مجلة حكمة
المسلمين

جذور غضب المسلمين: لماذا يستاء العديد من المسلمين من الغرب؟ ولماذا لا يهدأ امتغاضهم بسهولة؟ – برنارد لويس / ترجمة: وسن عبدالعزيز محمد


أبدى توماس جفرسون في واحدة من رسائله في مسألة الدين أن مبدأ “الحكومة المدنية” يجب أن يُلغى. ويجب أن نشرع بقول “متفرقين نقف متحدين نسقط”. فهنا قام جيفرسن بعرض المجاز القديم عن طريق فكرة قد أصبحت أمريكيّة الأساس، وهي: فصل الكنيسة عن الدولة. فكانت هذه الفكرة حديثة، وكان لها سوابق في كتابات سبنزا ولوك، وأيضا لدى فلاسفة التنوير الأوروبيين. حيث كانت الولايات المتحدة هي أول من شرّع بقوة القانون، وتدريجياً، في غضون قرنين، أصبح الأمر واقعاً.

إذاَ كانت فكرة فصل الدين عن السياسة جديدة نسبياَ ، فبالعودة للتاريخ إلى ثلاثة مئة سنة، ترجع فكرة فصلهم إلى تقريبا بداية الديانة النصرانية. حيث أُلزم المسيحيون في كتابهم المقدس: “قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ».  (إنجيل متى 22: 21). اختلفت الأراء حول المعنى الجوهري للآية، ولكن فُسّرت كإيجاز للحالة بحيث تتواجد المؤسستين معاً، ولكن تكُن لكل واحدة منها قوانينها وسلطتها الخاصة. فواحدة متعلقة بالدين وهي الكنيسة. وأما الأخرى شؤونها في السياسة، ألا هي الدولة. لأنه عند تواجد المؤسستين سوية، سواء متصلتين أم منفصلتين، خاضعتين أم مستقلتين، من المحتمل ظهور نزعات بينهم حول مساءل ترسيم الحدود والولاية القضائية.

إن هذه الصياغة للمشاكل التي تطرحها علاقة الدين والسياسية والحلول المحتملة لها مسيحية المنشأ، وليست عالمية المبادئ والتجربة. فهناك عادات دينية مختلفة ترى الدين والسياسية من منظور مختلف بحيث تصبح المشاكل والحلول الممكنة مختلفة جذرياً عن المتعارف عليه لدى الغرب. بغض النظر عن مستوى التعسير والمؤهلات لهذه العادات، فإنها ستبقى محلية ومقصورة فقط على منطقة و ثقافة واحدة، أو حتى شخص واحد. ولكن هناك نشاط واحد  موزع عالمياَ وحرِك باستمرار، يمكن مقارنة عالميّته بالمسيحية، وهو الإسلام.

إن الإسلام من أعظم ديانات العالم. فأنا، كمؤرخ للإسلام وليس كمسلم، دعني أوضّح ما أعني بهذا. لقد جلب الإسلام لملايين الرجال والنساء الصفاء وراحة البالة. وأيضاً أولى كرامة ومفاد لحياة الفقر. وعلَّم الناس ذوي الأعراق والمذاهب المختلفة التعايش مع بعضهم. فقد ألهم الحضارة العظيمة حيث عاش الجميع بخلاق وأثرى تحصيل الآخرين على العالم كله. ولكن، كبعض الديانات، في حقب معروفة، أثار الإسلام لبعض معتنقيه مشاعر الكره العنف. وانه لمن المؤسف أن تكون هذه الحقبة، ولا أقصد بأي شكل من الأشكال، هي حقبة العالم الإسلام الجارية الآن. وأن الكره الشديد، مرة أخرى ليس الجميع، متوجه نحونا.

ينبغي ألا نبالغ في أبعاد هذه المشكلة. فالعالم الإسلامي أبعد مما يكون عن الإجماع برفضه للغرب، ولا حتى المناطق المسلمة في العالم الثالث أصبحت الأكثر شغفاً وتطرفاً بعداوتهم. هناك أعداد هامة من المسملين، في بعض السكان والأغلب العامة، الذين يتشاركون الأساس الثقافي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي وأيضا المعتقدات والتطلّعات نفسها، والتي مازالت تفرض الحضور الغربي الثقافي والاقتصادي والدبلوماسي في البلدان المسلمة. فبعضها حلفاء للغرب، وبلا شك لا مكان في العالم الإسلامي، سواء في الشرق الأوسط أو غيره. لقد عانت السياسة الأمريكية من كوارث أو واجهت مشاكل مشابهة لمشاكل جنوب شرق آسيا أو أمريكا الوسطى. فلا توجد كوبا ولا فينتام في العالم الإسلامي. ولا مكان أيضاً لتدخل القوات الأمريكية كمقاتلين ولا كـ “مستشارين”. ولكنها تتواجد في ليبيا وإيران ولبنان، حيث أن الحقد الذي يقلق وينذر متزائد، وفوق هذا، مُربك للأمريكان.

ففي بعض الأوقات تتعدى الكراهية نطاق العداء لمصالح معينة أو إجراءات أو سياسيات أو حتى بلدان معينة. فبالتالي تصبح رافضة للحضارة الغربية بمبادئها وقيمها التي تُمارس وتُتبع، ليس فقط لما تفعل، بل لحقيقتها. حيث أنها بالتأكيد تعتبر شر بالفطرة، وأن هؤلاء الذين يروجون لها أو يتقبلونها يعتبرون أيضا “أعداء الإله”.

تتكرر هذه العبارة عادة عند لغة القادة الإيرانيين في كلتا الإجراءات القانونية والتصريحات السياسية. وأياَ كان الشخص ديني أم علماني، فستبدو العبارة غريبة جداً للشخص العصري. ففكرة أن الإله يملك أعداء، وأنه بحاجة لمساعدة البشر من أجل إثباتهم والتخلص منهم هي صعبة الاستيعاب. فهم ليسوا دخلاء. فقد كان مفهوم عداوة الإله متعارفاً عليه في العصور القديمة، ماقبل الكلاسيكية والكلاسيكية، وفي الإنجيل القديم والجديد، كما ذُكر أيضاً في القرآن الكريم. فُذكر نص قريب جداً من فكرة الدين المزدوج لدى إيران القديمة، حيث افترضوا أن الكون لم ينشأ من قوة واحدة، بل من قوّتان ساميتان. فعلى نقيض اعتقاد كل من المسيحية والإسلام واليهودية عن الشيطان، فإن الزرادشتية ترى أنهم ليس من خلق الإله بل بالواقع قوة مستقلة، وأنه وُجد ليؤدي مهام سرية. قوة عالية وُجدت بصراع كوني ضد الإله. فمن خلال المانوية وطرق أخرى، أثر ذلك الاعتقاد على عدد من طوائف المسيحية والإسلام واليهودية. حيث ألقت أكثر ديانة منسية للمانوية بالاً لهذا الإحساس بالمشكلة وفسّرته كصراع مابين قوتي الخير والشر.

لا شك أن القرآن الكريم هو التوحيد، فيرى أن الله هو الإله الوحيد. ولكن مازال هناك نضال في قلوب البشر حيال الخير الشر، ومابين الوصايا الإلهية وإغواء الشيطان. ولكن هذا النضال يعتبر إلهي محتم بكل مافيه من أثر، فوُجد كاختبار للبشر وليس كما ذًكر في بعض الديانات المزدوجة القديمة كنضال من أجل تحديد مصير مهم وهو انتصار الخير أم الشر. بغض النظر عن توحيد الإله، فإن الإسلام كاليهودية والنصرانية عاصر عدة مراحل حدثت تحديداُ في إيران متأثرة بمعتقاد عدة كـ: ازدواجية نشأة الخير والشر، النور والظلام، النظم والفوضى، الحقيقة والكذب، الرب والعدو، بالإضافة إلى ما يتعارف عليه باسم الشيطان أو ابليس، ،

نشأة دار الكفر

اكتسبت نزعة الخير والشر في الدين الإسلامي جوانب سياسية وعسكرية. فلم يكن النبي محمد ﷺ فقط رسولاُ ومعلماُ كما هو الحال في بقية الأديان الأخرى، بل كان أيضاً قائداً للدولة وللشعب، حاكماً وجندي في الوقت ذاته. فبالتالي كان قتاله مؤثراً على الدولة والقوات المسلحة. فإذا ما كان مجاهدو الحرب يقاتلون من أجل الإسلام، هذا يعني أن العدو هم أعداء الله. وبما أن الله هو الملك الصمد، حاكم الرُسل وجميع الناس، فإن الخلفاء هم خليفته. يأمر الله الجيش، والجيش هم جيوش الله والأعداء هم أعداء الله. فمهمة جنود الله هي إرسال أعداء الله للآخرة، حيث سيعذبهم الله.

علاقة الموضوع بالتقسيم الأساسي واضحة للبشر كما هو موجود في الإسلام. فغالب المجتمعات البشرية، إذا لم تكن كلها، لديهم طريقتهم للتفرقة بين أنفسهم، إذا ماكانوا عالمين ببواطن الأمور أم أجانب، نسيبين أم غريبين. فهذه المسميات لا تساعد فقط على تعريف الأجانب، ولكنها أيضاً تساعد في معرفة وتوضيح معرفتنا بأنفسنا.

ففي الرؤية الإسلامية التبعية التي بدأ الكثير من المسلمين للرجوع إليها، يُرى إن العالم والبشر منقسمين إلى قسمين: بيت الإسلام، حيث تستحوذ الشريعة الإسلامية والإيمان. وأما البقية متعارف عليهم ببيت الكفر أو دار الحرب. ومهمة المسلمين هي إدخالهم للإسلام. لكن مازالت القوة الاكبر في العالم خارج نطاق الإسلام، وحتى داخل بلاد الإسلام. وفقاً لرؤية المسلمين المتعصبين، فإن إيمان الإسلام تقوّض، وشريعة الإسلام قد فسخت. فتبدأ إذا فريضة الجهاد في المنزل وتستمر في الخارج ضد الأعداء، بمعنى آخر الكفار.

فكما هو حال الحضارات الأخرى المتعارف عليها في تاريخ البشرية، إن العالم الإسلامي في كامل ذروته رآى نفسه كمقر للحقيقة والتنوية، فهو محاط بكفار همج. وأن مهمتهم هي تعليمهم وتهذيبهم. ولكن كان هناك فارق هام مابين مجموعات الهمج المختلفة. الهمج من الشرق إلى الجنوب كانوا مشركين ووثنين، حيث لا يشكلون خطراً ولا منافسة للإسلام على الإطلاق. ولكن في المقابل لاحظ المسلمون في الشمال والغرب عدو حقيقي، دين عالمي منافس، حضارة منفردة مستوحاة من الدين، وإمبراطورية. فبالرغم من صغر حجمها إلا أنهم كانوا أكثر تطلعاً في متطلباتهم و تطلعاتهم. إن هذه الكينونة معروفة عند الجميع بالمسيحية، مصطلح كان تقريباً متطابقاً مع أوروبا.

لقد استمرت هذه النزعة بين نظامي الخصيمين ما حول أربعة عشر قرناً. فبدأت مع حلول الإسلام في القرن السابع، واستمرت فعلياً حتى يومنا هذا. فتكوّنت من سلسلة طويلة من الهجمات والهجمات المضادة، ومن الجهاد والحملات الصليبية والغزوات. فمع حلول الإسلام، في بداية الألف سنة الأولى، اعتكفت المسيحية. حيث أُستبدلت المسيحية القديمة بالدين الجديد واستقرت في الشرق وشمال أفريقيا. وبعدها غزى الدين الجديد أوروبا، واجتاح على سيلسي، وأسبانيا، والبرتغال، وبعض مناطق فرنسا لبعض الوقت. فكانت محاولة الصليبين لاسترداد أرض المسيحية الضائعة في الشرق محبوسة ليُلقوا بها. وأن خسارة المسلمين في استرداد جنوب غرب أوروبا قد عوّضت في تقدم المسلمون في جنوب شرق أوروبا بسخية حتى وصلوا بعيداً إلى فيينا. فمنذ ثلاثة مئة سنة، منذ سقوط حصار تركيا الثاني على فينيا في عام 1683 ومنذ نشأة استعمار أوروبا على آسيا وأفريقيا، كان الإسلام إتقائياً، بينما جلبت حضارة أوروبا المسيحية وما بعد المسيحية العالم بأسره، ضامة الإسلام، لداخل مدارها.

لقد نشأت موجة تمرد منذ زمن بعيد ضد هذه الأمة الغربية. فكانت هناك أيضاً رغبة في تأكيد قيم المسلم وإعادة عظمة وهيبة المسلمين . عانى المسلمون من محطات متتابعة من الإنكسار. وأول هزيمة لهم هي خسارة سيطرة العالم، واستمرت حتى نهوض قوة روسيا والغرب. وأما الإنكسار الثاني فكان في تقويض السلطة على البلد التي قد اُحتلت عن طريق الفكر والقانون ونمط الحياة الأجنبي. ففي بعض الأحيان يكون للحكام والمستوطنين الأجانب دور. أما الثالث والأخير فهو التحدي التي واجهته في ضبط المنزل من تحرر المرأة وتمرد الأطفال. فكان هناك الكثير لتحمله. مع إندفاعة الغضب ضد القوات الأجنبية الكافرة المبهمة التي خربت هيمنته، ومزّقت مجتمعه، وأخيراً انتهكت ملاذه الأخير، الذي هو المنزل، الذي كان أمراً حتمياً، فكان من الطبيعي أيضاً لهم أن يوجهوا هذا الغضب في الأصل ضد العدو الألفي، بالإضافة أيضاً إلى قيادة قوته من المعتقدات القديمة والولاء.

قد تبدو عبارة “أوروبا وبناتها” غريبة لدى الأمريكان. فقد عرّفت المثيولوجيا القومية هويتهم الناشئة منذ نشأة دولتهم وماقبل بمقارنتهم بأوروبا كشيء جديد ومختلف جذرياً عن أوروبا القديمة. فعلى كل حال ليس هذا النهج من منظور الجميع، لا في أوروبا عادةً ولا في مكان آخر.

بالرغم من أن الناس اشتركوا من جميع الأعراق والثقافات، في الغالب كرهاً، في اكتشاف وظهور أمريكا، إلا أنه بقي في أعين بقية العالم مشروع أوروبي. حيث هيمنت وسيطرت عليهم أوروبا، وأعطتهم اللغة، والدين، والعديد من أساليب عيشهم.

فكانت الهجرة الاختيارية لأمريكا منذ زمن بعيد حصراً لأوروبا. فبالطبع وُجد البعض قادم من بلاد إسلامية في الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، ولكن أقلة منهم كانوا مسلمين. فأغلبهم كانوا مسيحيين. وكانوا يهودي الديانة أقل عدداً في هذه الدول. على الأرجح أن مغادرتهم لأمريكا، فتبعاً لوجودهم في امريكا، قد دعّمت وعززت الصورة الاوروبية للأمريكان في أعين المسلمين أكثر من أنها قللته.

لقد كانت المعلومات في بلاد المسملين حيال أمريكا ضئيلة. حيث أثارت الرحلات الاستكشفاية مع بدئها بعض الاهتمام، فالنسخة المتبقية الوحيدة من خريطة كولومبوس لأمريكا هي نقل وتعديل تركي الأصل. فما زال محفوظاً في متحف قصر طوب كابي في إسنبطول. ومن أول الكتب المطبوعة في تركيا هو تقريرٌ جغرافيّ في القرن السادس عشر عن اكتشاف العالم الجديد، بعنوان: تاريخ الهند الغربي. ولكن بعد ذلك بدأ الاهتمام بالتضاؤل، فلا شي يُذكر عن أمريكا في اللغة التركية والعربية أو غيرها من لغات المسلمين حتى تاريخ قريب. كتب الوزير المغربي الذي كان يقيم في أسبانيا ذلك الوقت عن ماهو على الأرجح أول بيان عن ثورة أمريكا. حيث قام سلطان المغرب بتوقيع معاهدة سلام وصداقة مع الولايات المتحدة في عام 1787م. ومن بعد ذلك عقدت الجموهرية الجديدة عدة صفقات مع بلدان المسلمين ، بعضها تتسم بالودية وبعضها عدائي، ولكن أغلبها كانت تجارية. فكما يبدو أن هذه أثرت قليلاً في كل من الجانبين. بقيت ثورة أمريكا والجمهورية الأمريكية مجهولة. حتى أن تزايد الوجود الأمريكي، ولو كان ضئيلا، في بلدان المسلمين في القرن التاسع عشر، كالتجّار، والقناصل، والمبشرين مع المعلمين لم يثيروا اهتمامهم ولو قليلاً، حيث نَدر ذِكرهم في أدب وجرائد المسلمين آن ذاك.

جلبت كل من الحرب العالمية الثانية وصناعة النفط وأيضاً تطورات مابعد الحرب العديد من الأمريكان إلى بلاد المسلمين ، فبالتالي زاد عدد المسلمين في أمريكا. ابتدأوا بالطلبة ومن ثم كمعلمين أو كرجال أعمال وسياح، وأخيراً كمهاجرين. حيث جلبت السينما والتلفاز أيضاً لأمريكا نمط حياة جديد، أو في كل الأحوال كانت أمريكا بالنسبة لهم قبل ملايين السنين نسخة غير معروفة لهم. فمجموعة كبيرة من المنتجات الأمريكية، تحديداً خلال سنوات مع بعد الحرب، عندما أُزيحت المنافسة الأوروبية في الواقع وأيضاً لم ترتفع المنافسة اليابانية، وصلت لأقصى أسواق العالم الإسلامي. فحضيت بزبائن جدد وأيضاً، ربما أكثر أهمية، صنعت أذواقاً و طموحات جديدة. فتعتبر أمريكا للبعض هي واجهة الحرية والعدل واغتنام الفرص. ولكن لكثير من الناس هي تمثل الثروة والقوة والنجاح، في الوقت الذي كانت لا تعتبر فيه هذه الخصال كذنوب أو جرائم.

ومن ثم حصل التغير العظيم. عندما بحث قادة الإحياء الديني المنتشرين وحددوا أعداءهم بأعداء الإله. وأيضاً قدموا لهم “مأوى محلي واسم” في نصف الكرة الغربي. ولكن فجأة، أو كما هو مدّعى، أصبحت أمريكا هي العدو اللدود، الشر المجسد، والعدو الشيطاني لكل الخير، وبوجه الخصوص على المسلمين والإسلام؟ لماذا؟

 

بعض التهم المتعارف عليها

كان التأثير الفكري المحتم القادم من أوروبا من ضمن مقومات الحالة ضد الغرب، وعلى وجه الخصوص ضد الأمريكان. فكانت ألمانيا واحدة منهم. حيث شكّلت الصورة السلبية لأمريكا جزءاً من مدرسة فكرية محتكرة لا فقط على النازيين، بل شملت أيضا كتاب عدة كراينر ماريا ريلكه، ارنست جونجر، ومارتن هايدغر. فمن هذا المنظور، كانت أمريكا هي المثال الأكبر للحضارة بدون ثقافة، حيث كانت غنية ومريحة، ومتقدمة مادياً ولكنها بلا روح، الأفضل بنية ولكن ليست نامية لا ميكانيكيا ولا عضويا. معقدة إلكترونياً ولكن تنقصها الروحانية والحيوية المتأصلة والإنسانية والثقافات القومية للإلمان والشعوب “الأصلية” الأخرى. حيث تمتعت الفلسفة الألمانية، فلسفة التعليم على وجه الخصوص، بفوج معقول بين العرب وبعض مفكري الإسلام في الثلاثينات وبداية الأربعينات. حيث كانت الفلسفة المعادية للأمريكان جزءاً من الرسالة.

فبعد سقوط الرايخ الألماني المنتهي بنهاية تأثير الألمان المؤقتة، ظهرت فلسفة أخرى أكثر عداوة للأمريكان، وأخذت محلها النسخة الماركسية السوفييتية التي كونت شجبا للرأسمالية الغربية و أمريكا كأكثر مجسدين لها. فعندما بدأ تأثير السوفييتي بالتلاشي، كان هناك من سيحل مكانها، أو على الأقل يضيف لعملها وهو لغز العالم الثالث الجديد الذي انبثق من أوروبا الغربية، تحديداً من فرنسا، وبعدها من الولايات المتحدة، حيث أثاروا على الفلسفة السابقة. فدُعمت الأحجية بالنزعة الإنسانية العالمية لإستحداث العصر الذهبي في الماضي، على وجه الخصوص النزعة الأوروبية من أجل وضعها في مكان آخر. فقد أخذت مثيولوجيا العصر الذهبي القديم الجديدة المختلفة مكان العالم الثالث، وهدمت أفعى الغرب زكاة آدم وحواء الغير غربيين. فقد جلب هذا المنظور خير وطهارة الشرق، وبالمقابل وضّحت شر الغرب. فمع توسع منحنى أسى الشر من أوروبا الغربية للولايات المتحدة، وقعت هذه الأفكار على أرضٍ خصبة، وحضيت بالدعم العالمي.

ولكن بالرغم من أن هذه الفلسفة المجلوبة قد ساعدت في توجيه تعبير فكري معادي للغربية والأمريكان إلا أنها لم تفتعله. وحتماً لم تبرر انتشار هذه الحركة التي جعلت من الكثير في الشرق الأوسط والعديد من مدن العالم الإسلامي متقبلين لهذا النوع من الأفكار.

فمن المهم توضيح أن نظرية العرق النازي لم تفز بدعم عدة مذاهب. حيث من الممكن أنها ساعدت قليلاُ في استئناف المسلمين . ولكن ما المشترك بينهم هو أنهم معاديين للغرب. بالإضافة إلى كون أن النازية والشيوعية القوة الرئيسية المعادية للغرب في كلٍ من طريقة حياتهم. وكقوة في العالم، بإمكانهم أيضاً على الأقل اعتبار الرحمة، اذا لم يشهدوا الدعم في الغرب، فهي العدو الرئيسي.

ولكن لما العداوة في المقام الأول؟ فإذا ما انتقلنا من العام إلى الخاص، سنجد أنه لا يوجد نقصان في سياسة وحركة الفرد التي اتبعتها واتخذتها ذوي الحكومات الغربية، حيث كان منشأ غضب المسلمين في الشرق الأوسط والشعوب الإسلامية. ومع ذلك، في كثير من الأحيان، عندما تُترك السياسات وتُحل المشكلات، فكل ما يتبقى هو حدة محلية ووقتية. غادرت فرنسا الجزائر، وغادرت بريطانيا مصر، وتركت شركات النفط الغربية آبار نفطهم، وترك شاه الموالي للغرب إيران، ولكن ما زال الحقد المعمم من الأصوليين والمتطرفين ضد الغرب وأعوانه موجوداً وما زال ينمو ولن يهدأ.

فيعود السبب الآن في المشاعر المعتلة في كره الأمريكان لدى المسلمين هو دعم الأمريكان لإسرائيل.  فهذا الدعم بالتأكيد عنصر مهم مع زيادة التداخل. ولكن مازالت هناك بعض الغرائب، حيث يصعب وصف بعضها بمصطلحات بسيطة سببية واحدة. ففي بداية أيام تأسيس إسرائيل، بينما كانت الولايات المتحدة بعيدة عن الموضوع، منح الإتحاد السوفيتي اعتماداً ودعماً وأسلحة مباشرة من الساتلايت السوفيتي في تشيكوسلوفاكيا لإنقاذ دولة إسرائيل الصغرى من الدهس والموت في بداية أيامها. ولكن لم تكن هناك رغبة عليلة من جانب السوفيتيين لهذه السياسات، ولا رغبة مكافئة من جانب الولايات المتحدة. ففي عام 1956، كانت الولايات المتحدة هي من تدخل بقوة في حماية انسحاب كُل من القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية من مصر. حيث اضطر كل من حكام مصر، وسوريا، والعراق والعديد من الدول الأخرى في أواخر الخمسينات والستينات إلى استخدام السلاح لا من أجل أمريكا، بل من أجل السوفيتين. فكانت مجموعة السوفيت هي من كوّنوا معها سندات تضامنية في الدول المتحدة والعالم أجمع. وقام حكام الجمهورية الإسلامية في إيران من عهد قريب بتقديم أكبر استنكار ورفض لإسرائيل والحركة الصهيونية. ولكن وجد هؤلاء القادة، قبل وبعد وفاة روح الله الخميني، عندما أقرّوا أسبابهم من تلقاء نفسهم لدخول هذه الحوارات، أنه من السهل لهم التحدث مع القدس أكثر من واشنطن. ففي الوقت ذاته، كانت الرهائن الغربية في لبنان تُعامل من ماسكيها كمن هم أعوان للشيطان، فالعديد منهم مخلصين لقضايا العرب والبعض حوّلوا للإسلام.

للتوضيح من منظور آخر، الذي عادة ما يُسمع من المنشقين المسلمين الذين ينعتون مشاعر العداوة الأمريكية للدعم الأمريكي من أجل نظام الحكم الخسيء، فينظر إليها الرادكاليون على أنها رجعية. وأما المتحفّظون ينظرون إليها كالأثيم، فيتفقان على أنها فساد واستبداد. فمن المعقول أن يساعد هذا الاتهام على تعليل سبب انقلاب الموجة الداخلية الأساسية والحركة المعادية القومية ضد القوة الأجنبية. ولكنها لا تجيب عن السؤال، خصوصا منذ دعمهم لأنظمة حكم كانت محدودة في كلٍ من مساحتها، كما اكتشف شاه، وفي تأثيرها.

من الواضح وجود شيء معني أعمق من كل هذه المظالم بالتحديد. بالرغم من تعددها وأهميتها، ولكن يوجد شيء أعمق يحوّل كل معارضة إلى مشكلة تجعل من كل مشكلة معضلة لا تُحل.

إن هذا النفور تجاه أمريكا، تجاه الغرب بشكل عام، هو بأي شكل من الأشكال محدود على عالم المسلمين ، وليس لدى المسلمين ، مع استثناء ملا الإيراني وأتباعه في أماكن أخرى. فقد واجه وأحس بهذه الأشكال الخبيثة من المشاعر. حيث انتشرت مشاعر زوال هذا الوهم والعداء في العديد من أنحاء العالم، حتى وصلت لبعض الأُسس في الولايات المتحدة. فمن هذا المنطلق، متحدثين باسمهم ومدّعين الحديث باسم الناس المضهدة من العالم الثالث، سُمع أكثر تبرير وتفسيرا انتشاراً لرفض الحضارة الغربية مع قيمها.

هذه الاتهامات متعارف عليها. فنحن الغرب متهمون بالتحيز الجنسي والعنصرية والإمبرالية وبتأسيس السلطة الأبوية والاستعباد، وأخيراً الاستبداد والاستغلال. رداَ على هذه الإتهامات، وعلى الذين يقصدوننا بالبشاعة، ليس لنا خيار سوى أن نعترف بالذنب، ليس كأمريكان ولا كغريبون، بل بكل بساطة لأننا بشر وأفراد من الجنس البشري. فنحن المذنبين في بعض هذه الخطايا، ولكن في بعضها نحن أبعد مما هو أسوأ. معاملة المرأة في العالم الغربي، عموماُ في النصرانية، كانت تتصف منذ زمن بالقمع وعدم المساواة. ولكن بالرغم من سوءها إلا أنها أفضل من نظام التعدد الزوجات والتسري الذي قد أصبح شامل لعديد من الجنس النسائي على هذا الكون.

فهل العنصرية، إذن، هي مصدر الظلم؟ إن بروز أشكال الكلمات للعامة متجه قطعا للغرب، ولأوروبا الشرقية، ولبعض من جماهير العالم الثالث. فهو أقل بروزاً مما هو مكتوب ومنشور في الإستهلاك المنزلي. حيث أصبح مصطلح الإعتداء شائعاً وبلا معنى بدلاً من “الفاشية”، التي تُنسب في أيامنا الآن للخصم وحتى للمتحدثون باسم حزب واحد، والديكتاتوريات القومية لعديد من ذوي البشرة والقمصان المختلفة.

لقد أصبح مصطلح العبودية الآن مستنكراً عالمياَ كجريمة ضد الإنسانية. ولكنها خالدة في الذاكرة على أنها مُورست وحتى حُميتْ كحاجة أساسية للمؤسسة التي أًستحدثها ونظّمها القانون الإلهي. فغرابة هذه المؤسسة الغريبة، كما دعاها الأمريكان مرة، لا تكمن في وجودها، بل في إبطالها. فكان الغرب هم أول من خاضوا في كسر هذا الإجماع على قبوله وبدأوا في حظر العبودية، إبتداءً في المنازل، ومن ثمّ في المناطق المسيطرين عليها، وأخيراً في أي منطقة بالعالم باستطاعتهم ممارسة قوتهم أو تأثيرهم، بمعنى آخر، عن طريق الإستعمار.

فهل الإستعمار، إذن، هو مصدر الظلم؟ كانت بعض القوات الغربية، الحضارة الغربية ككُل إلى حد ما، بالتاكيد مذنبين بسبب الاستعمار. ولكن هل نؤمن حقاً بأن توسيع أوروبا الغربية كانت ميزة للإنحراف الأخلاقي المذكور سابقاً، وأن التوسعات البريئة نسبياً كتوسعات العرب أو المغول أو العثمانيين، أو في التوسعات الأخيرة كالتي جلبت حُكّام المسكوفي للبلطيق، والبحر الأحمر، والقزوين، والهندو كوش، بالإضافة إلى المحيط الهادي؟ فكانت الغرب تتبع الممارسات الشائعة فقط بين البشر سواء كانت التحيز الجنسي، أم العنصرية، أم الإستعمار منذ آلاف السنين في التاريخ المدون. فكانت الحضارة الغربية متميزة عن الحضارات المختلفة في جعلها معترفة اسمياَ. بالإضافة إلى أنها حاولت ولم تكن دون جدوى إلى إصلاح هذه الأمراض التاريخية. وهذه بالتأكيد مسألة تبعث على التهنئة لا الإهانة. فلا نحتفظ بالعلوم الطبية الغربية بشكل عام، ولا د.باركنسون ولا د.الزهايمر على الخصوص، إنما نحن جادون بخصوص بتشخيص الأمراض وإعطائها اسماء.

فمع هذا الغضب والإستياء يعد الإستعمار هو أكثر شيء شجباً وانتشاراً. فعادةَ حتى الغرب، وأحياناً حتى الشرق (الإتحاد السوفيتي) والغرب متشابهين. ولكن الطريقة التي اُستخدم بها هذا المصطلح في أدب الإسلاميين الأصوليين عادة ما يوحي إلى أنه لا يملك المعنى ذاته لدى النُقّاد الغرب. ففي عديد من هذه الكتابات، يُعطى مصطلح “إمبيريالي” أهمية دينية كبيرة، فحينما يُستحدم في الاقتران، أو بصورة متبدالة، مع مصطلح “تبشيري”، يدل هذا على شكل من الهجوم متضمناً الحملات الصليبية بالإضافة إلى الإمبراطوريات الإستعمارية الحديثة. وأيضاً قد يبدو للبعض أن تهديد الإمبرالية ليست – فيما يخص النُقّاد الغرب – الهيمنة البشرية على الآخر بل هي توزيع للأدوار في هذه العلاقة. لكن الهيمنة الوخيمة والغير مقبولة هي في تكفير المؤمنين الحق. فسيطرة المؤمنين الحق على الكفار هي طبيعية، بما أنه يمدهم بالحفاظ على القانون المقدس. وأيضاً يعطي للكفار في نفس الوقت كلاً من الفرصة والحافز لاعتناق الإيمان الحق. ولكن عندما يحدث العكس ويتولى الكفار قيادة المؤمنين الحق فسيشيع الكفر والأحداث الغير شرعية. حيث ستؤدي لفساد عقيدة وأخلاق المجتمع، حتى تصل إلى تحدي أو حتى إبطال للقوانين الربانية. تسمح لنا هذه الفروض فهم المشاكل الحالية في عديد من الأماكن كـ: الإثيوبيين في إريتريا، والهنود في كشمير، والصينيين في سينكيانغ، واليوغوسلافيين في كوسوفو، حيث تحكم حكومات غير مسلمة السكان المسلمين . وقد يفسر هذا أيضاَ سبب طلب المتحدثين لأقليات المسلمين الجديدة في أوروبا الغربية من الإسلام قدراً من  الحماية القانونية، وأنها لم تعد تطالب بهذا من النصرانية ولا من اليهودية. كما أنها، بالتأكيد، لم تصل لحكومات البلدان الأصلية لهؤلاء المتحدثين المسلمين لاتفاق حماية للدين خاصة من أنفسهم. فلا توجد تناقضات من منظورهم في هذه التوجهات. فالإيمان الحق، استناداَ إلى الوحي الإلهي، يجب أن يكون محمياً من الإهانة والشتم. فإيمانهم، ما إذا كان خاطئاَ أو غير كامل، لا يملك أحقية الحماية.

توجد صعوبات أخرى في طريقة تقبل الإستعمار كتفسير لعداوة المسلمين ، حتّى لو عرّفنا الإستعمار باقتصار وعلى وجه الحدود بأنه غزو وهيمنة غير المسلمين لبلاد المسلمين . فإذا كانت هذه العداوة موّجه من هذا المنطلق ضد الإستعمار، إذن لماذا بقيت شديدة تجاه أوروبا الغربية، التي تخلتْ من قبل عن جميع أملاك وأقاليم المسلمين لديها، أكثر من روسيا، التي بالمقابل مازالت تحكُم أكثر من مليون شخص مسلم مُكرهْ بلا عدل، إضافة إلى مدن وبلاد المسلمين القديمة؟ لماذا إذن يشمل الولايات المتحدة التي، باستثناء الفترة الوجيزة في المنطقة الأقلية المسلمة في الفلبين، لم تحكم أي سكان مسلمين؟ إن آخر إمبراطورية أوروبية ناجية مع الأشخاص المسلمين ، وهذا من الاتحاد السوفيتي، بعيداً عن كونها موضع نقد، كانت على وشك الإعفاء. فحتى آخر قمع لثورات المسلمين في آسيا الجنوبية والوسطى، قامت اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية بتكبدها معدل لا يزيد عن كلمات خفيفة نسبياً من الاحتجاج. إلى جانب إخلاء المسؤولية عن أي رغبة في التدخل فيما يدعونه “الشؤون الداخلية” للاتحاد السوفيتي. بالإضافة إلى طلبهم بالحفاظ على النظام والهدوء في الحدود.

فالتعليل لهذا التقيد المفاجئ يكمن في طبيعة الأحداث في أذربيجان السوفيتية. حيث أنه من الواضح أن الإسلام هو عامل ناشئ مهم في الحس الأذربيجاني للهوية، ولكنه لا يعتبر عاملاً مهيمن. بالإضافة إلى أن الحركة الأذربيجانية لديها عامل مشترك بينها وبين الوطنية الأوروبية أكثر من مما تتشاركه مع الأصولية الإسلامية. فلن تقوم هذه الحركة بإثارة شفقة حُكّام الجمهورية الإسلامية. ولكنها من الممكن أن تفزعهم بما أن الإذربيجان السوفيتي يديرون دولة قومية ديموقراطية باستخدام سلطتهم القوية على ذويهم حتى الجنوب، في أذربيجان الإيرانية.

والسبب الآخر في انعدام اهتمامهم بـ المسلمين الذين يتعدى عددهم خمسين مليونا أو أكثر تحت حكم السوفييت من الممكن أن يكمن في حساب المخاطر والمنفعة. حيث أن الاتحاد السوفيتي قريب من الحدود الشمالية لكلٍ من تركيا وإيران وأفغانستان. بينما أمريكا وأوروبا الغربية بعيدتان. بإختصار، لم تحدث حتى الآن ممارسة فعلية من السوفييت لقمع هذه الاضطرابات باستخدام مدفع المياه والرصاصات. فبالرغم من وجود كاميرات التلفاز، أو مع إطلاق السجناء مع الكفالة والسماح لهم بالوصول لكل من وسائل الإعلام الداخلية والخارجية، لم تقم السوفييت بمقابلة أقسى نُقّادها في وقت ذروتهم. ولم تقم بإغوائهم بتلقينهم الدروس، أو توبيخهم أو حتى بكتابة تعهدات. ولكنها قامت بالنقيض، حيث أن نقدهم عن طريق إظهار استياءهم من الممكن أن يكون مرفوضاً.

ولكن الخوف من الانتقام، الذي بلا شك مُهم، ليس فقط السبب الوحيد أو الرئيسي لهذا المكان الثانوي الموكل للاتحاد السوفيتي، مقارنة بالغرب، في شيطنة الأصوليين. ففي نهاية المطاف، حوّلت جميع هذه التغييرات الاجتماعية والفكرية والإقتصادية العظيمة أغلب العالم الإسلامي. فحتى أنها أنعشت بعض شرور الغرب المستنكرة كنزعة الإستهلاكية والعلمانية، التي ظهرت من الغرب وليس من الاتحاد السوفيتي. لا أحد يستطيع اتهام السوفييت بالإستهلاكية، حيث أن ماديتهم فلسفية إن حق القول. وأنها أيضاً جدلية، ولا تملك أي سلطة في الممارسة بشرط توفيرها لجماليات الحياة. فيمثل هذا التوفير نوعاً آخر من المادية، التي عادة ما يصفها معارضوها بالسذاجة. وأنها مرتبطة بالغرب الرأسمالي وليش الشرق الشيوعي الذين قاموا بممارسة، أو على الأقل فرضت على مواطنيها، نوع من التقشف لإثارة إعجاب قديسهم الصوفي.

ولم تكن السوفييت، حتى مؤخراً، مستضعفة لاتهامات العلمانية. وهو الاتهام الكبير الآخر بالتطرف ضد الغرب. فبالرغم من أن الملحدين، ليسوا بكفار، قاموا بالواقع بصنع أجهزة الدولة المفصلة بغرض فرض عبادة آلهتهم، جهاز وفقاً للأرثوذكسية، وتسلسل هرمي للتعريف ومن ثم فرضه. بالإضافة أيضاً إلى محاكم تفتيش مسلحة لكشف واستئصال الهرطقة. إن فصل الدين عن الدولة لا يعني قيام دولة لا دينية، ولكن مازال أقل من فرض فلسفة معادية للدين. فعلمانية السوفييت، كما هي نزعتهم الإستهلاكية، لا تملك أي إغراء لجماهير المسلمين . بالإضافة إلى خسارتهم للمفكرين المسلمين . فمنحت الرأسمالية الغربية والديموقراطية عن أيّ وقت مضى بديلاً قويماً لأسالبيهم التقليدية للفكر والحياة. فقادة المتطرفين ليسوا مخطئين في نظرتهم للحضارة الغربية كأكبر تحدي للأسلوب الحياة المتمنى ملكه أو جلبه لشعبهم.

 

صدام مابين الحضارات

تعود بداية العلمانية في الغرب إلى حالتين: في بداية الديانة المسيحية، ومن ثم التجربة. حيث قامتا بإنشاء مؤسستين: الكنيسة والدولة، التي سرعان ما انتهت بخلافات أدت إلى تفرقهم. فكان لدى المسلمين أيضاً خلافاتهم الدينية. ولكن لا شيء يضاهي ضراوة نزاعات المسيحية ما بين البروتاستنت والكاثوليكيون، التي انتهت بدمار أوروبا المسيحية في القرني السادس عشر والسابع عشر. حيث انتهت المسيحية لتطور مذاهبهم بفصل الدين عن الدولة. فهم يرون من منظورهم الخاص أن حرمان المؤسسات الدينية من القوة كرهاً سيصبح وسيلة تستطيع المسيحية من خلالها كبح التعصب القاتل. وأن الإضطهاد الذي واجهته المسيحية أصبح يُمارس على تابعيْ الديانات الأخرى. بالإضافة إلى ممارسته قبل كل شيء على أولئك الذين أبدوا معتقادتهم الخاصة.

فلم يمارس المسلمون الحاجة ولا تطور للمذهب. ولا حاجة للعلمانية في الإسلام. وحتى أن تعدديته كانت مختلفة عن ما كان في الإمبراطورية الرومانية الوثنية، التي وصفها إدوارد جيبون بكل وضوح عندما قال: “اختلاف شواكل العبادة، التي سادت في العالم الروماني، كان يصنفها الناس جميعا كشيء صحيح. بينما يرونها الفلاسفة كشيء خاطئ. وأما القضاة يرونها شيء نافع.” لم يكن الإسلام جاهزاً، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية، لإيلاء المساواة الكاملة للمتمسكين بمعتقدات مختلفة والممارسين لشعائر أديان مختلفة. ولكنها قامت، بالفعل، بإيلاء المتمسكين بجزء من الحقيقة درجة من الجانب العملي. بالإضافة إلى ندرة التسامح النظري المُتّبع في العالم المسيحي حتى قامت الغرب باتخاذ واعتماد قدراً من العلمانية في آواخر القرني السابع والثامن عشر.

فكان تجاوب المسلمين للحضارة الغربية مفعماً بالإعجاب والإقتداء. مُكنين إعجاباً كبيراً لإنجازات الغرب. بالإضافة إلى وجود رغبة في تقليد وتبني مالديهم. فقد نشأت هذه الرغبة من الوعي الشديد بضعفهم وبفقرهم، بالإضافة إلى رجعية العالم الإسلامي مقارنة بتقدم الغرب. حيث كان التفاوت واضحاً في الساحة منذ البداية، ولكن سرعان ما انتشر لمناطق النشاط البشرية. لاحظ الكُتّاب المسلمون ثروة وقوة الغرب في العلوم والتكنولوجيا والمصنوعات، بالإضافة إلى أشكال الحُكم. ففي زمن ما، كان يُنظر إلى نجاح الغرب على أنه يكمن في إنجازين: التقدم الإقتصادي، خاصة في الصناعة، وفي المؤسسات السياسية، خاصة في ماتخص الحرية. فقد حاولت أجيال عديدة من الإصلاحيين بمواءمتهم وتقديمهم لبلدانهم على أمل أن يتمكنوا من تحقيق العدالة مع الغرب. ولعلهم أيضاً يسترجعون ما فقدوه من تفوق وشموخ.

لقد أدت هذه الحالة من الإعجاب والاقتداء في وقتنا الحالي، بين كثير من المسلمين ، إلى نتوج مشاعر العداوة والصدود. فتعد هذه الحالة من جهة ما هي نِتاج لمشاعر الخزي. بالإضافة إلى وعي متنامي مُكوّن ما بين ورثة لحضارة قديمة معتزة طويلة المدى، وبين قهر وطغي هؤلاء الذين يدعونهم و ويعدّونهم كسُفليين. وتُعد هذه الحالة في جزء آخر سبباً لأحداث في العالم الغربي نفسه. فيعد تأثير الحربيْ الانتحارتين العالميتين عاملاً مهماً، حيث تحطمت الحضارة الغربية جالبة معها تفككاً لا يُقال لا لنفسها ولشعبها. بالإضافة إلى الجهود العظيمة الدعائية التي قام بها المحاربون، في العالم الإسلامي وغيره، في تشكيك وتقويض بعضهم البعض. حيث أن رسالتهم قد فازت بكثير من الإنصات. وكانوا على أهبة الاستعداد للرد بتجربتهم الخاصة في النهج الغربي بأنها لم تكن مرضية. فكانت مقدمة أساليب الغرب التجارية والاقتصادية والصناعية بالتأكيد جالبة لثورة كبيرة، ولكنها تراكمت وانتقلت للغرب وأعضاء الأقليات الغربية. بالإضافة إلى القليل بين سكان المسلمين . وأصبح القليل منها آنذاك متعددين، ولكنهم ما زالوا منعزلين عن الإعلام، متميزين ومتمسكين بلبسهم وأسلوب حياتهم. فكان يُنظر إليهم لا محالة كعملاء لما كان يعد يوما ما كعالم عِدائي. حتى فقدت المؤسسات السياسية القادمين من الغرب مصداقيتهم، وكان يُحكم عليهم لا من الأصوليين الغرب، بل من مقلدينها المحليين، الذي أقاموه الإصلاحيون المسلمون المتحمسون. إن هؤلاء الذين يعملون في نطاق خارج سيطرتهم، ويستخدمون طرق مستوردة وغير ملائمة ليس باستطاعتهم حتى فهمها، لم يكونوا قادرين على التكيف مع الأزمات سريعة التطور حتى أُطيح بهم. فقد جلبت أساليب الاقتصاد الغربية الفقر لأعداد كثيرة من الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ما جلبته المؤسسات السياسية الغربية من طغيان واستبداد. حتى جلبت لهم حرب الطريقة الغربية الهزيمة. فتوجد لدى الكثير رغبة الإنصات إلى الأصوات التي تخبرهم أن الطرق الإسلامية القديمة كانت الأفضل. وأن خلاصهم الوحيد هو بالتخلص من ابتكارات الإصلاحيين الوثنية وبالعودة إلى الطريق الصحيح الذي وصفه الرب للناس.

ففي نهاية الأمر، يكمن كفاح الأصولويين ضد اثنين من الأعداء، ألا وهما العلمانية والحداثة. إن الحرب ضد العلمانية واضحة، حيث يتهم الأدب العلمانية بأنها قوة وثنية شيطانية جديدة في العالم الحديث. وأنها تُنسب بشكل كبير إلى اليهود والغرب والولايات المتحدة. لا تُعد الحرب القائمة ضد الحداثة واضحة، بل إنها موجهة ضد عملية متكاملة للتغير الذي بدأ في العالم الإسلامي خلال القرن الماضي أو أكثر. وأنها حولت كل من الأساس السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلدان المسلمة. فقد واصل الأصولويون المسلمون لهدف، حيث تشكلت قوة مخالفة لذلك السخط والغيظ اللاهدفي لدى جماهير المسلمين فخفّضت قيمهم وولاؤهم التقليدي. حتى أنهم، في التحليل النهائي، سلبوا منهم معتقداتهم وتطلعاتهم وكرمهم، إلى أن وصلوا لمصادر رزقهم.

هناك شيء ما حول ثقافة المسلمين الدينية حيث أنها ألهمت، حتى أكثر الفلاحين والمتجولين تواضعاً، كرامة واحترماً لأولئك الذين لا يتجاوزون ونادراً ما يتساوُون في حضاراتهم. ومع ذلك، خلال لحظات الإنقلاب والتوتر، عندما مُزج الشغف الذي أصبح أعمق، أعطت كل من الكرامة والاحترام طريقها لمزيج من الغصب والحقد المتفجر حيث أجبروا حتى حكومات البلدان القديمة والمتحضرة. بالإضافة إلى اجبار المتحدثين باسم الدين الروحاني والأخلاقي على تبني الخطف والقتل. فحاولوا إيجاد تأييد وسوابق لهذه الأفعال من حياة رسولهم.

إن غريزة الجماهير لا تخطئ في تحديد مصدر لكل هذه التغييرات المفاجئة في الغرب. ولا تخطئ وفي إلقاء لوم أسلوب حياتهم السابق على تأثير الهيمنة الغربية أو التأثير الغربي أو حتى مفهومهم الغربي على سبيل المثال. فمنذ أن أصبحت الولايات المتحدة هم الورثة الشرعيين للحضارة الأوروبية والقواد المعترف بهم للغرب، ورثت الولايات المتحدة المظالم الناجمة وأصبحت بؤرة تركيز الحقد والغصب المكبوت. من الممكن أن يفيا المثالين التاليين بالغرض، ففي نوفمبر عام 1979م، هاجم وأحرق حشد غاضب سفارة الولايات المتحدة في إسلام آباد، باكستان. فيكمن سبب غضب المسلمين على استيلاء مجموعة من المعارضين المسجد الحرام في المكة، حيث لم هناك تدخل أمريكي في هذا الأمر. فبعد عشرة سنين، في فبراير 1989 بالتحديد، قام مجموعة من الحشود مرة أخرى في إسلام آباد بالهجوم على مركز دائرة الإعلام بالولايات المتحدة. ولكن هذه المرة احتجاجاً على نشر رواية  آيات شيطانية للكاتب سلمان رشدي. يعتبر رشدي مواطناً بريطانيا من أصول هندية. ونُشر كتابه في بريطانيا قبل خمسة اشهر. ولكن ما أشعل غضب المسلمين ، بالإضافة إلى إعلان روح الله الخميني طلبه باعدام الكتاب، هو نشر الكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية.

ينبغي أن يكون واضحاً من الآن أننا نواجه سارية وحركة تتجاوزان مستوى قضايا السياسات والحكومات التابعة لهم. وهذا لا يقل عن تصادم الحضارات، الذي من الممكن أن يكون غير منطقي ولكنه بالتأكيد ردة فعل تاريخية للخصم القديم ضد تراثنا اليهودي المسيحي، وحاضرنا العلماني، بالإضافة إلى توسع كلتا المشكلتين على النطاق العالمي. ومن المهم أيضاً أن لا نثار من الناحية التاريخية، بل من ردة فعلهم الغير منطقية في ظل ذلك العدو.

لم تكن جميع الأفكار المستوردة من الخونة الغرب أو المتغربين الأصليين مرفوضة. حيث قَبل بعض الأصولويون الإسلاميون بها بدون الأخذ بمصادرها في أغلب الأحيان. بالإضافة إلى معاناة التحول الحقيقي لشيء نادر الغنى ولكن غريب، فعلى سبيل المثال الحرية السياسية. بالإضافة إلى المفاهيم المرتبطة والممارسات في كل من التمثيل، والانتخابات، والحكم الدستوري. فحتى الجمهورية الإسلامية الإيرانية قامت بكتابة دستور لها ووضع جمعية منتخبة، بالإضافة إلى نوع من الأسقية. فلا وجود لأي وصاية لهم في التعليم الإسلامي ولا أي سوابق في الماضي الإسلامي. إن جميع هذه المؤسسات آتية من النماذج الغربية. احتفظت الدول المسلمة أيضاً بالعديد من التقاليد الثقافية والاجتماعية للغرب، بالإضافة إلى الرموز التي تمثلهم كمظهر الذكور (بشكل أقل بكثير من الإناث) في الملابس، لا سيما في الجيش. إن استخدام الصناعة الغربية لكل من الأسلحة والدبابات والطائرات هي حاجة عسكرية، ولكن الاستخدام المستمر في تركبيها تعد اختياراً ثقافياً. وابقت الغرب –بل عززت– حكمها عن طريق تحول الدستور إلى كوكا كولا، ومن الدبابات والتلفاز إلى القمصان، بالإضافة إلى الرموز والتحف من خلال للأفكار.

إن الحركة المدعوة هذه الأيام بالأصولية لا تعد التقليد الإسلامي الوحيد. فهناك آخرون، أكثر تسامحاً وانفتاحاً، ساعدوا في إحداث الإنجازات العظيمة للحضارة الإسلامية في الماضي. وأيضاً نأمل في انتشار هذه التقاليد الأخرى مع الوقت. ولكن قبل أن تٌحسم هذه المسألة، سيكون هناك كفاح مرير لن تستطيع الغرب فعل أي حياله. بالإضافة إلى أن المحاولة قد تخلق ضرراً، لذك يجب على المسلمين حل هذه المشاكل بأنفسهم. ولكن يجب علينا أثناء ذلك أن نكرس اهتماماً كبيراً لجميع الجانبين لتفادي خطر حقبة الحروب الدينية الجديدة الناشئة من تفاقم الخلافات وتجدد أفكار الأسلاف.

وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب أن نسعى لتحقيق تقدير الثقافات الدينية والسياسية الأخرى من خلال دراستنا لتاريخهم وأدبهم وإنجازاتهم. ونطمح أيضاً في الوقت نفسه إلى أن يحاولوا أيضاً فهمنا بشكل أفضل. وأن يتفهمونا ويحترمونا، حتى إذا اختاروا عدم اتخاذها لنفسهم، ألا وهو الفهم الغربي للعلاقة المناسبة بين الدين والسياسة. فمن أجل وصف هذا الفهم، فأنا سأختم كما بدأت باقتباس من الرئيس الأمريكي، وهذه المرة ليست فقط من توماس جفرسون المحتفى به، بل من جون تايلر المُهمل الذي قدم، في الرسالة المؤخرة عام 1843، تعبيراً نبوياً لمبادئ الحرية الدينية قائلا:

“لقد خاضت الولايات المتحدة تجربة عظيمة يُعتقد أنها عُرّضت للخطر في غياب جميع الأحوال السابقة المتمحورة حول انفصال الكنسية عن الدولة. فلا وجود لمؤسسة دينية قائمة على القانون. حيث تحرّر الضمير من قيوده وأصبح لكل فرد حرية عبادة خالقه. وفُتحت مكاتب الحكومة للجميع. فلا تُفرض العشور لدعم منظومة ناشئة، ولا لإنشاء أحكام بشرية خاطئة كالعقيدة الصحيحة المعصومة. لو كان محمد بيننا لوُهِب المكانة المضمونة له من الشرع بحسب القرآن، ويبنى لدى الهند الشرقية أيضاً ضريحاً إن كان ذلك ليرضي براهما. فهذا هو وضع روح التسامح المترسخة في مؤسساتنا السياسية. إن الاضطهاد والنظرة الدونية التي تواجهها العبرية في المناطق الأخرى تلتهم مسكنه بيننا لجعله خائفاً بدون شيء…بينما أصبحت دروع الحكومة متوفرة في الجوار للدفاع عنه ولحمايته. وهذه هي تجربتنا الكبيرة التي قمنا بها، حيث حصلنا على نتائج سعيدة، وهي أن نظام الحكومة الحر التابع لنا سيكون غير كامل بدونه.”

من الممكن أن تكون الهيئة مضطهدة ومقيدة ولكنها باقية. ولكن إذا ما قُيّد عقل الإنسان فإن طاقاته وقدراته العقلية ستهلك. وما سيبقى من الدنيا هو دنيوي. فيجب أن يكون العقل حراً كالضوء والهواء.

المصدر