مجلة حكمة
العلاقات الدولية و الأخلاقيات

الأخلاقيات و العلاقات الدولية – جون ديوي / ترجمة: نورة العمرو، مراجعة: سيرين الحاج حسين


يجذب الوضع القائم بين الدول في علاقاتها مع بعضها البعض حتى أولئك الذين يفتقرون عادة للتعبير لدرجة القول بعدم وجود رابط بين الأخلاق و العلاقات الدولية . إن العنوان أيضًا عبارة عن إغراء للانغماس في هجوم عنيف على العلاقات الدولية الحالية باعتبارها غير أخلاقية بطبيعتها. يمكن للمرء أن يقدم حجة يفترض بأنها تحكم بالقوة والاحتيال والمؤامرات السرية، وعندما تتعارض الاعتبارات الأخلاقية مع الطموحات الوطنية والأفكار القومية ، يتم الرجوع لها، أو التساؤل حول الأخلاق وانحيازاتها، وسواءً كان الأمر كذلك أم لا، فيمكن للمرء أن يطالب ببعض المثالية بما يجب أن يكون الحال عليه، ويشير إلى التناقضات الموجودة بين هذه المثالية لما ينبغي للحال أن يكون، وما عليه الحال في الواقع. ينتهي الأخير بشكل طبيعي في الموعظة، وفي نداء إلى الوعي الأخلاقي للبشرية.

لا تُقدّم هذه الاعتبارات من أجل تطويرها، ولكن لتبيين الخلط الاستثنائي الموجود في الأفكار الأخلاقية الحالية التي تنعكس في أخلاقيات العلاقات الدولية . أنا لا أنوي مناقشة العلاقات الدولية من وجهة النظر الأخلاقية، بل مناقشة الحالة الغامضة والشرط الشبه فوضوي للمفاهيم والمعتقدات الأخلاقية، حيث أن هذا الشرط يؤثر على الوضع الدولي. لماذا لا يكون لأخلاقيات الأشخاص تأثير يذكر في تنظيم موقف الأمم تجاه بعضها البعض؟ حتى أن أكثر الناس سخرية سيتردد بالتصريح عن تلك العادات، وعدم الخوض في المبادئ لمتوسط العلاقات المعتادة لرجل محترم وامرأة، والتي كانت متجسدة بشكل كاف في السيادة الحالية للكراهية والشك والخوف في السياسة الدولية. يبدو حقيقة أن أخلاق الإنسان مشلولة عندما يتعلق الأمر بالسلوك الدولي، حيث جُرِّد البشر وأصبحوا عاجزين عن طريق قوى أكبر تقف في طريقهم، بغض النظر عن الأخلاق التي تُستخدم في المسائل اليومية.

يمكن معالجة المشاكل التي تقترحها هذه الحالة من زاويتين. قد نسأل ما هي القوى الفعلية التي نمت بقوة بحيث تملّصت من التهذيب الأخلاقي؟ وما هي العوامل التي تمنع العادات والأفكار الأخلاقية من العمل؟ يفتح هذا مجالًا كبيرًا ومعقدًا جدًا للهجوم من خلال الجهود التعاونية للمؤرخين والصحافيين والمحامين والاقتصاديين. ومع ذلك، توجد مقاربة أقل طموحًا. قد يقوم المرء بالبحث من جانب المفاهيم والمذاهب الأخلاقية، ويسأل عما إذا كانت مؤهلة فكريا لتلبية احتياجات الوضع القائم. قد تكون بعض المشاكل متماسكة ومقبولة بشكل عام بسبب عدم وجود أفكار أخلاقية، ليس من الأفكار بالمعنى الغامض والمجرد، بل من الأفكار الملموسة بما فيه الكفاية لتكون فعالة. قد لا يكون هذا العامل الفكري في حد ذاته كبيرًا أو قويًا، ولكنه قد يمثّل عاملا لا غنى عنه -رغم صغره -لتقويم القوتين السياسية والاقتصادية الموضوعيتين، واللتان تتمتعان بقوة ونشاط أكثر.

في مثل هذا الوضع، توفر الظروف التاريخية التي وضعت بموجبها القوانين السارية على العلاقات الدولية نقطة انطلاق طبيعية. فلا يمكن أن يكون هناك شك في أن العمل الفكري للفيلسوف غروتيوس وخلفائه كان له تأثير عملي كبير. لم يكن الأمر أكاديميًا واحترافيًا، ولم يتم تصوره في المقام الأول لصالح مصالح وطموحات دولة معينة. لقد كان هؤلاء الرجال دوليين حقًا، وكان لهم تأثير كبير في إشباع الفتنة الدولية وإضفاء الطابع الأخلاقي على العلاقات الدولية الفعلية لفترة. انبثقت هذه المساهمات الأساسية من مصدر أخلاقي مشترك. فقد عبّروا جميعهم عن فكرة قوانين الطبيعة التي هي قوانين أخلاقية مشرّعة دوليا. لم يكن مفهوم قوانين الطبيعة كقوانين أخلاقية أساسية لكل سلوك بشري من كل نوع وفي جميع الأوقات والأماكن مفهومًا جديدًا. عمل الأخلاقيون الرومان على صياغة الفكرة فيما يتعلق بالتشريع الروماني، وقد كان مألوفًا لكل مدني وفقيه، وواقع لكل شخص متعلم. جعلت الكنيسة الكاثوليكية الفكرة أساسًا لمذهبها الأخلاقي العلماني بأكمله، ما يعني كل الالتزامات التي لا تنبثق من الوحي الإلهي، وتعبر هذه الالتزامات حتى عن طبيعة أعلى ونهائية للأشياء التي لا يمكن للعقل الإنساني فهمها بلا مساعدة. بنى الأخلاقيون البروتستانتيون واللاهوتيون تصوراتهم بالتساوي على هذا المفهوم، ووضعوا تركيزا أكبر على الضوء الباطني في ضمير الأفراد، والذي كشف وأقرّ بقوانين الطبيعة كمعيار متعالي للسلوك البشري.

وهكذا كان هناك مبدأ وطريقة من الأخلاق التي تم الاعتراف بها عالميا في جميع أنحاء المسيحية، وكان هناك أيضا اتفاق عام على محتويات مدونة الالتزامات التي يحددها المبدأ. يتمثل الإنجاز الكبير الذي حققه غروتيوس وأتباعه في دراسة العادات الدولية القائمة وانتقادها وتنظيمها بمساعدة من المعايير المقبولة عادة لقوانين الطبيعة. أشارت أكثر من سلطة حية في التشريع – مثل بولوك – إلى الخدمة التي يقدمها مفهوم قوانين الطبيعة في تطوير مختلف فروع القانون الخاصة والعامة وقوانين تطبيق العدالة. ويتفقون جميعًا على أن استخدام ذلك في صياغة القواعد التي تحكم السلوك الدولي كان أولى وأكثر وضوحًا. وأنا الآن لا أقصد التصريح بذلك بدون عوامل سريعة الاستجابة في الحالة السياسية والاقتصادية الفعلية، وقد طبقت مفهوم القوانين الطبيعية للعلاقات الدولية ذات التأثير الإنساني المعتدل، والذي يتبع لثمرة مدرسة غروتيوس. لكن القصد أن الاعتراف العام الذي لا يرقى إليه الشك لانتشار قانون الطبيعة باعتباره المعيار الأخلاقي الأعلى مكّن من التركيز على المشاعر والمثل الأخلاقية للمسيحية في مشاكل السلوك الدولي بحيث أن كل ما يمكن للأفكار الأخلاقية أن تنجزه في التهذيب العملي للسلوك الإنساني قد تم تحقيقه فعليًا.

خلال القرن التاسع عشر، أصبحت فكرة القانون الطبيعي في الأخلاق مشوهة ومهجورة خارج إطار الأخلاقيين الأرثوذكسيين من الكنيسة الكاثوليكية-إلى حد كبير-. ففي السنوات الأخيرة، كان هناك اعترافات متزايدة بأن كل ما يعنيه قانون الطبيعة من حيث المبدأ هو قانون أخلاقي يتم تطبيقه على النقد، وبناء القانون الإيجابي، والتشريعي، والقضائي.  تمت الإشارة إلى أنه إما يجب علينا التسليم لفكرة أن المبادئ الأخلاقية لها علاقة بالقوانين الإيجابية والدولية والبلدية، أو أن نعترف بفكرة القانون الطبيعي بشكل ما. ولكن يوجد فرق كبير بين الاعتراف بالمفهوم العام للقوانين الأخلاقية ضد العادات والقانون الإيجابي، وبين إلزام قانون الطبيعة بالشخصية والمحتوى الذي نسبه إليه علماء الأخلاق في القرن السابع عشر. بينما أكد غروتيوس أن قانون الطبيعة سيظل ملزما حتى لو لم يكن هناك وحي ولا إله كمشرّع وقاضٍ أعلى؛ لكن لا تزال الفكرة في الفكر الشعبي وفي ذهنه الفكرة تتمتع بخلفية لاهوتية وقوة دينية. لا تزال قوانين الطبيعة تمثل مقاصد الله وأوامره المتعلقة بالطرق التي تتحقق بها أهدافه كهيمنة حياة الإنسان. في تلك الفترة استبدل العلم العلماني وكذلك الأخلاق العلمانية الأسباب والقوانين “الثانوية” للعمل الأساسي والمباشر للرب.

لكن مع خروج عقول الأشخاص تدريجيا عن عادة ربط الأشياء العلمانية بالمسائل اللاهوتية والدينية – الأساسية أو الثانوية – خفّت السلطة الواسعة للجمعيات الدينية وعقوبات قانون الطبيعة تدريجيا. ومن بين البروتستانتيين خرج معظم الأشخاص عن عادة ربط العامل الديني في الأخلاق بقوانين الطبيعة وإلى حد كبير بالقانون ككل، حتى بين أولئك الذين احتفظت الأفكار الدينية بقوتهم القديمة في الأخلاق. استُبدِلَ الحب الإلهي والرغبة في الإنسان بمفهوم الأوامر والنواهي الإلهية. وهكذا في العلاقات الدولية ، وكما هو الحال في أي مكان، ضعف مفهوم القاعدة الأخلاقية الشاملة والعالمية في شكل قوانين الطبيعة وتلاشى. حتى عندما يتم الاحتفاظ بها كما هو الحال في بعض النصوص، فقد كان ذلك في مراعاة الروتينية للتقاليد وليس كقوة فكرية حية.لكن اضمحلالها لم يرافقه أي تطوير لأي مبدأ أخلاقي آخر مساواة بالجميع والقبول الحالي على نطاق واسع. وبدلا من ذلك لدينا العديد من العقائد الأخلاقية التي قد نعارض بعضها ولم يتمسك أي منها بأي ضمان كبير إلا من خلال مجموعة صغيرة من الأنصار المتحمسين.

بالإضافة إلى ذلك، وبغض النظر عن مسألة التعزيز الديني، فإن عوامل أخرى جعلت المفهوم القديم للقانون الطبيعي غير قانوني. لقد كان مرتبطًا دائمًا بفكرة العقل كقوة أو قدرة في الأشياء وأيضا كقوة وقدرة في العقول. تدل قوانين الطبيعة على أن بعض المبادئ العقلانية تتجسد فعليًا بطبيعة الإنسان في علاقته مع بقية الطبيعة. كانت طاعة قانون الطبيعة طاعةً لإملاء العقل. ولم يتم التفكير في السبب باعتباره مجرد امتلاك نفسي للعقل الفردي، بل كميثاق للوحدة في المجتمع. لقد كانت القوانين الفيزيائية عقلانية لكونها عالمية وتحكم ظواهر تجريبية خاصة. كما كان للحيوانات قوانين عقلانية مجسدة في تركيبتها وغرائزها التي اتبعتها دون أن تعرفها. وببساطة إن تفوق الإنسان يعني أن يستطيع إدراك المبادئ المنطقية التي تمثلها الأشياء المادية والحيوانات. أعتقد أنه لا يمكن اليوم لأي شخص تقدير القوة المضافة إلى مفهوم قوانين الطبيعة من خلال ارتباطهم الضمني بالعقل والأهداف والمصالح المشتركة التي تجمع الأشخاص في المجتمع.

ليس من الضروري أن نلاحظ التأثيرات المختلفة التي شوهت هذه الرابطة وأضعفتها وأضعفت أيضًا التأثير العملي للأفكار الأخلاقية في العادات والقانون. إن هذه الأفكار لا تتمتع بقوة حيوية كافية حتى بين أولئك الذين قد يمنحون ولاءً رسميًا لأفكار متشابهة وحتى إذا ما تم تقديمها بالفعل فإنها غير كافية. لقد قدّم العلم الحديث مفهوما مختلفا تماما عن قوانين الطبيعة حتى لرجل الشارع. شعرت عند كتابة هذه الصفحات أنني ملتزم تقريبًا باستخدام مصطلح “قانون الطبيعة” بدلا من عبارة “القانون الطبيعي” حيث تتفاوت الدلالات المألوفة لهذا المصطلح بشكل مختلف تمامًا. القانون الطبيعي في المفهوم الرائج فيزيائي وليس عقلاني، حيث يرتبط بالطاقات والحرارة والضوء والجاذبية والكهرباء، وليس بالعقلانية. وسيكون من الصعب اليوم الحصول على من يصغي في معظم الدوائر لفكرة أن العقل هو ما يربط الأشخاص في المجتمع. لقد عمل الاقتصاديون وعلماء الاجتماع والمؤرخون وعلماء النفس معًا لإزاحة  هذه الفكرة وجعلها تتلاشى وتبدو غير واقعية حتى عندما يختلفون بشكل جذري فيما بينهم بشأن طبيعة الارتباط الاجتماعي. إننا نواجه مشهدا من الحيرة والشك عندما نسأل ما الذي حل محل قانون الطبيعة القديم والمنطق في الطبيعة والمجتمع. أين هي الفكرة الأخلاقية القادرة على ممارسة القوة المتبلورة، والتركيز على القانون والعادات الإيجابية بمجرد تطبيق فكرة قوانين الطبيعة؟  قلة من يصرّ على أنه من الضروري إحياء المفهوم للحصول على قاعدة من النقد والجهد البناء الذي من شأنه أن يحيي الفكرة في شكلها القديم. وعند سؤالنا عما يجب أن نضع مكانه، فهم منقسمون. وهذا الانقسام بين المثقفين لن يكون له أي أهمية كبيرة لأنه لا يعكس الانقسام والحيرة وعدم اليقين في المفهوم الشائع.

كانت هناك محاولات عديدة لملء الفراغ الناشئ عن الاختفاء التدريجي لفكرة قوانين الطبيعة من المشهد العملي، وكانت بعض المحاولات ناجحة ليس فقط في تشكيل مدارس الفكر ولكن في التأثير العملي الملموس. يمكن أن نحدد ”النفعي“ من بين هذه المدارس لأجل اعتبارات خاصة أو لما يسمى بالفلسفة الهيغيلية. لا يمكن إدانة المدرسة النفعية واتهامها بعدم الدقة. ولا يمكن لأي طالب نزيه وغير متحيز للإصلاحات القانونية والسياسية والاجتماعية باللغة الإنجليزية في القرن الماضي أن يؤكد افتقارها للتأثير العملي الكبير. تجاهل التفاصيل الفنية التي ترتبط بشكل أساسي بعلم نفس المشاعر والملذات والآلام التي تجاوزتها إلى حد كبير مع تقدم البحث العقلي، قد نقول بأن طريقة أكبر نفع لأكبر عدد (حساب كل فرد كواحد بدون زيادة في التعداد) تعني بأن الرعاية الاجتماعية هي المعيار المشرَّع الأخير. وفيما يتعلق بالرفاهية العامة فهي المصدر الصحيح لجميع القواعد والالتزامات الأخلاقية. بدلا من النظر في القوانين السابقة،  يجب أن نبحث في النتائج الاجتماعية لإيجاد مبادئ تنتقد القوانين الإيجابية والعادات الحالية وخطط التشريعات والترتيبات الاجتماعية الجديدة.

ومع زيادة فعالية هذه الفكرة في الشؤون الداخلية، ما مدى احتمالية العثور على آثار لتطبيقها على الأخلاق الدولية؟ وحتى مع الاعتراف بأنها تقدم لنا رؤية سليمة للمعيار الأخلاقي ومصدر للقوانين الأخلاقية، فهل تم تطبيقها لتسيير الشؤون الدولية؟ باعتبارها معيار أخلاقي فإنها تضع سعادة مواطني الأراضي الأجنبية ومواطني أرض الوطن بنفس الدرجة. أين حدد هذا المبدأ موقعه من القانون الدولي؟ ماذا أنجز مثلًا في مجال تخفيف أهوال الحرب، إن لم يكن منعها. بالنسبة لمعظم الناس أعتقد أن فكرة تطبيقه العام على العلاقات الدولية تبدو مثالية كما في التطبيق الحرفي لتعاليم يسوع. يقال في بعض الأحيان أن المنفعية تزودنا بمبدأ أخلاقي متدنٍ إلى حد ما، ولكن في هذا الصدد على الأقل يبدو أنه مرتفع جدًا وأعلى بكثير من التحصيل الحالي.

وبشكل أكثر تحديدا، يمكن القول بأن المحاولات المختلفة لإثبات أن الحرب على وجه الخصوص والأساليب التي تعتمد على القوة والمكائد بشكل عام لا تجدي نفعًا، فيمكن أن تمثل أمثلة لمحاولة تطبيق النظرية النفعية في الشؤون الدولية. إن التظاهر القائل بأن الحرب لا تدفع الدول التي تفوز ربما يكون مقنعًا بما يكفي لمعظم الأشخاص منذ الحرب العالمية. لكن البرهنة والإقناع لا يبدو أن لها تأثير عملي كبير. والافتراض بأن الرجال تحكمها الاعتبارات المتعلقة بالاستفادة من الأرباح والخسائر عقلاني جدا بطريقة حصرية للغاية. وحتى النفعي العظيم جون ستيوارت ميل انتقد نسخة بنثاميت السابقة، إذ لم ينتقدها منتقدو النفعية فقط، وذلك لكونها تميل بشدة للمصالح المادية للإنسان دون إيلاء الاعتبار الكافي للدوافع التي يمكن أن توصف بأنها عاطفية ومثالية أو روحية “وفقا لتحيز المرء”. وقد يقال تقريبا إن وجود الحرب ذاته مع استعدادها للتضحية بالحياة والممتلكات من أجل قضية ما هو دليل على صحة النقد. الحرب غبية كما تريد ولكنها لا تستمر بسبب الحسابات الخاطئة للربح، رغم أن التقديرات الخاطئة للمصالح الوطنية قد تلعب أحيانًا دورًا في عقول رجال الدولة عند بدء الحرب.

يمكن العثور على أسباب الفشل العملي للنظرية النفعية في الأخلاق الدولية ضمن العقيدة نفسها. هذه النظرية ليست للمعيار الأخلاقي فقط ولكن للدوافع الأخلاقية أيضا، وأعني بذلك الاهتمام بالسعادة العامة. والآن أدرك النفعيون أنفسهم أنه بعد أن أظهر المعيار ما يجب القيام به فيبقى السؤال هو كيفية ربط النهاية المعنوية بالدوافع التي ستجعلها سائدة في السلوك. لقد عددوا  الدوافع التي يمكن الاعتماد عليها في التعاطف الطبيعي مع الآخرين وهي: التعليم في الطرق الاجتماعية للنظر في السلوك، المنفعة المتبادلة من خلال الترابط الصناعي والتبادل وتقسيم العمل، العقوبة الجنائية – الشخصية. من الواضح في ظل الظروف الحالية أن هذه الدوافع لديها فرصة ضئيلة للعمل في الشؤون الدولية. قد يكون مدى التعاطف مشروطًا بشكل ملموس بين البشر عن طريق الاتصال المعتاد والارتباط المألوف، فقد يعمل بقوة عندما توجد هذه الشروط، وقد يضعف عندما تكون هناك حواجز في اللغة والعادات والمهارات. يتحول التعاطف مع الزملاء المباشرين بسهولة إلى كراهية للدَّخِيل والغريب. يقتصر التعليم أيضًا على نطاق الاتصال والعلاقات، وفي الوقت الحالي نرى أن القوى التي تتعلم في ظل الوطنية القومية قوية، وتلك التي تتعلم في ظل مساواة واحترام وتقدير الأجانب ضعيفة. الدافع الاقتصادي يعمل في كلا الاتجاهين. فكما ذُكر، لا شك أن الحرب تنطوي على خسارة للأمة ككل، وبأن خطر الخسارة الناتجة عن الهزيمة أمر عظيم، ولكن هناك أيضًا مستفيدون مثل أولئك الذين يستعدون لتحقيق مكاسب لأنفسهم، وليس هناك ما يضمن أنهم لن يشغلوا أماكن القوة والتأثير. بغض النظر عن الاستغلال، فإن وجود تعريفة وقائية تُظهر مدى بعد الناس عن الاعتقاد بأن التبادل الحر هو بالضرورة ميزة متبادلة.

أما بالنسبة للعقوبة القانونية الجزائية فليست واضحة تماما، لأنه لا يوجد رئيس سياسي مشترك يجعل القوانين ذات العقوبات مرتبطة بالمخالفات. باختصار، إن كل الشروط التي جعلت النفعية فعالة محليًا وداخليًا إما غائبة أو ضعيفة في العلاقات الدولية . ومن الواضح أن هذه التصريحات لم تُعد هجومًا على النفعية أكثر من كونها دفاعًا عنها. لقد تم صنعها ليس من أجل إجراء أي تقييم للنفعية ولكن لكونها تلقي الضوء على النقص الحالي في مجموعة متماسكة من الأفكار الأخلاقية التي يمكن تطبيقها بفعالية في الشؤون الدولية. والأكثر لفتا للنظر في حالة المعتقدات الأخلاقية النفعية هو الدليل لأنه على الرغم من عدم قبوله عالميا وعلى الرغم من الهجمات المريرة، إلا أنها لم تكن أقل فعالية داخل الدولة.

هذا النوع من العقيدة الأخلاقية ملائمة للحصول على اسم واحد فقد كان يطلق عليها هيغليان وهي في الواقع أوسع بكثير من أي مدرسة فلسفية. وتعود في شكلها البسيط إلى مكيافيلي وهوبز. هوجِم هذين الكاتبين في وقتهم ذاك ومنذ ذلك اليوم اعتُبِروا غير أخلاقيين. لكنها مع ذلك تمثل نوعًا متميزًا من الأفكار المعنوية. مبدأهم الأساسي هو أن نستبعد السمات المميزة للشخصية والبيئة المحيطة والمؤسسات التي تتمتع بالسلطة، خاصة تلك المؤسسة التي نسميها الدولة، وذلك شرط مسبق ضروري لأخلاقيات الأفراد. ومن ثم فإن التنظيم الاجتماعي يتمتع بمكانة مميزة وأخلاقية فريدة من نوعها. كونه الشرط الذي بدونه من المستحيل أن تكون الأخلاق ملموسة بل هو أيضا فوق الأخلاق بالمعنى العادي، بمعنى أن الأشخاص الغير عاديين والمجتمعات التطوعية يجب أن تكون أخلاقية. ظهرت الفكرة في وقت لاحق للفلسفة الألمانية، ليس من مكيافيلي وهوبز مباشرة ولكن من خلال إحياء الأخلاق السياسية اليونانية (خاصة الأرسطية) التي تم تفسيرها من خلال تعليم سبينوزا. والآخر الذي عاش على الأغلب في فترة الحرب العالمية الخارجية والمدنية ومع كل ما صاحب ذلك من انعدام الأمن فقد تعمقت تعاليم هوبز بشكل كبير. لقد شرح بوضوح أن سلطة الدولة شرط مسبق ضروري لاستقرار الحياة الاجتماعية والشخصية وأي حرية عقلانية واسعة الانتشار. حتى أكثر الكائنات عقلانية لا يمكنه أن يضع عقليته موضع التأثير وتحقق الحرية باستثناء أنه يتمتع بالدعم الخارجي وكذلك الدعم الإيجابي من الآخرين. وبدون قوة سياسية سيخضع معظم البشر لعواطفهم وسيظل حتى أحكم الناس دائمًا تحت رحمة بيئته وغرائزه وعواطفه.

خلقت الحالة السياسية لألمانيا الداخلية والخارجية بعد حروب نابليون وضعا مناسبا لإحياء هذه الأفكار. كما قدمت موقفًا كانت فيه هذه الأفكار أسلحة فكرية مهمة في تجديد وتوحيد الدول المنفصلة من ألمانيا خاصة تحت هيمنة روسيا. كانت هذه الأفكار التي تم تدريسها لأول مرة في الجامعات متجانسة إلى حد كبير مع احتياجات ألمانيا السياسية لدرجة أنها سرعان ما أتت بثمارها العملية. إذا لم تكن القوى الفعالة في تحقيق مركزية السلطة السياسية المبعثرة سابقًا فقد صاغوا على الأقل النهاية وقدموا لها مبررا فكريا.

ليس من الضروري قضاء الكثير من الوقت لإظهار هذا النوع من الفكر الأخلاقي وهو نوع أصر على اليقين والوحدة والاستقرار في المؤسسات، حيث أصر النفعيون أيضا على انتشار السعادة الشخصية العامة ولم يؤثر ولا يمكن أن يؤثر ذلك بشكل إيجابي على الأخلاق الدولية. كان ميلها كله نحو التمجيد الفكري للدولة القومية. وكان الصراع بين الدول حادثة تاريخية ضرورية عملت أيضا على تعزيز وتوطيد سلطة المؤسسات. لقد كان النجاح في الحرب دليلًا موضوعيًا على تنظيم اجتماعي متفوق، وبالتالي يدل على الأخلاق المتفوقة أيضا. إذا كان من الممكن الوصول إلى نظام دولي سلمي واحد فهو عن طريق باكس رومانا لذا يجب أن يصبح هناك دولة واحدة قوية فقط بحيث تكون قادرة على فرض إرادتها على جميع المجتمعات الأخرى.

لا أقصد التلميح إلى أن هذين النوعين من العقائد الأخلاقية يستنفذان المفاهيم الأخلاقية التي تطورت في الفراغ الناجم عن هبوط نظرية القانون الطبيعي. هناك اعتبارات أخرى أيضا ذات أهمية كبيرة ولكن مهنة النوعين المختارين قد تعمل على توضيح أطروحتنا الرئيسية، يوجد عامل مهم في مشكلة الأخلاقيات و العلاقات الدولية الحالية إلى جانب المعتقدات الأخلاقية نفسها في تشعباتها المتشابكة والمتنازع عليها. المشكلة لا تكمن كليا في الجانب العملي، وليس في نيتي أن أقترح أي مجموعة من المعتقدات الأخلاقية التي في رأيي يمكنها إصلاح هذه الحالة. أنا أقنع نفسي بأنه لطالما لا نزال في فترة مبكرة جدًا لأي شيء يمكن تسميته بالعالم الحديث، فلا يوجد سبب لليأس فيما يتعلق بالمستقبل. كل ظروف الحياة وهي تتحرك نحو منظمة متماسكة تُطوّر من روحها ومعاييرها ورموزها. وعلى الرغم من المدى الواسع والتعقيد الداخلي للوضع الحالي، والذي يعد أكثر بكثير مما كان عليه في التاريخ السابق، إلا أن هناك أسس كافية للاعتقاد بأننا نعمل من أجل ظروف أكثر تماسكا للحياة، وأن هذا الرمز الأخلاقي الموحد سينمو عندما يتم تعديل العلاقات الاجتماعية بشكل أفضل. من التافه القول بأننا نعيش في زمن من التحولات الهائلة ونحن لا نلاحظ أن التشوش الأخلاقي يحضُر دائمًا في مثل هذه الحقبات.

لكن التوقعات المستقبلية تعطي القليل من المواساة للوقت الحاضر. يبدو لي أن هناك تدبيرًا واحدًا من شأنه على الأقل أن يركز ويوجه المشاعر والرغبات والعواطف الأخلاقية التي لا تزال واسعة الانتشار وسط ارتباكنا الفكري. لقد خدم القانون دائمًا هدف تكثيف وتحديد رغبات وتوقعات المجتمع الأخلاقية. بغض النظر عن مدى تعلقه بالتطلعات الأخلاقية للأعضاء المتقدمين في المجتمع، فقد أثار القانون متوسط ​​المشاعر الأخلاقية بطريقة تجعله أكثر فاعلية مما كان يمكن أن يكون عليه،  وأدى إلى تضييق المشاعر الأخلاقية بحيث يمكن أن تتدفق إلى الهدف.

يبدو لي الآن أن هناك تغييرًا قانونيًا واحدًا إذا تم إجراؤه فسيحدث تغيرًا هائلًا في توضيح الوضع الحالي، وسيعطي دافعا كبيرا لتطوير الأفكار السليمة والممارسات الصحيحة. وأشير إلى الحركة التي أطلقها السيد ليفينسون (محام ناجح في شيكاغو) بسبب الحرب الخارجة على القانون. تعتبر الحرب قانونية بموجب القانون الدولي الحالي. في الواقع لا يوجد شيء مثل الحرب الغير قانونية باستثناء – حروب التحرير الداخلية – الحروب التي تبدو لمعظم الأشخاص أكثر تبريرًا من وجهة نظرهم الأخلاقية. ليست الحرب قانونية فقط بل إنها من أكثر الطرق المصرح بها لتسوية النزاعات بين الدول. اللجوء إلى القوة المنظمة هي النسبة القصوى للدول. تُشكّل هذه الحقيقة أكبر فجوة موجودة في أي مجال من مجالات الحياة بين المشاعر الأخلاقية والممارسات المرخصة. وفيما يتعلق بجميع النزاعات الأقل أهمية، هناك طرق منتظمة للتسوية تعتبر وحدها قانونية، وهناك قوانين ومحاكم وإجراءات لتسويتها. لا آمل أن تتوقف أسباب النزاع بين الأمم أكثر مما آمل أن تتوقف أسباب النزاعات بين الأفراد. لكننا لم نعد نسمح للأفراد بتسوية النزاعات عن طريق شن حرب خاصة حتى في الحالات التي يتم فيها طعن الشرف، فقد تحظر المبارزة.

لا أرى كيف يمكن لأي شخص يواجه الوضع أن لا يكون مقتنعا بأن شرعية الحرب تشكل أكبر شذوذ موجود الآن في أي مكان في الأخلاق.

طالما هي مستمرة، فإن المشاعر الأخلاقية في وضع تناقض ذاتي حيث أن هناك معيار مزدوج للأفكار الأخلاقية التي تقدم صراعًا ميئوسًا منه تقريبًا حتى لا يكون للشخص خيار إلا بين الولاء المحارب لمجتمعه، وبين المسالمة غير المقاومة التي تقترب من السلبية الأخلاقية. إن تجريم الحرب كوسيلة لتسوية الصراعات الوطنية تحت أي ظرف من الظروف مع وجود المؤسسة القضائية للمحاكم المختصة في الصراعات المؤدية للحرب التي تعمل وفقًا لقواعد مدروسة بعناية، ستضع حدا لهذه الثنائية الأخلاقية القاتلة.

مجتمع الشعور الأخلاقي موجود حتى بين أولئك الذين لديهم معتقدات أخلاقية متنوعة. يوفر تجريم الحرب مركزًا مشتركًا للتعبير عن هذا المجتمع بالعاطفة والرغبة الأخلاقية. من شأن القانون الدولي المناهض للحرب أن ينتج عنه نفس التأثير المكثف والمندفع والمتبلور في الأخلاق فيما يتعلق بـ العلاقات الدولية التي وفرها القانون في كل مكان خلال تطوره التاريخي. إنه الإنجاز المنطقي للتطور التاريخي للمحاكم كأدوات لتسوية النزاعات، وحتى يتم الوصول إلى انقسام وانتشار تأثير الشعور الأخلاق.

الحجة ليست أن الحروب ستتوقف بالضرورة. فالقوانين لم تمنع الجرائم الأخرى، وقد تقوم تلك الحرب على الرغم من أنه لا يزال يتم اللجوء إلى الجريمة. ولكن الشخص المعتقد بأن القانون الذي يجب أن ينظر للحرب على ما هي عليه بدلا من جعلها قانونية لن يكون له أي تأثير، قد يكون لديه وجهة نظر غريبة للتاريخ والطبيعة البشرية. هناك قول مأثور بأن ما تسمح به السيادة هو أمر. ليس من الضروري أن نأخذ هذا القول حرفيًا لإدراك أن العقوبات القانونية الحالية للحرب تفرض عليها حتما عقوبة أخلاقية تشجع الحرب في النهاية. ما يجيزه القانون له تأثير قوي في تحديد الأفكار والتطلعات الأخلاقية في مجتمع البشر. لكن الأهم من ذلك هو أنه ما لم يتم حظر الحرب من خلال عمل دولي مشترك فلن تكون هناك فرصة للمشاعر الأخلاقية الحالية للعمل بفعالية في العلاقات الدولية ، وبغض النظر عن الأمل في التطور السريع للأفكار الأخلاقية المتماسكة والمقبولة على نطاق واسع، والتي ستكون فعالة في تحديد العلاقات الدولية ، فالخطوة الأولى في تحسين الأخلاق الدولية هي تجريم الحرب. وحتى يتم اتخاذ هذه الخطوة لا أرى فرصة كبيرة في فوز تحسن آخر في العلاقات الدولية بالموافقة العامة، أو أن يكون عمليًا في التنفيذ.

المصدر