الذمة.

على أن مطابقة الذّمة بوضعٍ ضريبي وليس بتخريجٍ من القومية والمجتمع هوّ من ترتيبات العلمنة وتجريدها للممارسة الدينية التاريخية. وماهوّ أدهى، بالنسبة للدولة الإسلامية، هو أن النظرية الدينية بالذات ترفض لجم المعاملة الذميّة وتقليصها في إجراءات ضريبية. وهي هنا في صراعٍ مع التاريخ. فبينما يقومُ المذهب المالكي والشافعي على حالة رفض وعداء لشرعية تجارة الذمي فإن التجارة المسيحية لم تتعرّض دوماً لنفس المضايقات التي يقترحها الإمامان. ويُفتي المذهب الشافعي بعدم متابعة المسلم إذا دمّرَ خمرَ الذِّمي (مع أن المالكية تُبيح للذمي صنع خموره وشربَها)، بينما يُحرِّمُ الإمام مالك المشاركة في التجارة مع أي ذمي، ولا يُجوِّزُ أي إمكانية لتوظيف الذِّمي إلاّ إذا كان عبداُ بدّالَ مالٍ وأجيراً للمسلم. وبطبيعة الحال فإنّه يمنعُ على المسلم الاقتراض أو الاستدانة لذمي.
ومن الواضح إن النظرية الفقهية بنت تصوُّرَها للمجتمعات الذِّميّة بشكل مختلف عن إملاءات الجوار مع هؤلاء، التي رتّبتها الممارسة. وتُنبِئُنا كُتب الآثار عن ديمومة الاقتراضات والتجارة المشتركة ما بين المسلمين وأهل الذّمة. وقد تُوفيّ الرسول عليه السّلام ودرعه مرهونة عند يهودي. وتُظهِرُ لنا الدراسات الحديثة كيف كانت الحياة الإسلامية الوسيطة رهينة التبادل التجاري مع الشعوب الذِّمية أو غير المسلمة خارج المجال الإسلامي. وتُبيِّنُ أعمال أندريه وينك، الدارس لعلاقات الهند الوسيطة مع بغداد الوسيطة ومارك كوهين المتخصص في المجتمعات اليهودية في العصور الوسيطة نماء العلاقات التجارية بين اليهود الذميين والمسلمين، رغم الإكراهات القانونية، وأحياناً بموافقة منها.

وبطبيعة الحال فإن النظرية الفقهية نفسها هي حالة تاريخية، ولها تصوراتها المُختلفة، ومافتيء الماركسيون ينبهوننا إلى البعد الاجتماعي والطبقي لاختلافها، عن الحالات المُعاصرة لها، فبينما كرِهَ الإمام مالك الزواجَ من الذِّميات فإنّ عصره كان يشهد فئة شعبية واسِعة من المُوّلدين من أمهات ذميات. وكما هو معروف فإن شعرَ الغزل في بنات الدير كان ذائعاً ودليل مخالطة ورغبة من مجتمع الممارسة الإسلامية في الفتيات النصرانيات، لم يكن يندر في العصر الأموي أن المتشدِّدين كانوا أنفسهم أبناء نصرانيات، كما كان حال خالد بن عبد الله القسري، الذّابح الشهير للجعد بن دِرهم.

ومن المُهمِّ أن نعرف أن النص لا يكتفي بوضع الذمي في مقامٍ إجرائي ضريبي، فهذا لا يتحدىّ حالة المواطنة كثيراً، بل يتعدّاه إلى ترسيخ انفصال هوياتي. ويدعو الإمام مالك إلى عدم ابتداء الذِّمي بالسلام. ولا يُمكنه الاستفادة من النذور أو من وصية أو ميراث أو الاستفادة من زبناء لمطعمه إذ ليست ذبيحته بمقبولة (رغم أن القرآن يقول أن طعامه حل للمسمين). وقد ذهبت التبريرية إلى أن حالة الجفاء مع أهلِ الذِّمة هي مجرد حالة حربية. وقد كرّرت الإعتذارية الإسلامية قولَها أن الوضعَ الذِّمي ليس غير وضعٍ ضرائبي، وحالة عزلٍ لغير المسلمين عن الحرب حتى لا يتعرّضوا لاختبارِ ولائهم، لذا يدفعون ضريبة الحماية تعويضاً عن تجنيد غيرهم، وهي الجزية. وهذا مذهب محمد قطب ومصطفى مصطفى مشهور ويوسف القرضاوي.

ولكن الممارسة الإسلامية تتجاوزُ هؤلاء إلى إثبات حالات التحالف بين المسلمين وغير المسلمين فقد تعزّزت الفتوحات الإسلامية بالمحاربين من غير المسلمين، كالمجندين من نجران ومن بلاد فارس والعراق وخُراسان، ومن الواضح للكثيرين انضواء الجموع العسكرية العربية المسيحية الغسانية في الفتوحات الإسلامية، أو المسلمين إسميا، كما كان حالُ “المؤلفة قلوبهم” من القبائل العربية. وتُظهرُ لنا شهادة ليودپراند الكريموني، وهو قِسٌ مسيحي عاش في القرن العاشر ما بين (920-972) كيف كان مُقاتِلةُ المسلمين يُحاربون مع الأمراء المسيحيين كمتحالفين وكمرتزقة. ونعرفُ نفس الشيء من كُتاب التاريخ الإيطالي المُعاصرين، الذين أظهروا قتال المسلمين إلى جانب المسيحيين، بل إن زعيم المالكية، أسد بن الفرات، دخلَ صقليّة في إطار نُصرةٍ إسلامية لحليف مسيحي استغاث بهم وحارب معهم.

خاتمة

تبدو لنا النظرية السلفية المُعاصرة في الجزية مُقاطِعة للممارسة الإسلامية، ورغم أنها تبدو، أيديولوجياً مائلة إلى النّص على حساب التاريخ، إلا أنها تبدو في نفس الوقت أكثر تجريداً من النّص فتعيدَ تعريف الجزية على نسقِ القوالب الحداثية، متخليّة عن البعد الاجتماعي والاقتصادي السياسي التاريخي الذي تنطلقُ منه النّصوص. وقد نبّهَنا طلال أسد، ومن قبله جون ميلباك، إلى أن النظرية الدينية الحديثة هي نظرية تعيدُ إنتاجَ نفسها من المسلمات الأساسية للعلمنة، وإن بدت تدفعُ ضدّها وتُناقِضُها.