مجلة حكمة
أبو نواس والفتية - كلود أودبير

أبو نواس والفتية – كلود أودبير


في بحث سابق1 أشرتُ إلى أن أبا نواس كان يتلاعب «بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ويطبقه في خمرياته سواء أكانت حججية أم سردية2. وكان يستعمل لهذا الغرض صيغاً أدبية معروفة ويـضع نماذج سلوكية وإنسانية تناقض القيم الدينية والاجتماعية السائدة في مجتمعه. فالفتية مثلاً يصبحون المثل الأعلى الذي يجب اتّباعه. ويقلب الأوضاع عمداً فينتج من قلب الأوضاع هذا سخرية ومداعبة ومفارقة.

والقصيدة التي سنتناولها بالبحث3:

«وفـتية كمصــــــابيــح الــــدجى غـــــرر      شُم الأنوف من الصيد المصاليت»

تخضع لنفس القوانين، إلا أنها لفتت نظري إلى أمرين أولهما الدور المهم الذي يلعبه فيها «الفتية» وثانيهما كثافة ما تحتوي عليه من الإشارات إلى النص القرآني.

أمّا صورة الفتية فسيكون استخراجها الهدف الأساسي من هذا البحث. وسنعتمد في إبرازها على الاقتباسات المستقاة من النص القرآني.

غير أن التناص نفسه يثير بعض المسائل المنهجية، من أبسطها: متى وكيف نقرر أننا أمام ظاهرة التناص؟ هل قصده الشاعر؟ علماً بأنه لا يستشهد بآية كاملة بل يكتفي غالباً بكلمة أو بضع كلمات ؟

وكيف نختار من بين هذه الإشارات أنسبها لإفادة المعنى؟ فإجابةً لهذه الأسئلة جعلنا القصيدة نفسها المرجع الأساسي. فمثلاً تكرار بعض المعاني قد يؤكد للقارئ أنه أمام اختيار مؤكَد لدى الشاعر. وسنرى أن معنى «مصابيح الدجى» في البيت الأول يؤكد عليه البيت الخامس عشر وبعض الأبيات الأخرى. وهناك أيضاً التناص الداخلي ونعني بذلك اللجوء إلى قصائد الشاعر المختلفة كمصدر إيضاح. فمثلاً ذكر الدهر (بيت 2 و بيت 3) الذي يبدو غريباً من أول وهلة يجد صدى في قصيدة أخرى. وكذلك كثافة الاقتباس من سورة البقرة في الأبيات11، 12، 17، 18، 22، 35 لا يمكن أن تكون من باب الصدفة ويستبعد أن يحدث هذا الاقتباس لمجرد أخذ بضع قوافٍ لإقامة البيت.

وهناك تساؤل آخر: فإذا ثَبت أن الشاعر اقتبس من هذا المصدر فماذا يفعل الباحث بالأعضاء المفككة التي حصل عليها؟ وكيف يُعيد بناءها وما هي المعاني الجديدة التي يُضفيها التناص على القصيدة؟

ولقد كرس Montgomery 4 بحثاً على هذه القصيدة وذكر ما لا يقل عن خمسين آية إلاّ أنه لم يخرج بصورة واضحة لاستعمالها، بل ترك الأمر للقارئ. كما أنه لم يأت بصورة واضحة للفتيان ولم يبرز المعنى العام المتكامل للقصيدة.

ففي المرحلة الأولى من بحثنا أشرنا إلى هذه الاقتباسات ووضعناها في جدول بحيث يستطيع القارئ أن يلمح كثافة الاقتباسات ويقارن بينها وبين التعابير التي اختارها الشاعر. ثم ناقشنا مساهمة النص القرآني في بناء صورة للفتية. وهذه الصورة لم تكن لتظهر لولا ما يُضفي عليها التناص من معانٍ، مما أدى إلى الوقوف على تسلسل الآيات القرآنية المشار إليها في سورة البقرة خاصة حسبما تفرضه القصيدة علينا وما يفرضه التناص الداخلي أيضاً. ومن ذلك اتّضحت صورة للفتيان وللخمر. واقترحنا بعد ذلك في القسم الثاني قراءة أخرى مبنية على الصفات التي يسمح الاقتباس القرآني بالاعتماد عليها.

سنتّبع في شرحنا ترتيب الأبيات مع الإشارة إلى مواطن تكرار المعاني والعلاقات بين الأبيات ونحن نهدف إلى استخراج صورة للفتية كما أسلفنا القول.

يقدم أبو نواس «الفتية» في الأبيات الثلاثة الأولى ويشير إلى مجموعة من الصفات التي يتسمون بها. ثم في بقية القصيدة سنراهم في تصرفاتهم أو بمعنى أدق من خلال نائبهم وصوت المتكلم عنهم أي الراوي.

في بعض القصائد الأخرى يسمي أبو نواس «الفتية» بالفتيان ولا يبدو أن هناك فرقاً في المعنى بين الكلمتين إلا أن «الفتية» كلمة واردة في القرآن على عكس «الفتيان». وفي سورة الكهف يُعدّ الفتية من المؤمنين وهذا التناقض بين واقع «فتية أبي نواس» الذين يرتكبون المعاصي وفتية أهل الكهف يُظهر أسلوباً يتّبعه الشاعر باستمرار حين يُقلّب الأوضاع عمداً.

ثم يُطلق عليهم اسم «مصابيح الدجا غرر» كصفة ثانية وهي أيضاً غير نادرة في أشعاره: مثلاً يقول في قصيدة أخرى «وفتية كنجوم الليل»5. ولأول وهلة يبدو أنه يقصد بذلك حسن هؤلاء الشبان كما يُفهَم من البدر والقمر جمال الساقي مثلاً. إلا أن النص القرآني يُلقي ضوءاً جديداً مختلفاً على هذه العبارة : فـ «المصابيح» تختص بوظيفة معينة، مختلفة عن وظيفة النجوم التي يهتدى بنورها (سورة النحل 16:16 وسورة الانعام 97:6) وتتجاوز مجرد الحسن والجمال. فأما المصابيح فتضيف معان أخرى نجدها متكررة في عدد من السور. وهي أن المصابيح أو الكواكب تحمي الوحي (حِفْظاً) ضد الشياطين الذين يحاولون أن يسترقوا السمع: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ* دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } (سورة الصافات 6:37-10).

ويشرح الطبري6 : «كانت للشياطين مقاعد في السماء (…) فكانوا يسمعون الوحي وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا تُرْمى فإذا سمعوا الوحيَ نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعاً … قال (ابن عباس): فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جُعل الشيطانُ اذا قَعَد مقعده جاء شهاب فلم يخطه حتى يحرقه».

ونجد نفس المعنى في سورة الملك (5:67)7:

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}.

والمصابيح بمعنى النجوم. وفي سورة فصلت (12:41):

{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيـم}.

والمصابيح هي الكواكب (وحفظاً) من الشياطين حسبما يأتي في تفسير الطبري. ونلاحظ أن جميع هذه الآيات تأتي في قرينة الخلق وما يوجبه الخلق من الإيمان بالله ورسوله.

وجعلنا المصابيح (…) رجوما للشياطين أي تُرجم بها. فنرى أن أداة الرجم في القصيدة هم الفتية أنفسهم مما يجعلهم يخوضون صميم المعركة ويشاركون فيها مباشرة.

وفي هذه القرينة تأتي الآية بعد ذكر خلق السماوات السبع بعضها فوق بعض وبيان إحكام الخلق كآية لقدرة الله.

ولنكمّل هذا الجزء من صورة الفتيان يجب أن نضيف أنهم «غُرَر» وأنهم على علاقة وثيقة بالأفلاك. ولا تشير كلمة «غرر» إلى بياض البشرة بقدر ما تشير إلى النور الذي يشعّ من وجوههم كما هو الأمر في آل عمران (107:3): {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

أمّا الأفلاك فترد مرتين في القصيدة (في البيت الثالث: «أفلاك السعود»؛ وفي البيت السابع والعشرين: «فلك الأوتار») وتضعنا في جو فضائي هوائي مجرد. وهؤلاء الشبان لا يشبهون سائر البشر بسبب الصفات النورانية التي يمكننا أن نستنتجها من هذه الاقتباسات وأيضاً بسبب علاقتهم الخاصة والاستثنائية بالدهر. فهم:

2)       صــــالوا على الدهر بــــاللهو الذي وصـــلوا      فليــــــس َحَــــبْـلهُــمُ مـــنه بمـــبتوتِ

 (ب3)      دار الــــــزمــانُ بأفـــــلاك الســـــــعود لــــــهــم      وعــاج يحــنو علـيهم عـاطف الـليتِ

فهم أصحاب الأمر والنهي والدهر يفعل ما يُؤمَرُ به ويعطف لهم رقبته ويميل إليهم في حين أن هؤلاء الشباب من «الصيد» أي جمع أصيد الذين لا يُثنون رقبتهم مثل الملك الذي لا يلتفت يميناً ولا شمالاً أو البعير الذي لا يستطيع أن يُحرّك رقبته لأنه أصيب بمرض.

ومثل هذا التصوير للدهر نادر جداً غير أنه يرد في خمرية أخرى بكل وضوح كما يشير البيت التالي:

              دارتْ عــــــــــلى فتـــــيةٍ ذلّ الــــــــزمانُ لـــهم      فـمـــا يُــصيــبـهُـــمُ إلا بـــما شـــاؤوا 8

ولا يدع هذا البيت مجالاً للشك في أن خضوع الدهر لهم هو المعنى المقصود. وخضوع الدهر للفتيان يخالف المعنى المعروف الشائع في الشعر وفي المعتقدات العامة.

وقد ذُكر الدهر في القرآن مرة واحدة، بهذا المعنى في سورة الجاثية (24:45)9:

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}

ونزلت الآية رداً لمن رفض الإيمان بالبعث بعد الممات. ويعلق الطبري قائلاً إن في حديث من الأحاديث «يقول الله أنا الدهر الأمر بيدي».

ولا يخفى ما في هذه الأبيات من الـتساوي بين هؤلاء الفتيان والقدرة الإلهية. فكبرياؤهم وجبروتهم لا يعرفان الحدود. وعالم الأفلاك لا ينحصر في علاقتهم بالدهر وبالنجوم بل يعمّ أيضاً الجزء الذي يتمتع فيه «الفتية» معاً بالموسيقى في «حديقات ملفّفة بالرند والطلح والرمان والتوت» (ب28) فهم كالمباهيت (ب24) ثم كالمسابيت (ب27) أي في حالة مَنْ بُهِتَ وذُهِل فكأنه في عالم آخر رفعه إليه الطرب.

وجذر ب هـ ت يرد في النص القرآني في سورة البقرة (258:2) ويرجعنا إلى ابراهيم وإلى الشمس والتحدي الذي يواجهه إلى من يأبى أن يؤمن بالتوحيد. وهو متعلق بالنور الشديد:

{(…) قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ويجب ألا ننسى أن الشمس والنجوم والمصابيح والصباح والشرار واليواقيت والصفوة والقمر كلمات وردت في القصيدة، وأن ذكرها يخلق علاقات بين جميع هذه الأجرام النورية كما أنها تخلق بين اختيار الآيات صلات تؤثر على القارئ وتجتمع لتضعه في جو يسيطر فيه النور على الظلام. غير أن الظلام كذلك حاضر في هذه القصيدة. ويلخص تلك العلاقة الشطر الأول من البيت الأول «وفتية كمصابيح الدجى غرر».

ومن الجدير بالذكر أيضاً في هذا الصدد أن الآية السابقة (257:2) تذكر الطاغوت وصراع النور والظلمات في نفس السياق: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ (…)}.

أما السبات الذي يستولي عليهم في الظاهر فهو أيضاً يرجع إلى الطرب وفرط الاصغاء إلى المطرب والموسيقى والانهماك في عالم مجرد، روحاني يرفعهم إلى العُلا.

و«الفتية» بصفتهم مصابيح وبحكم علاقتهم بالأفلاك يخرجون عن طبيعة سائر البشر فمقامهم في الكون في السماء الدنيا بين الكواكب والنجوم والأفلاك والشمس والقمر من جهة وهم على صلة بمخلوقات أمثال الشياطين والعفاريت والملائكة وهم يقومون بالدفاع عن الوحي. وهذه الكائنات بعضها خلقت من النور وبعضها من النار وكأنهم يركبون، وفلك الأوتار يدور بهم، خيولاً أسطوريةً تثنى أعنتها (ب24) من خلال ألحاظهم أي أبصارهم الموجهة نحو العازف.

وكيف لا يتكبرون وهذه حالتهم التي تضعهم فوق سائر البشر وطبيعتهم خارقة للعادة.

وهم يمتازون أيضاً بصفة معروفة معتادة في قصائد أخرى وهي الكرم والسخاء (ب9) وموقفهم من المال يلفت النظر حيث أنهم مستعدون أن يبذلوا في الخمر مبالغ باهظة (ب10) والطارف والتالد بدون مبالاة « قولي كيفما شيتِ» («بذل الكرام»، ب10)

ويجدر بنا أن نقف عند الأبيات التي يقوم فيها الحوار بينهم وبين الخمارة ويدور فيه الفـصال والمساومة لشراء أحسن الخمور. وهذا الوضع مألوف شائع في خمريات أبي نواس، غير أنّا هنا أمام أبيات تشير إلى مساومة حادة وتحتوي على أسماء شخصيات مشهورة من البيت الثامن إلى الحادي والعشرين: أمثال طالوت وجالوت وداود وهاروت كما أنها تتضمن كلمة التابوت وإضافة إلى ذلك فإنّ جميع هذه الاسماء تحتل مكان القافية وتذكّرنا بأحداث مذكورة في القرآن وخاصة في سورة البقرة، فَلْنقف عندها برهة لأن الاقتباس لا يمكن أن يكون حدث من باب الصدفة ولمجرد الحصول على بـضع قوافٍ بل هو مقصود. ولذلك يجـدر بنا أن نلقي نظرة إلى تسلسل الآيات ودور ذلك التسلسل في بناء المعنى.

تسلسل الآيات في سورة البقرة

سنحاول أن نكتـشف من خلال تسلسل الآيات نوعية العلاقات القائمة بين النصين والتي تؤكد أن الشاعر قد قصدها للتعبير عن آراء أو مفاهيم أو صور في قصيدته هذه.

تركّز معظم هذه الآيات حول طالوت الذي أصبح ملكاً على بني إسرائيل وهم كانوا يبحثون عن ملك لمحاربة أعدائهم. إلا أنهم لم يرضوا عنه لقلة ماله (247:2):

{(…) وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ (…)} غير أن الله سينزّل آية التابوت ليقنع بني إسرائيل. فهل هناك علاقة بين جود الفتيان وبذلهم أموالاً طائلة وقلة مال طالوت؟ والإلحاح على المال يسترعي الانتباه.

ثم يأتي ذكر داؤود وجالوت وقصتهم معروفة وسياق جميع هذه الآيات يرمي إلى الحث على القتال في سبيل الله كما يستنتج من النص القرآني نفسه ومن التفسير.

أمّا ذكر الصوامع والطواغيت في البيت الثامن:

«تنمى إلى مَحْتِد الكفّار في نسبٍ أهلِ الصوامع عُبّادِ الطواغيتِ»

فَيُرينا أن الاقتباس معنوي أكثر منه لفظي ولا ترد كلمة الطاغوت في القرآن بمعنى الشيطان إلا بصيغة المفرد: في سورة البقرة (257:2) بالذات: { (…) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ (…)} و(256:2) {(…) فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ (…)} حيث يُؤَوَّل الطاغوت10 بالشيطان. أمّا في صيغة الجمع فيراد به الأصنام.

فالخمارة بصفتها كافرة تنتمي إلى «عباد الطواغيت» وهي ملة اخترعها الشاعر كما اخترع عبارة «أهل الصوامع» التي تدل في الغالب على المسيحيين ولذلك فإنها تدخل في مجموعة الكفّار الذين يجب محاربتهم. ولذلك أدخلنا في قائمة الكلمات المستمدة من القرآن: «موتى» (ب12) إذ أنها تقابل «موتوا» (2: 243) في نفس السورة التي تحث المؤمنين على القتال في سبيل الله. فهل يدعو الشاعر على الخمارة بالموت دون البعث الموعود لمن قتل في سبيل الله وهي لا تقاتل إلا في سبيل المال وتغتنم فرصة اكتسابه «كغنم داوود من أسلاب جالوت» (ب11)؟ هل يقصد بذلك طمع صاحبة الحانة وحرصها والإيحاء بأنها حسب المفاهيم العنصرية السائدة، يهودية؟ لا ندري ولكن إذا نظرنا إلى سورة المائدة (5: 60) وجدنا آية يقترب منها تعبير لأبي نواس: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}11.

فيذكر الطبري في هذا الصدد موضوع المسخ : وقد لا يكون وراء هذا الإلحاح والعنف والاحتقار للخمارة سوى إظهار تزمّت وتمـسك بالدين يُخفي على سبيل الدعابة والسخرية، عدم مبالاتهم بالدين أصلاً وقد يكون أيضاً رداً على خشوع صاحبة الحانة المصطنع: «قد برزت في زيّ مختشع لله زمّيتِ» (ب7). أمّا طالوت فيظهر مرة أخرى مقترن بعمر الخمر (ب17) وهي في التابوت.

ولا شك أن جميع هذه الاقتباسات مُسَخّرة لأداء معنى متكامل، ففي هذا الصدد يجب ألا ننسى أن آية ملك طالوت هي التابوت. وهذه الكلمة متعددة المعاني. فهي تشير في القرآن أيضاً إلى موسى الذي قُذف فيه قبل أن يقذف في اليم. فأي المعنيين نختار؟ ويبدو أن معناها في سورة البقرة (248:2) يسمح للشاعر أن يوازي ويساوي بين التابوت وبين الخمر والسكينة: {(…) أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ (…)}. وقد علق الطبري على السكينة12 ورجّح أن معناها «روح الله يتكلم» أو «الرحمة» أو «الوقار» وما إلى ذلك من المعاني التي سنذكرها في القسم الثاني من هذا البحث، فإن كان هذا كذلك فالخمر عبارة عن هذه الروح، والجدير بالملاحظة أن هذه الأبيات تختم تجلّي الخمر في الأبيات 13 و15 حيث تظهر في أوج بهائها ومجدها وإشراقها إشراق الصباح، ويستبعد أن يكون ذكر التابوت بمعناه الروحي غير مقصود وقد أشاد الشاعر بالخمر وإلهها أكثر من مرة في خمرياته. وصورة الملائكة التي تحمل التابوت تدعمها صورة الملائكة المذكورة فعلاً في البيت الخامس عشر حيث نجدها على شكل جنود يرجمون العفاريت. وأشار الطبري إلى أنها تمـشي بين السماء والأرض. ويذكرنا ذلك بالفتيان القائمين في السماء الدنيا وفي الأرض معًا.

وآخر سؤال يتعلق بهذا الاقتباس الطويل والغني من سورة البقرة هو حدث النهر وتأويله في سياق القصيدة أو إهماله. فلقد علّق الطبري13 على امتحان جـنود طالوت بـــشرب الماء أو عدم شربه «مَنْ لم يذُق ماء ذلك النهر فهو منّي» مشيراً إلى طريقة الشرب أي مَـنْ شرب ماء النهـر فاغترفه بيده غَرفة «على أنه اسم مرة» أو غُرفة بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف وإلى الكمية وسرعة الارتواء فمنهم مَنْ ارتوى بقليل من الماء، ومنهم من شرب الكثير ولم يرتوِ. ويبدو لنا أنه من الصعب أن نضرب صفحاً عن هذه الآية وتفسيرها في نص يدور حول الشرب حتى وإن كان شرب الخمر! ولا يخفى أنّ آداب الشرب قد لفتت أنظار أبي نواس في أكثر من قصيدة.

وقد أشار بلاشير إلى أن التوراة تذكر جدعون بدل طالوت في هذه القصة ونص القضاة، يصف كيف فرّق الربّ بين الجنود من خلال طريقة الشرب: «وقال الربّ لجدعون كل من يَـلَـغ بلسانه من الماء كما يَـلَـغ الكلب فأوقفه وحدََه. وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب.»

وفي رأينا يدعم هذا الوصف الافتراض أنّ أبا نواس يقصد هنا آداب الشرب بالرغم من أننا لا نجد في تفسير الطبري ذكر هذه الطريقة في الشرب.

وقد تـساعدنا هذه الإشارة على فهم البيت الذي يليه وهو يحتوي على تحذير في معاملة الخمر:

«فـــقـــد أُتـيتــــم بــهــا مـــن كـنــــه معـــــدنـــهـا      فحاذروا أخذهـــا فـــي الـــكأس بـــالــــقوت»

فهل يُقصد بهذا الكلام أنه يجب ألا تُشرب الخمر مع القوت أي الأكل؟ أم يقصد بالقوت معنى آخر كما هو الأمر في قصيدة أخرى لأبي نواس14 حيث معنى القوت هو القلة والاكتفاء بالقليل. وحينئذ يصبح أخذها بالقوت أي باقتصاد وبدون إسراف علامة احترام للخمر وتقديسها. والأمثلة عديدة لتقديسها والإشارة إلى لطافتها وروحانيتها في سائر خمريات الشاعر.

ومن أهم الشخصيات التي لم تُذكر إلا في سورة البقرة (2 : 102) هاروت وصاحبه ماروت: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وقد اشتهر هاروت بالسحر، وسنرى أنه يلعب دوراً هاماً في القراءة التي سنقترحها في القسم الثاني من هذا البحث. فنرى من ذلك كلّه أنّ الفتية نجوم يُهتدى بهم وأنهم مقيمون في السماء الدنيا وهم حماة الوحي بصفتهم نجوماً وكواكب يُرجم بها الشياطين. وأنهم يخوضون معركة النور والظلام ويشاركون في ذلك الخمر التي لا يكادون ينفصلون عنها في الأعمال والصفات كما يدل على ذلك أيضاً تسلسل الآيات في سورة البقرة.

والنور على أشكاله المختلفة يُذكر في مواطن عديدة من القصيدة. إمّا كفترة زمنية مثل الصباح (ب1314) وإما كصفة للخمر: «هي الصباح» وليس هناك تعبير أقوى للتسوية بينها وبين النور:

(1)      «هــي الصبـاح تحــيل الـليلَ صـفوتُها      إذا رمــــــــت بشــرار كاليــــواقـــيـــت» 

 (طبعة الغزالي)15

ويخــتلف هنا البيت حسب الطبعات.

(2)       «هي الصباح يُجلّي الليل صفوتَـــــــها      إذا ارتمـــت بشـرار كاليــــواقــيـــتِ»      

(طبعة فاغنر)16

ونظراً لطبيعة الخمر كما تظهر في الأبيات 1416 نفضل القراءة الأولى التي تتماشى مع نشاط الخمر التي تطرد وتزيل الليل والظلام، كما هي ترمي بشرار شأن الملائكة الرصّاد حين ترجُمُ مرّاد العفاريت. فالخمر أيضاً تخوض معركة أسطورية مثل الفتية وحركات الخمر العنيفة الـسريعة تُلفت النظر فهي «تثب» و«تنزو» كالجراد ولها تأثير مباشر على حلقة الشاربين كما يدل على ذلك عدد غير قليل من القصائد. ورمي الشرار دليل على أنها تجمع بين النور والنار في طبيعتها. والبيت 16 يدعم كونها من طبيعة نارية إذ أنها تطلع في الكأس كما تطلع الشمس وترسل أشعتها. والشمس من منطلق العناصر الأربعة نار. وهناك قصائد شتى تدل على ذلك:

 جاءت كشمس ضحى في يوم أسعدها       من برج لهوٍ إلى آفاق سرّاء
كــــأنـــــها ولســــان المــــــاء يــقـرعـهـــــــا      نار تأجّجُ في آجام قَصْباء
17

     وتـــلتـهب الـــــكـــــــفُّ مـن تــــــــلهُّـبـــها      وتحـــــسر العـــــــين إن تـــقـــصّــاها
كــأن نــــــــــــاراً بـــهـــــــا مــــحــــرّشــــــــــــةً      نـــهـــابُـــها تـــارة ونـــغـــــشـاهــا
كان لــــــها الــدهرُ مــــــــــــــن أب خـــلـفاً      فـــي جــــحره صـــانها وربـــاهــــا 
18

والخمر والفتية يشتركون إذن في صفات عديدة وكلما تقدمنا في القصيدة وجدنا بينهم موازاة ومشاركة في الصفات والأعمال. وهنا نلاحظ صلة الخمر بالدهر أيضاً، وسنعود إلى هذه الملاحظة.

والبيت السادس عشر «فأقبلت كضياء الشمس بازغة» يستدعي بعض الملاحظات.

فيسمو بنا الشاعر إلى الفضاء في السماء بين الشمس والقمر ويذكّرنا بسورة يونس (5:10): {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ (…)}.

فحسب الطبري19 فإن ضياء الشمس آية لقوم يتّقون وهذه الآية تأتي أيضاً في سياق الخلق والآيات الدالة على قدرة الله التي من شأنها أن تثير الإيمان به. كما هو الحال فيما يخص ابراهيم في سورة الأنعام (6: 77-78) فابراهيم آمن بالله والتوحيد وهو يتأمل الشمس والقمر: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.

وجميع هذه الآيات تدل على أن الخمر آية من آيات الله وأنها لا تتخذ النور إشارة لها ورمزاً بل أنها النور نفسه وأن الفتية كمصابيح ونجوم يشاركونها أيضاً في الملامح الإلهية. فالخمر تكتسب صفات الألوهية.

ومن الأوضاع التي تبرز صفات الخمر الإلهية وقدراتها على الخلق: المزاج أي مزاج الخمر بالماء الزلال (ب21) وهو معنى لا تكاد تخلو منه معظم خمريات أبي نواس غير أن في قصيدتنا هذه أشار الشاعر إلى المزاج بطريقة عابرة دون أن يتعمق فيه كما يفعل مثلاً في قصيدة مشهورة تكشف عن طبيعة الخمر يتضح منها أن المزاج عبارة عن صراع عنيف بين الخمر والماء بسبب الاختلاف في طبيعتهما فالخمر نار ومن العناصر اللطيفة التي ترفض أن تمتزج بالماء. وسنكتفي ببضعة أبيات للدلالة على ذلك وهي مقتبسة من قصيدة تكشف عن طبيعة الخمر :

1       بـين المـدام وبـيــن المــــاء شحــــــــناء      تنقدّ غيظاً إذا ما مسّــها الماءُ
6      رقّت عن الماء حـــتى مـــــايلائـــمهـــــا      لطافة وجـفا عـن شـكلها الـماء
7      فــلو مــزجت بـــها نــــوراً لمـــــا زجها      حتــــى تــــولّد أنــــوار وأضـــــواء20

واحتفظت قصيدتنا بملامح العنف في انفجار الخمر وبطشها بعد خروجها من سجن السنين وهي في التابوت منذ عهد طالوت (أقبلت، تقذف شرراً رمى الملائكة…) ثم تراها بعد المزاج قد هدأت وأصبحت «شباك درّ على ديباج ياقوت» وبدأت تفوح بنكهة (هواء) كنفح المسك الذي يذكرنا بالجنة. والمزاج كما يشرحه الشاعر نفسه ضروري «لكسر سَوْرتها».

   اكـــــــسر بـمائك ســــورة الصــــهباء      فـــإذا رأيــتَ خضـوعَها للــماء
فـإذا رأيت خــــضـــوعها لــــــمزاجها      فَمُـــرَنْ يــديـــكَ بعــــفة وحـــياء
ومـــدامةٍ ســــجدَ الــــملـوكُ لـذكرها      جــلّت عــن التصــــريح بالأســــماء
21

ولعل من أوضح القصائد في ذكر المزاج وطبيعة الخمر والصراع بينها وبين الماء ولطافتها التي يمكن أن توصف بكلمات ولا أن تسمّى:

      بيـــــن المـدام وبين المـــــــاء شــــــــحناءُ      تنقدَّ غيظاً إذا ما مسّها الماء

التي ذكرنا بعض أبياتها.

وآخر ملاحظة تدعم ألوهيتها هي العلاقة بين الخمر والدهر فهي قد رضعت معه ثدياً واحداً مما يدل على أزليتهما.

ومن خلال المزاج تظهر سِمة أخرى للخمر وهي قوتها الخلاقة فيتولد من هذه العلاقة الدرر واليواقيت وهي تخلق سماءً وأرضاً، (القصيدة نفسها ب 45) شأن الله:

4      تبنـــي سمـــاء عـــــلـى أرض مــــعـــلقـــةٍ      كــــأنــهـا عَــــــلَقٌ والأرض بيـــــضـــاءُ
5      نجومهــــــا يــــقق وصــــحـــنها عـــلـــــــقٌ      يقـــلها عـــــن نجـــــوم الكأس أهـــواء

أمّا في قصيدتنا فيجب أن نلاحظ أن الاقتباسات العديدة من النص النموذج (القرآن) تبني صورة مختلفة تماماً عما كانت ستكون لولاها. فتطبيق هذه الاقتباسات على القصيدة ومحاولة فهمها من خلال سياقها في القرآن لا يسمح لنا أن نكتفي بالصورة التي نستخرجها للفتيان عادةً أي صورة مجموعة من الشبان تنتمي إلى الأرستقراطية وتفرض كبرياءها ومالها وتتحدى القوانين الدينية والاجتماعية وإن كانت هذه الملامح صحيحة على كل حال. ولكن إذا اتخذنا الاقتباسات بجدية رأينا أن المصابيح ليست مجرد إشارة إلى جمال هؤلاء الشبان بل أنّ النص القرآني يضيف أبعاداً وعمـقاً يـضع الفتية والخمر على نطاق تاريخي ملحمي بل كوني أسطوري. كل من الصفات والأعمال معظّمة، مكبرة، ممجدة فمثلاً بحكم كون الفتيان مصابيح الدجا يصبحون حماة الوحي ويخوضون معركة النور والظلمات سواء كان ذلك ضد العفاريت أو دفاعاً عن الإيمان بالله والتوحيد مع داوود وطالوت. ومقامهم السماء الدنيا. ولا يخفى ما في ذلك من مفارقة وسخرية تعوّدنا عليها في أشعار أبي نواس. أمّا صفات الألوهية فقد أعطاها الشاعر للخمر في أكثر من قصيدة وهي واضحة أيضاً من خلال النور والمصباح وضياء الشمس. وكذلك من خلال القدرة على الخلق في عملية المزاج الذي ينتج منه مزيد من النور ومن الدرر واليواقيت. والخمر أيضاً تخوض معركة النور والظلمات ولا يخفى تأليهها فهي والفتيان يملكون قدرة الأمر والنهي للدهر. أمّا هي فلأنها أزلية مثله وهم لأنهم يُخضعون الدهر.

وخاتمة القصيدة التي تذكر ندامة الراوي وتوبته وتشير إلى «صاحب الحوت» تَدْعَم وتهدم في آن واحد تأليه الخمر ورفع الفتيان إلى قمم غير إنسانية خارقة للعادة. فقصة يونس تدل على أنه اعتقد أن الله لا يقدر عليه: كما يأتي في سورة الأنبياء (87:21): {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فكأن الشاعر يدعو القارئ إلى التأمل في كبرياء الإنسان ويوحي أنه اكتشف قدرة الله وندم على ما فات مما جعله يتوب. فهل قـصد الشاعر ذلك وقلب الخمرية إلى زهدية؟ ليس ذلك بعيداً.

وقد عوّدنا الشاعر على تعدد الرؤى والجمع بين المتناقضات شأن كبار المفكرين الذين يرفضون الاكتفاء بالنظر إلى الأمور من منطلق واحد. ألم يتفوّق أبو نواس في الخمرية والزهدية معاً؟

ويجدر بنا أن نقف برهة عند اختياره لصاحب الحوت الذي ختم به قصيدته ثم وضعه محلّ القافية وقلب به وضع القصيدة. وقد ذُكر يونس ست مرات في القرآن. فما هي أهم ملامح هذا النبي الذي لفت أنظار العلماء والمفكرين المسلمين وغيرهم؟ الـسؤال أوسع من أن نعالجه بالتفصيل وسنكتفي بإشارات سريعة إلى بحث خصـص لهذا الموضوع22. ويتضح مــن هذا البحث أن يونس نبي يخرج على المقاييس التي نتوقعها من سائر الأنبياء والرسل فهو، حسب مؤلفة هذا المقال، غير خاضع لهذه المقاييس (a-nomal) وذلك يرجع إلى بعض صفاته منها الطيش والتفاهة والغضب وقلة الرحمة الذي يمزجه شيء من الكفر عندما يشك في القدر.

وإن كانـت هذه الـصورة التي استنتجتها الباحثة بعد النظر في أعمال العلـماء أنفــسهـم صحيحة فلا غرابة أن يتمثل به أبو نواس ويتطابق معه من بين سائر الأنبياء وأن يختاره شفيعاً لطلب العفو.

قراءة مختلفة؟

ويمكننا أن نتساءل الآن هل يمكن أن تؤدي بنا القراءة المبنية على الاقتباسات المكثفة من النص القرآني إلى قراءة أخرى مصدرها مختلف وتمتد جذورها إلى عالم ثقافي وديني مختلف؟

فإن صفات الفتية التي أبرزناها وكذلك ذكر هاروت المقترن بصاحبه ماروت بالإضافة إلى مجموعة من الملاحظات المتعلقة بالقصيدة التي قمنا بدراستها حثتنا على إقامة علاقات بين العالمين ووجّهتنا نحو خلفية ثقافية ودينية هندوإيرانية. وما يسمح لنا بالنظر في هذه الخلفية أصلاً هو استمرارية المعتقدات وتطورها على مر العصور في عصر أبي نواس كما سيتبين ذلك من خلال البحث الآتي. فمن المؤكد أن المعتقدات والمعاني التي سنشير إليها كانت منتشرة في بعض الأوساط في عصر الشاعر وبعده ببضعة قرون كما تدل عليه أعمال السهراوردي. فجورج دوميزيل تعرّض لهاروت وماروت وهويتهما التي ترجع إلى الديانة الهندية وإلى أساطير مذكورة في المهبراتا (Mahâbhârata) وقد أثبت أصلها الهندي وتتبّع أيضاً تطورات التوأمين الآشفين أثناء القرون التالية في المزدوية (mazdéisme) والزردشتية (Zoroastrisme).

وسنكتفي هنا بذكر موجز لقصة هذين التوأمين كما ترويها المهبراتا ثم سنحلل هذه القصة من وجهة نظر قصيدتنا وفي مرحلة ثانية سنتناول صفات الفتية ونقارنها بصفات «فتية ماروت» الفيدية (Védique) وعلاقتهم بالإله إندرا.

أمّا في مرحلة ثالثة فسنلقي نظرة إلى طور من أطوار قصة إندرا الإله المقاتل واختفائه في مياه البحيرة لإلقاء بعض الضوء على عدة معان واردة في قصيدتنا وفي الخمريات عموماً. ومن الواضح أن مثل هذا البرنامج يتطلب بحثاً بحد ذاته قد يكتمل في بحث مستقل.

وقصة التوأمين الواردة في المهبراتا تجري كما يلي:

كانت الأميرة الحسناء سكنية (Sukanya) قد تزوجت مضطرة من زاهد عجوز وفي يوم من الأيام رآها التوأمان (Açvin) وهي تستحم فوقعت في قلبهما وأرادا أن يفتناها ويغوياها إلا أنها صممت على الرفض فاقترحا لها أن يُعيدا الشباب إلى زوجها على شرط أن تختار زوجاً من جديد. غير إنهما احتالا عليها واتخذا نفس شكل زوجها الذي استعاد شبابه فاحتارت الأميرة ولكن دلّها الحب على زوجها الأصلي الزاهد.

وهذا الزاهد لعب دوراً هاماً في بقية القصة إذ اقترح للآلهة أن يتمتع التوأمان بشرب «السوما».وتَمكن من فرض رأيه علـى الآلهـة وبعث الرعب في قلب إندرا نفسه بخلق مارد اسمه «السُكر».أمّا التوأمان، كما أشار اليه دوميزيل، فيتصفان بمجموعة من الصفات التي استرعت انتباهنا. إنهما ليسا آلهة متكاملة ولذلك لم يُسمَح لهما بشرب السوما وهو مشروب يضمن الخلود لشاربه.

وهـما طبيبـان يسـيطران على المياه والنبات والشباب والحيـاة ويعاشـران البشر ويعالجانهم ولذلك يصعدون وينزلون بين السماء والأرض باستمرار (مثل هاروت وماروت).

ويجب أن نضيف الإلحاح على السكر على شاكلة غول أو مارد مُـفزع. وكذلك فإن أهمية شخصية إندرا وأصحابه «فتية ماروت» في هذه القصة من شأنها أن تُلفت الأنظار.

ويمكن تلخيص صفات هؤلاء الفتية حسبما تأتي في دراسة دوميزيل كما يلي:

    1. أولاً حياتهم جماعية وهم أعضاء مجموعة مستقلة في المجتمع. وقد تُعارض هذه المجموعة المجتمع وتشكل عليه خطراً؛ ويستعمل دوميزيل في هذا الصدد كلمةSodalis التي تذكرنا بمجتمعات الذكور. ومثل هذه الجماعات قد انتشرت في المجتمع الاسلامي في بداية القرن الثامن الميلادي/الثاني الهجري واشتهرت «بالفتوة»23.

    1. «فتية ماروت» يُذكرون كمجموعة لا فرق بين أعضائها، لا سنّاً ولا مكانة، ولا اجتماعياً. ويسمّون بـ «فتية السماء» أو «رجال السماء». يخترقون الفضاء بضوضاء وصخب ويقذفون البرق ويشبَّهون بالرياح القوية ووظيفتهم الأساسية هي إرسال الأمطار الغزيرة على الأرض24.

    1. هم مقاتلون وهم جنود الإله إندرا. أمّا الفتيان في الجاهلية فهم كانوا يجمعون بين الشباب والقتال.

    1. طبيعتهم نورية من «ذاتها» كما يلحّ على ذلك دوميزيل وإرادتهم كذلك «ذاتية».

    1. هم أحرار أو بمعنى أدقّ يسنّون قوانينهم بأنفسهم «Auto-nomes».

    1. ويركبون في الفضاء/السماء وعلاقتهم بالرياح العنيفة والعواصف تلفت النظر. والرياح مطيتهم25. ويتسمون كذلك بالإسراف والكبرياء.

  1. تزين صدورَهم صفائح من الذهب.

أمّا «فتية أبي نواس» فهم مقاتلون أيضاً. يـدل على ذلك مجموعة من المفردات والعبارات أمثال: مصاليت، صالوا على الدهر، في فَيلق من الدجى، اغتنمي، ظفرت بصفو العيش، غانمة كغُنم داوود من أسلاب جالوت، موتي، رمى الملائكة الرصاد إذ رجمت.. مرّاد العفاريت، وهم في الحقيقة مقاتلون، لكن في سبيل اللذة كما يشير الشاعر إلى ذلك في قصيدة مشهورة يرفض فيها الحرب والقتال: «إذا عبا أبو الهيجاء للهجاء فرسانا» وحيث يقول «يرون … والقتل في اللذة قربانا». ولقد أشرنا إلى مواطن العنف العديدة التي نجدها في هذه القصيدة، سواء كان ذلك في صفاتهم أو تصرفاتهم أو كلامهم. وكذلك أبرزنا بطش الأوضاع العنيفة التي تحيط بهم من خلال وجود شخصيات أمثال طالوت وجالوت والحرب الدائرة بينهم وبين الشياطين. ومن جهة أخرى فسيطرتهم على الدهر دليل على أنهم لا يخضعون لقوانين سائر البشر بل يسنّونها. أمّا طبيعتهم فهي من النور وقد تمتزج في بعض الأحيان بالنار. أمّا الخمر في معركتها مع الماء أثناء المزاج فهي تتصف أيضاً بالعنف وسرعة الحركات وحدّتها وهذه الحركات من نَزْو ووَثْب تشبه حركات النار حين تلتهب أو انعكاسات النور المتحركة. والصفة الوحيدة التي تنقصهم في الظاهر في قصيدتنا بالنسبة إلى «فتية ماروت» هي قدرتهم على إنزال الأمطار. ولكن، إذا أمعنا النظر في ذكر اليمّ (ب6)، ثم حدث النهر بين طالوت وجنوده ثم ذكر يونس والحوت، وجدنا أنّ عنصر الماء موجود في الصورة، رغم أننا لا نجد للماء ذكراً صريحاً، ولكن ألا يمكننا أن نعتبر أن كرمهم وبذلهم الذي يغمرون به الخمارة قد ينوب عن الماء ويلعب دوراً استعارياً شأن الماء الذي يبرز كرم الممدوح ويعبّر عنه في الشعر العربي ولكن هنا بطريقة عكسية؟ وكذلك فإنّ سخاءهم وبذلهم الأموال الطائلة يستدعي صفائح الذهب التي تزيّن صدور جنود إندرا.

ألا يمكننا أيضاً أن نعتبر أن الحدائق الملتفّة عنصر مائيّ قوي؟ سنشير فيما بعد إلى علاقتها بوظيفة التوأمين اللذين يسيطران على المياه والنبات بحكم مهنتهما كطبيبين.

ويبدو لنا أن الصورة التي رسمها الشاعر للخمر يجب أن تضاف كوثيقة إثبات لاستعادة الشاعر لمعتقدات وأساطير من التراث الهندوإيراني (هند الفيدا).

فقـد أشار دوميزيل26 إلى الأساطير المتعلقة بولادة النار عند الهنود القدماء الذين مثلوا هذه الأعجوبة بطريقة تحتوي على مفارقة (Paradoxe): فإما تلد النار عمّا يُطفيها، أي الماء، وإما تلد من نفسها.

ويبدو لنا أن خمريات أبي نواس التي تحتوي في أغلب الأحيان على ذكر المزاج في نِـسَب متفاوتة، تعبر عن هذين الوجهين. فأولا أشرنا إلى طبيعة الخمر النارية (في عنفها وبطشها وعلاقتها بالشمس، إلخ) وإلى المعركة الدائرة بينها وبين الماء خلال المزاج فإذا أمعنّا النظر إلى عملية المزاج وجدنا أن الخمر تمضي بأطوار من دفن في الخفاء والظلام إلى مرحلة المزاج التي هي بمثابة معركة جنسية ثم تهدأ فتكتسب كامل قواتها وأُبهتها وإشراقها. فهي بدورها تسيطر على الشاربين وتميتهم وتحييهم فقوتها كامنة في نفسها ولكنها تحتاج إلى أن تمتزج بالماء كي تحقق طبيعتها بوجه كامل وهذه الطبيعة تتمثل بالإشراق من جهة وبالخلق من جهة أخرى وهما صفتان تقتصران على الله.

وفي حقيقة الأمر، فالخمر مكتفية بذاتها وهي كائن تام كامل بنفسه وليس الماء إلا وسيلة«لكسر سَورتها» وفي تلك المرحلة قد يبدو أن الخمر تلد من الماء إلا أن الماء ليس إلا واسطة لإبراز طاقتها ونورها. فالخمر هنا هي هذا الإله المكتفي بنفسه.

ومن جهة أخرى فإن مرحلة كسر الطاقة معروفة في كثير من الأساطير التي تخص الآلهة أو الأبطال الذين يجب أن يُخفف من طاقتهم كي لا تنقلب خطراً على المجتمع27.

851- إندرا:

ويجب ألا ننـسى هنا طوراً من أطوار إندرا المقاتل بعد أن قــضى على الثـعـــبان فـــرترا (Vrtra) فاستولى عليه الرعب وفرّ هارباً وكأنه أصيب بانهيار رغم انتصاره فاختفى في بحيرة في ساق نبات اللوتس. وبعد مدة دامت، حسب بعض الروايات، ألف سنة، أخذت زوجته تبحث عنه، وكُلّف انيي (Agni) أي النار بالبحث عنه. ففي لمح البصر زار جميع أنحاء البرّ والفضاء فلم يجده وبعد ذلك أُجبر على النزول في الماء وهو يغامر بحياته فاكتشف الإله مختفياً في المياه. وكان جزاء أنيي بعد هذا الاكتشاف، القرب من الإله وعدم الافتراق عنه.

وهذه القصة تهمنا من عدة أوجه فنلاحظ أولاًَ الوضع العام الذي يقتضي نزول النار، على حساب حياتها، في الماء ثم العلاقة الوثيقة الحميمة القائمة بين الإله والنار. وهذا الوضع شبيه بوضع «المزاج» الموصوف في خمريات أبي نواس. فالخمر نار رغم أنها من السوائل وهي تخشى الماء وتكرهه ومع ذلك فإنها مجبرة على أن تمتزج به رغم طبيعتها المختلفة ولطافتها وإشراقها.

والبيت الذي ذكرناه سابقا :

«كــــأنـــها ولســـــــان المـــاء يـــــقرعـــها      نــــار تــأجّجُ فـــــي آجـــــام قـــصباء»

يكتسب معنى يتجاوز مجرد الصورة الشعرية وكأنه يمثل قصة إندرا. فالقصباء أي المكان المزروع بالقصب أو الذي يكثر فيه القصب، مكان فيه ماء يغذي هذا النبات.

والقصب بطول ساقه الفارغ يشبه ساق اللوتس المرتفع على سطح الماء. وهناك أوجه شبه أخرى بين حركات الخمر السريعة ووثوبهـا وقـفزها -فإنها «تنزو» نزو الجراد أو الجنادب- وحركات إندرا المقاتل. ولا شيء أسرع من النار حين تنتشر وتثب في لمح البصر. وسرعة البصر وحدّته من الصفات التي يمتاز بها إندرا وسائر المقاتلين.

وقد أشار دوميزيل إلى أن قصة إندرا في البحيرة بقيت حية عبر السنين بحيث ذكر الأفستا (Avesta) أسطورة حول المعركة التي دارت بين النار والتنين «ضحكه» وهي تصف ظاهرة الخوارنة (Xvarena) أي -بموجز القول- الانتصار المشرق والنار المتأججة داخل المياه. وقد ذكره أيضاً نشيد يخاطب السوما (أي المشروب المقدس الذي يضفي الخلود على شاربيه) والذي يقابل الخمر في الخمرية النواسية فهو يستمد قوته من الماء الزلال الذي يحيط به. وألوهية إندرا والنار والإشراق يمكن ان تنطبق على الخمر مما يدعم الرؤية التي استخرجناها خلال تحليلنا للقصيدة في القـسم الأول من هذا البحث.

ولا يمكن أن ننهي هذا البحث دون أن نقف وقفة سريعة عند التوبة التي تختتم بها قصيدة أبي نواس. فهي تُفهَم بشكل منطقي في الرؤية الإسلامية وإن كان فيها شيء من المفاجأة في خاتمة الخمرية التي تنفي ماضي الشاعر. أمّا الرؤية الهندية الفيدية التي يشير إليها دوميزيل فهي تحتوي أيضاً على أساطير وتأملات في أخطاء الإله إندرا نفسه وأصحابه المقاتلين عامة.

فالمقاتل بحكمه حارس النظام الكوني العام (شأن المصابيح فيما يخص الوحي في قصيدتنا) يجد نفسه مضطراً في كثير من الأحيان إلى استخدام أسلحة أعدائه نفسها وبالتالي أن يرتكب أخطاءاً مثلهم. ويضيف دوميزيل أن هذه الأخطاء ضد النظام الكوني والآلهة الأُخرى، قد تكون أحياناً، من منطلق بشري، مصدر تقدّم للإنسانية. غير أن لا شيء في قصيدتنا يدل على أن الشاعر يقصد الدفاع عن الأخطاء والإشادة بقوتها التقدمية، وإن لم تكن هذه الفكرة بعيدة عن معتقداته حسبما نجدها في رؤية الشاعر العامة للحياة.

ولا يبقى في القصيدة إلا الندامة وطلب العفو:

«عــــــــــــلى مــا كـــــــــــان مـــن خـــطــــــأ       ومــن إضـاعة مـــكـتوب المـــواقيت»

وأشرنا إلى هذه النقطة (أي أخطاء المحارب) لأنـها تكـوّن ثلاثية فيما يـخصّ طبيعة «فتية ماروت» وطبيعة الخمر «النارية والنورية» معاً ومعركتها مع الماء في الرؤية الهندية. نرى أن التوبة من شأنها أن تقوّي الموازاة التي وجدناها بين قصيدة أبي نواس والرؤية الهندوإيرانية التي يصفها دوميزيل28 وهي تكمل «المبنى» الثلاثي للقصيدة وللأسطورة.

وعلى كل حال فإن القراءة التي اقترحناها والتي تبرز العلاقة القائمة بين قصيدة أبي نواس والتراث الهندوإيراني يجب أن تكتمل بالبحث عن الفترة المزدية وتأخذ بعين الاعتبار ما وصل إلينا من دين زرادشت. وفي هذا الصدد يشير هنري كوربين29 إلى الطبيعة النورية والنارية التي تسمّى في هذا الدين بـ «خوارنه» والتي تمثل النور القاهر والنار المنتصرة. فهناك موازاة بين الخمر والنار الهندية الفيدية وبين الخمر كما صورها أبو نواس: في طبيعتها وحركاتها وعلاقتها بالماء و«الخوارنه» الذي يختفي في بركة. ويبـيّن كوربين العلاقة الكائنة بينه وبين «السكينة». ومن الجدير بالملاحظة أنّ الطبري يذكر أن التابوت كان يحتوي على السكينة وعلى ما تركه موسى وآل هارون أي عـصا موسى وشئ من الألواح (ج 2، ص 614) وأنّ السكينة ريح هفّافة لها وجه كوجه الإنسان أو ريح لها رأسان أو لها رأس كرأس الهرّة إلى جانب المعنى الذي يرجحه وهو «روح الله يتكلم» ويضيف: «بلغني أنّ التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.» (ج2، ص 609) ولا شكّ أنّ وجود بحيرة طبرية، مقرّ تَرِكة موسى والبحيرة التي يختفي فيها «الخوارنه» من شأنها أن تلفت الأنظار وأن تضيف عنـصراً أساسياً يدعم الشبه بين قصيدة أبي نواس والخلفية الهندوإيرانية والمزدية والموازاة بينهما. وهناك عنصر آخر وهو دور الشمس القاهرة (sol invictus) في الرؤية المزدية التي يجب ربطها بـطبيعة الخمر النارية والنورية معًا.

ويذكر كوربين عدة مرات العلاقة القائمة بين الخوارنه والدهر أو «البخت» مما يدعم علاقة الفتية بالدهر التي أشرنا إليها ويلقي عليه ضوءاً كما يثبت طبيعة هؤلاء الفتية.

ولا غرابة في أن تشير القصيدة إلى مثل هذه المعتقدات التي يمكن أن نفترض أنها كانت في متناول يد أبي نواس بحكم ثقافته وأصله، ونحن نعلم أيضاً أنها كانت معروفة بعده ببضعة قرون لدى السهراوردي الذي أحياها كما بيّن ذلك هنري كوربين في مؤلفاته العديدة. وصحيح أن التناص بين قصيدة أبي نواس والنص القرآني قد ساعدنا على إبراز هذه الموازاة إذ أنه أضفى على القصيدة أبعاداً وآفاقاً سمحت لنا أن نجرؤ على استخراج ملامحها. ولكن من البديهي أيضاً أننا لولا قراءة مسبقة لأعمال دوميزيل لما استطعنا أن نتوصل إلى النتائج التي اقترحناها.

في افتتاح هذا البحث طرحنا بعض الأسئلة المنهجية حول التناص. أولها: متى وكيف يمكننا أن نتأكد أننا أمام ظاهرة التناص؟ وميزنا بين التناص الداخلي أي اللجوء إلى قصائد أبي نواس المختلفة كمصدر إيضاح فإذا وجدنا معان تتكرر في فئة من القصائد تيقنّا أننا ظفرنا بالمعنى. أما فيما يخص التناص الخارجي أي المقارنة بين نصين مختلفين من مصدرين مختلفين، فالاعتماد على التكرار بأشكاله المختلفة وكثافته هو الأساس.

متى تبين أن الشاعر اقتبس من النص النموذجي عمداً تساءلنا كيف يتماشى هذا الاقتباس مع سياق القصيدة العام واتجاهها وقصد الشاعر أي ما يُفهم من كلامه أو المقصود ولا نعني بالقصد ما نتوهم أنه دار في ذهن الشاعر من معانٍ وما عسى أن يريد تعبيره. فذلك مستحيل.

واعتمدنا على السياق في النصين بناءً على الافتراض أن كلا النصين من القصيدة ومن النص النموذجي يكونان كتلة معنوية موحدة تتماسك فيها المعاني وتنتظم بشكل متلاحم ولا نكتفي ببضعة كلمات تاركين للقارئ أن يختار ما يشاء فالسياق المباشر والعام الذي ترد فيه الألفاظ والتعابير والتلميحات في كل من النصين يحدد نوعاً ما إمكانيات اختيار أنسب العلاقات القائمة بينها. فالسياق في النص النموذجي لا يقل أهمية عن السياق في النص المدروس لتوجيه الباحث. وبعد ذلك كله فعلى الباحث أن يختار التي يراها أليق لتكوين المعنى وأن يضرب صفحاً عن سواها وأن يبرهن على ما اختاره معتمداً على النصين وأن يرجح بين اختيارات مختلفة أنسبها إن استطاع إليه سبيلاً.

وفيما يخص بحثنا يمكن أن نضيف سؤالاً وهو لو لم تعتمد على النص القرآني هل كنا تمكنّا من الوصول إلى اقتراح القراءة الثانية القائمة على التراث؟ أعتقد أن الجواب إيجابي إلا أنه من الجدير بالملاحظة أن اللجوء إلى النص القرآني يضمن لنا من خلال بناء الجو الملحمي الأسطوري الكوني المزيد من التيقن من صحة القراءة الثانية.

القصيدة

[من البسيط]

1041-      وَفِــــتيَةٍ كَــمَصابيحِ الــــدُجــــى غُـــــرَرٍ      شُمُّ الأُنـوفِ مِـنَ الصـيدِ المَــصاليتِ

1052-      صالوا عَلى الدَهرِ بِاللَهوِ الَّذي وَصَلوا      فَلَيسَ حَــبلُهُمُ مـِنهُ بِمَـبتوتِ

1063-      دارَ الزَمــانُ بِأَفــلاكِ الســعودِ لَــــــهُـــم      وَعاجَ يَحنو عَلَيهِم عاطِفَ الـليتِ

1074-      نادَمتُهُم قَــرقَفَ الإِســـفَـــــــنطِ صـافِيَة      مَشمـولَةً سُبيـَت مِـن خَمرِ تِـكريتِ

1085-      مِنَ الــلَواتي خَطَـــبنـاها عــَـلى عَـجَــلٍ      لَمّـا عَجَجـنا برَبّـاتِ الحَـوانيتِ

1096-      في فَيلَــقٍ لِـلدُجـى كَاليَـمِّ مُــلتَـــــــطِــمٍ       طامٍ يَحــارُ بِـهِ مِــن هَــولِهِ النـوتي

1107-      إِذا بِــكافِرَةٍ شَـمــــــطــــاءَ قَــــد بَـــــرَزَت      فــــي زَيِّ مُــــختَشِعٍ لِلَّهِ زِمّـــيتِ

1118-      تنـمي إلــــى محـتـد الكفارِ في نســبٍ      أهــــــــل الصـوامـــع عـــبّاد الـــطـواغــيت

1129-      قالَـــت مَــنِ القَومُ ؟ قُـلــنا مَن عَرَفتِهُمُ      مِن كُلِّ سَمحٍ بِفَرطِ الجودِ مَنعوتِ

11310-      حَـلّوا بـِدارِكِ مُــجتـازينَ فَــاِغــتَنِــــمـي      بَذلَ الكِرامِ وَقولي كَيفَما شيتِ

11411-      فَقَد ظَــفِرتِ بِـــصَفوِ العَـــيـشِ غــانِـمَةً      كَغُنمِ داؤودَ مِن أَسـلابِ جالوتِ

11512-      فَاحــيَيْ بِـربْحِـــهِم فــي ظِــلِّ مَــكـرُمَـــةٍ      حَتّى إِذا اِرتَحَلوا عَن دارِكُم موتي

11613-      قالَـت فَعِـندي الَّـذي تَبــغونَ فَاِنــتَظِروا      عِندَ الصَباحِ فَقُلنا بَل بِها إيتي

11714-      هِيَ الصَـباحُ يُــجلّي اللـــَيلُ صــــفوَتَها      إِذا ارَتـــــمَـتْ بِــــشـِرارٍ كَـاليَـواقــــيتِ

11815-      رَمْــيَ المَــلائِكَةِ الــرُصّــادِ إِذ رَجَـــمَـتْ      في اللَيلِ بِالنَجمِ مُرّادَ العَفاريتِ

11916-      فَأَقـبَـلَت كَضِيـــاءِ الشَـمــــسِ بَـــازِغَــــةً      في الكَأسِ مِن بَينِ دامي الخَصرِ مَنكوتِ

12017-      قُلنـــا لَــها كَـم لَها فـي الدَنِّ إذ حُجِبَت      قالَت قَدِ اتّـخِذَت مِن عَهدِ طالوتِ

12118-      كانَـت مُخَبَّــأَةً فـي الـدَنِّ قـَد عَنَـــــسَت      في الأَرضِ مَدفونَةً في بَطنِ تابوتِ

12219-      فَــقَد أُتيــتُـم بِـها مِـن كُـنهِ مَــــعــدِنِـــها      فَحاذِروا أَخذَها فــــي الكَأسِ بِالــقوتِ

12320-      تُهـدي إلى الشَربِ طيباً عِــندَ نَكـهَتِها      كَنَفحِ مِسكٍ فَتيقِ الفأرِ مَـفتوتِ

12421-      كَأَنَّــــهــــا بِــزُلالِ المُـــزنِ إِذ مُــــزِجَــــت      شِباكُ دُرٍّ عَلى ديباجِ يــــاقوتِ

12522-      يُـديرُهــــا قَــمَــرٌ فـــي طَــــرفِـــهِ حَـــــــوَرٌ      كَأَنَّما اشتُقَّ مِنهُ سِحرُ هاروتِ

12623-      وَعِنــدَنا ضــارِبٌ يَـــــشدو فَـــيُـــــطــرِبُنا      يا دارَ هــِندَ بِـذاتِ الـجِزعِ حُيِّيتِ

12724-      إِلَيــــهِ أَلحــاظُــــنـــا تُــثــنــى أَعِـنَّــــتـُـــها      فَلَـــــــو تَرانــا إِلَيـهِ كَـــالمَبـاهــيتِ

12825-      مِـــــن أَهلِ هيت سَخِيُّ الجُرمِ ذي أَدَبٍ      لَـــــهُ أَقــولُ مِـزاحاً هــاتِ يـــا هـــيتـي

12926-      فَيَـــبتدي بِـــصحـيحِ اللــفـظ عــَن نَغَــمٍ      مُثَقَّفــــاتٍ فَصـــيحاتٍ بِتَـثبــــــيتِ

13027-      حَتّــى إِذا فــــلــكُ الأَوتـــــــارِ دارَ بِـــــــنا      مَــــعَ الطــبولِ ظَلِلْنـا كَالـمسابيتِِ

13128-      نُـــزْهى بِـــها فــي حَــــديـقاتٍ مُــلَفَّـــفَـةٍ      بِالزَندِ وَالطَلحِ وَالرُمّانِ وَالتوتِ

13229-      تُلهــيكَ أَطـــيارُهــا عَــــن كُـلِّ مُــلـهِـيَةٍ      إِذا تَرَنَّمَ في تَرجيعِ تَصويتِ

13330-      سُــقـيـــًا لـــــذلك دهـــرًا بـــان منــــفرطًا      محبّبًا لم يكن عندي بممقوتِ

13430-      لَـم يَثْـنني اللَهوُ عَــن غِشــيانِ مَــورِدِها      وَلَم أَكُن عَن دَواعيها بِصِمّيتِ

13531-      حَـتّـى إِذا الشَــــيبُ فــاجـاني بِـطَـلـعَــتِهِ      أَقبِحْ بِطَلعَةِ شَيبٍ غَيرِ مَبخوتِ

13632-      عِـنــدَ الغَــوانـــي إِذا أَبــصَــرنَ طَــلـعَـــتَهُ      آذَنَ بِالصَرمِ مِن وِدٍّ وَتَشتيتِ

13733-      فَقَد نَـــدِمـتُ عَـــلى مــا كـانَ مِن خَطَـإ      وَمِن إِضاعَةِ مَكتوبِ المَواقيتِ

13834-      أَدعــوكَ سُبــحانَـكَ اللَــهُمَّ فَاعْفُ كَــما      عَفَوتَ يا ذا العُلى عَن صاحِبِ الحوتِ


المصدر

المراجع:

Audebert, Claude, 1998 : « Dans les outres anciennes versons un vin nouveau », in Dichy, J. et Hamzé, H. (éds.), Le voyage et la langue : mélanges en l’honneur d’Anouar Louca et d’André Roman, Damas, Presses de l’Ifpo, p. 87-104.

Audebert, Claude, 2000 : «  Emprunts faits au Coran par quelques poètes du iie/viiie siècle », Arabica 47, p. 457-477.

Cahen, Claude, 1965 : «  Futuwwa », Encyclopédie de l’Islam, 2ème éd., Leyde, Brill, vol. 2, p. 983-987.

Corbin, Henry, 1971 : En islam iranien. Aspects spirituels et philosophiques, vol. 2 : Suhrawardî et les platoniciens de Perse, Paris, Gallimard, 1971.

Dumézil, Georges, 1945 : Jupiter, Mars, Quirinus, vol. 3 : Naissance d’Archanges. Essai sur la formation de la religion zoroastrienne, Paris, Gallimard.

Dumézil, Georges, 1981 : Mythe et Epopée, Paris, Gallimard, 4ème éd., 3 vol.

Dumézil, Georges, 1985 : Heur et Malheur du Guerrier. Aspects de la fonction guerrière chez les Indo-Européens, Paris, Flammarion, 1985.

Enderwitz, Suzanne, 1989 : « Du fatā au ẓarīf, ou comment on se distingue ? », Arabica 36, p. 125-142.

Fahd, Toufic, 2002 : « Ṭāghut », Encyclopédie de l’Islam, 2ème éd., Leyde, Brill, vol. 10, p. 101-102.

Grandi, Ida Zilio, 2006 : « Jonas, un prophète biblique dans l’islam », Revue de l’histoire des religions 223/3, p. 283-318.

Montgomery, James E., 1994 : « Revelry and Remorse : a Poem of Abū Nuwās », Journal of Arabic Literature 25, p. 116-134.

Puech, Henri-Charles, 1947 : « De la mythologie indo-iranienne à la légende juive des anges Azael et Šemhazai ou Harūt et Marūt », Revue de l’histoire des religions 133, p.  221-225.

Zakharia, Katia, 1987 : « Les références coraniques dans les Maqāmāt d’al-Ḥarīrī : éléments d’une lecture sémiologique », Arabica 34, p. 275-286.

تفسير الطبري = الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1373/1954 (الطبعة الثانية).

الجاحظ، أبو عثمان عمر بن بحر، كتاب البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار الجيل، بدون تاريخ.

(غ) = ديوان أبي نواس، تحقيق أحمد عبد الحميد الغزالي، بيروت، دار الكتاب العربي، 2007 (طبعة جديدة).

(ف) = ديوان أبي نواس الحس بن هانئ الحكمي، تحقيق ايفلد فاغنر، برلين، منشورات المعهد الإلماني للأبحاث، 2003، ج 3.

Le Coran, trad. R. Blachère, Paris, G. P. Maisonneuve, 1949, 1950, 2 vol.

ملاحظات:

1 انظر: Audebert 1998.

2 هكذا سمّينا القصائد التي يأتي فيها الشاعر بمناقشات وحجج والتي يسرد فيها قصة مثلما هو الأمر في القصيدة التي ندرسها. وذلك في المقال المذكور أعلاه. وقد تناولنا طريقة بناء الخمرية السردية في بحث عنوانه المقامة الخمرية لبديع الزمان الهمذاني وخمريات أبي نواس. وقد ألقيت هذا البحث في ملتقى القاهرة الدولي الثامن سنة 2009 وسينشر في أعمال هذا الملتقى.

3 (ف) رقم 40 ص 64-61؛ (غ) ص 338-339 وجدول أهم الاقتباسات، ص 340.

4 انظر: Montgomery 1994. وقد كرسنا دراسة عن الاقتباسات القرآنية وتوظيفها في أعمال شعرية مختلفة. انظر: Audebert 2000. وقد أبرزت الباحثة كاتيا زخريا في بحث عن الاقتباسات من القرآن في مقامات الحريري كيف دمج المؤلف هذه الاقتباسات ووظفها لإيداع أسلوب جديد وخلق رؤية. انظر: .Zakharia 1987

5 (ف) رقم 46، ص 72؛ (غ) ص 48.

6 تفسير الطبري، ج22، ص 4-36.

7 تفسير الطبري، ج 29، ص3؛ وبالمصابيح نهتدي أيضاً ولذلك نرى الجاحظ في البيان والتبيين (ج 2، ص 506) يقول إن الرسول والسلف المتقدمون والتابعون مصابيح الظلام.

8 (ف) رقم 1 ص 2؛ (غ) ص6 من قصيدة «دع عنك لومي فإن اللوم اغراء».

9 تفسير الطبري، ج 25، ص151-153.

10 انظر: Fahd 2002.

11 تفسير الطبري، ج6، ص292.

12 تفسير الطبري، ج6، ص 610.

13 تفسير الطبري، ج 2، ص 617؛Le Coran, trad. R. Blachère, vol. 2, p. 408 et note 250 .

14 (ف) رقم 39، ص 60؛ (غ) ص 74 : رَبع البلى أخرس عِمّيتُ        مستلب المنطق سِكّيتُ
والبيت 3 : ولا عجيبٌ إن جفت دمنة       عن مســتهامٍ نــومه قـوتُ

وانظر أيضاً لسان العرب مادة قوت: «القوت ما يُـمْسِـك الرّمق من الرزق».

15 (غ) ص 38.

16 (ف) رقم 40، ص62 ب14؛ (ف) ص 61-64، بيت 41.

17 (ف) رقم 7، ص 11، ب 28-29؛ (غ)، ص34، ب 23-22.

18 (ف) رقم 10، ص 17، ب 6-8؛ (غ)، ص8، أبيات 4 – 6 .

19 تفسير الطبري، ج11، ص86.

20 (ف) رقم 3 ص 6؛ (غ) ص 696.

21 (ف) رقم 6 ص 10، ب 2-3؛ (غ) ص 702 و704 وهو مزيج من نفس الأبيات:
ص 704 :      لا تبكِ بعد فراق الخلطـاء واكسر بمائك سورة الصهباء
وص 702 :       اكسر بمـائك سورة الصهباء فإذا رأيت خضوعها للماء
فاحبسن يديك عن التي بقيت بها       نفسٌ تشاكل أنفس الأحياء

22 انظر: Grandi 2006.

23 انظر: Endertwitz 1989 انظر كذلك : Cahen 1965.

24 انظر: Dumézil 1981, vol. 3, p. 21-22; Dumézil 1985, p. 77-78 et p. 152-160. وحول أصل مفهوم «ماروت» الراجع إلى ما قبل الـﭭيدا وتطوره في الأﭬيستا أنظر أيضاً : Puech 1947, p. 221-225.

25 انظر: Dumézil 1985, p. 124-125.

26 أنظر: Dumézil 1981, vol. 3, p. 21-27.

27 أنظر: Dumézil 1985, p. 201-205.

28 انظر: Dumézil 1985, p. 130-172.

29 انظر: Corbin 1971. خاصة الباب الثالث من صفحة 81 إلى الصفحة 142 عامة ومن علاقة الخوارنة بالدهر أو «البخت» من الصفحة 87 إلى الصفحة 91 .