مجلة حكمة
قبيسي حوار

في العلوم والشعر: حوار مع محمد قبيسي – حاوره: سلام نصر الله

محمد قبيسي ، عالم وطبيب أعصاب من مواليد بيروت عام ١٩٧٢م. عاصر الحرب الأهلية اللبنانية في طفولته وصباه، ما أن انتهت الحرب حتى التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت ليحوز على شهادتي البكالوريوس في الرياضيات ثم في الطب، ثم عمل كباحث في نفس الجامعة حتى انتقل للولايات المتحدة الأمريكية ليكمل تدريبه الإكلينيكي في طب الأعصاب. تنقل من نيويورك لبالتيمور لكليفلاند حتى استقر به الحال كأستاذ مشارك في طب الأعصاب ورئيس وحدة أمراض الصرع في جامعة جورج واشنطن. اهتم بالأبحاث منذ بداية مسيرته المهنية، فنشر العديد من الورقات العلمية في المجلات العلمية الكبرى وأعد عدة كتب أكاديمية في أمراض الصرع، حتى كون له اسما مرموقا في تخصصه. أبرز اكتشافاته هو “مفتاح الوعي“، حيث انتبه إلى ارتباط الكلوسترم، وهي منطقة في الدماغ مجهولة الوظيفة، بالوعي. إضافة لذلك، لديه اهتمامات أدبية وفلسفية، فهو شاعر قليل النشر. كان هذا الحوار في يوم الجمعة الموافق 10 مارس 2017، حيث يلقي الضوء على آراء قبيسي في العلوم والشعر كما يتناول جوانب شخصية في حياته.

 

 

 

–  قضيت حوالي ثلاثة عقود في بيروت، ثم استوطنت الولايات المتحدة الأميركية. وأنت اليوم تجاوزت الأربعين من العمر، ماذا يمثل لك لبنان بعد غياب لا يقطعه إلا زيارات قصيرة؟

قبيسي:  أنا قضيت في لبنان سبعة وعشرين عاما قبل أن أنتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية. وأؤمن بأن السنوات الأولى هي التي تؤسس لفكر الشخص ولغته وعواطفه وتفاعلاته الاجتماعية، حيث الزمن يبدو أكثف. ثم تهبط هذه الكثافة تدريجيا في لمراحل الزمنية التالية. فسنة واحدة ف عمر الصبا مثلا، تبدو لنا أطول وأغنى.

– وما أكثر ما تشتاق إليه في لبنان؟

قبيسي: أشتاق إلى اللغة كثيرا .. وإلى الطبيعة والمناخ. وحتى روائح الأعشاب البرية. قد تجد في بلاد أخرى غابات تخلب العقل، و ودياناً و جبالا أخّاذة، لكن كل ذلك لا يشبه الأعشاب التي ألفناها في طفولتنا: الزعتر والطيون والوزال .. أشتاق لها كثيرا

-وهل تنوي العودة إلى لبنان أم أن إقامتك هنا دائمة؟

 قبيسي: لا أعرف. لأن هناك انفصالا كليّاً بين الحنين تجاه لبنان من جهة، وبين التزاماتي المهنية والبحثية في الولايات المتحدة من جهة أخرى. فحنيني إلى لبنان يجعل فكرة العودة إليه غير ميؤوس منها، ولكن التزاماتي المهنية تحول دون ذلك حاليا.

 

-ما هي مناهل تكوينك الشخصي؟

 قبيسي: غالبا ما تساهم الأحداث الصعبة جدا أو الأليمة بتكوينك، كونها تشعرك بتغيرك كإنسان. وقد تكمن في الظرف الخارجي كالحرب. أو في ظرف داخلي وجداني. فالألم دائما يعقبه شيء جيد. فعلى سبيل المثال، أنا هاو للشعر وقد أكتب أحيانا قصائد خالية من الجدة. ولكن بعد مرور ظرف صعب جدا، أجد أن قصيدتي تلقائيّاً بدأت تكتسب شيئاً جديداً. هذا ما أعتقده بعد أن تمعنت في قصائدي والظروف التي مررت بها.

 

-من هي أكثر الشخصيات تأثيرا عليك، عربيا وعالميا؟

قبيسي: أول هذه الشخصيات هو الموسيقي اللبناني زياد الرحباني. لأنه في العام 1985م، كان وضع بيروت مزريا نتيجة الحرب. والمدرسة كانت تقفل أبوابها باستمرار. وكانت الكآبة تسود، والموت والعتمة والكراهية واليأس. كنت وقتها ذي 12 ربيعا، وفي المرحلة الدراسية المتوسطة. لا أستطيع لعب كرة القدم ولا تعلم الموسيقى، هذا ناهيك عن تقطّع أيام الدراسة نتيجة ظروف الحرب. وفي عز كل هذا اليأس، يصدر زياد الرحباني شريطا اسمه “هدوء نسبي”، يحوي موسيقى جميلة جدا، لم تكن أقل جمالا في ذهننا من موسيقى “تيك فايف” لدايف بروبيك، أو “سمر تايم” لجورج غيشوند، ولكنها كانت لبنانية خالصة وتشبهنا تماما. أعادت هذه الموسيقى لنا الأمل كونها خرجت من هذه المدينة، مما يعني أن المدينة لم تمت بعد رغم الحرب، ورغم صغرها وانفصامها ووجعها وفقرها وجراحاتها. لم يعد لنا عذر أن نيأس، فتحمسّنا على الدراسة رغم الظروف.

في منتصف القرن الماضي في الولايات المتحدة، كان هناك عمالقة موسيقيون يعملون دائما مع بعضهم البعض. مثلا، في حفلة واحدة يكون آرت بليكي على الطبل، وديزي غيليسبي على الترامبيت، وثيلونياس مانك على البيانو. ثلاثة عظماء في حفلة واحدة. ثم ترى مايلز ديفيس يعمل مع ديزي، وديزي يعمل مع تشارلي باركر، وباد باول على البيانو. فالجو كان غنيا جدا ومحفزا لإنتاج موسيقى خلابة. لكن في المقابل زياد الرحباني أيام الحرب في بيروت، كان يفتقر إلى نواد مثيلة، وإلى وفرة موسيقيين ليختار منهم من يختبر موسيقاه مع موسيقاهم، من أجل خلق موسيقى جديدة. ومع ذلك أنتج أعمالاً ممتازة وكان مثالاً محفّزاً.

وهناك أشخاص آخرون أثّروا بي أيضا، أحدهم مارتن هايدغر. قرأت أعماله في العام 1998م، وحملت لي لغته على صعوبتها جديدا، وكانت طروحاته تريحني جدا. ثم قرأت لتك نات هان وشنريو سوزوكي، وأيضا لدوغن زنجي، وتأثّرت بمدرسة السوتو البوذية الزنية. فالتأثير بدأ بالفلسفة الغربية عند هايدغر، لكنه هو ذاته استمر بشكل آخر، على المدارس الشرقية العتيقة. ولم تزل هذه المدارس تحتل موقعا مهما في حياتي.

ولا بد كذلك أن أذكر أني محظوظ جدا بأن كثيرا من أساتذتي كانوا مؤثّرين، لا أريد أن أسمي أحدا منهم لأنهم كثر ولا أريد أن أنسى أحدا. فهم من مختلف مراحلي الدراسية. في قسم الرياضيات كان أساتذتي ملهمين إلى حد كبير وشغوفين بعلمهم الى حدّ مُعْد. في كلية الطب كذلك كان الحال نفسه، و في الولايات المتحدة، الأساتذة اللذين أشرفوا علي، وكذلك الزملاء الذين تعاونوا معي في العمل البحثي هم رائعون. فمفعول هؤلاء الجماعي أهم من مفعول شخص واحد بمرحلة معينة، لأن ذلك في النهاية هو من صنعني مهنيا.

-كنت قد حدثتني سابقا عن أيام الجامعة الأمريكية في بيروت. واستعدت بعض أحاديثك مع أصدقائك في المقهى، عن موضوعات فلسفية وفكرية وسياسية آنذاك. ماذا أضافت لك تلك الطقوس؟ وهل سعيت إلى تأسيس ما يشبهها هنا في الولايات المتحدة؟

قبيسي: شكلت لنا جلسات المقهى التي تحولت إلى عادة يومية بعد انتهائنا من محاضرات الجامعة، حيزا صحيا واسترخاء وتحفيزا ذهنيا. فأغلب الأصدقاء من رواده كانوا شعراء وصحافيين ومفكرين. والأحاديث التي تدور كانت مصدرا ثقافيا خصبا ووسطا لاختبار الآراء في مجال علم النفس والفلسفة واللسانيات وغيرها، ولمناقشة فكرة كتاب قرأه أحدنا. كان المقهى أشبه بنادي ثقافي يومي وعفوي، حتى صار جزءا أساسيا ممتعا من حياتنا لسنوات.

-هل كان ذلك شبيه بمقاهي مثقفي مصر مثل التي كان يرتادها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، أو مقاهي باريس؟

قبيسي: أتخيل أنه أشبه بمقاهي باريس في الستينيات حسب ما قرأنا عنها. لا أعرف الكثير عن المقهى الذي يرتاده نجيب محفوظ، وأتساءل ما إذا كان جلاسه مثقفين أو أناسا عاديين ممن كانوا يشكلون له موادا لأعماله الأدبية. لكن، ردا على سؤالك، لا يمكنني نقل هذه الأجواء إلى محيطي الشخصي في الولايات المتحدة، بسبب عملي. فأنا هنا طبيب ممارس وباحث، بينما كنت مجرد طالب في لبنان، وكان لدي من الفراغ أكثر مما يتسنى لي اليوم.

– سبق أن أخبرتني أن الفينيقيون هم من اخترع الحرف، وأنك قد اكتشفتَ نتيجة إجرائك لتحليل “الدي إن آي” حيازتك على نسبة معينة من جينات الفينيقيين. ما هي هويتك المهيمنة على بقية الهويات فيك: العروبة؟ الإسلام؟ لبنان؟ الفينيقية؟   

قبيسي: الإنسان فقط. أما الهويات الفرعية فتفاصيل. سلوكياتي اليومية الإنسانية هي هويتي. ولا يهمني في علاقاتي مع الآخر إذا ما كان الآخر يشاطرني لبنانيتي أو عربيتي أو غيرها من التصنيفات.

 

–  في عام 2014م ضجت الصحافة العلمية عالميا، بما فيها” ناشيونال جيوغرافيك”، بخبر اكتشافك لِـ “مفتاح الوعي.” ما ظروف هذا الاكتشاف؟ وما دور الصدفة في الاكتشافات العلمية عموما؟

قبيسي: الصدف تأتي للمتحضر الجاهز. تماما مثل الشعر. فأنت كشاعر تقوم بما عليك وتتخمر الفكرة وتكون الأداة عندك جاهزة أصلا، وهي اللغة، وعندما تأتي الفكرة وتكون قوية وناجحة، فإنما يتلقفها المتيقظ الجاهز. وكذلك الأمر في العلم. فموضوع الوعي أهتم به منذ أكثر من عشرين سنة، أنميه بقراءاتي، ومن ثم إني درست طب الأعصاب وأمراض الصرع تحديدا، بسبب توقي لفهم هذه المواضيع المختصة بالوعي واللغة والأساس البيولوجي لسلوك الإنسان عموما. فكنت قد قرأت كثيرا عن الوعي، وقرأت كثيرا عن منطقة “الكلوستروم” الدماغية تحديدا. ثم فجأة صادفت مريضة عندها إلكترود، قطب كهربائي مستشعر في هذه المنطقة تحديدا. فاستشعرت قيمة الفرصة التاريخية. والنتائج كانت مذهلة لي شخصيا، حيث ظللت يومين أعمل لأتأكد منها. فقمت وفريقي البحثي بعد ذلك بتجارب مخبرية على الفئران، ووجدنا نتائج مشابهة. إذ اكتشفنا أن استجابات الفئران الصحيحة تنخفض كلما ازدادت قوة التيار المحفز للكلوستروم، حتى إذا وصلت قوة التيار نقطة معين، تجمد فيها الفئران بلا حركة. تماما كالإنسان الذي يعاني من “تعطّل في الوعي” نتيجة نوبة صرع أو غيرها. علما أن ما يعانيه الفأر ليس نوبة صرع، واستطعنا إثبات ذلك.

-ما هي مقومات العبقرية، وما هو دور الجينات والوراثة في العبقرة؟

قبيسي: هذا سؤال صعب. لكنني أظن أن مكونات أساسية للعبقرية تكون موجودة لدى الشخص، فيما يتواجد جزء آخر منها خارجه: بيئي وظرفي وتاريخي … أحيانا شيء أشبه بالصدفة هو الذي يجعل عمل شخص ما يُرى كعمل عبقري. ورغم ذلك هناك امور مشتركة لدى أغلب العباقرة. أولها الشغف الذي يجعل الشخص يفكر بشكل متواصل بموضوعه. كعبقري موسيقي، مثلا، يجلس على البيانو ساعات طويلة مفتشا عن نوتة موسيقية. ثم يسمع الموسيقى وهو نائم، ثم يستيقظ صباحا والموسيقى في ذهنه. ثانيا: الذكاء الذي يتضمن ذاكرة قوية وقدرة تحليل فائقة. وهما نتيجة الجينات والاكتساب البيئي على حد سواء. إذن هناك ذكاء فطري، لكنه يتطلب ظروفا تحفيزية، خصوصا في الطفولة.

 -بحكم أنك عالم وباحث. ما هي محركات العلم؟ وهل الدور الأبرز في تطوره يعود للأفكار أم الأدوات؟ ثم ما هي المرجعية الأخلاقية التي تحكم العلوم برأيك؟

 قبيسي: يتطور العلم عندما تكون الظروف الاجتماعية والاقتصادية مؤاتية. العلماء الناجحون في الولايات المتحدة، بمن فيهم من نال جائزة نوبل في المجالات كافة، حصل أغلبهم على دعم مالي مستدام لخدمة مختبراتهم من قبل مؤسسات معينة. وبذلك يصب العالِم كل تركيزه على العلم نفسه، ولا يضيعه في أمور لوجستية ومالية. بالمناسبة، ابن خلدون انتبه إلى أن الإنتاج الفكري والعلمي يحتاج إلى حالة مادية جيدة. وقد أشار مليا إلى هذه الفكرة في مقدمته الشهيرة حين قال: “العلم أمر زائد على المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع”. فلا يمكنك أن تنتج علما، فيما أنت تلهث بشكل متواصل لتأمين قوتك، أو تسكن الملاجئ هربا من حرب تعيشها مدينتك ….

أما بشأن تطور العلوم، فأظن أن تطوير الأدوات يساهم في تطوير الأفكار والعكس صحيح. والمرجعية الأخلاقية التي من المفترض أن تحكم العلوم، ليست ثابتة. فهي شيء ديناميكي يأخذ شكله نتيجة ظروف معينة. فأحياناً تأخذ هذه المرجعيّة شكل انسجام الفرد مع إيديولوجية رائجة أو موروثة، وأحياناً قد يكون محرّكها تسريع العمل …فهناك غايات براغماتية كثيرة. لكن برأيي القواعد الأخلاقية ينبغي أن تكون تحسين وضع الإنسان بما فيه الحفاظ على كوكبنا. فأنا مثلا عندما أشتغل في أبحاث أمراض الصرع، أفكر بمرضاي الذين أحبهم، والذين لا يزالون يعانون من النوبات رغم كل الخيارات الطبية المتاحة. فأطمح في أن أعمل ما يخفف عنهم لأن الأهم هو الدافع الإنساني. أما المهنة والراتب و”البريستيج” فهي أمور مردها إلى”الأنا”.

 -تطور علم الأعصاب كثيرا في العقود الأخيرة، وأصبحنا نرى مصطلحات مسبوقة غالبا بكلمة “نيورو” والتي تشير إلى علم الأعصاب. ما رأيك، كعالم أعصاب، في مدى إمكانية هذا العلم في تفسير كل شيء؟

قبيسي: علينا أن نفهم كيف يرى دماغنا العالم ويحلله. إذا أردت أن تدرس موضوعا ما، لا بد أن تجلب أدوات أخرى غير الموضوع لدراسة الموضوع. لكن الدماغ يدرس نفسه، وذلك لانعدام وجود أداة غيره لدراسته. ولا يوجد برهان علمي ينص على أن هذه الحالة لها حدود ليقف عندها. ففي الرياضيات، خط الأرقام الحقيقية يكون من سالب ما لا نهاية حتى موجب لا نهاية، وكذلك الفترة بين الصفر والواحد هي ما لانهاية. لكن هناك دالة تقابلية بين المالانهايتين، الأولى الموجودة بين الصفر والواحد والثانية بين السالب مالا نهاية والموجب ما لانهاية. هذا معناه أنها نفس المالانهاية. هو عالم آخر موجود بين الصفر والواحد مواز للعالم الحاوي لكل الأرقام الصحيحة. وهذا يذكّر ببيت الشعر القائل “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”. عندما تفهم الدماغ بشكل جيد جدا، فأنت تفهم الكون كله. فما هو الكون غير الذي في الدماغ؟

  فإذا كان العلم اليوم غير قادر على الإجابة على بعض الأسئلة الميتافيزيقية فنحن لا نعرف ما يخبئه المستقبل العلمي. فالعلم قبل 200 سنة، كانت واضحة محدوديته، والفلسفة كانت قادرة على طرح أسئلة لا نهائية يشعر العلم أنه عاجز عن التصدي لها بأدواته ومنطقه وأفقه. لكن مع الوقت اكتشف أن الكثير من هذه الأسئلة خاطئة من الأساس، واكتشف أن العلم مع الوقت قادر على أن ينير مساحات كنا نعتقد في الماضي أنه غير قادر على إنارتها على الإطلاق. لذلك لا بد أن نتريث قبل القول بأن قدرة العلم محدودة، ولنفك اللجام للعلم لنرى إلى أين يمضي.

 

-أراك تهمهم أحيانا بموسيقى زياد الرحباني، الذي تراه أفضل موسيقي عربي معاصر. كما أنك معجب بزكريا أحمد وناظم الغزالي. ولاحظت وجود قيثارة ودفتر نوتات موسيقية في منزلك. فكيف تصف علاقتك مع الموسيقى والغناء؟ 

قبيسي: الموسيقى برأيي علاجية. مذ كنت صغيرا كنت أستعملها أحيانا، وبشكل واع، لهذه الغاية. فحين أكون مهموما ومرهقا، ألجأ اليها كمكان صحي ومريح. ولا أفصل بين الموسيقى والغناء، فهما واحد. لكن الموسيقى هي المهمة حتى في الغناء. فالأغنية تكون فيها آلة موسيقية إضافية اسمها الإنسان. والكلمات في الأغنية أقل أهمية من الموسيقى. فأروع نص في العالم إذا كان مسكوبا في موسيقى سيئة، لا يعود قابلا للسماع برأيي.

-الشعر حاضرا دائما في أحاديثك. وكنت قد نشرت سابقا في الصحف اللبنانية بعض قصائدك، ولديك مجموعة شعرية لم تنشرها بعد. وتقول بأنك لصيق بالشعر أكثر من الطب. متى اكتشفت الشاعر فيك؟ ولماذا لا تكتب إلا باللبنانية العامية؟     

قبيسي: قد أكون لصيقاً بالشعر أكثر من الطب لأن الشعر أعتق وأقدم في حياتي. فأول شعر كتبته كان في ربيعي الثامن. كان شعرا زجليا، عاطفيا. وفي سن الحادية عشر أو الثانية عشرة قرأت كل أعمال إلياس أبو شبكة، وإيليا أبو ماضي، وبشارة الخوري، فقد كنت أحفظ ديوان الأخير كله عن غيب. ثم قرأت كل أعمال أحمد شوقي وبدر شاكر السياب. فكنت ألتهم كل ما يتوفر لي باللغة العربية، سواء كانت قصيدة عمودية أو تفعيلة أو قصيدة نثر ما جعلني أتملك اللغة. فلما بدأت بالنشر في عام 1993م في الصحف اللبنانية، “السفير” و”النهار” وغيرها، كانت القصائد التي نشرتها نثرية عربية فصحى. ولا زلت حتى الآن راض عن الكثير منها. لاحقا وجدت أن الكثير من الشعر في بعض الثقافات الغربية، هو باللغة اليومية المحكية، بينما عندما يُكتب الشعر باللغة المحكية في أي بلد عربي، يكون الانطباع المبدئي عنه بأنه عمل خفيف، غير نخبوي، غير مثقف، ولا يليق بالترجمة لتحويله شعرا عالميا. ربما سبب ذلك هو إصرار الشعراء والمثقفين العرب عبر العصور على العمل فقط عبر اللغة العربية الرسمية ليوصلوا أعمالهم لأكبر شريحة ممكنة. أقول ربما. فقد تفتقد لغتي المحكية اليومية بمفرداتها المألوفة والشائعة إلى الغنى الموجود في اللغة الفصحى، لكنها مساحة قابلة للتوسع وللشعر. فلم لا أستخدم هذه المادة اليومية للشعر؟ لماذا لا بد للفن أن يكون مختلفا عن اليومي؟ فالشعر هو أقرب من تجربتي الحقيقية حين أكتبه بلغتي الحقيقية. أنا مثلا، حين أشتاق لابني أثناء سفري، أقول له على الهاتف: “اشتقتلك” ولا أقول: “أحن شوقا”. فأي من العبارتين تشبهني أكثر؟ ولماذا علي أن أتبدل حين أكتب الشعر؟ فلست مع الاستسهال بأن أكتب بالفصحى لمجرد أن مساحة المفردات فيها أوسع.

-أنت شاعر كما ذكرنا، ولك ذائقتك الخاصة بطبيعة الحال، فما رأيك بنزار قباني، محمود درويش, سعيد عقل, ومظفر النواب. وهل صحيح ما أدعيه أنك متأثر بالشعراء الأمريكيين الكلاسيكيين المعاصرين أكثر بمراحل من نظرائهم العرب، هذا وأنت لا تكتب الشعر بالإنجليزية؟

 

 قبيسي: نزار قباني مثلاً شاعر عذب وثوري ووصل ببساطة وانسيابية إلى الناس. فمفرداته أقرب إلى العامية. ويعجبني شعر محمود درويش الذي كتب قصائد كثيرة ناجحة، مع أن لديه قصائد أخرى تشبه البيان أو تجده يسجل موقفا معينا على حساب العذوبة. وثمة تجارب كثيرة في الغرب تماثل تجربة درويش. على كل حال، منذ الثلاثينات بدأت ظاهرة الفن للفن. فكان الشاعر يكتب شيئا جميلا بحد ذاته، خذ تي إس إليوت وكذلك إزرا باوند مثلاً. لكن بعد الحرب العالمية الثانية تغير الأمر. فالموجوع من الحرب لا يستطيع أن يتغزل بالجمال، بل سيكتب عن الحرب وإرهاصاتها. لذا يطغى عند محمود هذا الهم. أما سعيد عقل فنحت لغة عربية فصيحة خاصة ومميزة، ضمن اللغة العربية الرسمية. صوته الشعري باللغة العربية صوت خاص جدا ومميز، وذلك برأيي أساس في كتابة الشعر. أما بالنسبة إلى مظفر النواب فلا يروق لي شعره، وليس بسبب استخدامه الألفاظ النابية، فحتى هذه قد تكون مقبولة إن جاءت في نص شعري جيد. ولكنني لا أتذوق شعره. وليس من الضروري أني تأثرت بالشعراء الأميركيين أكثر من نظرائهم العرب. لكن شعراء الغرب لديهم كم أكبر من الأشعار الجميلة مقارنة بالعرب. وهي تجارب غنية تستحق أن أقف عندها.

-ما هي المواضيع الشعرية التي تجذبك للقراءة؟ وما هي المواضيع التي تجد شعرك يدور حولها؟

 قبيسي: لا نستطيع التكلم كثيرا عن عملنا، لأننا أحيانا لا نعرف عم نتكلم بالضبط في عملنا هذا. مثلا، لدي قصيدة كتبتها لوالدي رحمه الله. كنت أتذكر فيها أنه كان يجلس لقراءة الشعر بعد الظهر. ثم أعود وأذكر كيف أتذكره اليوم بعد موته، وكأنني في فيلم. فلو سألتني عن هذه القصيدة قبل أشهر، لقلتُ أنني تذكر من خلالها والدي لا أكثر. الآن أعيد قراءتها وأكتشف فيها أبعاداً اخرى. وقد يقرأها آخر ويكتشف فيها شيئا ثالثا. فحتى المواضيع الذي نكتب عنها، ليست دائما جلية الوضوح. أظن أن أكثر المواضيع الشعرية التي تعنيني هي اللاوعي. والعلاقة بين اللغة نفسها والوجود. وهذه الأمور لا نفطن لها وإنما أجد هذا الهم حاضرا في أكثر من نص، بعد أن أعيد قراءاته. أما كقارئ للشعر فيجذبني كل نص جميل.

     -هل الرواية كفن أخذت مكانة الشعر التاريخية في نفوس الشعوب؟ وكيف سيكون مستقبل الشعر برأيك كشكل فني وليس كشعور؟

 قبيسي: أتوقع أن يستمر الشعر كفن مستقل، طالما أن هناك بشراً. من الممكن أن يتضاءل جمهوره، لأن جزءا من جمهور الفن قد يتجه أكثر إلى السينما أو الرواية أو أي مجال فني آخر. لكن الشعر لا أتوقع أن ينحسر كليا. لأن تلك المتعة المنبثقة من ترتيب كلمات ذات إشعاع جمالي معين هي شيء بشري جدا، ومن الصعب أن يتخلى عنه البشر. وبالمناسبة أنا أوافقك بأن الشعر كان متصدرا وانزاح عن الصدارة. فالشاعر في العصر العباسي مثلاً كان يوازي وزارة إعلام في هذا العصر، وكان سينما بحد ذاته، وراوياً، وربما كان يقوم بدور المغني حتى. فالشعر كان حاملا أغلب الفنون الأخرى. وهذا ما لا ينطبق على الشعر اليوم.

 

-خضت غمار الترجمة قبل سفرك إلى الولايات المتحدة، فترجمت مقالة لهايدغر عن “الشيء”، وترجمت إلى اللغة العربية الفصحى عدة قصائد لسيلفيا بلاث، من دون أن تحافظ على موسيقى الشعر. وها أنت اليوم تعمل على ترجمة قصائد لشعراء أميركيين وباللهجة اللبنانية. ما هي دوافعك للترجمة سابقا للغة الفصحى وحاليا للمحكية اللبنانية؟   

قبيسي: كنت يومها تلميذا أترجم خلال العطلة الصيفية قصائد لقاء بدل مادي من الجريدة. لكن الآن أترجم إلى اللبنانية تحديدا كجزء من اختبار حدود قدرات هذه اللهجة وإلى أي مدى تحتمل استيعاب نصوص عالمية؟  هذا يؤدي إلى توسيع حدود اللهجة اللبنانية الشعرية بشكل يخدم تجربتي الشخصية، ويكون مفيدا لآخرين مهتمين بالكتابة باللبنانية أيضا. فأنت عندما تترجم قصيدة لشزلو ميلوش، وقصيدة لبابلو نيرودا أو ويليام ستافورد أو ويليام كاربنتر إلى اللبنانية، تستطيع أن تفعل ذلك مع المحافظة على روح النص. وهذا معناه أن “اللبنانية” قادرة على احتمال تجارب شعرية عديدة. فأنا أسعى لأن أغيّر الصورة النمطية، والتي توحي بأن اللهجة اللبنانية مكبلة ومحدودة وضئيلة. لأن العكس هو الصحيح.

 

-قبل دخولك الجامعة الأميركية، كانت قراءاتك باللغة العربية عن الأدب والشعر. وبعد دخولك الجامعة في عمر الثامنة عشر، أصبحت تقرأ كتب الفكر والفلسفة ولكن باللغة الإنكليزية. ما سبب اهتمامك بالفكر والفلسفة حينها؟ وهل لتخصص الرياضيات علاقة بذلك؟

  قبيسي: نعم. شغفي بالرياضيات لم يكن منفصلا عن شغفي بالفلسفة وعلم النفس، وفيما بعد بالعلوم العصبية. فهو إذن شغف واحد، لعله شغف المعرفة عموما، الذي تجلّى خلال التحاقي بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث حظيت بأساتذة رياضيات وأساتذة فلسفة أفذاذ. وكانت بيئة المرحلة الجامعية خصبة لأن يبدأ المرء في اكتشاف اهتماماته الحقيقية، ويتابعها بشكل ممتع، وهذا لم يكن متوفرا قبل تلك المرحلة.

 

 -ما رأيك بالجوائز العلمية التي يحلم بها الكثيرون كجائزة نوبل عالميا، وجائزة الملك فيصل عربيا؟ وهل تراها علمية محايدة أم أنها مسيسة؟

قبيسي: لا أستطيع أن أجيب إن كانت مسيسة أم لا. لأن معظم الحاصلين على مثل هذه الجوائز هم جيدون في مجالاتهم. حتى اليوم، يبدو لي أنها عادلة. لأنه على الأقل في مجال الطب، غالبا ما يحصل عليها من أنجز عملا علميا استثنائيا. لكنني أرى أنه لا ينبغي أن يسعى المرء أساسا خلف هذه الجوائز. فهل نصبح أطباء لنربح جائزة؟ فالمرء يقوم بما عليه، سواء حصد جائزة أم لا. ومن تكون الجوائز هي همه الدائم، أتوقع أنه لا يحصدها. أما الذي يحصدها فهمّه شيء آخر.. غير الجائزة.

 

-كيف تقارن مكانة الطبيب حاليا، وهو تحت حكم مؤسسات شديدة التعقيد عالميا، بنموذج الأطباء القدماء مثل جالينوس أو الرازي أو ابن سينا؟ هل ترى الدوافع مختلفة أم الظروف أم تغير البيئة؟

قبيسي: نعم ولا. فهناك ناس فريدون، وآخرون ليسوا فريدين. ففي عصرنا أناس مثل الرازي لديهم همّ أصيل صادق. أما بالنسبة الى المؤسسات، وانطلاقا من تجربتي الطبية الكاملة في الولايات المتحدة، فإنها مؤسسات شديدة التعقيد. لكنها حتى اليوم على الأقل قامت بدور إيجابي لناحية دفع الطب إلى الأمام، وإتاحته للناس. فأثرها إيجابي أكثر من أنه سلبي.

 

    -شخصيا، هل تمثل لك تجاربك اليومية مع المرضى مصدر إلهام لإنتاجك الأدبي والتأمل الفكري؟ أم أن روتين العمل انتزع منها أية قيمة أخرى غير القيمة الوظيفية البحتة؟

قبيسي: أنا محظوظ لأنني متخصص في مرض واحد، ولدي دائما من الوقت والمساحة ما يبعدني قليلا عن العمل، لتأمل المعنى الموجود في الأشياء. ولا أريد أن أخسر ذلك لأني لو خسرته أفقد المعنى. ولذلك لم أعمل يوما في مجال تسوده الرتابة والميكانيكية، بل اخترت مجالا أكاديميا لأتمكن من استبقاء هذه المساحة والعلاقة مع المريض، العلاقة التي تقود كل شيء آخر في حياتي المهنية بحثيا وتعليميا. أما بالنسبة إلى العلاقة بين عملي كطبيب وبين هوايتي الشعرية، فليست واضحة لدي ملامحها.

تقول أنك تعتنق اللاعنف كعقيدة سياسية وأخلاقية، ومن هنا يأتي تقديرك للدالاي لاما وغاندي ونيلسون مانديلا. هل تشعر أن هذه العقيدة مناسبة لكل الظروف؟

قبيسي:  طبعا، اللاعنف عقيدة يعتنقها المرء ليس لأنها ستربحه معركة أو تخسره إياها، بل لتيقننا بأن هذا هو الطريق الأضمن إلى السلام الداخلي ولرؤية الحقيقة الناصعة ببساطتها ووضوحها. فإذا اعتنقت بلدان عدة هذه العقيدة، سيكون العالم مكانا أفضل. ومن الممكن أن يكون فرويد صائبا بقوله أن العدوان غريزة لكن هذا ليس معناه أن نستسلم لهذه الغريزة. فالشخص الذي لديه غريزة تجاه السرقة مثلا، يمتلك فصا دماغيا جبهيا قادرا على اكتشاف هذه الغريزة والتحكم بها. وحتى يمكنه أن يتسامى، وينتج شيئا جميلا من هذه الغريزة السيئة. تماما كما نستطيع أن نقتلع الأعشاب الضارة، لنستخدمها كمخصبات للأعشاب الجيدة.

-هل هناك شيء تود قوله لم أسألك عنه؟

قبيسي: أتمنى أن يصبح المجتمع العربي كله تواقا ودؤوبا تجاه الإنجازات العلمية المرموقة. فهناك بلاد ذات مشاكل اقتصادية، لكنها أولت العلم والطب اهتمامها البالغ. في العالم العربي، لم نر تجارب ملفتة بعد في هذا المجال. وهذا ما أتمنى أن تلتفت إليه المجتمعات العلمية، لأن الكثيرين من العرب، كأبناء جلدتهم الذين التقيهم هنا في الولايات المتحدة، لا تنقصهم المواهب إطلاقا. بل إن النقص هو في المؤسسات والظروف التي تساعدهم على إنتاج أفضل.