مجلة حكمة

آفاق ما بعد الحداثة، أم ما قبل الحداثة؟ تعقيب على مداخلة للدكتور عبدالله الغذامي – نجيب العوفي

مجلة الجابري – العدد الأول


الدكتور عبدالله محمد الغذامي، صاحب هذه المداخلة الشائقة والشائكة في آن، صوت طليعي ومتمرس، حملته إلينا ريح الصبا من قلب البلاد العربية، فيما يشبه المفاجأة السارة، ليشد أسماعنا إلى شدوه الأدبي والنقدي، واجتهاده النظري والمنهجي في مجال تشريح النصوص وفقهها، منذ كتابه المتميز (الخطيئة والتكفير) إلى كتابه الأخير لا الآخـر (ثقافة الأسئلة)، مرورا بجملة تآليفه الأخر ودراساته الدورية المبثوثة هنا وهناك. هو صوت يجمع بين الثقافة العربية الأصيلة التي نـهل من معينها القراح دون أن ينكفئ عليها، والثقافة الغربية الحديثة التي خاض غمارها دون أن ينجرف في تيارهـا أو يقع في إسارها. أي يجمع بين حد الأصالة وحد المعاصرة في توليفة سوية وبـهية، مجسدا بذلك نموذج المثقف العربي المتفتح الذي يشرع نوافذه للرياح اللواقح، دون أن يقتلع من مكانه أو يغيب عن زمانه، حسـب المقولة الغاندية الأثيرة لدى الباحث.

هذه شهادة تقديرية وأولية لا مناص من الإفضاء بـها في حق الرجل، دون محاباة أو مَـيْن، وضعا للحق في نصابه واعترافا بالجميل لأصحابه.

ومداخلة الدكتور الغذامي الـمُـمَحْورة على (آفاق ما بعد الحداثة)، تبدو حافلة بالنقاط الخلافية والبؤر الحساسة والساخنة. وهذا دليل على جراءتـها وخصوبتها وعمـق أسئلتها. وما إِخَالُ الدكتور الغذامي إلا فاسحا صدره للرأي الآخر و”النص المضاد”[1]، وهو الحداثي بامتياز، والمدافع عن “ثقافة الأسئلة”[2] بمَنْأى من أي تزمت أو تعنت. وفي الاختلاف رحمة كما قيل. كما أن الاختلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية، كما قيل أيضا.

والباحث يفتتح مداخلته قائلا :
“ولسوف تكون ورقتي هذه بمثابة الأسئلة حول عنوان الورقة المقترحة، وربما أقول إنني أكتب ضد الورقة وفي مواجهة العنوان”.

وبدوري ستكون ورقتي التعقيبية هذه، بمثابة الأسئلة المركبة على الأسئلة أو المرتبة عنها. ولربما قلت أنا أيضا، إنني أكتب ضد الورقة المضادة. فنحن إذن عازفان على الوتر التساؤلي ذاته، معزوفتين مختلفتين، إلى هذا الحد أو ذاك. وليس كالتساؤل والـمُـساءلة، واقْتِداح أَزْنِدَتهما، مدخلا إلى معرفة والإحاطة بالصفة. ولا يشفي غليل السؤال إلا السؤال.

وستكون أسئلتي متدرجة وفق الوتيرة التي سارت عليها أسئلة المداخلة وتنامت عبرها، وذلك من باب حذْو النعل بالنعل أولا، وحفاظا على الخيط المنهجي الناظم ثانيا.

1 ـ انطلاقا من استراتيجية التشريح والتفكيك التي يتبناها الباحث في معظم تحاليله وقراءاته، يعمد بادئ ذي بدء، إلى تفكيك العنـوان المقترح (آفاق النقد الأدبي في دول مجلس التعاون) ومجابـهة سلطته الاصطلاحية والمفهومية . وهو تفكيك يذهب إلى فك الارتباط بين حدي هذا العنوان وفصم العروة النحوية والدلالية التي تشدهما . يقول في هذا الصدد :

“إن أول ما سأفعله بهذا العنوان هو استبعاد كلمات (في دول مجلس التعاون) ذلك لأنـها شبه جملة وليست جملة، وكأنما هي شبه حقيقة وليست حقيقة (…) ولذا فإنني سأخلص العنوان من قيد فكري وإيديولوجي ليس له من معنى سوى كونه سلطة اصطلاحية تفرض نفسها في لحظة غياب الأسئلة”.
وهو إذ يخلص العنوان من هذا القيد الفكري والإيديولوجي، حسب تعبيره، يجهز على المرتكز الجغرافي والتاريخي لأشغال هذا الملتقى بضربة لازب، من حيث أريد له أن يتحدد ويتحيز في الزمان والمكان واللسان، أي (في دول مجلس التعاون) ويقوم ، بدل ذلك، بتعويم وتـهويم آفاق النقد الأدبي في عراء الزمان والمكان واللسان . هذا من جهة. ومن جهة ثانية وتالية، فإن الباحث إذ يخلص العنوان من قيده الفكري والإيديولوجي يقع، من حيث يحتسب أولا يحتسب، في قيد فكري وإيديولوجي آخر ومضمر. لأن نفي “الإيديولوجي” في التحليل الأخير، هو ضرب من الإيديولوجيا، مموه وملـفَّح. وقراءته لمنطوق ومفهوم العنوان، لذلك، ليست “بريئة” أو محايدة، إن لم نقل إنـها “آثمة” و”ماكرة”، بالمعنى الإيديولوجي تحديدا. ومن جهة ثالثة، فإن شبه الجملة التي أسقطها البـاحث من الاعتبار، (في دول مجلس التعاون)، توقع العبارة الأولى (آفاق النقد الأدبي) في المحذور ذاته، وتناوح بـها عند حدود شبه الجملة. ولا يكتمل العنوان ويستقيم أوده، إلا بالتئام حديه والتحام شقيه، كما هو منصوص عليه في الورقة المقترحة.

2 ـ بعد مواجهة العنوان وقص أحد جناحيه للاستفراد بالأول (آفاق النقد الأدبي)، يعقد الباحث مواجهة ثانية مع مصطلح (الأدبي) ليحرره من القيود الذهبية التي ارتسف فيها عبر العصور، وينضو عنه تلك الأقماط السميكة التي حاكتها له المؤسسة الثقافية الرسمية، ويطلقه من عنان، ليحاذي ضفافا وهوامش رحيبة وخصيبة كانت تعتبر بعيدة عن الشرعية الأدبية، وكان ينظر إليها، لذلك، بتعال واستخفاف. في حين أن الـهامشي والثانوي أكثر حيوية وفاعلية من المركزي والرسمي. يقول الباحث في هذا الصدد :

“إننا نجنح إلى جعل الأدبي في الجليل والمعلن والمقبول تقليديا، وننسى الحقير والمستور والمهمش وقد يكون ذلك مقبولا لو أنه الجليل هو وحده الفاعل والمؤثر في الناس، ولكن الأمر يصبح خطـيرا إذا ما اكتشفـنا أن المحتقر لدى المؤسسة الثقافية الرسمية هو الفاعل والمؤثر في جماهير الناس”.

ولا مراء في أن الباحث يصدر في هذا الحكم، عن مفهوم حداثي وديمقراطي للأدب، ينفي التفرقة بين الرفيع والوضعي ويلغي الحواجز الجمركية بين أشكال التعبير وأنماطه، ويهتدي ضمنيا بـهَدْي وطروحات الرومانسية الألمانية والشكلانية الروسية من جهة، وتنظيرات ومقاربات البنيوية والسيميولوجيا من جهة ثانية. وهي اتجاهات ومنازع عملت سوية على تـهوية وتفضية مفهوم الأدب Littérature والأدبية Littérarité وجعل الأدب، كما قال موريس بلانشو “لا يقبل التفرقة بين الأنواع، ويرمي إلى تحطيم الحدود”.[3]

إلى هنا، نحن متفقون من حيث المبدأ، مع باحثنا الألمعي على أن مفهوم الأدب لم يعد مقصورا وحكرا على الجليل والسامي والرسمي، وأن خارطة نفوذه قد تراحبت واغتنت باللغات والأشكال والأنواع، وانفتحـت على الضفاف والحواف. أي أن مفهوم حديثا للأدب بدأ يسد مسد المفهوم الكلاسيكي ويفيض عنه.

بيد أن الباحث الكريم، إذ هو يعيد الاعتبار للهامشي وينزع عنه وصمة الصغار والدونية، كان يعلي من شأنه ويرفع من وزنه على حساب الأدب الذي سماه رسميا ونخبويا ومتعاليا. يقول في سياق حجاجه وسجاله :

“… وسيكون الأدبي عندنا اجترارا نخبويا معزولا ومتعاليا تعاليا ادعائيا واهما. وإن كان للعرب من ديوان في السابق، فلا بد أن صفحات هذا الديوان قد تبدلت وجرى طمس الشعر فيها لتحل محله فنون أخرى مازلنا غافلين عنها، ومنها الأغنية والنكتة، ومنها ممارسات المجتمع في عاداته وأعرافه وحكاياته وطرائق معاشه في اللباس والتبادلات السلوكية، ومنها وجوه المتعة والتنفيس الجماهيري في الألعاب، خاصة ما هو طاغ منها ومهيمن مثل كرة القدم.”

هنا يضعنا الباحث تجاه أحكام قيمة وصفات قادحة تغمز من قناة الأدب الرسمي ـ المكتوب، من قبيل الاجترار النخبوي المعزول والمتعالي تعاليا ادعائيا واهما. وهنا يضعنا أيضا، تجاه مفهوم فضفاض جدا وزَلِق جـدا للأدب، ينفتح به على “امبراطورية العلامات” الشاسعة، حسب تعبير رولان بارت، بما في ذلك معارض الأزياء، وموائد الطعام، وملاعب الكرة..

والأخطر من هذا، هو أن تكتسح هذه المظاهر السلوكية وهذه الفنون الشعبية المشهد الثقافي العربي، فتزيح الشعر عن سدته وهو ديوان العرب والذروة والسنام من إبداعهم الأدبي. لماذا ؟! لأن “صفحات هذا الديوان قد تبدلت وجرى طمس الشعر فيها لتحل محله فنون أخرى مازلنا غافلين عنها”.
ولقد تبدلت صفحات هذا الديوان لا محالة، بفعل تعاقب الليل والنهار، لكن جذوة الشعر فيها ما تزال متوهجة ومتجددة، لا يخبو لـها ضرام. ولاشك في أن مفهوما فضفاضا وزلقا للأدب، كالذي يطرحه الباحث، لا بد من أن يفضي إلى ضرب من الخلط والالتباس بين الأدب “الرسمي” والأدب الشعبي، وبين الأدب بمفهومه العام والأدب بمفهومه الخاص.

وفي ثقافات كل الشعوب، القارئة والكاتبة، ثمة حدود مائزة بين الأدبين، وإلا اختلط الحابل بالنابل، واستوى الطالع والنازل. وكأننا بذلك، نستبدل سلطة بأخرى، نزولا عند الشعار المعروف (الجمهور عاوز كده !).

3 ـ تأسيسا على ما سبق وتتويجا له، يعقد الباحث مواجهة ثالثة مع مصطلح (النقد)، في مساق مواجهته التفكيكية للثوابت واليقينيات، لأن “تحرير مصطلح (الأدبي) من شرط الرسمي والجليل والبليغ، سوف يحرر مصطلح النقد أيضا من هذه الشروط القسرية والتقليدية”. كيف ذلك ؟!

يقول الباحث “يجب تحرير النقد من الشرط البلاغي الذي يعلي من شأن المكتوب ويقلل من شأن الملفوظ ويقصر الفنيـة على الرسمي ويتعالى على الشعبي، ويكبر من الفردي ويهمل الجماعي”.

ويستطرد شارحا وخالصا إلى النتيجة المبتغاة :

“فإذا ما تحررت مادة النقد من جهة وأداته من جهة ثانية، فإن ذلك سوف يكسر الجدود المفروضة ويفتح آفاق النقد على المدى الثقافي والمعرفي، ويضع النقد في حوار متفاعل مع المؤثرات القائمة فعلا في الوجود البشري”.

هنا أيضا، يخضع مفهوم (النقد) لعملية تعويم إبيستمولوجية، تفيض به عن تخوم تخصصه وحقله، لينداح طليقا عبر المدى الثقـافي والمعرفي الرحب، حيث تتكسر الحدود والأسْيِجة المفروضة وتتفاعل المؤثرات المختلفة في الوجود البشري. ويبحر النقد، من ثم، في أرخبيل متعدد الجزر والاتجاهات.

وإذ يتحرر الأدبي من شرط الرسمي والجليل والبليغ، يتحرر معه النقدي أيضا وبالنتيجة، من الشرط البلاغي الذي يعلي من شأنه المكتوب. والشرط البلاغي بالضبط، هو الذي يخصص ويميز اللغة الأدبية عما سواها من اللغات، سواء بمقاييس البلاغة القديمة أم الجديدة، أي علم الأسلـوب أو الأسلوبية. واللغة الأدبية الفصيحة أو “الرسمية” حد تعبير الباحث، كانـت وما تزال هي موضوع النقد الأدبي ومادة اشتغاله كخطاب واصف أو قول على قول، وإلا لما علقت ولصفت به صفة “الأدبي” بحال. والتحـرر من الشرط البلاغي والشرط الكتابي في وضع حساس وفسيفسائي كوضعنا، هو في آخر المطاف، تحرر من شرط اللغة العربية ذاتـها التي من أخص خصائصها البلاغة والشعرية، تجريان منها مجرى النُّـسغ. وهذه اللغة هي مساك الـهوية العربية، وهي طوق نجاتنا المتبقى في خضم هذا اليم الكوني اللُّـجّى الفاغر أشداقه للابتلاع والاقتلاع.

وليس هذا النفث صادرا عن تلك النـزعة المتحجرة الأرثوذوكسية أو الإيديولوجية التي يشجبها الباحث على امتداد كتاباته، بقدر ما هو صادر عن جدل التحدي والاستجـابة، والالتحام والانقسـام، والبقاء والفناء. وهذا من قبيل البدهيات والمسلمات، والثوابت واليقينيات، التي لا يختلف فيها، فيما أظن، اثنان عربيان، ولا يصح في الأفهام شيء، إذا احتاج النهـار إلى دليل.

4 ـ نأتي هذا إلى بيت قصيد المداخلة و”مربط الفرس” فيها، وهي الحداثة وآفاق ما بعد الحداثة، وفق صيغة العنوان.

والدكتور الغذامي، للتذكير، هو أحد فرسان الحداثة البواسل والقلائل، الذين حملوها هما وسؤالا أكثر مما حـملوها يافطـة وشعارا، على امتداد رحلته الأدبية الدؤوب. ومداخلته هذه تنصب في صميم همومـه وشواغله، وتزودنا بجديد من عنده، حول مسالة الحداثة وما بعدها. يقول في هذا الصدد :

“نحن في مرحلة (الـما بعد) : ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية، ما بعد العصر الصناعي.وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي، ومن ثم هي (حالة) انتقال وبحث عن إجابات جديدة لأسئلة جديدة وقديمة لم تعد الحداثة كافية للإجابة عنها”.

وما سأقوم به هنا بالضبط وبإيجاز، هو (مواجهة طغيان المصطلح)، مصطلح الحداثة، (وذلك بتشريح هذا المتسلط وإغراقه بالأسئلة)، حسب تعبير ومسلك الباحث نفسه.

وأول ما يستدعي التشريح والمساءلة في الفقرة الآنفة، هو هذا الضمير النحوي الجمعي (نحن في مرحلة ما بعد الحداثة). ترى على من يعود وينسحب على وجه التحديد؟

نحن هنا إزاء احتمالين :
فإذا كان الباحث يتحدث من موقع المركزية الغربية بقطبيها الأوروبي والأمريكي، والأمر ليس كذلك، فإن ما قاله صحيح تماما. لأن هذه المركزية تعيش فعلا وقولا، ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وما بعد الكولونيالية (!)، وما بعد العصر الصناعي. وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي. وخطاب الغرب وواقعه شاهدان على ذلك.

وإذا كان الباحث يتحدث من موقع المحيط العربي الغارق في مشاكل الـهوية والمصير، والأمر كذلك، فإن قول الباحث يبدو مجانفا للواقع، أو على الأقل يحمل هذا الواقع، ما لا يحتمل، ويرى فيه ما لا يمتلك. لأن هذا الواقع، ببساطة، ما يزال يتحسس خطاه نحو عالم الحداثة ويَشْـرَئِبُّ صوْبـَها، من خلال تجربة النهوض والسقوط، والإقدام والإحجام.

ولقد أتى علينا حين من الدهر ليس بقصير، كانت فيه مقولة (الحداثة) هي المعزوفة الأثيرة والجهيرة التي تتردد على الألسن والأقلام وما تكف عن الترداد، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج.. ولكن للأسف، خرجنا من المزاد بلا زاد. وفي ظني أن الجدل الذي ثار نقعه حول إشكالية الحداثة والاشتجار الفكري والنقدي والإبداعي حول أسئلتها، في سياقنا العربي، هما على حد تعبير لويس بورخيس “كالعراك الذي يجري بين أصلعين من أجل مشط !”.

لماذا ؟! لأن (الحداثة)، كانت واحدة من المقولات التي ارتحلت إلينا من الشط الآخر، دون أن نقوم بتكييفها وتمثلها وتبْـيِـئتها، حد تعبير إدوار سعيد ولأن التربة لم تكن مهيأة لغراسها والبـُنى التحتية لم تكن ملائمة لاستقبالـها. أي أننا، وخلافا لما ذهب إليه الباحث، لم نجز بعد العصر الصناعي، ولم نتخط لحظة البنيوية ولا الحداثة، ولم نتخلص من ربقة الكولونيالية، ولم نصل إلى حالة الانكسار المعرفي. أي أننا، بعبارة، لم نجد بعد أجوبة شافية لأسئلتنا القديمة المزمنة. الشيء الذي يجعل حداثتنا في نـهاية التحليل، حداثة لُـوغوسية، نظرية وفوقية، أكثر مما هي حداثة أميريقية وقاعدية. والشيء الذي يدعونا تاليا، إلى التفرقة والتمييز بين الحداثة Modernité والعصرية Modernisme وفق مقاربة هنري لفيقر.

ذلك أن العصرية “هي الوعي الذي تكونه عن نفسها العصور والحقب والأجيال المتتالية. فالعصرية بذلك تتمثل في ظاهرات الوعي وفي العصور وإسقاطات الذات، وفي التمجيدات المصنوعة من أوهام كثيرة ونفاذ محدود إلى لب الأمور”.

أما الحداثة فهي “تفكير بادئ وتخطيط أولي تتفاوت جذريته، للنقد والنقد الذاتي. إنـها محاولة للمعرفة… إننا ندرك الحداثة داخل مجموعة من النصوص والوثائق تحمل بصمة عصرها، ولكنها مع ذلك، تتعدى الدعوة إلى الموضة والجديد”.[4]

ونحن، كعرب، نعيش العصرية Modernisme باعتبارنا أبناء لـهذا العصر، نتنفس هواءه ونساوق تياره وأنواءه. ونعيش الحداثة Modernité كمقولة ثقافية تطوف بالذهن وأشواق حرَّى تخالج الوجدان. أي نعيشها كمناخ للوقت L’air de temps حسب التعبير الفرنسي، ليس إلا.

ومن ثم، فإن السؤال الأساس الذي يواجهنا ويبادهنا في تصوري، ليس هو سؤال (ما بعد الحداثة)، بل هو سؤال (الحداثة) ذاتـها.

هل ثمة حداثة عربية فعلا، وسط طوفان الحداثة الغربية الكاسح؟!
إن السؤال بصيغته هذه، يتضمن قلقه ومأزقه، كما يتضمن إحساسا ضاغطا بضرورة إعادة النظر في مقولة الحداثة، والتشريح النقدي لحقائقها وأوهامها، والرصد اليقظ لأسئلة ما بعد الحداثة، كما تتجلى أساسا عند الآخر، في الغرب، مع الإصغاء العميق لخوالج الذات ومواجعهـا، وذلك لأجل الخروج العربي من أفق ما قبل الحداثة، والدخول الفعلي في أفق الحداثة، بعد استكمال العدة والعتاد وتـهيئ التربة للغرس والحصاد، كيـلا تتحول الحداثة، كما قال جان بودريار، إلى مجرد بلاغة “تنتشر وسط التباس تام داخل مجتمعات العالم الثالث، لتعوض عن التأخر الحقيقي وعن غياب التنمية”.[5]

والحداثة، كما نعلم، هي قرينة وثمرة العلم الحديث في أعلى مستوياته وآخر ابتكاراته. وفي عرض بولين ماري روزيفو، الذي استنـد إليه الباحث لرصد ونقد حالة الانكسار المعرفي الذي تسبب في النقلة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، تشكل مقولة (العلم الحديث) اللازمة المتكررة في النقاط الخمس التي تعرضها الباحثة كمفاصل لنقد الحداثة ومداخل لما بعد الحداثة. والعلم الحديث بالضبط، في عالمنا العربي، هو ذلك المفقود المنشـود. هو ذلك الذي يأتي ولا يأتي.

فكيف تُـرى، تكون حداثة بدون علم حديث ؟! لكن للسؤال، عند باحثنا الكريم الدكتور الغذامي، صيغة أخرى. يقول في ختام مداخلتـه: “والسؤال الآن: هل نستسلم للغرب في نقلاته السريعة… أم نتوقف عند الحداثة لنشبع نـهمنا منها أولا ثم ندخل ـ بعد ذلك ـ في حفلة الترف الفكـري الغربي ؟!”.

ويأتي الجواب من عنده، حاسما كالتالي :

“إننا نحن اليوم في غمار عصر (ما بعد الحداثة). إننا فيه، في داخله وفي روحه وفي لغته، ولا معنى لطرح أسئلة زائفة لا تقوى على تقرير شـيء. والأجدر بنا هو أن نحث الخطى في مجاراة مخلصة للعصر وأن نزيـد من خطانا ونضاعف منها، فلعل ذلك يساعدنا على الوصول إلى الصفـوف الأولى في سباق الفكر والمعرفة”.

وأعتقد أن مسلكا كهذا، سيجعلنا دوما في الصفوف الخلفية، من حيث نريد الـهروب إلى الأمام. لأن “المجاراة” غير “المباراة”. والمباراة هنا وإن تمت، غير متكافئة وغير عادلة. ولأننا ببساطة جارحة لنرجسيـة الذات، نعيش على هامش الحداثة، لا في غمارها وداخلها وروحها ولغتهـا. ولا يخفف من هذا الواقع المر قـول الباحث، بعدئذ، إننا “نستطيع أن نستغل ظروف التغيير لصالحنا”، فهو من قبيل الطموح النبيل والتمني الجميل.

وما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ونستطرد مع المتنبي العظيم، فنقول بلسانه الحكيم :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس.

والسؤال مرة أخرى وأخيرة، هو كيف ننقل سفينة حداثتنا من اليبس إلى الماء، وكيف نقيها خطر الأمواج والأنواء ؟!

وتحية شكر وتقدير للباحث المقتدر الدكتور عبدالله محمد الغذامي، الذي استثار لدينا هذه الشجون الفكرية، وأغرانا بهذا الشغب النقدي، مستحضرين، كمسك ختام، تلك القولة المأثورة لابن تيمية في تعقيبه على ابن حزم “وأبو محمد كبير عندنا، ولكن الحق أكبر منه”.

* مداخلة ساهم بـها الغذامي في ملتقي خاص بالنقد الأدبي في الخليج.
1 ـ عنوان كتاب للدكتور الغذامي.
2 ـ عنوان كتاب آخر له.
3 ـ عن، الأدب والغرابة، لعبدالفتاح كيليطو، ط. 1 ـ 1982، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت. ص 19.
4 ـ اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، لمحمد برادة، مجلة فصولـ المجلد الرابع ـ العدد الثالث، 1984. وملاحظة هنري لوفيقر، مستقاة من كتابه السجالي / مدخل إلى الحداثة.