مجلة حكمة
الفلسفة والفكاهة الفكاهة

الفلسفة والفكاهة: فلسفة الفكاهة وفكاهة الفلسفة

الكاتبعبد الوهاب البراهمي

  “ما الذي يمنع عن قولنا الحقيقة ضاحكين”.

مونتاني (محاولات)

   يبدو الأمر في ظاهره ملفتا للانتباه بل مفارقيا، أن نتحدّث عن علاقة ممكنة بين الفلسفة والفكاهة. فهل من قول أكثر جدية من القول الفلسفي، وهو القول النقدي بامتياز؟! بل إنّ الفلسفة على حدّ تعبير مارلو بونتي أكثر من نقدية، إنّها “تراجيدية أكثر من كونها جدية” إذ كثيرا ما تحتاج إلى التضحية بالذات، بل مواجهة الموت أحيانا كثيرة. يقول روزنواغ متحدثا عن الحقائق الفلسفية والعلمية ومغامرة استكشافها:” نحن نبدأ بهذه الحقائق الأقلّ أهميّة…حتّى نصل إلى هذه الحقائق التي تكلّفنا بعدُ شيئا ما، والنفاذ إلى الحقائق التي لا يمكن للإنسان أن يثبتها إلاّ بالتضحية بحياته، وأخيرا التوصلّ إلى هذه الحقائق التي يتطلب التحقّق منها، أن يخاطر الجميع بحياتهم”. وبالفعل، فالفكاهة لم تكن يوما ” فسحة ” للفلاسفة، كما يقال. فلا يمكن مثلا أن نظفر من قراءة ” نقد العقل المحض” لكانط بأي شكل من أشكال الفكاهة تحملنا على الضحك في أيّ صفحة من صفحاته هذا إن لم يصبنا شيء من الإجهاد في قراءته وربّما شيء من “الملل” خاصة عند من نلتمس تعلّم الفلسفة مبتدئين “بكانط”. من هنا يكون سؤالنا: على أيّ وجه إذن يمكن أن تقوم العلاقة بين الفلسفة قولا جديّا بل ربّما تراجيديّا وبين الفكاهة أو الهزل؟ هل هي علاقة تنافر أم تضايف؟ هل يمكن أن يكون الفيلسوف في الآن نفسه رجل الفكر التحليلي والتأملي ورجل المزاح والفكاهة؟ كيف يمكن “للحكيم” أن يكون “فكاهيا”؟

    في الواقع، وبخلاف الظاهر، فإنّ للفلسفة علاقة وثيقة بالفكاهة، لا من حيث هي فحسب موضوعا لا يخرج عن دائرة ” الضحك ” و” الإضحاك” في علاقة بـ”السخف” أو ” الهزل “الخ، ( وقد كتب شوبنهاور وبرجسون وفرويد ” في ذلك ما يسمح بالقول بأنّ الفلسفة لم تُهْمِل مسألة ” الفكاهة” أبدا ولكن تناولتها كموضوع ضمن مقاربة نظرية، “نقدية” وبالتالي ” جدية” من دون شكّ)، بل بالتحديد من جهة حضور عنصر ” الفكاهة ” في الفعل الفلسفي أو بالأحرى من جهة ” الفكاهة الفلسفية” لا من جهة ” الفكاهة عند الفلاسفة فحسب. هنا علينا أن نلتمس العلاقة أو إمكانها في منظور يوسّع دلالة الفلسفة، بوصفها لا فكرا أو تفكيرا وتأملا فحسب شأنه الحقيقة أو المعنى، بل بوصفها رؤية للعالم و أسلوب حياة، وموقفا أو كيفيّة وجود. حينها سنجد خاصّة أنّ الموقف الفلسفي لا يخلو من عنصر الفكاهة ( عنصرا ظل متخفيّا في الخطاب الفلسفي لهيمنة صورة الفيلسوف الجدي الرصين )، موقفا يحمل على التفكير بالتأكيد، ولكنّه يثير الضحك أيضا. فبخلاف ما يراه هيجل مثلا في شأن “الكلبية” من ” أنّها مجرّد طرائف ونكت، تافهة ولا تستحق أي عناء”، قد يكون فيها “ظرف” وثراء المعنى، بل لعلّها تثير ” الضحك”. فحينما سمع مثلا “ديوجين ” تعريف أفلاطون للإنسان بكونه “حيوانا ذا قدمين وبلا ريش”، ” فزجّ بديكٍ مريّش بين قدمي أفلاطون وانصرف مستهزئا”. وغير ذلك من المواقف التي تكشف عن بعد ” هزلي” حينما ” تُمَسْرَح” الأفكار وتظهر الفلسفة لا في أسلوب تفكير فحسب، أيضا ” أسلوب حياة”. ولكن ماذا نعني بالفكاهة هنا؟

   يقدّم ماتيو كوستلر تعريفا للفكاهة موجز ومفيد إذ يقول: ” يمكننا أن نعرّف الفكاهة، في مختلف أشكالها الرائعة، بوصفها نمطا من الإثارة يميل إلى إحداث ردّ فعل هو الضحك”.(1) غير أن ربط الفكاهة بالضحك هنا لا يعني أنّ الفكاهة موقف هزلي بالضرورة، فقد قال هربرتيس تيللمباخ :” علينا أن نحتفظ في أذهاننا بأنّ الفكاهة تقوم على جديّة عميقة”. يقول أندري كونت سبونفيل معرفا الفكاهة في معجمه الفلسفي :” هي شكل من الكوميديا، ولكنّها تضحكنا خاصّة مّما ليس ليس مثيرا للضحك”. فالمحكوم عليه بالإعدام مثلا والذي يذكره فرويد، يقول وهو يقاد يوم الاثنين إلى المقصلة :” هذه بداية أسبوع جيدة!”. فضلا عن هذا فإنّ الفكاهة، وفي حال ما يسمّى” الفكاهة السوداء”( كنوع من الفكاهة)، تقوم على مزاج سوداوي، على الكآبة مع ما يرافقها من اليأس والقلق والحنين. يقول هيبرتيس تللينباخ :” الفكاهة هي تأدّب اليأس” (2). الأمر الذي يجعل الفكاهة إذ هي إثارة للضحك، موقفا ّجدّيا” يحمل على “التفكير” بقدر ما يحمل على الضحك. بل لعلّ الضحك في الفكاهة أمرا ليس مقصودا لذاته بقدر ما هو نتيجة لا لحالة وجدانية بل لموقف من الوجود” حينما نترك الطفولي ينعكس في الوعي الشامل” كما يقول كيرجارد. لقد أدركت الفلسفة هذه ” الجدية ” في الفكاهة وانتبهت إلى العمق الذي تقوم عليه. الأمر الذي يجعل الفكاهة لا تنفصل عنها، بل لعلّها كما يرى كيركجارد ” شرط إمكان” للفلسفة ” مثلما هو شأن “القلق بالنسبة إلى الخطيئة”. غير أنّه علينا أن نميّز مفهوميا بين الفكاهة والهزل أو المزاح والسخرية معتمدين في ذلك على ما قاله شوبهاور :” إذا كان الهزل أو المزاح متخفيا وراء الجديّ، فنحن إزاء السخرية. ونقيض السخرية سيكون إذن الجديّ متخفيا وراء الهزل. وهذا ما نسمّيه الفكاهة.(3) “. ويميّز سبونفيل في معجمه الفلسفي بين الفكاهة والسخرية أيضا بالإنعكاسية والكونية. “فالساخر يضحك من الآخرين. أما الفكاهي فمن نفسه ومن كلّ شيء. إنّه يدخل نفسه في الضحك الذي يثيره. لأجل ذلك يمتّعنا، باستبعاده الأنا. السخرية تكره، وتقصي وتتهم؛ بينما الفكاهة تصفح أو تتفهّم. السخرية جارحة، بينما الفكاهة تعالج أو تلطّف.” علينا أن نحتفظ في الذهن إذن بأن الفكاهة وخلافا للهزل ” تقوم على عمق جدّي” كما يقول لنا هبرتيس تيلينباخ (4).

فلسفة الفكاهة

  الفكاهة كما قيل هي إذن “الجدي متخفيا وراء الهزل”. هذا ما نفهمه حينما نقرأ ما يقوله الفلاسفة عن الفكاهة. فكيرجارد مثلا، وهو فيلسوف الوجودية يرى في الفكاهة فعلا، يعبر عن “جدّية” من حيث أنّه لا يطلب الضحك بقدر ما ينشد ” التقاء بالمطلق”، فالفكاهة تكشف عن النهائي والمحدودية الجذرية للإنساني، وتفترض المعاناة ولكنها تجد المتعة في هذا ” الافتراض”. ذلك أن الفكاهي” يفهم أن المعاناة جزء من الوجود” غير أنّه ” إذ لا يفهم معنى الألم يعبّر عنه بشكل من المزاح”. وذلك يعني حسب كيرجارد بأنّ” الفكاهي يدرك الدلالة العميقة للشيء” لكنّه ” يتبادر إلى ذهنه في نفس اللحظة أنّه من غير الضروري محاولة تقديم تفسير ” وفي هذا بالذات يكمن المزاح “. إن” الفكاهة إذن كما يقول كيركجارد هي موقف طفولي ” يترك الطفولي ينعكس في الوعي الشامل فيملكه “. غير أنّ هذا الموقف الطفولي متأصّل في الوجود، يدرك عمقه وما فيه من ألم، ولكن يأخذه مأخذ الهزل. ولأنّه يفترض المعاناة بل ويستمتع بها، فهو باعث على التفكير، محفّز إليه، وهو بهذا يمثّل ” شرطا للفلسفة مثلما هو شأن القلق بالنسبة إلى الخطيئة” كما يقول كيركجارد. ثمّ إنّ الفكاهي في التقاءه بالمطلق يكون غير بعيد عن الديني أيضا، على حافته، إذ يمتنع عن إقامة علاقة عاطفية مع المطلق، بل يحوّل الموقف الوجودي إلى موقف هزلي. هنا يكون الفكاهي جديّا بل لعلّه ” تراجيدي ” يتخفّى وراء ” الضحك” كتعبيرة لإنساني ” يتألّم ” ولكنّه يأبى أن يتملّكه الألم. يقول نيتشه:” أوجد الإنسان الضحك من فرط ما يجد من الألم”.لكن علينا أن نفهم أنّ الألم عند نيتشه هو ” تألّم الذات من اجل الحياة وهو الاغتناء في حدّ ذاته، الترفّع بالذات وهو الاستمتاع بالذات”، متعة تعبّر عنها الذات في ” الضحك” سلوكا يترجم ” حالة الفرح” بما هو شعور ممزوج بالألم ” وهو تحقّق للذّة التي تستيقظ من الألم”. غير أنّ الفكاهة ليست موقفا وجوديا ولا ” حالة وجدانية” فحسب، بل “رؤية للعالم”. يقول فيجنشتين” عن الفكاهة بأنّها ” ليست حالة وجدانية بل رؤية للعالم. ولهذا، إذا كان لنا الحقّ بأن نقول بأنّ الفكاهة قد دمّرت في ألمانيا النازية، فذاك لا يعني أنها لم تكن فيها ” بمزاج طيب” ولكن شيئا أكثر عمقا وأهمية”. (5) وبالرغم من أن الإغريق لم يعرفوا مفهوم ” الفكاهة”، فإنّهم كانوا يتحدثون عن المزاح plaisanterie والضحك وكانوا يعتبرونه سلطة وشكلا من أشكال التعبير عن الواقع. يعتبر أرسطو على سبيل المثال، وهو الذي ينظر إليه فيلسوفا جديّا، أنّ الضحك أو الهزل قد ” يكون شيئا حسنا لو ظّل جديرا بإنسان حرّ وعقل مثقف”. ذلك أنّه لابد من إخضاع التسلية عموما لمبدأ الملائمة والحياء، فلا يجب أن تتحوّل إلى سخرية من كل شيء، على طريقة ” الكلبيين ” أمثال ديوجان لايرس. فللضحك حدود كما للهزل حدود، إيتيقية وسياسية. فالضحك والهزل أسلحة لا يجب استخدامها كيفما اتفق. فهما أداتين لتدمير “جديّة” الخصم. والهزل أداة ناجعة في لفت انتباه إلى الأحداث أو التقليل من أهمّيتها. يقول أرسطو:” فيما يخصّ الهزل، فباعتباره ما فيه من بعض النفع في المحاكمة وانّه يجب، كما يقول جورجياس، هدم جدّية الخصوم بالضحك والضحك بالجدّيّ”. (6) فالضحك لدى أرسطو قوّة والمزاح سلطة. ولأجل هذا يرى أرسطو في الضحك والمزاح أو الهزل ولم لا السخرية قدرة على تهذيب سلوك الفرد ومراقبته ومنعه، وبالتالي على توجيهه أخلاقيا. وفي الجملة، فإنّ الفلاسفة قد أولوا الفكاهة والضحك وحتى السخرية اهتماما كبيرا بقدر اهتمامهم بالألم واليأس وغير هما من المشاعر والانفعالات وجملة النشاطات الإنسانية الجدية منها كالعمل والهزلية كاللعب أو اللهو…وحتّى إن لم تكن الفكاهة ولا الضحك موضوعا مركزيّا في الفلسفة، فإنّ الاهتمام بهما مردّه اتصالهما بالإنسان، هذا الكائن “الضاحك” الذي إليه تردّ جميل الأسئلة الفلسفية بتعبير كانط. لأجل هذا كتب كثير من الفلاسفة ممّن عرف عنه نزعته التشاؤمية أمثال ” شوبنهاور” أو “جديته المفرطة ” برجسون وكتابه ” عن ” الضحك” ونيتشه ونزعته ” التراجيدية ” وحتى ليبنتز وباركلي ومونتسكيو في رسائله الخ جميعهم تحدّثواعن الضحك والفكاهة والسخرية والهزل ولم يغفلوا عنها وإن لم يكن شغلهم الشاغل. ولكن إذا سلمنا “بفلسفة للفكاهة ” في هذا المعنى، فهل تقتصر صلة الفلسفة بالفكاهة بوصفها موضوعا يندرج ضمن مبحث الضحك عموما؟ هل يمكن أن نتحدث عن “فكاهة فلسفية” ؟ بأي معنى يمكن أن يكون الفيلسوف على نحو ما “فكاهيا”؟

  “فكاهة ” الفلسفة

  ربّما يقال بأنّه لا يمكن أن نلتمس أيّ وجه من وجوه الفكاهة في التفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا عقلانيا نقديا يتوسّل بمنهج دقيق وصارم ويتحرّى ” المفهوم” تحديدا دقيقا، ويحاجج ويستنبط ” المشكلات”؛ أي قولا في منتهى الجدية بل لعلّه ” تراجيديا” بمعنى من المعاني، حينما “يصارع ” الحمق والرأي الساذج، ويكافح من أجل ” الفكرة” في وضوحها وتميّزها ونقاءها وجلاءها وعمقها الخ. وإن بدا هذا الفكر الفلسفي أحيانا كثيرة ودون رغبة من صاحبه، “مثيرا”، في بعده ” التراجيديّ” بالذات مثيرا” للضحك”، في نزعته ” الدونكيشوتية”(ولكلّ فيلسوف جانبه الدونكيشوتي)، التي يتجلى فيها قولا “مميزا”لا يركن لغيره بل لنفسه منقطعا إليها في عناد وصلف. مثل ما يبدو عليه نيتشه ” في بعض ما يكتب، “كوميديا” بل و”مثيرا للسخرية”ربّما في جانبه النقدي الجذريّ خاصة بل حتى في “عدميته”، دون كيشوت يصارع طواحين الهواء: حينما يعتقد ( مثل دون كيشوت) بأنّه قادر على “تغيير جذري للعالم والمؤسسات والتاريخ والحياة الإنسانية في أسسها” (7). هكذا كان نيتشه سنوات 1880 وخاصة سنوات 1881، سنة ” نقيض المسيح” و”هذا هو الإنسان”…وما طرح فيهما من أفكار جذرية حول قلب القيم وخطّ طريق للإنسان الأرقى والاعتقاد خاصة في القدرة على ذلك…وغير بعيد عن هذه ” الدنكوشوتية ” المثيرة للضحك” ربّما، تبدو” أحلام روسوّ وآماله ” ونوبات جنون العظمة التي أصابته والتي تعبّر عن بطل مستحيل ومضحك أحيانا. فقد اعتقد روسّو أنّه محور العالم وبداية تاريخ جديد… ولكن، بعيدا عن الصورة التي يظهر عليها الفيلسوف، دون قصد ” فكاهيا” في معنى ” مثيرا للضحك”، نجد في الموقف الفلسفي ذاته ” شيئا من الفكاهة” الخاصّة طبعا، حينما يتعلق الأمر بالفلسفة كتجربة “حياة” أو “كفن للعيش “، سنعثر على وجه من وجوه ” الفكاهة” في القول أو الفعل، في سلوك الفيلسوف، في مواقف الفلاسفة في وضعيات معينة… شأن ما كان من “طاليس” الميلي وما فعله مع أهل بلده من تحيل جعله يصبح ثريا في وقت قصير أو ” ديوجين” وكلبيته التي تتجلى في موقفه من ” أفلاطون” كما أسلفنا. أو ما كان من سقراط أول فيلسوف”فكاهي “في تاريخ الفلسفة، وهو يحاور السفسطائيين بأسلوب ساخر كما يشهد بذلك “ألسيبياد” الذي جاء فيه:” اسمع، أنت وقح ومستهزئ. ماذا؟ لا توافقني الرأي؟ بإمكاني أن أقدّ م شهودا” (8). وهذا مثال على ” السخرة السقراطية :” يكشف ” أنتيستان Antisthène عن ذيل معطفه ممزقا فيقول سقراط:” إني أرى غرورك من خلال الثقب”. ويتداول الناس غالبا حكايات سقراط مع زوجته مثالا آخر على “فكاهته”. فقد عمدت زوجته اقزانتيب Xanthipe يوما، بعد أن أشبعته سبّا، إلى صبّ الماء على رأسه، فقال ساخرا:” لم أتوقع أن يجلب الرعد الكثير مطرا”. (9). وحتى إذا ما بدا سقراط جديا، فإنّه يخفي وراء جديته بعدا هزليا فكاهيا ساخرا، خاصّة حينما يلعب دور الجاهل أو الساذج أو السفسطائي مثلما هو الحال حينما يتوجه إلى كاليكلاس بالقول:” من القبيح فعلا، أن يجد المرء نفسه في وضع يبدو أنّه وضعنا الآن، ثم القيام بتفاخر صبياني كما لو كنّا أناسا جديّين، نحن الذين لم يكن أبدا نفس الرأي حول نفس المسائل، بينما يتعلّق الأمر بمسائل جوهرية”.( 10) وهذا مثال آخر على فكاهته ” الجدية” : ” حينما أخبروه بأنّ أثينيًّا قد حكم عليه بالإعدام ردّ بأنّ الطبيعة قد صنعت لهم أكثر من ذلك.”.(11). غير أن سقراط إذ يكون ساخرا بقوة وبعنف أحيانا، فإنّه يعبّر بفكاهته عن ” نبل وأدب ” حينما يردّ مثلا، وقد قيل له بأن فلانا قد سبّك:” لا. إنّ ما يقول لا يتعلّق بي ” ( نفس المرجع السابق) متجنبا بهذا الردّ نعت الرجل بأنه كاذب. ويذكر المؤرخون بأنّ أفلاطون قد سعى إلى عدم إدماج المواقف والأقوال هزلية لسقراط معتبرا إياها غير ذات أهمية، مبتعدا عن صورة سقراط الفعلي، التاريخي كشخص ” كوميدي” هزلي، فيلسوف “فكاهي “بامتياز وهي الصورة التي الذي يكشفها ” اكسينوفون ” في ” مأدبته” في هذا النص مثلا:” وآنت يا أنتيتان، هل أنت وحدك غير محبّ؟ فيردّ هذا الأخير :” بحق الآلهة، انأ عاشق ملهوف، وبك أنت.” فيقول سقراط، مراوغا بسخرية :” دعني وشأني الآن، أنا مشغول كما ترى جيدا”. فيصرخ أنتيتان :” آه ! من الواضح، تتلاعب بسحرك الخاص، تلك هي لعبتك دوما. ففي محادثاتك معي : أحيانا تتدعي أنه شيطانك وأحيانا أخرى تزعم أنك مشغول بشيء آخر.- يقول سقراط:” بحق الآلهة، أنتيتان، احرص فقط على عدم محاربتي. ففيما يتبقى سأحتمل مزاحك الثقيل وأستمر في تحمّله كصديق. ولكن لنلقي ستارا على حبّك بما انّه يتجه لا إلى روحي بل إلى جمالي”.( 12) ومن المعروف أنّ سقراط كان قبيح الوجه. وقد كان” ديوجان” غير مختلف كثيرا عن سقراط في ” كوميديته” وإن تميّز ” بكلبيته” ( ويقال أن أفلاطون هو أول من نعته بالكلب) التي تتجلى في ” مواقف” هزلية نقدية ساخرة تثير الضجك ويعشقها الأثينيون. فقد جاء عنه أنّ شخصا مخصياّ كتب على جدار منزله:” لايدخلنّ هنا أي شخص. ولكن ديوجين تساؤل، من أين سيدخل ربّ البيت؟” وقد ردّ أيضا على شخص سبّه في غيابه بأنه :” يمكنه أيضا أن يضربه مادام غائبا”. والحق أنّ الكلبيون عموما كأرستيبوسAristippe وغيره قد عرفوا بمواقفهم الهزلية وميلهم إلى المزاح، مزاحا جديا يبعث برسائل عميقة المعنى. غير أنه من غير المفيد أن يقتصر حديثنا عنهم فيما يتعلق بالـ”بالفكاهة الفلسفية “، التي لازمت الفلسفة في تاريخها الطويل إلى يوم الناس هذا. ولعلّنا نعرف أنّ أشهر نكتة فلسفية ظهرت في القرون الوسطى لدى الفيلسوف جان بيريدان، ونقصد بذلك ما عرف ” بحمار بيريدان” الذي كان شكّاكا، حينما تردّد في الحكم على شيئين قد وجدهما متعادلين في القيمة: العشب و الماء، فظل واقفا لا يتقدم إلى أحدهما حتّى مات لتردّده عطشا. يتعلق الأمر طبعا بأمثولة تستخدم حجّة في مسألة ” الاختيار الحر”. وهذا ” مونتاني ” يقول في ” المحاولات” والتي هي عبارة عن ” مشهد ممتع للفكر لا يخلو من الفكاهة :” ما الذي يمنع عن قولنا الحقيقة ضحكا”. لقد كان لمونتاني حسّ الفكاهة حتى في حديثه عن الأخلاق. فهو ينقد العدوانية والغرور ويطرح ” الضحك” دواء لهما :” يمكن أن نقول بأن الترياق الخاص للغرور هو الضحك وأن النقيصة الأساسية المضحكة هي الغرور”. ولعلّه في هذا لا يختلف عن مذهب ” الأخلاقويين” أمثال لابريارLabruyère في كتابه ” الطبائع”، في سخريته من مظاهر الحياة اليومية ” السلوكات” الفاسدة في عصره بأسلوب لا يخلو من حسّ الفكاهة ومن التحوّط بانتهاج أسلوب ” التعميم ” وعدم الإشارة إلى حالات بعينها. فهو القائل مثلا في كتاب ” الطبائع” :” يوجد بعض الناس الذين يرغبون في شيء ما بلهفة وتصميم ولخوفهم من عدم الحصول عليه لا ينسون شيئا مما يجب فعله لعدم الحصول عليه”. وكثيرا ما يحمّل لابريار أفكاره الأخلاقية على لسان شخصيات فكاهية ” مثل ” آرياس” الثرثار والذي من خلاله يسخر من نموذج سلوك الثرثرة”. كل ذلك بأسلوب ساخر ماهر لا في السرد فحسب بل ذي لياقة كما يقول :” ” كي نمزح برشاقة ونحكي بمرح عن أقل المواضيع أهمية، لابدّ من كثير من الأدب والياقة بل وحتى كثير من النفع: إنه الخَلْقُ أكثر منه الاجترار وفعل شيء بلا قيمة”. ويجدر بنا في هذا الباب الإشارة إلى “جان دي لافونتين ” وحكاياته على لسان الحيوان ” وما تكشفه من حسّ فكاهي كامن في “أسلوب رمزي ” إيحائي أو تمثيلي يطرح مواقف ” سخرية ” هادفة مبطنة في ” حكايات ” لطيفة حاملة ” لعبر ” و مَغَاِزيَ، يقصد بها ” إصلاح أحوال البشر” بتنبيههم إلى ” مواطن ” الضعف ” والقصور والزلل الخ. يقول لافونتين عن هذه ” الحكايات:” ليست حقيقة الحكايات في ظاهرها.فأبسط حيوان يحتلّ فيها منزلة السيد. والعبرة الصريحة تجلب الملل أما الحكاية فتمرّر معها النصيحة ” (13) إنها تقدّم النصيحة بأسلوب هزلي فكاهي غالبا ما يثير الخيال كما الوجدان ويقرن بالتالي ” متعة الحَكْيِ” أو القصّ بجدية ” العبرة والنصح”. مثال ذلك حكاية ” الغراب والثعلب” أو” الضفدعة والثور “وغيرهما من الحكايات الطريفة الظريفة التي عرفها الناس. و قد نقول مثل ذلك فيما يتعلّق بحكايات “فولتير” عن ” كانديد” وغيرها وربما أيضا فيما يتعلّق بـديدرو و كثير من الفلاسفة المحدثين، أمثال “ديكارت”، الذي في جدّيته “قد يبدو ” فكاهيا” أحيانا كثيرة ” وهو يتحدّث عن ” شيطانه الماكر” مثلا وفكاهيا أكثر في رسائله..( مع إليزابيت خاصة..) وليبنتز هو الآخر لا يخلو حديثه الفلسفي برغم عمقه الميتافيزيقي من شيء من ” الفكاهة” الخاصّة، في “رهانه الوجودي” المعروف مثلا، منظورا إليه كنحو من ” الحيلة المنطقية ” الطريفة.. وغير ذلك كثير من الأمثلة التي تكشف عن الفلاسفة في صلب اشتغالهم على قضايا الإنسانية الأساسية والجوهرية، لا يعزفون عن الفكاهة والمزاح. بل إنّ من عرف منهم بالجدية و” صرامة التفكير ” ( أمثال أرسطو وأفلاطون وخاصة كانط…)، ومن عرف منهم بالميل إلى التشاؤم والعبثية ونزعة اللامعقول ( أمثال شوبنهاور ونيتشه و سيوران وسارتر…) لم يغفل عن هذا الأمر ولم يفته أن يقول فيه رأيا أو يكتب عنه مؤلفا برمّته ويخصّه بالتحليل ويسوق في بابه أمثلة، شأن “شوبنهاور وما كتبه عن السخرية والمزاح والفكاهة، في كتابه ” العالم بما هو إرادة وتمثّل ” وبرجسون الذي ألف عن الضحك كتابا بذات العنوان”الضحك”… ولعلّ في هذا دليل على الزعم بأن للفلسفة قولها الخاص عن الفكاهة وأنّ لها ” فكاهتها” الخاصة طبعا، وإن تخفت أحيانا كثيرة كما أسلفنا القول نظرا لهيمنة صورة الفيلسوف الجدّي الصارم في التفكير والقول. ولذا نلتمس هذه فكاهة في ثنايا خطابها في بعض الأسطر أحيانا في إشارات وفي صفحات وفي كتب أحيانا أخرى ولم لا في المواقف الحياتية للفيلسوف. نلتمس هذه الفكاهة من جهة المضمون كما من جهة أسلوب القول، وأسلوب الحياة، في القول الساخر وفي المثال الغريب والطريف وفي المبالغة المثيرة ” للضحك” أحيانا، بل في النزعة “الدونكيشوتية ” التي يحملها كل فيلسوف في زعمه أنّه فريد زمانه” وأنه وحده ” من فهم ” العالم ومن ” يملك ” معرفة بطريق الخلاص…. أفليس هذا مثيرا” للضحك”، والحال أن الحقيقة ربّما كانت ” مجرد افتراض” أو ” فكرة ناظمة” اصطنعناها لأجل أن نبني إمكانا للفهم ؟ !! ولكن ربّما لأنّ الفيلسوف شأنه مع ” الفكاهة” شأن الإنسان عموما يميل إلى الضحك والمزاح ميله إلى الحياة، حتى وإن كان في حضرة الموت فما بالك وهو يواجه الحمق والجهل والرأي شأن الفيلسوف؟ !!! يقول كيرجارد عن المزاح وقد التصق لديه بالمطلق بل بالنهاية. ” اشتعلت النيران يوما في كواليس مسرح.فجاء المهرّج ينبّه المتفرجين إلى ذلك. فظنّوا أنّه يمزح وصفّقوا له، فكرّر تنبيهه فازداد التصفيق حدّة. أعتقد أنه هكذا سيفنى العالم في غبطة عامّة لأناس روحانيين هم على يقين بأنّ الأمر يتعلّق بمزحة “( 14).


هوامش:

  • 1ماتيو كوستلر -جانيس، باريس – كالمان ليفي 1979 ص 120.
  • 2- هبرتيس تيلينباخ” الواقع، الكوميدي والفكاهة” باريس ايكونوميكا 1981 ص 16
  • 3- شوبنهاور ” العالم كإرادة وتمثّل” باريس 2004 ص 781
  • 4- هبرتيس تيلينباخ “الواقع، الكوميدي والفكاهة ” باريس 1981 ص 16.
  • 5- فيدجنشتين -” تراكتاتوس 1984.
  • 6- أرسطو ” الأخلاق إلى نيقاميقوس”
  • 7-جيل بورك – أطروحة دوكتوراه بعناون :” الفكاهة والفلسفة ” جامعة لافال كندا 2008
  • 8- أفلاطون، المأدبة – طبعة فلاماريون ص 211 سنة 1987.
  • 9- أفلاطون – المأدبة سلسلة الجيب ص 115.
  • 10- أفلاطون جورجياس – فلاماريون 1987 ص 310
  • 11- من كتاب عن ديوجان لايرس: حياته… الجزء 1 فلاماريون 1967 ص 114
  • 12- كسينوفون – فلاماريون 1994 ص 96.
  • 13-حكايات لافونتين-
  • 14- كيركجارد ” ديابسالماتا Diapsalmata – باريس روبار لافون 1993ص 38