مجلة حكمة

مات سبيلا، عاش سبيلا – د. حميد لشهب

مات سبيلا، عاش سبيلا.

خلفت وفاة الراحل محمد سبيلا قبيل عيد الأضحى لسنة 2021 موجة عارمة من الحزن والأسى على امتداد العالم العربي في صفوف المفكرين العرب والمسلمين، الذين التقوا بفكره وألفوه وأحبوه وانخرطوا فيه، لما يمثله من عمق وتبصر وتأمل وتحليل لمواضيع شغلت وتشغل المفكر العربي والمسلم المعاصرين. وعلى رأس قائمة هذه المواضيع هناك قضية الحداثة والإسلام السياسي وحقوق الإنسان وقضية المرأة وغيرها كثير.

 

عندما أخبرت شابا نمساويا اعتاد على زيارة سبيلا كل مرة كان فيها في المغرب، قال لي بالحرف: “عندما زرته عام 2019 مع يوليان، تحدثنا عن الموت. قال بأنه عندما يشيخ الجسد، فإنه من حق الروح أن ترتاح في وقت ما” ” Als ich ihn 2019 mit Julian besucht habe, haben wir über das Sterben gesprochen. Er hat gesagt, dass wenn der Körper alt wird auch der Geist irgendwann ruhen darf“  . لربما يظهر هذا الحديث بريئا نوعا ما، لكنه يحمل في طياته “كُنهَهُ” سبيلا الإنسان الحكيم. وبهذا مشروعية عنوان نصنا هذا: “مات سبيلا، عاش سبيلا”. فإذا كان سبيلا الفيزيقي، المادي، البيولوجي قد غادر هذا العالم البئيس، فإن روحه ترتاح، وهي راحة استحقتها، لأنها عندما كانت تسكن في جسد عارض، معرض للألم والعذاب والمرض والحرمان، كانت نشيطة، تغذي الساحة الثقافية العربية بأفكار غزيرة وخصبة، حاول كل من التقى بها الإستفادة منها وتطويرها. لم تهدأ هذه الروح عن الإشتغال إلى آخر رمق، على الرغم من أن الجسد الذي كانت تسكنه كان متعبا، بل في كثير من الأحيان منهكا، جراء طبيعته العادية كمادة قابلة للتحول والتغير والإستمرار في الحياة في أشكال أخرى، طبقا لفلسفات ومعتقدات معينة. سنتطرق هنا لجانبين من جوانب فكر سبيلا، وننهي بما يشبه نقدا، أو لنقل بتواضع بعض الملاحظات حول فكره هذا.

 

حوار الثقافات في فكر سبيلا

 

إن مصطلح الحوار المستعمل هنا يعني في شموليته السلوك الفكري والإنساني لمفكر من طينة سبيلا، آمن به ودافع على ضرورته الوجودية والفينومينولوجية، حتى أصبح سلوكا طبيعيا في حياته، بل خاصية من خصائص بنائه المعرفي والوجداني. أما مصطلح الثقافات، فإنه يعني الثقافة القومية، بما لها وعليها – في غناها وفقرها- وثقافة شعوب وأمم أخرى. وبهذا المعنى فإن حوار الثقافات الذي يمكننا استنتاجه من اهتمام سبيلا بالموضوع هو البعد المؤسس لتوججه الفكري قاطبة، بل القاطرة “اللوكوموتيف Locomotive” التي تجر عربة فكره. ولا داعي للتعمق في فكرة مفادها أن ميزة الحوار عند سبيلا هي نتيجة طبيعية لاشتغاله على ذاته، وتحليه بقسط مهم من النقد الذاتي اتجاه نفسه والثقافة الجوانية والبرانية. ومن تمظهرات هذا الأمر في شخصيته هو هذا النوع الراقي من التسامح واليقظة الذهنية لكي لا يصبح هذا الأخير “سذاجة” وقبول الرأي الآخر بسعة صدر ودعابة “ماكرة” وإصغاء نشيط.

 

بشهادة الكثير من طلبته السابقين، يمكن لمس لبنات الحوار الثقافي عند سبيلا في ممارسته البيداغوجية القحة، سواء في دروسه ومحاضراته الجامعية أو في تأطيره لبحوث وأطروحات الطلبة. فقد كان يتمتع بحدس بيداغوجي “خطير” “يتشمم” من خلاله في إشرافه على البحوث ما إذا كان الطالب أو الطالبة جديين ويتتوقون إلى إنجاز بحوث نوعية رصينة أو ما إذا كان غرضهم هو انهاء مسارهم الجامعي فقط. أشرف سبيلا على أطروحات فلسفية نوعية لطلبة موهوبين (لا داعي لذكر أسماء هنا)، بسخاء فكري وبيداغوجي مشهود له به. وبقدر ما سهر على توجيجهم ودعمهم وتشجيعهم وإرسائهم على السكة الصحيحة في بحوثهم، بقدر ما اعترف أيضا بأنه يستفيد من “مغامراتهم” الفكرية؛ وهنا بالضبط يتجلى عنصر الحوار الثقافي بين سبيلا البيداغوجي وطلبته. بمعنى أن أساس مثل هذا الحوار هو الإعتراف الضمني أو العلني بقدرات وكفاءت مثل هؤلاء الطلبة على المضي أبعد من الأستاذ نفسه وغرف معارف جديدة عليه هو أيضا، كانت دائما مناسبة لتعميق الحوار بين الأستاذ والطالب، دون أن تنقلب الأدوار. هذا الكرم والسخاء البيداغوجي ضمن به سبيلا تخرج نخبة من المفكرين المغاربة في تخصصات فلسفية متعددة، استطاعت بالفعل تحمل حمل مشعل التفكير الفلسفي عندنا، بل ساهمت في إبراز خصوصيات وحيوية “النشاط الفلسفي” المغربي، الذي فرض نفسه في مجموع ربوع العالم العربي، ويعد حاليا رائدا حقيقيا للإنتاج الفلسفي على الصعيد العربي قاطبة.

 

بفضل حضوره المكثف في وسائل الإعلام منذ ما يقارب النصف قرن، وحواراته المتنوعة للكثير من المحطات الإذاعية والتلفزية والجرائد والمجلات والدوريات العربية، أصبح بسيلا نفسه موضوع حوار وحديث ونقد وثناء وتوضيح وتأويل إلخ. والمتتبع لمختلف حواراته يصاب “بالدوران”، ذلك أن إجاباته على نفس السؤال، عندما يطرح من طرف جهات مختلفة، لا تكون أبدا متشابهة من حيث التعبير، حتى وإن كانت تحتفظ بمضونها العام. علاوة على هذا هناك أجوبة على أسئلة كلاسيكية تطرح عليه، يطعمها بما وصل إليه من جديد في أجوبته، وبهذا يتمم ذاتيا الخطوط المتنوعة التي تشكل تفكيره. يأخذ سبيلا مُحَاوِره محل الجد، يتمتع بطاقة هائلة للإصغاء والتريث في الإجابة ثم الإنطلاق في عالمه الفكري موظفا قدرات لغوية قل نظيرها، مع التأكيد على أنه من محبي “اختراع” مصطلحات عربية جديدة للتعبير عن قضايا فلسفية وفكرية عالمية.

 

في نفس الإتجاه، تعتبر مآت القراءات التي “تعرضت” لها مؤلفاته في غرب العالم العربي وشرقه شكلا إضافيا أيضا لفكرة الحوار عند سبيلا. فقراءات المؤلف الواحد تختلف باختلاف القارئ أو القارئة والمسرب الذي اختاره “للتسلل” لفكره. للإشارة فإن كمية الإهتمام بكتب سبيلا في المشرق العربي هي أكثر بكثير من كمية الدراسات التي أنجزت حوله في المغرب الأقصى، فقد لاحظنا مؤخرا كثاقة “مدهشة” للمهتمين بكتاباته في بلاد الشام والخليج العربي ومصر بالخصوص، بل تكبر الدهشة عندما تفتح جرائد ومجلات “محافظة حتى النخاع الشوكي” صدرها لقراءات في كتب سبيلا. وهذا النوع من الحوار غير المباشر مع سبيلا مهم للغاية، لأنه يؤسس يقينا لمتابعة إشعاع “المدرسة الفلسفية” المغربية في العالم العربي.

 

إذا كان كل ما سبق هو جزء مما سميناه “الحوار الجواني” لفكر سبيلا، فإن حواره مع دوائر ثقافية غير عربية هو “الحوار البراني”. اهتم سبيلا بمثل هذا الحوار بترجمة العديد من المؤلفات الفلسفية من الفرنسية إلى العربية، ساهمت مباشرة في إغناء ثقافة الحوار بفتح نوافذ عديدة على فلاسفة ومفكرين غربيين كُثُر. ويبقى الجناح الجرماني في الثقافة الغربية من الأجنحة التي اهتم بها، لإيمانه العميق بأن الإرث الفلسفي الجرماني (الألماني والنمساوي بالخصوص) وفر للغرب وللعالم برمته اتجاهات فكرية متعددة منذ النهضة الغربية، وبالخصوص ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي. والميزة الأساسية لحوار سبيلا مع هذا الجزء من الغرب يكمن في كونه كانا حوارا مباشرا، فيزيقيا، بحضوره للعديد من اللقاءات الفكرية في ألمانيا والنمسا وإمارة الليكتنشطاين منذ أكثر من ربع قرن. وينعكس اهتمام العالم الجرماني بمحاضرات سبيلا في الإهتمام الخاص لوسائل الإعلام به ونشره على نطاق واسع، حتى أصبح سبيلا صوت العرب الصادح والصداح في الساحة الثقافية الجرمانية. ميزة أخرى تنضاف إلى الميزة السابقة هو أن سبيلا لم “يغازل” الغرب، بل كانت محاضراته “نارا وبارودا” نقديا للغرب و”نرجسيته” ومركزيته وهدما لأحكامه المسبقة عن العرب والمسلمين عموما (على فكرة، قام بنفس الشيء فيما يخص الأحكام المسبقة للمسلمين اتجاه الغرب). بلاباقته اللغوية المعهودة وصراحته المباشرة، كان جمهور المستمعين والقراء يتقبل مثل هذا النقد، لأنه يأتي من متخصص لم يرفض الحداثة الغربية و”حسناتها”، بل تفاعل معها وألف فيها وانتقدها وطور “مدرسة حداثية عربية” قائمة بذاتها، استفادت لا محالة من تجربة الحداثة الغربية. كانت اللقاءات الفكرية لسبيلا في العالم الجرماني بمثابة “فتوحات” فلسفية، أخذ منها بقدر ما قدم، وهذا الجانب بالضبط هو ما كان يبهر المثقف الجرماني في كل لقاء مع سبيلا.

 

لا يمكن أن نعمق الحديث عن سبيلا وحوار الثقافات أكثر من هذا، بسبب ضيق المجال، ما يجب التأكيد عليه هو أنه نموذج المفكر العربي الذي مد يدا للحوار الداخلي واليد الأخرى للحوار الخارجي، إيمانا منه بأن الحوار هو فضيلة فلسفية عريقة منذ البدايات الأولى للتفكير الفلسفي الإنساني مع سقراط وتلامذته من بعده. وأهم ما علمنا إياه سبيلا في هذا الإطار هو فن الإصغاء، والفهم، والتفسير، والتحرر الواعي من الأحكام المسبقة وأخذ المحاور محل الجد وقبول الإختلاف إلخ.

 

الموسيقى كترياق لسبيلا

ككل مفكر كبير، لسبيلا علاقة خاصة بأنواع موسيقية معينة وبآلات عزف مختلفة. من يزوره في بيته، لا يمكن ألا يلاحظ آلة عود “متبخترة” في سموها على جانب أريكة وكأنها عروسة في ليلة زفاف تنتظر قدوم المدعوين. اعتاد سبيلا الدندنة على هذه الآلة العجيبة، محاولا تطويعها، لكنه عندما لاحظ بأنها “مشاكسة” وتحتم على “محبيها” تعلمها طبقا لقواعدها، التجأ إلى أستاذ عود خاص، ساعده على المرور من الدندنة العفوية، إلى دغدغة حبال الآلة، علها تبوح بمكنون أسرارها.

 

كان سبيلا يتنغم أنغام آلة موسيقية عريقة أخرى السنطور (القانون)، ويتماهى مع المنشدين الإيريانيين والأتراك بالخصوص، وبالأخص الروحيين منهم. بل هناك لحظات بعينها، وعلى الرغم من أن سبيلا لم يكن يتكلم لا الفارسية ولا التركية، كان يغيب وعيناه مغمضتين وهو يستمع لمثل هذه الموسيقى، وكأنه يربط الإتصال بعالم روحي لم تكتشفه البشرية بعد. إنه نوع من الحمام الروحي الذي كان يتمتع به كبار الفلاسفة مثل شوبنهاور وهيدجر، لا يفتح أبوابه إلا للعارفين، ممن يتجاوزون وجودهم الفيزيقي والإرتماء في أحضان إيقاعات موسيقية تغذي الروح وتهيأ العقل للمزيد من السمو الميتافيزيقي، لتنقشع “الكينونة” على قمة نفس الجبل الذي أعلن فيه نيتشه عن “موت الله”. وبهذا المعنى، فإن السنطور هو المصعد الكهربائي الذي كان يستعمله سبيلا لمشاهدة ما وراء جبل نيتشه، والإنتشاء وهو في أعلى قمم جبال الألب النمساوية بهزيمة نيتشه والمسيحية عامة في “مشروع” قتل أو الإستحواذ على الله.

 

العلاقة الروحية السامية -يعني التحرر من كل طريقة تفكير تستعمل العقل الأداتي- التي توفرها هاتين الآلتين لسبيلا، هي نوع من جمع وشحد الطاقة الفكرية “لمواجهة” مواضيعه الفلسفية بعناية أكبر وعمق أفضل. وقد عبر هو نفسه عن هذا مرة بقوله: “إن الموسيقى، وبالخصوص السنطور، هي بلسم الروح”. هذا البلسم الذي يساعد الروح للإرتقاء أكثر في درجات إنسانيتها، هو السبب الرئيس في الإنتاج الفكري الغزير لسبيلا وطريقة كتابته المعهودة والرغبة في تقاسم أفكاره مع أكبر عدد من الناس. فكما لا تحلو الموسيقى إلا بالتمتع بها مع أناس آخرين، هكذا هي نصوص سبيلا، لا تفشي بمكنوناتها العميقة، إلا عندما تُقرؤ وتؤول وتحلل وتناقش من طرف أناس كثيرين.

 

اكتفينا هنا بذكر آلتين موسيقييتن كان سبيلا يهتم بها، وهذا ليس حصرا، بل فقط طريقة منهجية لنمر إلى تحليل أعمق لعلاقة سبيلا بالموسيقى. فالميولات الموسيقية للأفراد وللجماعات هي بالتأكيد، إن على المستوى الواعي أو غير الواعي، تعبير عن دواخل هذا الفرد أو هذه الجماعة وعن مشاغله الوجودية والفكرية والثقافية. فاهتمام سبيلا بآلة العود هو تعبير حي باهتمامه بحوار الثقافات، ذلك أن “هجرة” آلة العود ن مشرق العالم العربي في القرون الوسطى إلى الأندلس، أحدث قفزة نوعية لاهتمام النخبة الأوروبية عامة بثقافة المسلمين. فانطلاقا من الأندلس، “غزى” العود قصور الإمبراطوريات الأوروبية وأصبح المؤنس والأنيس للأرواح العطشى لنغمات مغايرة لنغمات الآلات التي كانت تعرفها القصور. ولمن يعرف سبيلا، وبالخصوص في أيام شبابه، يعرف أنه كان مولوعا بالموسيقى الأندلسية المغربية، في كل تجلياتها، وحافظ للكثير من قصائدها المشهورة.

 

أما فيما يخص السنطور، الذي يُعزف عليه بالضرب على اوتاره بمضربين صغيرين من الخشب (على خلاف القانون)، فإن عملية الضرب جد مهمة لفهم “ولع” سبيلا بهده الآلة: إنه يقوم بنفس العملية في تعامله مع الفكر، “يُسوِّط” الكلمات والمفاهيم والمصطلحات، لتقر بما تخفيه. وهذا التسويط هو فن في حد ذاته، برع سبيلا فيه إلى حدود بعيدة باستعماله لمفاهيم جديدة كل الجدة. وهناك جانب أكثر عمقا لاهتمام سبيلا بالسنطور، الذي يعتبر بحق أغنى الآلات الموسيقية الشرقية أنغاما وأطربها صوتا، نظرا لما يتميز به من مساحة صوتية واسعة، وبهذا  فإنه يغطي كافة مقامات الموسيقى العربية، كل تعقيداتها وتشعباتها. هكذا إذن أيضا مع فكر سبيلا، الذي ألهمته هذه الآلة سعة الأفق والتنوع وأهدته مساحات شاعة فيما يسميه هو نفسه “صحاري الأفكار” الشائكة. تعلم من السنطور المرور من مقام إلى مقام، وتنويع المقالات وإنتاج نصوص، يتقاسمها محبيها كتقاسمهم لمقاطع الموسيقى الهادفة، التي تسمح للإنسان وعي ذاته والإنصات لها وتجاوز “آهاتها” وتحسراتها والمرور بها إلى ساحات أوسع وأفسح، حيث الفرجة الفكرية والفلسفية العميقتين.

 

لا يمكن اعتبار اهتمام سبيلا بالإستمتاع بالموسيقى كِنْدِي العرب المعاصر، لأنه لم يؤلف نظريا في الموسيقى، بقدر ما استهلكها. بل يمكن التأكيد بأنه فهم قصد الكندي في اهتمامه بالموسيقى عندما قال بأن لكل فئة عمرية ألحانها ولكل فصل أنغامه، بل ألحان الصباح هي غير ألحان الظهيرة، وهذه الأخيرة لا تشبه ألحان المساء أو الليل. أما وقد سبق وأن قلنا بأن سبيلا يعتبر الموسيقى بلسما، يعني دواء، فهذا ما يؤكده الكندي أيضا الذي تحدث عن الدور الفعال للموسيقى في عملية الهضم وفي مساعدتها ضد أمراض معينة ومقوية للدورة الدموية. أكثر من هذا، لربما يعتبر سبيلا، مثل نيتشه، الحياة دون موسيقى غلطة. وإذا كنا قد فهمنا بطريقة صحيحة اهتمام سبيلا بالموسيقى وشغفه بها، فلأنه، وعلى غرار شوبنهاور، وجد فيها أيضا خلاصا من سيطرة “الإرادة” العمياء، التي أنتجت حاليا أنواع موسيقية غريبة، ولربما يكون سبيلا يوافق سقراط في الرأي عندما قال عن مثل هذه الموسيقى بأنها مؤشرا على: “وصول السفلة إلى الحكم على المدى البعيد”. بمعنى أن حكم السفلة، يشجع على تفشي فيروس موسيقى ساقطة، بكلمات بديئة (ولربما بدائية)، لا ترقى إلى مستوى موسيقى العود والسنطور المُحَرِّرَة من الكثير من القيود الوجودية والرافعة إلى مستوى أسمى للسكينة Gelassenheit الفكرية الهادفة، مرتع، بل “هايماط Heimat” سبيلا الدائم.

 

خصوصيات فكر سبيلا

 

لا يمكن لأي باحث عربي الإدعاء الإحاطة بشمولية فكر سبيلا، لأن ذلك يتطلب فريق عمل متكامل، مدجج بأدوات عمل ومقاربات مختلفة في تخصصات عدة. ما قمنا به شخصيا، في هذا النص وفي نصوص أخرى،لا يعدو أن يكون إطلالة “مندهشة” أما تلك الغابة الكثيفة لمفكر كان يحلو له أن يصف عالم الفكر مجازا بـ “صحراء الأفكار”. وسواء أكان فكر سبيلا غابة أو صحراء، فإنه يعبر في العمق، من خلال اسنتاجنا المتواضع لبعض جوانب فكره، عن فضاء شاسع الأطياف، لمن يحب المغامرات الفكرية وممارسة أنشطة كشفية فلسفية (les Scouts philosophiques) في صحراء تقود إلى غابة.

 

لعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما هو الخيط الرابط في فكر سبيلا؟ وهو سؤال يقود مباشرة أيضا إلى سؤال أعمق منه: ما الفائدة من التذكير بـ “المغامرات السندبادية الفلسفية السابيلية؟”. ونستحظر هنا هذا الرمز “الأسطوري” للتأكيد بأن الفائدة الرئيس من عرض وتقديم سبيلا في كل “تجليات كينونته الفكرية” هي من جهة اعتراف لواحد من مؤسسي التفكير الفلسفي المغربي وتمهيد الطريق للباحثين والباحثات الشباب لخوض غمار المساهمة في هذا التفكير بالدراسة والتمحيص والتعميق. ومن جهة أخرى فتح باب النقاش على مصراعيه حول قضايا فكرية حاسمة تطرق لها سبيلا للحظة التاريخية التي نمر بها.

 

إن الخيط الرابط لفكر سبيلا من خلال ما فهمناه من فكره هو ما يميزه عن باقي مفكري جيله الأوائل، ممن “اقتحموا” بشجاعة وصبر وتبصر ميدان الفلسفة بعد الإستقلال السياسي، و”جاهدوا” وسبحوا ضد التيار للمساهمة في “تنوير” الساحة الفكرية المغربية، وفيما بعد العربية برمتها. والميزة المعنية بالأمر هي نظرته الشمولية للقضايا التي أثارها والطريقة الموسوعية التي اختارها، عن وعي أو دون وعي، في دراساته. ولهذا الأمر علاقة وطيدة بالفترة التاريخية للبدايات الأولى للإنتاج الفلسفي المغربي، ذلك أن الرواد الأوائل -بعدما فتح الحبابي نافذة الفلسفة في الجامعة المغربية- وجدوا أنفسهم أمام ركام هائل من القضايا والأفكار والإتجاهات الفلسفية، وكان عليهم -لتجنب تسونامي فلسفي- أن يفتحوا النافذة أكثر لتصبح بابا يدخل من خلاله المهتم بالفلسفة في المغرب إلى فضاءات فكرية أرحب وأوسع. وعلى الرغم من أن الكثيرين يرون بأن سبيلا “تخصص في الحداثة”، فالصحيح هو أنه ساهم في تحديث الفكر المغربي والعربي، مستفيدا مما قدمته الحداثة الغربية، دون أن يعني هذا بتاتا بأنه “روج وهرج” لهذه الأخيرة، بقدر ما نبه في أكثر من موضع إلى الإنزلاقات الكثيرة لها وغلوها في بعض الإشكاليات الفلسفية. لم تكن الحداثة في هذا الإطار بالنسبة له نموذجا يجب أن يقتدى، بقدر ما كانت مصباحا يدويا يُستعان به، إلى جانب مصابيح أخرى -ومنها تراثنا وإرثنا الثقافي العربي الإسلامي- لفهم ووعي العالم وموقعنا فيه ومسؤولياتنا الحضارية والثقافية اتجاهه.

 

سيميائيا تتميز هذه الخاصية الشمولية الموسوعية لفكر سبيلا -دائما من خلال فهمنا المتواضع لبعض جوانبه- بتشكيلها من طبقات متعددة، من ألوان مختلفة، تم الإشتغال عليها بتكثيف وتركيز سميائين قل نظيرهما، دون أن يعني هذا اختزال التفكير؛ بل يوحي وكأن “عابر صحراء الأفكار” كان على عجالة من أمره، يحث الخطى لتوفير أكبر قدر ممكن من الزاد والعتاد لبداية الرحلة من أجل طرق أبواب تلك الغابة الكثيفة التي تنتظر الباحث والمفكر المغربي. وهنا بالضبط يلمس المرء أيضا خاصية من الخصوصيات السبيلية: السخاء الفكري وحب التقاسم والإقتسام وزرع بذور الفكر في تلك “الصحراء”، لعلها تصل مرة إلى واحة وتنمو وتترعرع وتثمر، أو على الأقل تضمن ظلا “للفائتيت” التائهين والمغامرين في هذه الصحراء.

 

موسوعية سبيلا تُظهر أيضا أن الآفاق الفلسفية والفكرية التي “شرب” منها وتمتع بموسيقاها متنوعة وكثيرة، وهذا ما ساعده على تربية القدرة على التركيب والتفسير والتحليل. وسنغامر هنا ونعبر عن هذا بلغة تقنية: إن التفكير التفكيكي والتركيبي لسبيلا هو بمثابة عمل الميكانيكي عندما “يشتت” محرك سيارة معطلة ويعيد تركيبها بعد إصلاح أعطابها، لتقلع دون انبعاث دخان كثيف من عادمها pot d’échappement . وهنا نلمس أيضا الخاصية اللغوية لسبيلا، إن لم نقل قدرته على “ترويض” اللغة وجعلها خادمة للفكر وليس العكس. فالسلاسة في التعبير، سواء الشفهي (في حواراته للجرائد ومقابلاته التلفزية) وطريقة كتابته “الحذرة” لكي لا يُثقل كاهل نصوصه، تدرجه لا محالة في خانة “السهل الممتنع”. الغاية من التبسيط هي غاية بيداغوجية قحة، قصد إيصال الرسائل المختلفة لنصوصه لأكبر قدر ممكن من المتلقين، و”الممانعة” لتسجيل الخصوصية اللغوية والفكرية.

 

من الخصوصيات “الخطيرة” في فكر سبيلا هو أنه يشتغل كـ “سائق طاكسي” -إن لم نقل “سائق قافلة جمال”، يوصل المسافر في عالم الفكر والفلسفة العربي إلى المحظة الأخيرة، ويودعه دون أية تعليمات “إجبارية”. بمعنى أنه في تفكيكه وتركيبه وتحليله للأفكار، قلما أصدر أحكاما أو آراء نهائية، بل يترك القارئ والمتتبع لفكره إمكانية استعمال عقله والإبداع في إتمام الأفكار أو خلق أخرى جديدة. ويعني هذا شيئين: هو من جهة دعوة صريحة للقارئ للمشاركة في إتمام عملية التفكير في قضية فلسفية معينة، ومن جهة أخرى احتراما لكفاءة القارئ على التفكير والمساهمة الفعالة في إتمام الرسالة. لربما يصب هذا في الخصوصية البيداغوجية لسبيلا، لكن له بعد آخر، يتعلق من جهة بسخائه الفكري الآنف الذكر وبـ “غلبة” النزعة الإنسانية الخيرة في سلوكه الفكري. فإذا كانت محبة الحكمة هي شعار الفلسفة والفلاسفة، فإن فضيلة حب الخير للآخرين هي مادة التلحيم التي يحتاجها كل فيلسوف كبير، يؤمن بأن الفكر يُقتسم ويُتَمَّم، ولا يُحتكر ويُملك. إنه خير عام يقود من البرية إلى الغابة، ولا ينمو إلا في جدلية القحط والوفرة. ويعبر سبيلا بدقة عن هذه الجدلية في مجموع النصوص التي أنتجها، إلى درجة أنه بالإمكان اعتباره راعي الأفكار لتمر بسلام من الصحراء القاحلة إلى الغابة المخضرة، دون أن يعني هذا بأنها سترتاح، بل تلبس أقمشة مختلفة لإغناء الساحة الثقافية والفلسفية قوميا وقطريا.

 

شذرات نقدية لفكر سبيلا

 

نسميها  “شذرات” لأنها لا ترقى إلى مستوى نقد حقيقي شامل لفكر سبيلا، الشاسع الأطراف والموغل في التنوع والتشعب. وهي شذرات نقدية خجولة، لا تطمح لأكثر من ملاحظات مستوحات من قرائتنا المتواضعة بانتظام للنصوص السبيلية منذ ما يناهز الثلاثين سنة، دون أن يعني هذا بتاتا بأننا “متخصصون” و”عارفون” بفكره، بقدر ما يعني بكل تواضع أننا حاولنا فهم ما تيسر منها بعد جهد مضني وقراءات متعددة ومختلفة للنصوص. والنقد لا يعني “كسر عصى الطاعة” و”الإنتفاضة” ضد “الشيخ”، لأن هذه العصى لم توجد في حالتنا، لم تربطني بسبيلا علاقة أستاذية، بقدر ما ارتبطت بفكره و”رُبطت” به لما وفره لي من حوار مع أفكاره، والإستمتاع ببعضها، والغضب من بعضها والرغبة في توسيع أخرى والدهشة أمام “عظمة” بعضها الآخر إلخ. العصى المعنية بالأمر، ساعدتني بكل تأكيد لأبقى مرتبطا باستمرار بالساحة الثقافية العربية عموما وبالمغربية على وجه الخصوص. لقد كانت لي بمثابة “ميزان حرارة” هذه الثقافة، بل في بعض الأحيان “البوصلة” التي كنت أعتمد عليها وأنا أحبو وأبحث عن النجدة في صحاري وبراري الفكر، بعدما “شبعت” من ظلال الغابات السوداء في المهجر وتيقنت بأن جدلية الغابة والصحراء في الفكر، لا تعبر عن علاقة متشنجة، بقدر ما تدعو إلى التكامل والتعاضد لبناء ثقافة إنسانية تستحق هذا الإسم.

 

تتحمل نصوص سبيلا تأويلات مختلفة، لأن بنيتها السيميائية متنوعة ومعقدة للغاية، ولأن لغتها دسمة وقابلة للهضم في الآن نفسه. وتحمل نفس النص تأويلات متعددة، بكل المخاطر التي ترافق هذا الأمر، هي ميزة أصيلة في أعمال كل مفكر عظيم؛ وما نضع الأصبع عليه هنا هو أن سبيلا لم يستثمر غنى تعدد التأويلات لفكره من طرف باحثين آخرين، بقدر ما سجل وجودها ومر مرور الكرام إلى أمور كانت تظهر له أكثر أهمية. بعبارة أخرى، تعدد التأويلات هي اللبنة الضرورية لبناء ما قد يكون “مدرسة فكرية”، كانت تحتاج فقط إلى إعادة تأطير وتنسيق وتعميق، من طرف المعني بالأمر نفسه، وليس من طرف الباحثين الفرادى. والحال أن هذا ليس مشكل سبيلا وحده، بل العديد من المفكرين المغاربة المعاصرين، بما في ذلك الجابري مثلا. ولا تعني “المدرسة” اجترار “تعاليم” “الفقيه” والوفاء لها حرفيا، بقدر ما تعني المساهمة في توسيع قاعدة الأفكار وتطعيمها وتطويرها، ولما لا أيضا الثورة ضدها إن لم ترق إلى المستوى المطلوب.

 

هناك ملاحظة نقد أخرى تتمثل في انعكاف سبيلا على النصوص العامة الموسوعية، بسبب خصوصية مرحلة جيله الإنتقالية، بحيث لم يخصص للإنتاج النسقي إلى مؤلفات معدودة على رأس الأصابع. وقد بين اشتغاله النسقي، كما نجده في كتابه حول الأيديولوجيا، على كفاءة عالية لتعميق الأفكار ووضعها في إطارها الفكري الصحيح والتعامل معها بمرونة في التحليل والنقد. قد تعتبر النصوص العامة نوعا من “المنوعات الفكرية”، قد كان من الممكن تعميقها أكثر في نصوص نسقية أكاديمية تستفيد منها النخبة أكثر.

 

في الجانب البيداغوجي، وبالخصوص فيما يخص تأطير البحوث الأكاديمية وعلى وجه الدقة أطروحات الدكتوراه، “نعيب” على سبيلا “مسايرة” رغبات طلبته وطالباته في الإشتغال على أطروحات مخصصة لمفكرين غربيين، ساقطين في ذلك في “ثقافة إجترار” فكر ولد وتطور في بيئة مغايرة تماما لبيئتنا الثقافية والحضارية، وبالتالي أتت مثل هذه الأطروحات تكرارا – في كثير من الأحيان رديئا- لفكر كانط وهيجل وماركس وهيدجر إلخ. قضيتنا الفلسفية ونحن نوجد في مفترق طرق ثقافية وفكرية ليست هي الروح كما نظر لها هيجل، ولا “نقد العقل الخالص”، ولا فهم “الكينونة” الهيدجيرية، بل الإستفادة من هذا الإرث الغربي ومن إرثنا المحلي والقومي لإيجاد أجوبة على تحديات فكرية وفلسفية نواجهها يوميا. ونقدنا هذا مبني على مسلمة أن سبيلا نفسه، لم يرضخ لا إلى “إغراءات” الفكر الفلسفي الغربي ولا إلى “إكراهات” الفكر التراثي العربي الإسلامي، بقدر ما استطاع أن ينزع نفسه من “الخطرين” كما يُنزع الشَعَر من العجين.

 

إلى حد الساعة، وطبقا لمعرفتنا المتواضعة بالساحة الفكرية المغربية، لم يهتم أي فيلسوف مغربي بالقاضايا السياسية كما اهتم بها سبيلا، إلى درجة إمكانية اعتباره “فيلسوف سياسي”. وحتى وإن كانت تحليلاته السياسية ثاقبة ومتنوعة واستشرافية (تنبئية)، إلا أنها لم تمر إلى مرحلة التنظير الفلسفي الحقيقي لللفكر السياسي المغربي وتوفير قواعد تأمل للكثير من السلوكات السياسية عندنا (أقصد المغرب). فحركات الإحتجاجات مثلا كممارسة سياسية لم تُحظ بأي اهتمام تنظيري لترشيدها وإرشادها، بل يهتم المرء بتمظهراتها وتجلياتها، أكثر مما يهتم بعمقها الفلسفي وخلفياتها الفكرية العميقة من أجل تطويرها بطريقة أفضل. فبعدما تخلت الأحزاب السياسية على الجماهير العريضة، وتذوقت بكل أطيافها كعكع السلطة، وجدت هذه الجماهير نفسها وجها لوجه أمام بطش السلطة واستعمالها المبرر وغير المبرر للعنف الفيزيقي لإخماد حرائق الحراكات الشعبية كيفما كانت. ولعل أنصع مثال على ذلك هي ما يسمى “حركة 20 فبراير” التي وجدت نفسها “وحيدة” دون أي سند نظري يضمن لها الإستمرارية، ولربما تحقيق مطالبها على المدى المتوسط والطويل. كما أن طرق الإحتجاجات لم تتغير، بل ظلت محتفظة على طابعها الصدامي مع السلطة إبان “سنوات الرصاص”، يخرج فيها المحتجون ليس فقط بخفي حنين فيما يخص مطالبهم، بل بجروح وعاهات جسدية، لا يحاسب عليها لا صاحب القرار ولا البوليسي ولا من أوكل لهم أمر جلد أبناء الشعب وبناته في الساحة العمومية. لم ينتبه أي مفكر مغربي للتنظير لبديل لهذا النوع من الإحتجاج، الذي لم يبارح مراهقة سياسية حقيقية. والمطلوب حاليا هو ليس فهم أسباب الإحتجاجات، بل فهم كيف يمكن إنجاحها دون إراقة دماء. وهذه مهمة المفكر الحر، كسبيلا مثلا، وليس “مفكر” حزب من الأحزاب، كيفما كان نوعه وتوجهه الأيديولوجي.

 

كان سبيلا مؤهلا أكثر من غيره من الفلاسفة والمفكرين المغاربة لإنجاح مشروع مناظرة فلسفية مغربية حقيقية، تناقش فيها القضايا الفلسفية المصيرية ويسلط عليها الضوء من كل حذب وصوب، لكن حذره”الغريزي” ومعرفته بطبيعة الإنسان المغربي، وبالخصوص المفكر منه، لم يشجعانه على بدأ هذا المشروع الحضاري المهم، بل اكتفى بلقاءات فكرية ودية مع الكثير من المفكرين المغاربة حول مواضيع مختلفة. لربما لا يعتبر هذا نقدا، بل تمنيا شخصيا، لبداية “تقليد” فلسفي محموذ، لأنه وسيلة من وسائل الحوار ودفع الأفكار معا على رمال صحراء الأفكار اتجاه أشجار الغابة المحادية للبرية.

 

وبعد، يبقى سبيلا -على الرغم من هذه “الخربشات” النقدية- برج مراقبة الشواطئ الفكرية والفلسفية العربية، الموجودة على جوانب صحاريها وغاباتها. يهتدي الكثير من التائهين في عرض هذا البحر بمصباح البرج ويساعدهم على الوصول إلى اليابسة، لإتمام مشوارهم الفكري دون أن يفرض عليهم “حارس” البرج أية وجهة محددة، بل يتركهم يختارون، متحملين بذلك مسؤولياتهم الشخصية اتجاه ما ينتجون في ميادين المعرفة المختلفة. ويبقى سبيلا الفيلسوف البشوش، الذي لم يغلق باب بيته أمام أي طارق/طالب للمعرفة، وأصبح بهذا أيقونة لكرمه الفكري وسخائه الثقافي والإنساني.