مجلة حكمة
انتصار السعادة

انتصار السعادة

الكاتببرتراند راسّل
ترجمةإبراهيم خليفي

أعتقد أن بإمكاني تغيير حياتي والذهاب للعيش مع الحيوانات، فهم جدّ هادئين وثابتين،

أنا هنا وأنظر إليهم مطوّلا، مطوّلا، فظروفهم لا تجعلهم يشتمون ويتأوهون،

هم لا يظلون مستيقظين ليلا للبكاء على خطاياهم،

هم لا يثيرون اشمئزازي بمحادثاتهم عن واجباتهم تجاه الإله، فلا واحد غير راضٍ، ولا واحد يعرف جنون امتلاك الأشياء،

ولا واحد يحتجّ أمام آخر، ولا أمام أمثاله الذين قد عاشوا آلاف السنين قبله، ولا واحد غير محترم، ولا تعيسا في مكان ما من العالم

والت ويتمان


توطئة

لا يتوجه هذا الكتاب إلى الناس العلماء أو إلى أولئك الذين يرون في مشكل عمليّ مجرد موضوع للثرثرة. في الصفحات اللاحقة، لن يجد المرء فلسفة عميقة، أو إلماما ممتدا. وإن هدفي الوحيد كان جمع بعض الملاحظات المستلهمة مما أعتقد أنه العقل. إن الاستحقاق الوحيد الذي أطالب به للصيغ المقدمّة إلى القارئ يكمن في كونها مؤكدة من خلال تجربتي وملاحظتي الخاصة، واللتان أثْرتا سعادتي في كل المرات حيث تصرفت طبقا لها. لهذا أجرؤ على الأمل في أن بعض الأشخاص من بين كل هؤلاء الرجال والنساء الذين يعانون دون رضاء في معاناتهم، سيجدون تشخيص حالتهم ووسائل معالجتها. إنما بالاقتناع بأن كثير من الناس ممن هم تعساء يمكن لهم أن يجدوا السعادة بفضل جهد حسن التوجيه، أن كتبت هذا الكتاب.

برتراند راسّل


الجزء الأول: أسباب الشقاء

الفصل الأول: ما الذي يجعل الناس تعساء؟

إن الحيوانات سعداء طالما كانوا في صحة جيدة ولهم ما يكفي للأكل. ونحن نشعر أن الكائنات البشرية يجب أن تكون كذلك أيضا، ولكن ليست الحالة عينها بالنسبة للأغلبية، في عالمنا الحديث. ولو أنك أنت نفسك تشعر بأنك تعيس، فمن المحتمل أن تكون جاهزا تماما لتقبل أنك لست الإستثناء. وإذا كنت سعيدا، فتساءل كم من أصدقائك سعداء أيضا. وعندما تمر برحاب أصدقائك، حاول أن تتملك فن القراءة على الوجوه؛ كن منفتحا على تدابير أولئك الذين تلتقيهم في الحياة كامل الأيام.

«في كل وجه أرى ندبة».

ندبة ضعف، ندبة وجع، كما كتب بليك. ومهما كانت حالتهم مختلفة، فستجد في كل مكان أناسا تعساء. لنفترض، في لحظة ما، أنك تتواجد في نيويورك، والنوع نفسه للمدن الكبرى الحديثة. ضع نفسك في شارع مزدحم في ساعات العمل أو في شريان [المدينة] في عطلة نهاية الأسبوع، أو ادخل مساء لقاعة رقص. تحرر من أناك وأترك نفسك تلج تدريجيا إلى شخصية الناس الذين يحيطون بك. وستلاحظ أن كل واحدة من شخصيات هذه الحشود لها همومها الخاصة.

ستجد الشجا، في حشود ساعات العمل، وستجد التركيز المفرط، وعسر الهضم، ونقصان الاهتمام في كل الأشياء خارج الصراع، والعجز في اللعب، وعدم الإحساس لحضور إخوانهم البشر. في عطلة آخر الأسبوع، على الشارع الكبير، ترى رجالا ونساء، كلهم ميسورون، وبعضهم ثري للغاية، غارقون في السعي وراء المتعة. هذا السعي ينقاد من الجميع بوتيرة موحدة، بوتيرة أبطأ سيارة في الطابور تلك؛ إنه لمن غير الممكن رؤية الطريق بسبب السيارات أو تأمل المنظر لأن حادثا يمكن أن يقع إذا إلتفتنا جانبا؛ فكل أصحاب السيارات غارقون في الرغبة في مجاوزة الآخرين، مما يستعصي عليهم القيام به بسبب الحشد؛ ولو يخرجون عن إهتماماتهم، مثلما يمكن أن يحدث ذلك للذين لا يقودون، فإن عدوّا لا يُحتمل سيتمكن منهم ويرسم على ملامحهم إستياء بذيئا. يمكن أن يحدث أن جماعة، من الناس الملونين الذين يقودون سيارة، تُظهر فرحا صريحا ولكنها تثير السخط العام وتنتهي بالسقوط بيد الشرطة إبان حادث: فالاستمتاع، يوم الإجازة، غير مسموح.

أو، تأمل حشدا ذات أمسية حيث يستمتعون. يأتي الجميع، عازمين على أن يكونوا سعداء، مع البتِّ الآبد لذلك الذي أقسم بأن لا يثير ضجة لدى طبيب الأسنان. إنه لمن المعروف أن الشراب والحميمية يؤديان إلى البهجة؛ كما أن الناس يسكرون بسرعة ويحاولون ألاّ بروا كم يثير نُدماءهم إشمئزازهم. بعد تناول مشروبات قوية، يشرع الرجال في ذرف الدموع ويأسفون لكم لا يستحقون معنويا حب أمهاتهم. إن كل ما تفعله الكحول لهم، هو أن تحرر الشعور بالذنب الذي يقع خنقه، في الوقت العادي، بإعتماد العقل.

إن الأسباب المختلفة لملامح المعاناة هذه، راجعة في جزء إلى النظام الإجتماعي، وفي جزء آخر إلى السيكولوجيا الفردية التي هي، بشكل طبيعي، نفسها وإلى كبير نتاج للنظام الإجتماعي. لقد كنت بالفعل قد توصلت إلى الحديث عن التغيرات الضرورية داخل النظام الإجتماعي في تطوير السعادة. وليس ضمن مقصدي أن أتحدث في هذا المستوى عن إلغاء الحرب، وعن محو الإستغلال الإقتصادي وعن التربية الحاصلة في الخوف والخشية. إن إكتشاف نظام يمكّن من تفادي الحرب هو ضرورة حيوية من أجل حضارتنا، ولكن لن يكون لأي نظام فرصة الإبقاء على نفسه مادام البشر سيكونون جدّ تعساء لأن يفضّلوا إبادة متبادلة عن إطاقة مستمرة لنور النهار.

إذا أردنا أن تتقاطع إيجابيات الإنتاج الميكانيكي إلى حد ما لأولئك الأكثر إحتياجا، فسيكون ضروريا أن نضع حدا للفقر؛ ولكن ما النفع من جعل العالم كله ثريا، إذا كان الأثرياء نفسهم تعساء؟ إن التربية في كنف الخشية والخوف سيئة، ولكن ليس ثمة تربية أخرى يمكن أن تعطى، من قبل أولئك الذين هم عبيد لإنفعالاتهم. إن هذه الاعتبارات تؤدي بنا إلى مشكلة الفرد: ما الذي يمكن لرجل أو لإمرأة فعله في هذه الوضعية المعطاة، من أجل تحقيق سعادتهما داخل مجتمعنا المليء بالحنين؟ في مناقشة هذا المشكل، سأقتصر في إهتمامي على أولئك الذين ليسوا ضحايا بؤس مادي مفرط.

سأقرّ بأن دخلا كافيا ليضمن الغذاء والمأوى وصحة جيدة لتمكين الأنشطة البدنية العادية. ولن آخذ بعين الإعتبار كوارث عظمى كمصيبة عامة أو، بالنسبة للآباء، فقدان كل أبناءهم. ثمة أشياء كثيرة لتُقال حول هذه المواضيع وهي مهمة، ولكنها تنتمي إلى مجال مختلف، لن أهتم به هنا. إن الهدف الذي أطرحه على نفسي يتمثل في إقتراح عقّار لمحنة سائر الأيام العادية التي يعاني منها أغلب سكان البلدان المتحضرة والتي يصعب أكثر من ذلك تحملها لكونه لا يوجد سبب خارجي بيّنٌ، لتبدو غير ممكنة التفادي.

 أعتقد أن حالة الشيء هذه راجعة، في جزء كبير، إلى أفكار مغلوطة حول العالم، وإلى أخلاق خاطئة أو إلى عادات حياة مساء فهمهما؛ كل ذلك يدمر هذه الشهية وهذا الطعم الطبيعي للأشياء قابلة التحقق التي تعتمد عليها سعادة الإنسان والحيوانات الكاملة كملاذ أخير. إن هذه الأشياء تندرج تحت إمكان الفرد وسأطرح أن أقترح التغييرات التي من خلالها يمكن (بافتراض إعانة فرصة ما) أن تتحقق سعادته.

ربما أفضل مقدمة أدعو لها إلى الفلسفة تكون بعض سطور من سيرة ذاتية. أنا لم أولد سعيدا. ولما كنت طفلا كانت ترنيمتي المفضلة: متعب من العالم ومغمورا بالظلم. في عمر الخامسة، كنت فهمت أنني إذا كنت سأعيش حتى عمر الستين، فليس لي أن أتحمل حتى ذلك الحين سوى الجزء الرابع عشر من حياتي كلها وأنني أشعر أن العدو اللامنتهي الذي كان يقف أمامي سيكون غير مطوق. في سن المراهقة، كرهت الحياة وكنت بشكل مستمر على عتبة الإنتحار، ذلك الذي كانت قد منعتني عنه رغبتي في التحسن في الرياضيات. الآن، وعلى العكس، أحب الحياة، ويمكن لي القول تقريبا أنه في كل سنة تمرّ، أحبها أكثر. ذلك يعود في جزء منه لكوني إكتشفت الأشياء التي أحبها أكثر ولحقيقة أنني إنتهيت بالحصول، شيئا فشيئا، عليها. ذلك يتجه أيضا في جزء منه إلى ما أقصيته بشكل ناجع كموضوعات رغبة يتعذر الوصول إليها بشكل أساسي، مثل إكتساب معرفة مطلقة بأشياء وأخرى.

أما في جزء أكبر، فذلك راجع إلى إهتمام متناقص في شخصيتي الخاصة. ومثل آخرين كثيرون، والذين كانوا قد تربوا تربية متزمتة، فقد إعتدت أن أفكر في خطاياي، في جنوني وفي عيوبي. سأبدو-بإستحقاق بكل تأكيد-لنفسي نوعا بائسا. وشيئا فشيئا، تعلمت إظهار اللامبالاة إزاء نفسي وإزاء عيوبي؛ كنت قد أقدمت على تركيز إنتباهي أكثر فأكثر إلى الأشياء الخارجية: حالة العالم، وفروع المعرفة المتنوعة، والأشخاص الذين أحسّ تجاههم بالعطف. إن المصالح الخارجية، وأعترف بذلك، تجلب لكل واحد إمكانات وجعه الخاصة: فالعالم يمكن أن يكون مغموسا في الحرب؛ والمعرفة يمكن أن يكون صعبا الوصول إليها في وجهة معينة؛ والأصدقاء يمكن أن يموتوا. ولكن هذه الأحزان من هذا النوع لا تدمر الكيفية الأساسية للحياة مثلما يفعل ذلك أولئك المنحدرون من الإشمئزاز من ذواتهم. وكل مصلحة خارجية تحثّ على نشاط مّا، والذي يُعتبر، طالما بقيت المصلحة حية، واقيا تامّا ضد التبرّم. إن مصلحة ذاتية المركز، في المقابل، لا تؤدي إلى أي نشاط تقدمي. فأن يكتب المرء يومياته، وأن يخضع إلى تحليل نفسي أو ربما أن يصبح ناسكا، فهكذا هي النتائج الممكنة لموقف مّا. ولكن الناسك لا يصبح سعيدا مادام روتين الدير لن يعلم بجعله ينسى روحه الخاصة. إن السعادة التي ينسبها إلى الدين، قد كان بإمكانه بلوغها بأن يصبح كنّاس شوارع بشرط أن يبقى كذلك. وإن نظاما خارجيا هو السبيل الوحيد إلى السعادة بالنسبة لهؤلاء سيئي الحظ، الذين تكون المصلحة المفرطة في أنفسهم عميقة بشدة كي يُشْفَوا بطريقة أخرى.

ثمة أشكال متعددة من الإهتمامات مركزية الذات. ويمكن إعتبار الآثم، والنرجسي والمصاب بجنون العظمة كثلاث أنواع مشتركة بشدة.

عندما أتحدث عن الآثم، فأنا لا أفكر في ذلك الذي يرتكب خطايا، حسب تعريفنا لهذا اللفظ: فالخطايا ترتكب من قبل الجميع أو من قبل الفرد. أنا أفكر في الإنسان الغارق في الوعي بخطيئته. هذا الإنسان يعرّض نفسه بإستمرار إلى إستياءه الخاص الذي، إذا ما كان رجل دين، يتأوله إستياءً للإله. هو يجعل من نفسه صورته كما يجب أن يكون وهي في صراع دائم مع معرفته بنفسه كما هو. إذا كان، في وعيه الواضح، منذ زمن طويل قد تخلى عن الوصايا التي تعلمها في حضن أمه، فإن شعوره بالذنب يمكن أن يُدفن بشكل عميق في لا وعيه ولن يظهر إلا وهو في حالة سكر أو نائما.

هذا الشعور، في كل مرة، يمكن أن يكون قادرا كفاية كي يسلبه طعم الحياة. وفي أعماق نفسه، هو يقبل بعد مناعي طفولته. أن يقسم المرء فهو شر، وأن يسكر فهو شر؛ وأن يبدو ألمعيا في الإهتمامات العادية فذلك شرّ؛ وخاصة، إتّباع الغريزة الجنسية شرّ. مما لا يعني، بالتأكيد، أن يُحرم من أيّ من هذه الملذات، ولكن الإستمتاع بها مسمّم بالنسبة له بالشعور بكونها تحقّره. إن اللذة الوحيدة التي يتّبعها بحماس، هي أن يكون مستحسنا وملاطفا من قبل أمه، وهي الأشياء التي يتذكر أنه عرفها في طفولته. هذه اللذة لم تعد قطُّ في متناوله، فالأشياء تفقد كل أهميتها بالنسبة له؛ بما أنه يجب عليه أن يخطئ فيقرر أن يخطئ بكامل روحه. إذا وقع في الحب، فسيعاود البحث عن عطف الأم، ولكن لا يمكن أن يقبل به لأن أمه تمنعه من إحترام المرأة التي كان له معها علاقات جنسية. إن خيبة أمله تجعله قاسيا، فيتوب عن قسوته ويبدأ من جديد سلسلة أخطائه الشيطانية الخيالية وندمه الواقعي. هذه هي سيكولوجيا عدد كبير من الآثمين الأشداء في الظاهر. إن ما يحيدهم عن الدرب الصحيح، هو التفاني في شيء لا يمكن الوصول إليه (الأم أو ما يمكن أن يأخذ مكانها) وشيفرة أخلاقية تافهة مفروضة في الطفولة الصغيرة. فإن هروب المرء من تعسف المعتقدات ومن عواطف الطفولة هي الخطوة الأولى نحو السعادة بالنسبة لهؤلاء، ضحايا «الفضيلة» الأم.

إن النرجسية، في معنى مّا، هي نقيض الشعور بالذنب؛ فهي تتمثل عادة في الإعجاب بالنفس وفي الرغبة بأن يُعجب بها. وإلى حدود نقطة معينة، فهي أمر، يُفهم جيدا، على أنه عادي، ولا يجب أن يؤسف له؛ فقط في شططها تصبح شرّا هائلا. في كثير من النساء، خاصة في أولئك اللاتي ينتمين إلى الطبقات الغنية، تكون القدرة على الحب ناضبة بشكل كلي ومعوَّضة برغبة قوية في أن يَكُنَّ محبوبات من كل الرجال. عندما تكون إمرأة مّا متأكدة من حب رجل، فهي تفقد كل إهتمام به. وبالرغم من أن الأمر أقل ترددا، فإن نفس الشيء يكون لدى الرجال؛ والمثال الكلاسيكي في ذلك هو بطل [رواية] الروابط الخطرة.

عندما يصل الإختيال إلى هذا الحد، فلن تكون هناك مكانة لإهتمام صادق بالآخر، لذلك، لا يمكن للحب أن يوفر إشباعا حقيقيا. [كذلك] تواجه إهتمامات أخرى فشلا كارثيا أكثر. إن نرجسيا، مستوحى من تكريم الرسامين الكبار، مثلا، يمكن أن يجعل من نفسه دارسا للفن، ولكن مثلما أن الرسم لا يمثل بالنسبة إليه إلا وسيلة للصول إلى غاية، فإن التقنية لا تصبح مهمة البتة وكل موضوع لا يُرى إلا في علاقة بشخصه الخاص. تكون النتيجة إذن الفشل وخيبة الأمل؛ وعوض أن يكون مغمورا بالثناء مثلما كان ينتظر، فإنه يُغطّى بالتفاهة. والأمر نفسه بالنسبة إلى الروائيات اللاتي يجعلن من أنفسهن مثاليات دائما في رواياتهن الخاصة تحت طابع البطلات. إن كل نجاح جاد في العمل يعود إلى إهتمام صادق في المواد النسبية لهذا العمل. فتراجيديا كثير من السياسيين الذين نجحوا هي أنهم أبقوا شيئا فشيئا على شعور بالنرجسية في مصلحة المجموعة وفي الوسائل التي يدافعون عنها.

إن الإنسان المهتم فقط بشخصه الخاص ليس جديرا بالإعجاب، وما من أحد يعتبره كما هو. وينتج عن ذلك أن كل إنسان يكون همّه الوحيد في هذا العالم ذاك الذي يُعجب به، ليس قريبا من الوصول إلى هدفه. ولكن حتى لو أنه نجح، فلن يكون سعيدا بشكل كلي، لأن الغريزة البشرية ليست ذاتية المركز بالكامل والنرجسي يُحدُّ بشكل مصطنع بنفس الطريقة مثلما يُحدُّ الإنسان المحكوم بالشعور بالذنب. يمكن أن يشعر الإنسان البدائي بالفخر بكونه صيادا جيدا ولكنه كذلك يقدّر نشاط الصيد ذاك. فالإختيال، فيما وراء حدّ ما، يقتل لذة كل نشاط تكون فيه الغاية في ذاتها، وهكذا فهو يولّد، بشكل لا يمكن تفاديه، البرود والتبرم. وغالبا يكون مصدره نقصان الثقة وعلاجه هو تنمية إحترام الذات. إلا أن هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال نشاط مستلهم من مصالح موضوعية ومتوّج بالنجاح.

يختلف المصاب بجنون العظمة عن النرجسي في كونه يرغب في المجد بدل إشباع الإنجذاب وفي سعيه إلى لذة أن يكون مخشيا عوض أن يكون محبوبا. إلى هذا النوع [إذن] ينتمي عدد كبير من المزاجيين وأغلب أعظم رجال التاريخ. إن إرادة الإقتدار، كما الإختيال، هي عنصر يستمد مكانة بالغة في طبيعة الرجل العادي ويجب قبولها كما هي؛ فهي لا تصبح سيئة إلا عندما تصبح مفرطة ومرتبطة بمعنى غير كافٍ للواقع. بهذه الحال، فالرجل تعيس أو تافه، إن لم يكن كلاهما. إن المزاجي الذي يعتقد بأنه إمبراطور أو ملك يمكن أن يكون في معنى مّا سعيدا، ولكن سعادته ليست السعادة التي يمكن لشخص سليم أن يرغبها. لقد كان الإسكندر الأكبر ينتمي بسيكولوجيًّا إلى نفس النوع الذي ينتمي إليه المزاجي، بالرغم من كونه إمتلك الموهبة الضرورية لتحقيق حلم المزاجي. ولم يتمكن مع ذلك من تحقيق تطلعاته الخاصة التي كان يتسع الحقل بشرط إكتمال تحققها. وعندما رأى أنه كان المنتصر الأكثر شهرة في العالم، إنتهى لكونه إلها. فهل كان سعيدا؟ كانت نشواته، ونوبات غضبه، ولامبالاته تجاه النساء تجعلنا نعتقد العكس. ليس هناك إذن إشباع تام عندما نزرع عنصرا من الطبيعة البشرية على حساب كل العناصر الأخرى، وليس هناك إشباعا تامّا بعدُ عندما نفهم العالم كمادة خام لتمجيد أناه الخاصة.

عادة، يكون المصاب بجنون العظمة، بكونه شاذّا أو فقط سويا بالإسم، نتاج إذلال مفرط. فقد عانى نابليون من شعور التحقير بالنسبة إلى زملائه في الفصل، والذين كانوا أثرياء أرستقراطيين بينما كان هو مجرد ممنوح فقير. عندما سمح بعودة المهاجرين، كان قد شعر بالرضا لرؤية مرافقيه في الدراسة القدامى ينحنون أمامه. أي نشوة تلك! ولكن ذلك أدى به إلى الرغبة في الحصول على نفس الرضا من القيصر والنتيجة كانت سانت-هيلين. بما أنه ليس هناك أي إنسان يمكن أن يكون قادرا كليا، فإن حياة مُسيطَرٌ عليها فقط بتعطش إلى الإقتدار لا يمكن أن تفشل، عاجلا أم آجلا، في مواجهة عوائق يتعذر قهرها. والوسيلة الوحيدة لمنع شعور تأنيب الضمير هذا هو اللجوء إلى شكل من أشكال الجنون، مع أنه، لو كان إنسان قادر بما يكفي، فيمكن له أن يسجن أو يعدم أولئك الذين يبينون له هذه الحقيقة. إن القمع السياسي، والقمع المأخوذ في معنى التحليل النفسي يعتبران هكذا من الملموس. وليس هناك سعادة خالصة هناك حيث يأخذ القمع المتعلق بالتحليل النفسي، بشكل أو بآخر، مكانة. [هكذا] فإن إرادة الإقتدار، في حدود معقولة، يمكن أن تساهم بشكل كبير في السعادة؛ ولكن عندما تؤخذ كهدف وحيد للحياة، فهي تؤدي إلى الهلاك المعنوي وإن لم يكن فإلى الهلاك الخارجي.

إن الأسباب النفسية لليأس، كما يعلم الجميع، متعددة ومتنوعة. ولكنها كلها تمثل عاملا مشتركا. وهناك نوع شائع للرجل التعيس وهو الذي كان قد حرم في شبابه من إشباع عادي، إلى أن وصل أن أجلّ هذا الإشباع أكثر من أي آخر؛ فقد أعطى هكذا لحياته وجهة ذات طرف واحد وأكد بإسراف على التحقيق بدل التأكيد على النشاطات التي تتعلق بها مجددا. يوجد، في كل مرة، تطور مدفوع أكثر، وهو شائع بكثرة في أيامنا. يمكن أن يحس رجل نفسه ممتعضا بشكل عميق بأنه لا يبحث عن أي إشباع ولكنه يرغب فقط بأن يتسلى وينسى. فسيصبح إذن مولعا باللذة، مما يتوصل إلى القول بأنه يجعل الحياة مطوقة بتحوله حيا بنسبة أقل. إن الثمالة، مثلا، إنتحار وقتي: فالسعادة التي تجلبها سالبة بشكل محض، فهي إنقطاع وقتي عن الحزن. يعتقد النرجسي والمصاب بجنون العظمة أن السعادة ممكنة، بينما لأجل الوصول يمكن لهما إستعمال الوسائل السيئة؛ إلا أن الرجل الذي يبحث عن التسمم، بكل أشكاله، فقدْ فَقَدَ كل أمل ما عدا الأمل في النسيان. بهذه الحال، فإن أول شيء للقيام به هو إقناعه بأن السعادة مرغوب فيها.

إن البشر التعساء، كما البشر الذين ينامون بشكل سيء، يتباهون دائما بحالتهم. ربما أن فخرهم ذلك هو [عينه] فخر الثعلب الذي فقد ذيله؛ وإذا كان الأمر هكذا، فإن العقّار يتمثل في أن نبيّن لهم كيف يمكن أن ينمو لهم ذيل آخر. أعتقد أن قليلا جدا من البشر يرفضون السعادة عن سبق إصرار إذا كانوا يرون وسيلة ليكونوا سعداء. ولا أنفي أن مثل هؤلاء البشر يمكن أن يوجدوا ولكنهم ليسوا كثيرين بما يكفي ليؤخذوا بعين الإعتبار. [لذلك] سأفترض إذن أن القارئ يُؤْثِرُ السعادة. وليس بإستطاعتي أن أعرف إذا ما كنت أقدر مساعدته على تحقيق هذه الرغبة، ولكن بكل الأحوال، لن تسبب له المحاولة أيّ أذى.