مجلة حكمة
بول ريكور الفيلسوف بول ريكور - موسوعة ستانفورد للفلسفة

إبستيمولوجيا المعرفة التاريخية – بول ريكور

محمد حبيدة
محمد حبيدة

قراءة محمد حبيدة في كتاب (الذاكرة، التاريخ، النسيان – بول ريكور / ترجمة: جورج زيناتي) دار الكتاب الجديد – 2009


يظهر الكتاب، من حيث هندسته وتصوره المنهجي، مثل القوس، ينطلق من الفينومينولوجيا لينتهي عند الأخلاق. قوس يحلق بالقارئ عبر موضوعات فكرية عميقة من فلسفة الذاكرة إلى فلسفة النسيان، من تحليل مستويات الذاكرة، الشخصية والجماعية، إلى تحليل مستويات النسيان، البراغماتي والمأمور، من الذاكرة الملزَمة، سياسيا، إلى الغفران الصعب. ويملأ التاريخ هذا القوس، وكأن كتابة التاريخ تسعى في نهاية المطاف إلى إنقاذ الذاكرة من النسيان. بين الفلسفة والحياة يحتل التاريخ، كأرشيف، كتفسير، كسرد، كبناء، كإعادة بناء، كتمثل، حيزا هاما في كتاب بول ريكور. وتشترك هذه الموضوعات فيما بينها في إشكالية رئيسية هي إشكالية تمثل الماضي.

وفي هذه المسألة وتلك، يظهر الكتاب وكأنه خطاب عن تاريخ شقي، عن شقاء الإنسان في تاريخ مليء بالعنف، كأنه خطاب عن حلم الإنسان للوصول إلى ذاكرة عادلة. “هل نتكلم عن تاريخ شقي؟ يتساءل بول ريكور. لست أدري. لكني لا أقول يا لشقاء التاريخ. بالفعل هناك امتياز لا يمكن رفضه للتاريخ وهو الامتياز الذي يسمح ليس فقط بتوسيع الذاكرة الجماعية إلى ما وراء كل ذكرى فعلية، بل كذلك بتصحيح ونقد وحتى تكذيب ذاكرة مجموعة معينة حين تنكمش على ذاتها وتغلق نفسها على آلامها الخاصة بها حتى أنها تصبح عمياء وصماء أمام آلام الجماعات الأخرى. وتصادف الذاكرة معنى العدالة في طريق النقد التاريخي” (ص 721).

يتناول بول ريكور مسألة الذاكرة والظاهرات الذاكرية “تحت مظلة الفينومينولوجيا بالمعنى الهوسيرلي للكلمة” (ص 28)، وذلك بعمق فلسفي وتاريخي يغوص بنا في ثنايا الفكر الإغريقي، خاصة أرسطو ومبحثه في الذاكرة والتذكر، إذ يدقق في معنى كلمتي مْنِمي (mnémé)، الذكرى، وأنامنيزيز (anamnésis)، أي الاستذكار، ليخلص إلى القول أن الذكرى “التي هي مرة موجودة ومرة مبحوثا عنها تقع على مفترقات دلالية وتداولية” (ص 32). لكن الذاكرة كإشكالية مستعصية تجعله ينتقل بين أفكار الفلاسفة لاستقصاء مفاهيم أخرى مثل “التمثل”، و”التصور”، و”التخيل”، وتحديدها أو إعادة تحديدها. هنا نجد بول ريكور يبتعد عن أفكار مارتن هايدغر، الذي يعيب عنه إهماله مسائل النقد التاريخي، ويستنير في المقابل بتفسيرات هنري بيرغسون صاحب كتاب المادة والذاكرة (1896)، إذ يتبنى “كفرضية التصور البيرغسوني للمرور من “الذكرى-المحضة إلى الذكرى-الصورة” (ص 95).

ولا يقتصر بول ريكور على الذاكرة الشخصية، بل يتناول بالتحليل الذاكرة الجماعية منطلقا من أفكار عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالفاكس، صاحب كتابي الأطر الاجتماعية للذاكرة (1925)، والذاكرة الجماعية (1950). هنا يعترف بول ريكور بفضل هذا العالِم الجريء، “الذي أنسب الذاكرة إلى كيان جماعي يسميه المجموعة أو المجتمع” (ص 189). وتتجلى أهمية هذا المفهوم في كونه شكل مقدمة للتباين الحاصل بين الذاكرة الجماعية من جهة، والتاريخ أو الذاكرة التاريخية من جهة ثانية، كما تأكد في الدراسات التاريخية ابتداءً من الثمانينيات من القرن الماضي، مع بيير نورا وجاك لوغوف وغيرهما.

وفي فصلين هامين، الأول تحت عنوان “ديالكتيك الذاكرة والتاريخ”، والثاني في موضوع “المستوى الأخلاقي-السياسي: الذاكرة الملزَمة” يناقش بول ريكور أفكار جاك لوغوف الواردة في كتاب الذاكرة والتاريخ (1988)، وأفكار بيير نورا الذي أشرف على عمل ضخم تحت عنوان أماكن الذاكرة (1984-1992). فقد تساءل مع جاك لوغوف عما إذا كانت “الذاكرة مجرد مقاطعة من التاريخ؟” (ص 567)، لمّا اعتبر هذا الأخير الذاكرة موضوعا جديدا من موضوعات التاريخ مثلها مثل الجسد والجنس والموت، وجزءً من “تاريخ التاريخ”، وعزّز مواقف بيير نورا الذي تنبه إلى “شراهة إقامة الحفلات التذكارية في هذا العصر” (ص 150)، وإلى مخاطر هذه الاحتفالات التي تتمكن من التاريخ وتصادره.

وتقود الذاكرة بول ريكور إلى التاريخ، لأنها هي التي حملت هذا الأخير، ودفعت باتجاه كتابة التاريخ وإعادة كتابة هذا التاريخ. في هذا الباب الثاني يعالج الكاتب إبستيمولوجية المعرفة التاريخية، ويتوقف على نحو مفصل عند النقلة المعرفية التي أحدثتها مدرسة الحوليات الفرنسية في تصور التاريخ ومناهجه وطرق تدريسه، متتبعا متغيرات هذه النقلة من مرحلة التأسيس مع مارك بلوك ولوسيان فيفر، إلى المرحلة التي ساد فيها تاريخ العقليات، مرورا بمرحلة فيرناند بروديل.

ويشكل الباب الثالث المخصص للنسيان إطارا للنقاش حول مسألة في غاية الأهمية، هي العلاقة بين العنف على النحو الذي يظهره تاريخ القرن العشرين، وسبل التطلع إلى ذاكرة عادلة عبر الاعتراف بالإساءة والمقدرة على الغفران. وبقضية الغفران هذه يختم بول ريكور كتابه. يقول: “إن مسار الغفران حين يعود إلى مكان أصله، وحين يتم الاعتراف بالذات في مقدرتها الأخلاقية الأساسية وهي تحمل التبعة، يصبح السؤال هو أي نظرة تسمح لنا تأملاتنا حول فعل الغفران بأن نلقيها على مجمل الدرب التي اجتزناها في هذا الكتاب. ما هو أمر الذاكرة والتاريخ والنسيان وقد لامستها روح الغفران؟ إن الجواب عن هذا السؤال الأخير يشكل نوعا من خاتمة الخاتمة” (ص 713).

نود في هذه القراءة أن نتوقف عند الباب الثاني من الكتاب، المخصص للمسار الإبستيمولوجي للمعرفة التاريخية، والذي يضم لوحده ما يقرب من أربعمائة صفحة. يعتبر بول ريكور “الاستقلال الذاتي للمعرفة التاريخية بالنسبة إلى الظاهرة الذاكرية” مسلّمة كبرى لإبستيمولوجية مترابطة للتاريخ بما هو ميدان علمي وأدبي.

يسير بول ريكور في تحليله لهذا المسار بإيقاع ثلاثي. يستعمل مفهوم “العملية التاريخية” أو “عملية كتابة التاريخ”، اقتباسا عن ميشيل دوسيرتو صاحب كتابة التاريخ (1975)، ويميز فيها بين ثلاث مراحل هي الأرشيف، والتفسير، والكتابة، وهي مراحل غير متميزة زمنيا، بل هي “لحظات منهجية متداخلة في بعضها”، لأنه “لا يستشير أحد الأرشيف من دون مشروع تفسير، من دون فرضية فهم، ولا يبذل أحد جهده في تفسير مجرى أحداث من دون اللجوء إلى استعمال صيغة أدبية مناسبة ذات طابع سردي أو بلاغي أو متخيل” (ص 212):

– مرحلة الأرشيفات أو المحفوظات، إذ يعتبرها “لحظة الدخول في الكتابة لعملية كتابة التاريخ” (ص 252). وتتجلى أهمية الوثيقة في طريقة اشتغال المؤرخ وأدواته، لأن الوثيقة ليست معطى، بل شيء مستبحث ومهيء ومؤسَّس. من هنا لا تكتسي الأرشيفات سوى قيمة نسبية، لأنها تبقى موقعا اجتماعيا تتحكم فيه إجرائية الوثائقيين ثم المؤرخين. ويؤكد بول ريكور على الترابط الحاصل بين الواقع التاريخي والسؤال التاريخي، “لأن ليس من وثيقة من دون سؤال، ولا من سؤال من دون مشروع تفسير” (ص 277).

– مرحلة التفسير والفهم، التي تخص استعمال أداة الوصل “لأن” التي تجيب عن السؤال “لماذا؟”. هنا يتميز التاريخ عن الذاكرة، إذ “يتثبت بأكثر ما يكون من قوة على الصعيد الإبستيمولوجي على مستوى التفسير/الفهم” (ص 277). ولم يفت بول ريكور أن يطرح مسألة التأويل في سياق مناقشة مرحلة التفسير هذه، علما أنه كان قد عالج هذا الموضوع في بحث سابق تحت عنوان “صراع التأويلات”، نشر عام 1969. فالتأويل بالنسبة إليه مكوِن من مكونات التفسير، ومقابل “ذاتي” لهذا التفسير. يتعلق الأمر هنا بالتقابل بين الموضوعية والذاتية، وما تعنيه من “التزام المؤرخ الشخصي بسيرورة المعرفة”، و”التزامه الاجتماعي أو بتعبير أدق التزامه المؤسساتي” (ص 495-496). وتلتقي هذه النقطة بما كان قد قاله ريمون آرون في كتابه مدخل إلى فلسفة التاريخ (1938)، عندما طرح قضية “حدود الموضوعية التاريخية”.

– مرحلة الكتابة، مرحلة الصياغة الأدبية، مرحلة السرد. ويولي بول ريكور أهمية بالغة لهذه المرحلة. يقول: “وإن كان الرهان الإبستيمولوجي الأكبر يقرر في مرحلة التفسير/الفهم، فإن هذه المرحلة (مرحلة السرد) لا تنهي الرهان، إذ أن في المرحلة الكتابية يُعلن تماما عن القصد التاريخوي، أي القصد من تمثيل الماضي كما قد حصل، مهما كان المعنى المعطى لكلمة “كما”. بل إنه في هذه المرحلة الثالثة تبرز بقوة الاستعصاءات الكبرى للذاكرة، استعصاء تمثيل شيء غائب وقع سابقا، واستعصاء ممارسة مكرسة للاستذكار النشط للماضي والتي يرفعها التاريخ إلى مستوى إعادة بناء” (ص 211). وقد سبق لبول ريكور أن تناول قضية التاريخ هذه من زاوية العلاقة الوثيقة بين التمثل والحكي، في كتابه الزمن والسرد (1983-1985).

يعالج بول ريكور إبستيمولوجية التاريخ انطلاقا من مبدأين رئيسيين. المبدأ الأول هو الاهتمام بالواقعة الاجتماعية كسمة مشتركة للنماذج التفسيرية. وهذا التاريخ الاجتماعي ليس مجرد قطاع من قطاعات البحث، بل اختيار لحقل بعينه، هو حقل العلوم الاجتماعية. والمبدأ الثاني يهم تقطيع التاريخ في هذا الحقل. هنا يتميز التاريخ عن بقية العلوم الاجتماعية بالتركيز على “التغيير والاختلافات أو التباينات التي تؤثر في التغييرات”، مع ما تحمله هذه الأخيرة من “دلالة زمنية بيّنة” (ص 278). وهذه الدلالة الزمنية هي التي حملت تراتيبة في كتابات فيرناند بروديل، تمتد من الأمد الطويل إلى الأمد القصير مرورا بالأمد الدوري. وتشير هذه الدلالة الزمنية المتعددة إلى تنوع أنماط التفسير في التاريخ. في هذا الصدد، يستعيد بول ريكور فكرة بول فين المعبَّر عنها في كتاب كيف نكتب التاريخ (1971) كون أنه “ليس هناك في التاريخ من نمط في التفسير يحظى بامتياز خاص” (ص 280).

يتناول بول ريكور مدرسة الحوليات الفرنسية كتحول كبير في تصور التاريخ ومنهجية تدريسه، كـَ “مغامرة كبرى” هيمنت عليها “الصورة العالية لشخصية فيرناند بروديل”. وتتجلى السمة الإبستيمولوجية الأبرز في الربط الذي أقامه هذا الأخير بين المقياس الاقتصادي والجغرافي، المقياس الماكرواقتصادي، أي “الاقتصاد الجمعي المهتم بالوقائع الشاملة الكبرى”، من جهة، واختيار الحقبة الطويلة من جهة ثانية. ثم يقف عند جيل ما بعد بروديل الذي بلور توجها قائم الذات هو “تاريخ العقليات”، والأزمة التي أعقبت هذا التوجه.

ينقب بول ريكور عن مفهوم العقلية منذ مرحلة تأسيس الحوليات، عند لوسيان فيفر في دراساته حول “فرانسوا رابلي” و”مارثن لوثر” و”مارغريت دونافار”، وعند مارك بلوك في كتابيه الملوك مدعو المعجزات، والمجتمع الفيودالي، ليصل إلى نتيجة هامة، مفادها أن تاريخ العقليات حفر أخدوده الطويل بين التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المشبع بمفهوم الأمد الطويل، والرد على التاريخ الفكري كما يمارسه الفلاسفة ومؤرخو العلوم، انطلاقا من الثقافة بمفهومها المتنبه للإحساس والسلوك والرموز، مخترقا بذلك تصور بروديل للتاريخ الشامل الذي يحتل فيه الاقتصاد مكانة كبيرة، وموجها التاريخ نحو التفتت، خلال السبعينيات من القرن العشرين، كما يقول فرانسوا دوس4.

يقابل بول ريكور تاريخ العقليات هذا ومآزقه بأفكار مجموعة من مفكرين الذين تمردوا على النمذجة الرائجة في مدرسة الحوليات، وخاصة ميشيل فوكو في حفريات المعرفة (1969)، وميشيل دوسيرتو في كتابة التاريخ (1975)، اللذان يقتربان من صيغة التفسير/الفهم، ويتفحصه انطلاقا من مفهوم “تنوع المقاييس” (Jeux d’échelle) المستعار من فن رسم الخرائط والهندسة المعمارية وعلم البصريات كما يظهر من خلال العمل الجماعي الذي أداره جاك روفيل عام 1996. تبقى المسألة الأساسية في كل هذه الأمور مسألة كتابة وإعادة كتابة، مسألة بناء وإعادة بناء، مسألة رؤية، مسألة تأويل. ومعنى ذلك، بحسب تنوع أنظمة المقاييس هذه، أن ما يظهر عندما نغير المقياس ليس هو التسلسل، وإنما العلاقات التي بقيت خفية على المستوى الماكروتاريخي. إن مفهوم المقياس في الهندسة يهم المؤرخ “لأن عملية كتابة التاريخ هي بمعنى معين عملية هندسية”، ذلك أن “الخطاب التاريخي يُبنى على طريقة عمل ناجز، وكل عمل ناجز يدخل ضمن محيط مشاد سابقا، إن إعادة قراءة الماضي هي إعادة بناء، وأحيانا على حساب تهديمات مكلفة: البناء والهدم وإعادة البناء هي أعمال مألوفة لدى المؤرخ” (ص 319).

في هذا المسح الإبستيمولوجي يقترح بول ريكور في نقده التاريخي لوضع تشتت التاريخ في نهاية القرن العشرين استبدال “مفهوم العقلية الضبابي” الذي صعب تفسيره رغم كثرة التفسيرات، بـِ “مفهوم التمثل” الذي يتناسب مع استعمالات مفهوم تنوع المقاييس (ص 328). هذا التنوع، يأخذ في رؤية بول ريكور للأمور، ثلاثة خطوط متلاقية: على الخط الأول هناك مقياس فعالية المعايير الاجتماعية، على النحو الذي تظهره مدرسة التاريخ الإفرادي الإيطالية، أو “الميكروستوريا”، مع كارلو جينزبورغ وجيوفاني ليفي. على هذا الخط نرى الاستراتيجيات العائلية والفردية في مواجهة مع وقائع اقتصادية وعلاقات ترابية، ضمن لعبة تبادل بين بين المركز والطرف. وعلى الخط الثاني هناك مقياس الصلات الاجتماعية الذي يتبين من خلال التاريخ الجمعي الشامل، أو الماكروتاريخ، عندما يواجه هذا الأخير محدودية الفاعل الاجتماعي. وعلى الخط الثالث هناك مقياس الأزمنة الاجتماعية، الذي يطرح مشكلة التغيير الاجتماعي بالنظر إلى سيادة التاريخ البطيء في المفهوم البروديلي. هنا يظهر هذا التاريخ البطيء كنمط من أنماط التغيير الاجتماعي.

إن تنوع المقاييس هذا وتداخلاتها تفرز، في التأويل الذي يقترحه بول ريكور، فكرة التمثل أو التصور، كونها الأكثر دينامية في الحقل التاريخي، والأكثر تعبيرا “عن تعددية المعاني والتمايز والتزمين المتعدد للظواهر الاجتماعية” (ص 344). هذا التمثل يشكل المرحلة النهائية لعملية كتابة التاريخ، لكن الكاتب يشدد على صلة المحاكاة بين التمثل أو التصور، كـَ “لحظة من الاشتغال بعمل التاريخ”، والتمثل أو التصور كـَ “لحظة من لحظات صنع التاريخ” (ص 347).

في جولته الطويلة، التأملية، للزمن التاريخي، يذكّر بول ريكور بثلاثة أمور أساسية (ص 244):

– كون “أن عملية كتابة التاريخ تنبثق من اختزال مزدوج، اختزال التجربة الحية للذاكرة، وكذلك اختزال التأمل النظري القائم منذ آلاف السنين حول نظام الزمان”.

– كون “أن البنيوية التي فتنت عدة أجيال من المؤرخين تعود إلى هيئة نظرية تقع، من ناحيتها التأملية، في امتداد الفلسفات الزمانية الكبرى اللاهوتية منها والفلسفية، على طريقة فلسفة زمانية علمية، بل حتى علماوية”.

– كون أن المعرفة التاريخية “لم تنته بعدُ من هذه الرؤى للزمان التاريخي حتى تتكلم عن الزمن الدائري أو المستقيم، عن الزمن الجامد، وعن الانهيار أو التقدم. عندها أليست مهمة ذاكرة ثقّفها التاريخ أن تحافظ على أثر هذا التاريخ التأملي المتعدد الدهور، [أي الذي مضت عليه قرون عديدة]، وأن تدمجه في عالمها الرمزي؟”.

يبدو التاريخ، كما يقول بول ريكور في معرض حديثه عن تنوع مقاييس تناول التاريخ، وكأنه يشتغل “بالتتالي كعدسية مكبِّرة، بل مثل مجهر، أو تلسكوب” (ص 320). هذه الاستعارة جميلة جدا، وذات دلالة قوية جدا، لأن عمل المؤرخ، مهما تعددت اجتهادات فهم هذا العمل، يبقى في نهاية المطاف تفكيك وبناء وإعادة بناء، تعليق وتعليق على تعليق، كتابة وإعادة كتابة، عودة لمقولات كلاسيكية وإعادة صياغتها، استعمال لمفاهيم واستعارات، اختيار لكلمات ومقولات، انتقاء لأحداث وظواهر، تأويل للماضي على ضوء الحاضر، وتأويل للحاضر على ضوء الماضي. وفي كل هذا وذاك، غالبا ما يذوب منطق التحليل والتفصيل، وفي المقابل تبقى الفكرة، تبقى الكتابة، أو بالأحرى يبقى النص، يبقى السرد.

 

 


الهوامش:

1- جورج زيناتي، أستاذ الفلسفة المعاصرة بالجامعة اللبنانية، من العارفين بفكر بول ريكور، إذ سبق له أن ترجم كتاب هذا الأخير الذات عينها كآخر سنة 2005. وكان جورج زيناتي قد اشتغل في أطروحته بباريس حول ثنائية قطبية الحرية، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، تحت إشراف بول ريكور.

2- Temps et récit, t. 1: L’intrigue et le récit historique, Paris, Le Seuil, 1983; Temps et récit, t. 2: La configuration dans le récit de fiction, Paris, Le Seuil, 1984; Temps et récit, t. 3: Le temps raconté, Paris, Le Seuil, 1985.

3- Soi-même comme un autre, Paris, Le Seuil, 1990.

ترجم هذا الكتاب إلى العربية من طرف جورج زيناتي تحت عنوان الذات عينها كآخر، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005

4- راجع عبد الأحد السبتي ومحمد حبيدة، “ما بعد التاريخ الجديد: قراءة في كتاب “التاريخ المفتت” لفرانسوا دوس، مجلة رباط الكتب، مجلة إلكترونية (www.ribatalkoutoub.ma)، عدد 7-8، خريف 2009.