مجلة حكمة
فيجوتسكي

ليف فيجوتسكي ودور التفاعلات في النمو المعرفي – مايكل بروسارد / ترجمة: الحسين أخدوش

طور عالم النفس البيلاروسي ليف فيجوتسك (lev SemionovitchVygotski)، الذي سبق أن رفض النظام السوفيتي أفكاره وتصوراته العلمية، نظرية نفسية فيمسألة النمو المعرفي الإدراكي لدى الكائن الإنسان؛ حيث كانت مدرسته حلقة وصل أساسية في علم نفس نمو الطفل.تحمّسفيجوتسكي، المزدادسنة 1896، بالكامل لآمال ثورة أكتوبر؛ غير أنّه سرعان ما توفي في عام 1934، بعدما نجا بصعوبة من الاضطهاد الستاليني الشائع وقتئذ.ولقد سحبت أعماله من النشر،ثم أعيد نشرهاعام 1956.

يعتبر فيجوتسكي، إلى جان بياجيه (Jean Piaget) وهنري فالون (Henri Wallon) وجيروم برونر (Jérôme Bruner)، واحدا من علماء النفس التطوريين الكبار؛ حيث أصبح علم النفس النمو معه يسعى إلى فهم كيفية بناء القدرات العقلية لدى الإنسان. وقد كانمختلفا مع وجهات نظر التأمل الإستبطانيوالتجريبي معا. كان مفهوم البناء “أساسيا عنده كما بالنسبة لجان بياجي، حيث اعتقد فيجوتسكي بأنّ الطفل إنما ينمو من خلال التفاعل مع بيئته.غير أنّه، لفهم أصالة نهجه كاملا، سيكون من الضروري إدخال مفهوم” الثقافة ” مثلما هو متعارف عليه في النظرية التاريخية الثقافية لهذا الأخير.

نظرية تاريخية ثقافية:

يمكننا، حسب منظور فيجوتسكي، فهم كيفية تكوين القدرات البشرية، وذلكفقط إذا ما بدأنا من لحظة قيام الطفل الصغير باكتساب المعرفة والخبرة المنتجة تاريخياً،خاصّة تلك التي ترسّخت في عالم الثقافة خارج إرادة الفرد ذاته. تعتبر هذه الأطروحة مركزية في كلّمايدعمهفيجوتسكيبصدد الفصل الأول من تاريخ تطور الوظائف النفسية العليا (1930-1931). لكن، مع ذلك،لا يمكن أن تتم عملية الاستحواذ على عالم الإنسان، بخصوص هذه الوظائف، إلاّ في تلك السياقات التيتشيّد وتبنى بصبر وتأني؛ أي خلال التفاعلات المنسوجة بالأساس بين البالغين والأطفال. إنّ هذه السياقات الداخلية هي التي “تشكل للأطفال” تلك النافذة التي “يلجون منها إلى ثقافة” مجتمعهم.فبالإضافة إلى الأدوات التقنية، تخلق المجتمعات البشرية أدوات نفسية”- بما في ذلك اللغة،وكذا باقي أنواع العلاماتالممكنة الأخرى. ويعني ذلك المثال الكلاسيكي لما يسميه فيجوتسكيالـ”أداة نفسية”، مختلف الأدوات التي تسمح بالاشتغال على عملياتها وتحويلها.

إنّه من خلال تطبيق التعليمات التي أعطاها له الشخص البالغ، ينظم الطفل سلوكه. هكذا، يتم بناء المسودات الأولى للسلوك الطوعي ضمن التفاعلات. في تحد لتصور التصور التاريخي والثقافي للقدرات، يطور فيجوتسكي مفهومًا ديناميكيًا للتنمية.بالتالي، فهو يعرف “منطقة التطور التالي” على أنها مساحة التطور المحددة بما يمكن للطفل القيام به بمفرده (الحد الأدنى) وما يمكن للطفل فعله بمساعدة الشخص البالغ (الحد الأعلى). وفي وقت لاحق بعد ذلك، سوف تستوعب هذه المنطقة، مما يخلق مساحة نمو وتطوير داخلية لدى الطفل.

يتعلم الطفل حسب احتياجات:

في مواقف التعلم غير الرسمية، يكتسب الطفل جزءًا كبيرًا من ثقافته (المعرفة، الدراية، المعتقدات، وما إلى ذلك من أمور التنشئة والتربية) دون أن يكون لدى الشخص نية مقصودة لنقل هذه المعرفة . فيما يتعلق باكتساب اللغة الشفهية ، يتعلم الطفل التحدث داخل البيئة الأسرية أثناء اتصالاته اليومية مع من حوله دون أن يكون هناك “نية تعليمية من جانب البالغين”. يقول فيجوتسكي إنه يتعلم وفقًا لاحتياجاته ، وفقًا لـ “البرنامج” الخاص به. بالمثل، نجد في المجتمعات التي لا توجد فيها الكتابة أنّ اكتساب المعرفة تتم من خلال الممارسة والخبرة. بينما، العكس من ذلك ، نجد أن ظهور نظام للكتابة وفئة من العلماء هو ما أتاح، لدى بعض المجتمعات، فصل المعرفة عن الممارساتالامبريقية وتطوير المعرفة. من أجل نقل هذه المعرفة، تم إنشاء مواقف تعليمية رسمية، خاصّة تلك التي تعتبر المدرسة مثالاً نموذجيًا لها. وتختلف هذه المواقف عن الحالات السابقة من ناحيتين أساسيتين على الأقل:

  • ناحية المحتوى المنقول رسمياً: وهو الذي ليس له صلة مباشرة بما يختبره الطالب. وعندها يكون المعلم هو الذي يقود الطفل، وذلك بفضل المواقف “المرتبة”، لطرح أسئلة جديدة: بحيث يتم استفزاز التعلم الذي سوف لن يعد يتبع فيه المعلم، بشكل تلقائي، برنامجًا ينشأ عن منطق المحتوى المنقول، خاصّة أثناء الاشتغال على المفاهيم التلقائية لدى المتعلّمين.

  • التعلم الرسمي غير مسبوق في توسيع الإمكانيات التي توفرها منطقة التطوير التالية. على سبيل المثال، لا يتم تعلم الكتابة عندما تصل مهارات الطفل اللغوية إلى مرحلة النضج، لكن عندما لا تزال هذه الوظائف غير ناضجة، فإنّه يتم توقع التنمية وتحقيقها عن طريق التدريس.

لكن، كيف يمكن للطفل أن يناسب المحتوى إذا لم يكن النمو جاهزًا؟ هل يمكننا، عبر فرضية ما، تجنب العودة إلى بيداغوجية التنشئة؟ كيف يمكننا أن نفهم بدقة العلاقات بين التدريس والتعلم والنمو؟ لقد سبق أن كتب فيجوتسكي، الذي كان مدرسًا شغوفًا ، أنّ المعلم لديه مهمة إثارة التناقضات بين المتعلّم وبيئته، من أجل استنباط “ردود الفعل”[1]، غير أنّ المعلم ليس لديه سيطرة على عمل النمو الداخلي للتلميذ، خاصّة بتاريخه الشخصي.

يحدث تطور ملحوظ في الفكر، ينجم عن اللغة والثقافة، وهو الذي يكون سببا في التعلم، إلّا أنّه ليس هو موضوعا للتعلم في كلّ وقت وحين. فسواء كانت لغة أجنبية، حسابية، علم جبر، أو مفاهيم يومية أو علمية، فإن هذه الجدلية ضرورية لفهم كيف أنّه لا يتم تغيير المحتوى فحسب، وإنّما أيضًا بنيات النفس الإنسانية (Pensée et Langage، 1934). هكذا، يلزم النظر إلى محرك التناقضات بين المفاهيم اليومية للتلاميذ وتلك المفاهيم الدقيقة التي ينقلها المعلم اليهم؛ وأيضا، إلى العمل المنجز للتغلب على هذه التناقضات. يتغلب هذا التحليل على المعارضة بين البيداغوجيا الانتقالية والبيداغوجيا غير التوجيهية.

عمل أصلي

لم يتم اكتشاف أعمال فيجوتسكي التي كان النظام الستاليني يمنعها، وذلك حتى وقت متأخر في العالم الغربي. في فرنسا، ترجع الترجمة الأولى لـ (Pensée et Langage) إلى عام 1985. ولقد كانت الترجمات الأولى (خاصة باللغة الإنجليزية) موضوعا لتفسيرات عديدة، ولقد استمرّت في إثارة النقاشات بين الباحثين ولا زالت.

هكذا، يتم بناء “علاقة جديدة” بالعالم لدى الطفل في المدرسة، حيث تعتمد المفاهيم العلمية فيها على تلك المفاهيم اليومية التي يتم تحويلها بدورها. فكما يشير فريديريك سوسيز (FrédéricSaussez) في المقدمة إلى كتاب أساسي: “طرق التفكير الخاصة بالمواضيع التي سيتم تدريسها والمعرفة الأكاديمية تساعد على إعطاء القوة لأولئك الذين يتقنونها. إلى هنا، يقودنا التضامن بين نظرية النمو ونظرية التعليم في نموذج فيجوتسكي لتحليل التفاعلات إلى النظر في مسألة القوة التحرّرية للمعرفة المنهجية. ولعل هذه هي أدوات الوعي والحرية.


 ترجم هذا المقال من المجلة الفرنسية “علوم إنسانية” (SCIENCES HUMAINES)، العدد 45، أنظر بهذا الخصوص:

  • LES GRANDS DOSSIERS DES SCIENCES HUMAINES, N° 45 DÉCEMBRE 2016/JANVIER-FÉVRIER, 2017, pp50 – 51.

[1]أنظر بهذا الخصوص “علم النفس التربوي” لدى فيجوتسكي، سنة 1926.