مجلة حكمة
لودفيغ فتجنشتاين

لودفيغ فتجنشتاين: من أجل فلسفة أخرى – تقديم وترجمة: محمد فرطميسي


يرجع الفضل للفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل (1872-1970) في اكتشاف الطاقات الخلاقة لـ لـودفيغ فتجنشتاين L.WITGENSTEIN، هذا الشاب النمساوي، المزداد بفيينا سنة 1889، والمنتمي لعائلة أرستقراطية تنتمي لعالم صناعة الحديد.

لم ينشر لودفيغ فتجنشتاين في حياته إلا كتابا واحدا هو “رسالة منطقية-فلسفية”. كتبه إبان الحرب العالمية الأولى، ونشر سنة 1922. كان هذا الكتاب المختصر والمكثف والعميق مدعاة لقراءات وتأويلات متعددة ومختلفة. وقد كان فتجنشتاين واعيا بهذه المسألة، حيث اقترح على ناشره أن يضيف بضعة أوراق بيضاء حتى يصب القارئ الذي لم يفهم شيئا، غضبه فيها.

كان لودفيغ فتجنشتاين فيلسوفا، ومهندسا معماريا، ومحاربا مغوارا وبستانيا، ومعلما. عاش حياته كما أرادها وكما ابتغاها متخليا عن مجمل ثروته التي ورثها عن أبيه، والتي تجعل منه أغنى أغنياء أوربا.

كان لودفيغ فتجنشتاين يرى أن على الفيلسوف ألا يستكين لأية مذهبية. وأن العمل في الفلسفة هو دائما عمل حول الذات. الفيلسوف في نظره هو ذاك الذي يندهش من كل شيء، ويشك في كل شيء، شأن سقراط. كانت القضايا الأقرب إلى البداهة هي التي استأثرت باهتمامه، وكان تحليل اللغة هو سلاحه في هذه المعركة.

لم يتزوج قط، فقد كان يعتبر أن إنجاب أطفال هو في حد ذاته جريمة. إذ لا داعي لإضافة موجودات أخرى لهذا العالم البئيس. وعلى كل حال، فإننا -كما يقول فتجنشتاين- نعيش بما فيه الكفاية.

كان لودفيغ فتجنشتاين يعاني من مرض السرطان، توفي في 29 أبريل 1951، بمنزل طبيبه بكامبردج. كانت آخر عبارة له: “قل لهم إني قد عشت حياة رائعة”.

I – نقدم فيما يلي نصين هامين لمؤرخين لا يبعدان كثيرا عن صاحبنا: فتجنشتاين، كما عرفته برتراند رسل B. RUSSELL

كان لودفيغ فتجنشتاين على ضرب من العفة لم أعرف مثيلا له، إلا عند مور G.E. MOORE أتذكر أني استقدمته معي، يوما لاجتماع الجمعية الأرسطية. والتي يوجد بها عدة أغبياء أعاملهم بأدب. عند خروجنا انفجر محتجا، مؤاخذا إياي بشدة على هذه المهانة الأخلاقية. لكوني لم اقل لهم مباشرة إنهم مجرد أغبياء. كانت حياته صاخبة ومضطربة، يحياها بقوة ذاتية خارقة للعادة. كان يقتات من الحليب والخبز فقط.

لقد تعود لودفيغ فتجنشتاين على زيارتي كل مساء، عند منتصف الليل، فلا يتوقف ولثلاث ساعات، مذرعا في صمت مخيف غرفتي ذهابا وإيابا، وكأنه دابة متوحشة. سألته يوما: “هل تفكر في المنطق أم في ذنوبك؟” أجابني من دون أن يتوقف عن الحركة: “فيهما معا” لحظتها كنت أود الإشارة عليه بالذهاب. لكن بدا من المحتمل، لي وله كذلك، أنه سيضع حدا لحياته بمجرد مغادرته لي. رجع لرؤيتي عند نهاية الدورة الأولى له بكلية ترينتي TRINITY:

– هل تعتقد أني مغفل بلغ مداه؟

– لماذا ترغب في معرفة ذلك؟

– إذ لو كان الأمر كذلك، سأصبح ملاحا جويا، وإن كان العكس، سأكون فيلسوفا.

– عزيزي، لا اعرف بالضبط ما إذا كنت غبيا أم لا، لكنك إن كنت تفضل الاستفادة من عطلة لكتابة بحث حول أي موضوع فلسفي تستمر به، فإني سآخذ المسألة على محمل الجد. سأقرأ البحث وأجيبك.

باشر العمل بعد ذلك، ومدّني في الدورة التالية بحصيلة عمله، فاقتنعت بمجرد قراءة الجملة الأولى بنبوغه وعبقريته، وأقنعته بالتخلي في جميع الحالات عن فكرة الملاحة الجوية.

جاء لرويتي، عند مطلع سنة 1914، وهو في حالة اضطراب وإثارة، ليقول لي:

– سأغادر كامبردج، سأغادر كامبردج حالا

– لماذا؟

– لأن صهري استقر بلندن، ولا أحتمل أن أكون قريبا منه.

وهكذا قضى ما تبقى من فصل الشتاء بالشمال النائي من بلاد النرويج.

طلبت بإلحاح في الأيام الأوائل من مور MOORE رأيه في لودفيغ فتجنشتاين، فكان جوابه: “الخير العظيم:. وعندما كنت أرغب في معرفة ذلك، أجابني مور كالتالي: “لأنه يبدو في دروسي في حالة اندهاش، والحال أن لا أحد من تلامذتي هو كذلك”.

كان لودفيغ فتجنشتاين وطنيا إلى حد كبير. فالتحق عندما اشتعلت نار الحرب العالمية الأولى بالجيش النمساوي برتبة ضابط. كان بالإمكان، في الشهور الأولى مراسلته وتقصي أخباره. لكن سرعان ما انقطع كل اتصال به، ولم أستعد ذكراه إلا بعد شهر من وقف القتال: توصلت برسالة منه، من مونت كاسينو (أحد معسكرات الاعتقال بجنوب إيطاليا). يشرح فيها أنه وقع أسيرا في يد الإيطاليين أياما بعد الهدنة، ولحسن الحظ كان معه مخطوطه. يبدو، كأن الأمر يتعلق بمؤلف كتبه بخنادق الحرب، ويرغب في قراءته علي. إن فتنشتاين من ذلك الصنف من البشر الذي لا يثيره البتة، عندما يكون مستغرقا في التفكير في المنطق، ما هو سخيف وعديم المعنى، حتى لو كان انفجار قذيفة.

بعث لي بالمخطوط، فقرأته بمعية نيكود ودورتي رانش WRINCH. يتعلق الأمر أصلا بالكتاب الذي نشر فيما بعد بعنوان: “رسالة منطقية-فلسفية”. لقد كانت رؤية لودفيغ فتجنشتاين، ومناقشته مباشرة مسألة بديهية، ومن الأهمية بمكان، وكان الأفضل أن يتم ذلك في بلد محايد. فتم اختيار مدينة لاهاي الهولندية. عندئذ طفت على السطح مشكلة غير متوقعة. إذ حول والده، مباشرة قبل الحرب، كل ثروته إلى هولندا، ليجد هذا الأب نفسه أكثر غنى في نهاية الهدنة، عما كان عليه قبلها. توفي والده. فورث فتجنشتاين ثروة طائلة عن أبيه. ومع ذلك كان مقتنعا بأن المال مضر ومؤذ بالفيلسوف. وهكذا تنازل عن مجمل ثروته حتى آخر فلس لأخيه وأخواته…لدرجة لم يعد معها بإمكانه إقتناء تذكرة القطار الرابط بين فيينا ولاهاي.

كان لودفيغ فتجنشتاين من الأنفة، بحث لن يقبل مني أي شيء كيفما كان. فانتهينا معا للحل التالي: أشتري منه كتبه ومتاعه الذي يملكه بكامبردج، والذي أبدي رغبة في بيعه لي، وحتى لا يظفر بهذا المتاع تاجر مفروشات لا يقدر قيمته، إقتنيته بالثمن الذي اقترح هو. كانت قيمة هذا الأثاث أكثر بكثير مما يتصور. ولعلها أفضل صفقة مربحة في حياتي. مكنت هذه الصفقة فتجنتشاين من الالتحاق بلاهاي، فقضينا معا أسبوعا كاملا نناقش كتابه سطرا بسطر.

بالرغم من أن لودفيغ فتجنشتاين عالم منطق. فقد كان في نفس الآن وطنيا، ورجل سلم. ويكن تقديرا كبيرا للشعب الروسي، حيث آخى الروسيين وصادقهم إبان تواجده بالجبهة. حكى لي أنه في يوم ما، وبينما لم يكن لديه ما يعمله، نزل إحدى القرى البولونية، فعثر صدفة على مكتبة، اعتقد لأول وهلة أنه سييجد فيها على الأقل ما يقرأه، وإذا بها مكتبة بكتاب واحد: كتاب تولستوي حول الأناجيل. إقتناه، فكان للكتاب وقع كبير عليه. إذ أصبح ولمدة من الزمن متدينا جدا. لدرجة أصبحت معها في نظره شريرا جدا، وأمسى يتجنب معاشرتي.

ليضمن لودفيغ فتجنشتاين عيشه، اشتيغل معلما بقرية تراتنباخ النمساوية TRATTENBACH. كتب لي مرة قائلا: “إن سكان قرية تراتنباخ شريرون جدا”. كان جوابي: “نعم إن البشر جميعا أشرار:. فأردف مجيبا: “بالتأكيد، لكنهم في تراتنبارخ أكثر شرا من أي مكان آخر”. اعترضت عليه لأن تصوري المنطقي لا يستسيغ قضية كهذه. لكن وجهة نظره هذه كان لها ما يؤسسها، ذلك أن سكان هذه القرية رفضوا مدّه بالحليب، إذ كان يعلم أطفالهم مقادير لا علاقة لها بالنقود. ولقد عانى، في هذه الفترة الجوع والحرمان الجسيم. ورغم ذلك فمن النادر التوفق في انتزاع اعتراف منه حول هذا الموضوع. لقد كان له كبرياء لوسيفر LUCIFER. أخيرا قررت أخته تشييد منزل لها، استأجرته كمهندس معماري، فضمن له هذا الشغل العيش لسنوات، التحق بعدها بالتدريس في كامبردج.

حكى لي وايتهيد A.N. WHITEHEAD عن أول زيارة لـ لودفيغ فتجنشتاين عنده، كان الوقت زوالا، ساعة تناول الشاي. أدخله الصالون، فأخذ فتجنشتاين يذرع الغرفة ذهابا وجيئة، في صمت، ومن دون أن يولي اي اهتمام لحضور السيد وايتهيد، لينطق على حين بغتة بالعبارة التالية: “ألف وباء، قضية ذات قطبين”. وأضاف وايتهيد: “بالطبع، طلبت منه ما المقصود بألف وباء؟” فأجابني بصوت مرعب: “لقد أدركت للتو، أني نطقت بكلام شنيع، ألف وباء غير معرفين”.

كان لـ لودفيغ فتجنشتاين، ككل الرجال العظام، نقط ضعفه. ففي سنة 1922، وفي أوج حماسه الصوفي، في فترة كان يؤكد لي بكل رزانة. أن الأفضل أن تكون خيرا على أن تكون ذكيا، كانت دهشتي كبيرة وأنا أراه مذعورا من حشوة الزنبور، ولا يقدر بسبب البق المبيت اكثر من ليلة بالسكن الذي اكتريناه له بمنزل بروكس. لقد أصبحت بعد أسفاري لروسيا والصين متعودا على مثل هذا الصنف من التفاهات. إن فتجنشتاين، حتى وإن كان مقتنعا بعدم جدوى أشياء هذا العالم، فإن أصغر حشرة تزعجه. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان إنسانا مذهلا جدا.

 

 

 


II – مسار فكر وتاريخ إنفصال

كرستيان دولاكمباني Ch. DELACAMPAGNE

يبدأ القرن العشرون في الفلسفة مع غوتلوب فريجه G. FREGE (1848-1925). كان طموح فريجه هو التوفق حيث فشل في نظره كانط، من هنا رغبته في إعادة بناء الرياضيات على أسس خالصة من كل “حدس”. لهذا باشر منذ 1879 (كبداية) إعادة ترجمة علم الحساب الأولي في صيغة صورية منطقية من إبداعه. أعاقه سنة 1902 اكتشاف “تناقض” داخل علم الحساب في صورته المنطقية هذه. وهو التناقض الذي قدم له برتراند رسل بضع سنوات فيما بعد، حلا عرف باسم “نظرية الأنماط”. هكذا فإن مشروع فريجه لم يؤت أكله أخيرا إلا في “مبادئ الرياضيات” الذي نشره رسل و وايتهيد بين سنتي 1910 و1913.

عندما أصبح لودفيغ فتجنشتاين تلميذا في سنة 1911 لبرتراند رسل بكامبردج، كان هذا الشاب معجبا بهذه المعلمة الفكرية, والتي هي “المبادئ”. لكنه لن يتأخر مع ذلك، في الإعراب عن شكوكه، ليس فقط تجاه صلاحية “نظرية الأنماط”. بل تجاه النزعة المنطقية لرسل في كليتها. أدت به شكوكه هذه، والتي تفاقمت نتيجة أزمة وجودية عميقة، إلى كتابة “رسالة منطقية-فلسفية” إبان الحرب العالمية الأولى، نشرها سنة 1921، وأعاد نشرها في صورة منقحة، لكن هذه المرة بعنوان لاتيني: Tractatus logico-philosophicus.

اكتست “الرسالة”، هذا المؤلف المختصر والمقتضب، صورة سلسلة من القضايا المرقمة وفقا لنسق قريب من العرض الأكسيومي لكتاب “المبادئ”. ومع أن الأطروحات التي تتكون منها، نادرا ما كانت موضوع تعاليق توضيحية، فإن هدفها كان طموحا: إذ لا يتعلق الأمر فعلا إلا بوضع حد نهائي للتيه القديم للفلسفة، بغية تمييزها عن باقي العلوم، وبالضبط عن المنطق الذي لن تختزل فيه بأي حال من الأحوال (عكس ما ذهب إليه رسل).

يتأسس هذا المؤلف على نظرية أنطولوجية تعتبر بمقتضاها بنية الواقع متجانسة في عمقها مع بنية الفكر. إن العالم، حسب هذه النظرية، يتكون من وقائـع جزئية تنحل إلى وقائع ذرية، أو “حالات أشياء”، أي إلى صور لأشياء أولية. والأمر نفسه بالنسبة للفكر (الذي لا يشكل إلا شيئا واحدا مع اللغة). إذ يتكون هو كذلك، من قضايا مركبة، تنحل إلى قضايا ذرية ترتبط فيما بينها بأسماء، “علامات بسيطة” على أشياء.

ينتج عن هذا التقابل Isomorphisme أن مجموع القضايا الصادقة تجريبيا، المطابقة لمجموع علوم الطبيعة، تقدم “صورة منطقية عن الواقع” (الأطروحة 3)، وإن شئت قلت، تقدم صورة مطابقة عن الواقع. وهكذا تصبح صلاحية العلوم موضع تساؤل، حتى وإن كانت هذه العلوم لا تعمل في نظر لودفيغ فتجنشتاين سوى على “وصف العالم” عوض القدرة على “تفسيره”. أما القضايا المنطقية-الرياضية فهي محض “تحصيل حاصل”، لا تصف أي واقع (سابق على الوجود)، ولا هي في حاجة نهائيا لكي “تشيّد” (الأطروحة 5.473). كما أن الرياضيات هي كذلك، “لا تعبر عن اي فكر” (الأطروحة 6.21).

ومع ذلك، فإن كانت “كل قضايا لغتنا العادية”، بالصورة التي عليها، منظمة بشكل منطقي كامل، فإن كل ما يقال هو مجرد وصف بسيط للعالم، وهكذا ترجع كل الأسئلة المتعلقة بـ”معنى” العالم، على وجه الخصوص، إلى ما لا يقال L indicible. إذا ما كان للحياة من معنى، فإن هذا المعنى لا يمكن أن “يقال” داخل “ميتا-لغة” métalangage، بل “يستدل” عليه فقط. باختصار فإن علم الأخلاق، كخطاب، مستحيل، شأنه شأن علم الجمال، ما داما “هما معا شيئا واحدا”.

الخلاصة إذن؛ أن الفلسفة لا تملك موضوعا، ولا منهجا خاصا بها، فهي “ليست نظرية، بل فعالية” (الأطروحة 4.112)، فائدتها الوحيدة “توضيح” أفكارنا. (بمعنى آخر، أن تزيل بواسطة التحليل، أشباه القضايا الميتافيزيقية الناجمة عن استعمال خاطئ للغة). أما عما تبقى، فالأفضل هو الصمت، كما تنصح بذلك في نبرة صوفية غريبة، الأطروحة الأخيرة من الرسالة: “لنلتزم الصمت، فيما لا نقدر على قوله”.

كان هذا المذهب العويص مدعاة لسوء فهم. وهكذا اعتقد في بادئ الأمر كل من موريس شليك (1882-1926)، وردولف كارناب (1891-1970). ووضعاني جماعة فيينا، أن لودفيغ فتجنشتاين قد أعلن بطلان الميتافيزيقا. لكن الأمر، خلاف ذلك. فعلا إن فتجنشاين يعلن بأن الميتافيزيقيا غير ممكنة كخطاب، لكن الجزم بأن ثمة حقائق بالإمكان “إثباتها”، دون القدرة على “قولها”، لا يفترض قطعا كونها حقائق غير موجودة.

انتهى لودفيغ فتجنشتاين، فضلا عن ذلك (بعدما اعتزل الساحة الفكرية لمدة من الزمن) إلى عرض فكره، وتوضيحه لشليك وكارناب بفيينا، عند نهاية العشرينات من هذا القرن. تظهر جليا هذه النقاشات أن فتجنشتاين يشجب التأويل الذي قدمه الوضعانيون لفكره. وبعدما أبدى رغبته في استئناف بحوثه، استقر من جديد بكامبردج (يناير 1929)، حيث عرض عليه أصدقاؤه القدامى بكلية ترينتي، منصب مدرس.

بدءا من هذه اللحظة، انخرط فكر لودفيغ فتجنشتاين في عملية هدم تدريجية لأطروحات “الرسالة”، تجلت في تلك النصوص التي رفض فتجنشتاين نشرها، فطبعت بعد وفاته بفضل تلامذته. منطلق عملية الهدم هذه، هو نفسه المعبّر عنه في “الرسالة”؛ والمتعلق دائما بمعرفة الكيفية التي يمكن أن تحل بها نهائيا المشاكل الفلسفية. لكن البحث هذه المرة، سيتخلى عن الأنطولوجيا، لينطلق من التفكير في اللغة بما هي عالم مستقل، لاك “صورة لوقائع”.

بدأت هذه المرحلة بنصوص سنة 1930 “ملاحظات فلسفية”، وكتابات سنتي 1931-1932 “النحو الفلسفي”، لتتوج بالدفتر الأزرق (1933-1934)، والذي يشكل مرحلة حاسمة في تفكير لودفيغ فتجنشتاين، حيث تبلورت ولأول مرة موضوعة “لعبة اللغة” Jeu de langage. إن “ألعاب اللغوة -كما يقول فتجنشتاين- هي صيغ لاستعمال علامات أكثر بساطة من تلك الصيغ المعقدة جدا التي نستعمل بها العلامات في لغتنا اليومية”. إنها تتطابق مع أشكال “بدائية” للغة، الأشكال “التي يبدأ بواسطتها الطفل في استعمال الكلمات”. وينبغي بالتالي فحصها، إذا ما أردنا إزالة “الغشاوة الذهنية”، التي تغلف عادة الطريقة التي نستعمل بها الكلمات.

يطبق “الدفتر البني” الذي أملاه لودفيغ فتجنشتاين سنة 1935، هذه النصيحة، إذ يتناول القسم الأول منه، بترتيب منهجي ثلاثة وسبعين استعمالا للغو. الاستعمال الأول بسيط نسبيا: يصدر بناء أوامره لمتعلم مبتدئ، لمدِّه بأدوات البناء، مستعملا في ذلك أسماءها فقط} “حجر تبليط”، “قرميدة”، “آجرّة”. سنقول عندئد بأن المتعلم فهم “معنى” هذه الكلمات، عندما لا يخلط نهائيا بين الأدوات والألفاظ التي تدل عليها. تكمن الفائدة التي نجنيها من تصور كهذا، في التخلص من الفكرة الميتافيزيقية التي تكتسي اللغة بموجبها “شكلا” واحدا وضروريا.

اهتم لودفيغ فتجنشتاين، بشكل مواز، بمجالات بحث جديدة بالنسبة إليه. فقد جذبه للاثنولوجيا إعجابه بالموقف “العملي”، أو “الوظيفي” الذي يعتبر الثقافات الإنسانية، بقدر ما هي أنساق منغلقة على ذاتها، مختلفة لكنها كلها صالحة. (كتاب ملاحظات حول الغصن الذهبي لفرازر 1931)

اهتم كذلك بـ”سيكولوجيا الهيئة”. والتي جذبه إليها إعجابه فيها بالرؤية “الشمولية”، القريبة من التحديد الفينومينولجي، هذه السيكولوجيا التي تدرس بعض مظاهر سلوكنا على أنها كليات دالة.

تجلى، بصفة خاصة، هذا الهم المزدوج، العملي والفينومينولوجي، في ثلاثة نصوص. هكذا ركزت دروس سنة 1938 على المعتقد الديني بما هو معتقد مشروع كـ”شكل للحياة”. يبدو كذلك هذا الاهتمام المزدوج، فيما دوّنه بين سنتي 1937 و1944 (كتاب ملاحظات حول أسس الرياضيات) والذي تم فيه التأكيد على التصور “المواضعاتي” لقوانين الرياضيات، مشبها إياها بقواعد لعبة الشطرنج. وأخيرا الملاحظات التي دونها بين سنتي 1946 و 1948, والتي ستصبح فيما بعد هي كتاب “ملاحظات حول أسس علم النفس”. أما المؤلَّف الأكثر اكتمالا في هذه الفترة الثانية من الوجود الفكري لـ لودفيغ فتجنشتاين، فهو طبعا “أبحاث فلسفية”.

لهذا الكتاب وضع خاص، فقد كتب بين سنتي 1936 و1949، وكان لودفيغ فتجنشتاين يأمل، بشكل استثنائي في نشره، إلا أنه لم ير النور إلا بعد وفاته بسنتين (1953). أثار هذا الكتاب ردود فعل كثيرة. والسبب في ذلك هو التالي: بينما كانت “الرسالة” تقدم في ترتيب، وعلى نمط دوغمائي، الأطروحات وكأنها نهائية، كانت “الأبحاث الفلسفية” تكشف عن فكر متحرك، فكر يغتني بفضل حوار متخيل مع مخاطب “إرتيابي”، حوار لا يفضي قطعا لخلاصة قارة وثابتة.

يقدم القسم الأول من هذا الكتاب، مقارنة بالدفتر البني، إغناءا هاما لموضوعة لعبة اللغة. وهكذا فكل لغة، ليست في الواقع إلا مجموعة ألعاب مقعدة (أي لها قواعد)، مشدودة بوضعيات في الحياة، قابلة للتبديل، حتى وإن كان البعض منها يكشف عن تشابهات العائلة” Ressemblances de famille لائحة هذه الاستعمالات لا متناهية: “إقرار أمر، وصف شيء، رواية حدث، صياغة فرضية، ابتكار قصة، فك الغاز، قول نكتة، حل مشكل حسابي، ترجمة، توسل، شكر، كره، ترحيب، دعاء…” (الأطروحة 23). كما أن معناها لا يسبق وجودها: إنه لا يفهم إلا في إطار السياق الملائم لاستعمالها.

ليست اللغة، إذن، إلا “صندوق عدّة ضخما” Boîte à outils” كل ما أستطيع قوله بالنسبة لأية كلمة، وبالنسبة لأية أداة، أني أفهم “دلالتها” عندما أفهم “استعمالها”، أي عندما أطبق من دون أن أنخدع، القواعد التي تنظمها. وهي قواعد لا تكتنفها أسرار، مادامت تعكس وبكل بساطة الممارسات المعمول بها في الثقافة التي أنتمي إليها.

إن تصورا للمعرفة كهذا (أنتربولوجي-لساني) هو في حد ذاته انفصال مدهش عن طموح الفلسفة الغربية. فعلا، إن اللغة بالنسبة لـ لودفيغ فتجنشتاين “الثاني”، لا تعلمنا شيئا عن بنية العالم. كما توقفت الفلسفة، في نفس الآن، عن أن تكون نمطا للمعرفة. بصريح العبارة، لا يوجد فضلا عن ذلك، ما هو قابل للمعرفة. ينبغي فقط، ولكي ” تشتغل” المعرفة، احترام قواعد “النحو”. وما تعبر عنه الفقرة التالية (124) واضح وجلي: “لا ينبغي على الفلسفة، بأي حال من الأحوال، أن تطعن في الاستعمال الواقعي للغة. عليها فقط وصف هذا الاستعمال. إذ لا يمكننا بأي حال تأسيسه. إنها تبقي كل الأشياء على حالها. تترك الرياضيات كما هي عليه. ولن يدفع بها قدما إلى الأمام أي اكتشاف رياضي…”

مقاطع كهذه، كانت مدعاة لقراءة ذات توجه “محايد” لكتاب “الأبحاث الفلسفية”؛ كتلك التي قام بها على سبيل المثال جون أوستين JAUSTIN، مؤسس فلسفية “اللغة العادية”. يعتقد أو ستين، بمعزل عن أية معاداة للأسئلة الميتافيزيقية، أن بالإمكان تقديم أجوبة حاسمة عن هذه الأسئلة، وذلك بفضل معالجة يقظة ومتنبهة لممارستنا اللسانية كما قدم مؤخرا فيلسوف البرغماتية الجديدة، ريتشارد رورتي R. RORTY تأويلا أكثر راديكالية، معلنا أن كتاب “الأبحاث الفلسفية” وقع شهادة موت الفلسفة الغربية.

والحال أنه ليس بالإمكان -على أكثر ترجيح- إرجاع فكر لودفيغ فتجنشتاين “الثاني” لمثل هذه الإقرارات الأحادية الجانب. فمن جهة أولى، وكما أدرك ذلك جيدا أحد أهم شراح فتجنشتاين، ستانلي كافل S. CAVELL، أن الاهتمام باللغة العادية، يعود في نظر فتجنشتاين، إلى الوعي بمحدوديتها، تجاه اللامعنى والجهل الكامن في كل واحد منا، والذي علينا في أحسن الأحوال قبوله. على الأقل، لن يكون من السهل -من وجهة نظر الوجودية هذه- دحض النزعة الارتيابية كلية.

ومن جهة أخرى، فإن النحو وحده، عاجز عن الحيلولة دوننا واختراق الفلسفة. إن الفلسفة تحتفظ إذن في نظر لودفييغ فتجنشتاين بوظيفة: علاج “الداءات” التي تسببت فيها هي نفسها. وتعتبر المعالجة الجادة والهامة في القسم الثاني من كتاب “الأبحاث الفلسفية”، من الأهمية والشمولية مقارنة مع نظيرتها في “الرسالة”، ذلك أنها لا تحيلنا على المنطق، بل على علم النفس، إذ لا يتعلق الأمر قطعا، بتحليل بنية القضايا الميتافيزيقية بغية إيضاحها، بل يتعلق قبل كل شيء، بـ”البرهنة” على العمليات الذهنية التي تدفع بنا لصياغة قضايا كهذه. إنه إجمالا، نفس المسار لبلوغ نفس الهدف. لكنه هذه المرة أكثر تعقيدا، وأكثر تشاؤما.

تظهر بجلاء هذه النزعة التشاؤمية، في بعض صفحات كتاب “ملحوظات متشابكة” (1945-1947). والتي لا يتردد فيها فتجنشتاين في الإعلان أن “القنبلة الذرية” مؤدية لا محالة للدمار الكلي للإنسانية.

لم يختل الفيلسوف إلى الصمت، بل اختار عكس ذلك، مواصلة أبحاثه السيكولوجية التي بدأها في “الأبحاث الفلسفية”، وذلك بكتابته لـ” ملحوظات حول الألوان”، ومباشرة العمل بعد ذلك في عمل جديد كرّسه لودفيغ فتجنشتاين هذه المرة لمسألة “اليقين”.

لم تمهله الموت، وهو في سن الثانية والستين من إتمام مشروعه هذا، ولم تتح له الفرصة لكي يعطي لفلسفته الأخيرة صورتها النهائية، التي قد تضيء المناطق المظلمة منها. إن الموت لم يترك لنا من سبيل آخر إلا قراءة وإعادة قراءة هذه النصوص الغامضة، والتي لن نستوفي ثراءها إلا بعد زمن طويل.

عن مجلة الجابري – العدد الرابع عشر

عن مجلة: “Magazine littéraire

عدد 362، مارس 1997.