مجلة حكمة
الرقص فلسفة

الرقص بوصفه “تفلسفا”

الكاتبدومينيك بازنار Dominique Besnard
ترجمة عبدالوهاب البراهمي
  "أعتقد أنّ العلاقة مع تلقائية الفعل، اللحظة المتفرّدة، هي التي تعطينا الإحساس بحرية إنسانية. إنّ جسدا يقذف به في الفضاء ليس فكرة حريّة إنسانية: إنّه جسد قذف به في الفضاء. وهذا الفعل هو كلّ الأفعال، إنّه الحريّة الإنسانية، وفي ذات اللحظة" لاحريّة". ترون كم هو من اليسير أن يكون كلامنا عميقا حينما نتحدّث عن الرقص. يبدو أن الرقص هو ضِعْف طبيعي للمفارقة الميتافيزيقة". مارس كونينجام (1).
 " لا أرى ماذا يمكن لفكر فيلسوف أن يرغب فيه أكثر من أن يكون راقصا مُجيدا" ( نيتشه " المعرفة المرحة" )

   إنّ الشروع في الرقص هو بمثل دعوة إلى حركة جسم عُثر عليه ودعوة إلى رحلة للفكر. أن ندخل” في ” الرقص، هو أن ندخل على نحو ما ” عالما”. أن ندخل هو أن نتخطّى العتبة، ولكن أن نتخطّى أيضا خطّ الوصل، على نحو من الإقامة؛ إنّ الرقص في دلالته الأولية هو خيط، مشدود نحو.

  لقد كان الرقص منذ العصور القديمة وفي كلّ الثقافات أحد أنماط التعبير الأكثر تقاسما والأكثر شعبية؛ لغة مشتركة وكونية، لغة الشعر والعواطف. أن ندخل في الرقص، هو أيضا التفلسف، لأنّ الرقص ليس أن نتحرّك فحسب. نحن نرسم لوحة العواطف والأحاسيس بما نشتغل عليه من الحركة. ونستدعي بذلك المكان والزمان والشغف والعقل والحرية، وكلّ هذه المسائل التي تنشّط أفكار الإنسان وذلك منذ الطفولة. كل على حدة، تكون هذه المعاني مسائل الفلاسفة في كلّ الأزمان، من أفلاطون إلى نيتشه أو بول فاليري، يجمعها الرقص ولوحده. تكشف أولى الرقصات وهي الولادة، الحركات الأولى للرضيع الخاضع للجاذبية الكونية و”أهمية الثقالة في التطوّر الحسّي – الحركي للمولود الجديد” (2). وما يعاش من تأثيرات أولى، كالارتطام، واختلاف الوسط السائل للأشهر الأولى، سيثير ردود الفعل النشيطة، بما هي أوليات المكاسب الحركية اللاحقة. تخفّف هذه الآثار باليد المطمئنة للأم، للأب أو الراشدين الحاضرين. أيدي هي بذاتها محمولة باللغة المصاحبة للحركات. ثم تأتي الأغاني الأولى، المهدهدة، كغطاء صوتي يتّصل بالأرْجَحَة التي تساعد على النّوم. تكون الحركة إذن، شرط التهدئة وأحلام اليقظة، أرضية للنشاط الإبداعي، وللجسد بوصفه وعاء الأفكار اّلأولى. إنّ جسدا مسترخ يسمح بالتجارب وبتعلّم التحكّم في هذا الجسد، في صراع مع الجاذبيّة التي تذكّر بالتمسّك بالأرض. أن نثبّت قدمينا على الأرض، والإحساس بجسدنا، هو البحث عن تحريكه، ونقلته في الفضاء، وهو أيضا إرادة اللعب بهذه الجاذبية. إنّ القفز في الهواء هو محاولة الهروب من هذه الجاذبية، والسير على الأرض هو إثبات التقارب بوصفه عودة إلى المنابع:” ستُوَلَد من هذه الأحاسيس في جانب منها بداية الحركة الراقصة ” (3).

  إنّ الرقص، هو اللعب بالجسد في علاقة حميميّة بالثقالة، من الإحساس بالخفّة إلى الإحساس بالبطء، من السقوط إلى الطيران. إنّ إكراهات الحركة الراقصة هي التي تؤدّي، وعلى نحو مفارق، إلى الإحساس والشعور بالحريّة. والرقص هو اللعب بالتوازن الدائم لجعل حركة عادية جمالية. إنّ الرقص هو فنّ التمفصل، ولغة تفكّك الحركة للإمساك على نحو أفضل باللحظات والتمتّع بالمعنى العميق، مثل الإلقاء المسيّر من أجل الإحساس بشعر أو نص جميل. ليس الرقص إذن فنّ المكان فحسب، بل هو أيضا فنّ الزمان، فنّ السرديّ، وفنّ تاريخ. إنّ هذه الأحاسيس هي نفسها لدى راقص مبتدئ كما لدى راقص محترف، وحده العمل وسنوات الجهد تسمح بتعبير أكثر ثبات وبحث. وإذا كان الرقص قد سحر الفلاسفة ولا يزال، فذاك لأنّ تعريف الرقص ليس أمرا هيّنا. لا يمكن لهذا النشاط الذي يستدعي الجسد مع ذلك أن يختزل في رياضة وإذا ما كان فنّا، فهو متعدّد بمنابعه وتعبيراته. يمكن للرقص إذن أن يصبح ” مجازا للفكر” حتى نستعيد عبارة آلان باديو(4)، عبارة هي صدى لقول فرويد :” من الممكن أن تكون المكانية la spatialité إسقاطا projection لامتداد الجهاز النفسي. النفسي امتداد، لا نعرف عنه شيئا” (5).

  إنّ هذه الكتابة في الفضاء التي تتعلّم التحفّظ على الحركة أو توسّعها، فرادى أو مع الآخرين، تدعو الأطفال والكهول إذن، إلى التفكير تبعا لذلك في معنى الوجود. أن نوجد، « ex-sistere » هو أن نفارق وضعية التمثال، من اللاحركة إلى الحركة، الحركة وليس الهيجان الذي ليس إلاّ تنفيذا لما يَفِيض، للإثارة. إنّ الحركة هي الانتقال الذي يسمح بتشرّد الأفكار والتأويلات. ” سيكون الرقص إذن فلسفة”، حتى نحاكي عنوان كتاب جيليا بوكال  Julia Beauquel (6)، وميتافيزيقا، في معنى إعادة طرح الأسئلة الجوهرية للكائن البشري.

  الرقص والفلسفة، يحبّهما الأطفال، وهو ما يعرفه كلّ المربّون. ثمّ إنّ الكهول أطفال كبار. فارقصوا إذن دون شعور بالندم! “.

المصدر


 

      الهوامش:

*بسيكولوجي فرنسي.

  • 1- كانغيلام، كاليغارفيا ” الفن المؤقت” ( مقالة مستخرجة من الفن السابع 1955 في قينيو إ. ميشيل م.. الرقص في القرن 20، لاروس 2002ص135.
  • 2- اندري بيلانقر، عالم نفس ” آثار الجاذبية على نموّ الجنين: فضاء الثقالة ” إيريس 1001ب.ب 2015.
  • 3- أيليونور كولار “الجاذبية، الوزن، والثقالة” الدورة 18 للرقض، في كيمياء الفعل، في خصوص عرض ” جاذبية” لانجولان برالجوكا، مصمم رقص..
  • 4- آلان باديو، فيلسوف، : موجز إستيتيقا مغايرة”، seuil 1998
  • 5- فوريد، محلل نفساني ” نتائج وأفكار ومشكلات” بيف.
  • 6- جيليا بوكال، فيلسوف ” الرقص، فلسفة “. كناشات شمال 2018.