مجلة حكمة
عصر التفاهة عصر التفاهة

عصر التفاهة والمجتمع الإنساني البديل – المصطفى رياني


تقديم

أصبح العالم الذي نعيشه يتميز بالتفاهة والرداءة الشاملة في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بحيث عرفت الدول والمجتمعات تفككا وانحطاطا في قيمها الثقافية جعلت من التفاهة واللامبالاة والتبسيطية نمطا للعيش بدون عمق إنساني يتوخى بناء الإنسان والمواطنة كإستراتيجية وهدف. وقد تناول الفيلسوف الكندي ألان دونو في كتابه “نظام التفاهة”‍1 الرأسمالية والنيوليبرالية المتطرفة التي من خلالها هيمن التافهون على جميع مفاصل الدول والمجتمعات في غفلة من المثقف وأدواره الإستراتيجية نظرا لسياسة التهميش الممنهجة له وتقزيم مسؤولياته وتعويضه بالخبير أو جماعة الخبراء أو التقنوقراط لتدبير الأزمات فقط وليس تحليل وتفكيك المجتمع وبنائه على أسس صلبة يجعل من الإنسان كجوهر وكقيمة أساسية في المعادلات الصعبة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. فماهي أسباب وخصائص نظام التفاهة الذي أنتجته النيوليبرالية ؟ وماهي نتائجه الكارثية على الدول والمجتمعات والمواطن ؟ وما هي البدائل العلمية والموضوعية للفوضى المعممة التي أنتجها نظام التفاهة العالمي ؟

1- تفكيك أسباب نظام التفاهة الذي أنتجته النيوليبرالية

ترجع أسباب سيطرة التفاهة والتافهون على الدولة والمجتمع إلى النظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي يهدف إلى استغلال الإنسان والربح بمختلف الوسائل بدون إعطاء أهمية للإنسان وتنميته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وقيمه. هذا الواقع أدى إلى تفكيك منظومة القيم وتهميش الكفاءات، وبرزت الثقافة الاستهلاكية، و هيمنت السلبية على المواطن. كما سيطر التافهون و والشعبويون على الفضاء العمومي في الدول المتقدمة والنامية على السواء بدون تقديم بدائل وحلول لمعالجة المشاكل والأزمات المركبة للمجتمع نظرا لحملهم لثقافة تبسيطية وخطاب تبريري يفتقد للمنطق العلمي والعقلي مستغلين الجهل والتخلف الذي تعاني منه مجتمعاتهم.

 ومما زاد في تعقيد الوضع أيضا تمكنت التفاهة من اختراق المشهد السياسي العام والوصول إلى الحكم في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية والدول النامية مستغلة الديمقراطية والشعبوية والأزمة الاقتصادية الخانقة وتدهور الأوضاع الاجتماعية للمواطن في جميع الدول والمجتمعات. وفي تصور الان دونو، يهدف نظام التفاهة إلى سيطرة وتعميم الرداءة على كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية وسوق الشغل والإعلام والثقافة والفن بالاعتماد على التبسيط والسطحية و البهرجة والابتذال لإحكام السيطرة على المجتمع.

كما تعتمد التفاهة ونظامها النيوليبرالي أيضا على الخبير أو جماعة الخبراء لتقديم الحلول الظرفية والعرضية وتدبير الأزمة عوض حلها بدون الاعتماد على سلطة الفكر والمفكرين والمثقفين الذين يتم تهميشهم والاستغناء عن أدوارهم الشيء الذي يؤدي إلى تدهور وانحطاط المجتمع الإنساني المعاصر. وقد بدأ مسلسل التفاهة مع رئيسة الوزاء البريطانية مارغريت تاتشر التي استبدلت الإرادة الشعبية والناشطون والسياسيون والمواطن بمفاهيم المقبولية المجتمعية والتوافق والتسوية. ليتم إفراغ السياسة من المفاهيم الكبرى التي تعتبر الأسس والركائز المؤسسة لها، كالحقوق والواجبات والقيم والصالح العام. فأصبحت السياسة محكومة بهاجس الحكامة والمنفعة الخاصة للسياسيين والتي أشار إليها أيضا ماكس فيبر2 منذ عقود ليتحول اهتمام الساسة من الصالح العام والقيم الإنسانية النبيلة إلى التعامل مع مؤسسات الدولة  باعتبارها مشروعا تجاريا مربحا، لا يخضع لأي منظومات أخلاقية أو مثل وقيم عليا.

2-  نقد نظام التفاهة العالمي

مع التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة وانتشار نظام التفاهة في العالم وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة في مجتمعنا المعاصر أصبحت الديمقراطية لا تؤدي وظيفتها نظرا للأعطاب السالفة الذكر وانعكاسها سلبا على المواطن الذي أصبح يعبر عن اللامبالاته اتجاه العمل السياسي. خصوصا أمام سلطة الدولة  غير محايدة والتي تمتلك وتحتكر جميع الأجهزة وتهيمن على الفضاء العمومي عبر هندسة اللعبة السياسية و العمليات الانتخابية كيف ما شاءت. وبذلك تم تهميش السياسة التي تعد المدخل الأساسي لأي تغيير في عالم اليوم بمقارعة البرامج بالبرامج والأفكار بالأفكار يكون المواطن سيد نفسه في الاختيار والقرار وحاضرا في العمل الديمقراطي بشقيه النيابي والتشاركي.

هذا بالإضافة أن مؤسسات الدولة في المجتمعات المعاصرة وفي ظل نظام العولمة أصبحت تحت رحمة الشركات الكبرى و العابرة للقارات بحيث تستعمل جميع أشكال  الإقناع والدعاية والكذب والتزييف والضغط للتحكم السياسي وتوجيه عقول الناس واهتماماتهم وإفراغها من أي محتوى نقدي. وهو ما أشار إليه كارل ماركس في تحليله للإيدولوجيا البورجوازية باعتبارها وعيا زائفا تستعمله هذه الأخيرة للسيطرة على عقول الأفراد عبر الدعاية والتضليل للحفاظ على مصالحها واستمرارها في الاستغلال وذلك بإخضاع البنية التحتية للبنية الفوقية. وهو ما أسماه يورغن هابرماس في كتابه “الفضاء العمومي”3 أيضا بالفضاء العمومي البورجوازي حيث البورجوازية تدافع عن مصالحها والحفاظ عليها مستعملة خطاب حقوق الإنسان  استعمالا إيديولوجيا لإخفاء واقع الصراع والهيمنة  وأعطابها البنيوية.

3- البدائل الحتمية لنظام التفاهة

إن البدائل الحتمية لنظام التفاهة تقتضي عودة المثقف إلى الفضاء العمومي لجعله مجالا للحوار والتواصل ومقارعة الأفكار و البرامج التي تساهم في بناء المواطن و الرأي العام وقضاياه المصيرية كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد والجماعات و المساواة والسلطة وتوزيع الثروة. فالمواطنة لم تأت من فراغ بل هي سيرورة متوالية الحلقات أفضت إلى ما هي عليه الآن في المجتمع الأوربي والمجتمعات المتقدمة بشكل عام من حقوق ومكتسبات وواجبات للمواطن داخل المجتمع بالرغم من التراجع والجزر الذي تعاني منه حاليا.

  كما أن الوضع الحالي لعالم اليوم يقتضي العودة إلى الفلاسفة المتنورين كجان جاك روسو الذي ركز في مشروعه الفلسفي على العقد الاجتماعي في كتابه الشهير “العقد الاجتماعي“4 الذي يعتبر أساس الديمقراطية باعتبار الشعب مصدرا لها وصانعا لها. أيضا مونتسكيو الذي وضع تصورا لفصل السلط وتوازنها في كتابه ” روح القوانين”5 وفولتير الذي اجتهد فلسفيا وأدبيا للتنظير لحرية التعبير و الاختلاف والتسامح وتقبل الآخر واحترام الرأي والرأي الآخر وكانط الذي يؤكد على ضرورة استعمال العقل في القضايا العامة والشأن العام بكل استقلالية ومسؤولية. كما أن الفكر الاشتراكي العلمي بكل اجتهاداته لازال يشكل الحل الموضوعي والتاريخي للأزمة البنيوية والمركبة للرأسمالية عبر إجابته عن القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في إطار مشروع تاريخي لمجتمع تنمحي فيه الفوارق الاجتماعية. يبقى هذا التصور على جدول التاريخ وصيرورته وتراكماته لا زال له النصيب الأوفر من المصداقية في واقع عالمي يزيد فيه النظام النيوليبرالي تفاهة ورداءة وبعده عن بناء الإنسان وجودة عيشه. هذا بالإضافة إلى الفيلسوف الألماني يورغن هابيرماس الذي ساهم في صياغة تصور فلسفي وسياسي لمشروع مجتمعي يصبح فيه الفضاء العمومي مجالا مهما للفعل التواصلي للمواطن والجمهور وصناعة الرأي العام بالاعتماد على حوار  الأفكار والإقناع خدمة لمصلحته التي لم تتمكن الديمقراطية النيابية الدفاع عنها لتصبح الديمقراطية التشاركية آلية فاعلة للترافع والتعبير عن مطالب الفئات الاجتماعية المهمشة .  كما ترتكز بالأساس على اندماج الفرد داخل المجتمع ومشاركته باعتباره مواطنا فاعلا في الحياة العامة والسياسية.

أيضا أصبح واقع التفاهة ونظامها المعولم يفترض بناء الدولة الوطنية الديمقراطية على أساس المصلحة الوطنية واقتصادها الوطني والعلاقات المتكافئة والمتوازنة مع باقي دول العالم وهذا لن يتأتى إلا عن طريق التكتل والاندماج الإقليمي والجهوي للتكامل الاقتصادي. فالتكتلات الاقتصادية قادرة على فرض كلمتها وإرادتها السياسية والاقتصادية في نظام العولمة إن استطاعت أن تطور مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية يكون مدخله البناء الديمقراطي الوطني للتخلص من نظام التبعية الاقتصادية للنظام النيوليبرالي العالمي ونظام التفاهة الذي أنتجه في العالم والذي يتسبب في تعميق واقع الأزمة الشاملة في المجتمعات وخلق التوترات الاجتماعية عبر تعميق الفوارق الطبقية والمجالية التي تعيق فرص التنمية والتقدم والتطور لبناء القيم الإنسانية الحقيقية.

خلاصة

لقد تمكن النظام النيوليبرالي العالمي من إنتاج أسوء ما يمكن تصوره وهو نظام التفاهة الذي سيظل ملازما له يعبر عن هويته البنيوية الحقيقية والمأزومة مادامت المجتمعات والشعوب لم تراجع حساباتها لتمتلك وعيا بديلا يخلصها من شروط الرداءة المعممة والتي تنتج البؤس والتخلف والانحطاط في واقع أصبح  المواطن ضحية العولمة وتفاهتها المدمرة. وهذا يفترض تصور مجتمعي وتنموي بديل بمنظومة قيم عالية الجودة تؤسس لبناء المجتمع على أسس صلبة قوامها الديمقراطية و التربية المواطنة المبنية على العلم والمعرفة و ثقافة الحقوق والواجبات وربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد وخدمة المصلحة العامة لعموم المواطنين.

 

 


المراجع:

1 Alain Deneaut. (2015). La médiocratie. Montréal. Lux Editeur. Canada. –

 2 –  ماكس فيبر. العلم والسياسة بوصفهما حرفة. ترجمة جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى،   بيروت،  لبنان.

                     3-  Habermas Jürgen. (1988).L’espace public. Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, Paris, Payot, réédition. France.                                     

           4- Jean-Jacques Rousseau. (1977). Du Contrat social, édition du  Seuil. Paris. France.

                          5- Montesqieu. (1748). De l’esprit des lois. Edition Barillot et Fils. Genève