مجلة حكمة
الخير والشر - برتراند رسل

الخير والشر – برتراند رسل / ترجمة: فاطمة الشملان


يؤكد التصوف على أن الشر خديعة، ويتبنى نفس النظرة فيما يخص الخير أحيانا، إلا أنه يظل يتمسك بأن الواقع في مجمله خير. يُمكن أن يُرى كلا الطرحين عند هيراقليطس:” الصالح والطالح واحد،” ويقول ثانية ” كل شيء عدل وخير وحق عند الله، لكن يمسك الإنسان ببعض الأمور خطئا وببعضها صوابا.” لدى سبينوزا موقف مزدوج مشابه لهذا إلا أنه يستخدم كلمة ” الكمال” حين يريد التحدث عما يتجاوز الخير الإنساني المجرد. يقول ” أعني بالواقع والكمال الشيء نفسه.” لكن نجد في موضع آخر التعريف الآتي:” سأعني بالخير ما نحن موقنون من منفعته لنا.” ولذا ينتمي الكمال للواقع كجزء من طبيعته، بينما الطيبة نسبية تعتمد علينا وعلى حاجاتنا وتختفي في التدقيق الحيادي. أعتقد بأن شيئا كهذا التفريق حتمي من أجل فهم المنظور الأخلاقي للتصوف: هناك نوع دنيوي سفلي من الخير والشر يقسم عالم الظواهر إلى ما يبدو بأنه أجزاء متضاربة؛ لكن يوجد أيضا نوع علوي، نوع من الخير الباطني الذي ينتمي للواقع ولا يعارضه الشر المقترن به أيا كان نوعه.

من الصعب تبني دفاع منطقي لهذا الموقف دون الإدراك بأن الخير والشر شخصانيان، بأن الخير هو مجرد شعور نملكه تجاه الأمر، والشر مجرد شعور من نوع آخر نملكه تجاه الأمر أيضا. من الضروري أن نملك القدرة على التفريق بين الخير والشر، أو على الأقل الأفضل والأسوأ في حياتنا العملية، حيث يجب علينا أن نُمارس الخيار بين فعلين ممكنين، وأن نُفضل هذا على ذاك. لكن هذا التفريق، مثل أي شيء يخص الفعل، ينتمي إلى ما يعتبره التصوف عالم الوهم، ولو كان لمجرد ارتباطه بالزمن في الأساس. في حياتنا التأملية، حيث لا داعي للفعل، من الممكن أن يكون المرء حياديا وأن يتجاوز الازدواجية الأخلاقية التي يطالب بها الفعل،شريطة أن نبقى محايدين فحسب.عندها يمكننا أن نرضي بالقول بأن خير وشر الأفعال أوهام. لكن إذا نرى أن العالم يستحق الحب والتقديس، كما يتوجب علينا إذا كنا نمتلك نظرة صوفية، إذا نرى:

“الأرض

وكل ما يسقط عليه النظر…

متدثر بنور سماوي”*

سيمكننا القول بأن هناك خير أعلى لذلك الفعل، وأن هذا الخير الأعلى ينتمي للعالم بأسره كما هو في الواقع. بهذه الطريقة فإن السلوك المزدوج والتذبذب الظاهر للتصوف مفهوم ومبرر.

إن احتمالية وجود هذه البهجة والمحبة الكونية في كل ما هو كائن، لشيء فائق الأهمية للسلوك والسعادة في الحياة، كما أنها تمنح قيمة نفيسة للحس المتصوف بعيدا عن أي من العقائد التي يمكن أن تُبنى عليه. لكن إذا كنا لن ننقاد خلف المعتقدات المغلوطة، فإنه من الضروري استيعاب ما يتجلى عن الحس المتصوف. إنه يُظهر احتمالية الطبيعة البشرية- احتمالية حياة أنبل، أسعد وأكثر حرية من أي من السبل الأخرى التي يمكن تحقيقها، لكنه لا يقول أي شيء عن غير الإنساني، أو عن طبيعة الكون في العموم. إن الخير والشر، وحتى الخير العلوي الذي يجده التصوف في كل مكان، انعكاسات لمشاعرنا على أشياء أخرى، وليست جزءا من مادة الأشياء كماهي ذاتها. ولذا فإن تفكرا حياديا، متحررا من كل انشغالاته بالذات، لن يحكم على الأشياء بالخير والشر، بالرغم من أنه يمكنه بسهولة بالغة أن يقترن مع ذلك الإحساس الكوني بالحب الذي يقود المتصوف للقول بأن كل العالم خيّر.

إن فلسفة النشوء، من خلال صيغة الارتقاء، مرتبطة مع ثنائية الأسوأ والأفضل، ولذلك فإنها لا تحجب صيغة التدقيق الذي ينبذ الخير والشر ككل عن ناظرها فقط، بل أيضا التصوف المؤمن بوجود الخير في جميع الأشياء. وبهذه الطريقة يصبح الفارق بين الخير والشر في هذه الفلسفة تعسفيا شأنه شأن الزمن، وتقدم للفكر تبرم الفعل وانتقائيته. يبدو أن الخير والشر، مثل الزمن، ليسا عامين ولا أساسيين في عالم الفكر، بل عنصران متأخران ومتخصصان ضمن التراتبية الفكرية.

بالرغم، وكما رأينا، يمكن تفسير التصوف كموافقة على المنظور بأن الخير والشر ليسا من الأساسيات الفكرية، فإنه علينا الإقرار بأننا لم نعد على اتفاق شفهي مع أغلب الفلاسفة العظماء ومعلمي الدين من الماضي. بيد أني أعتقد مع هذا، بأن انتزاع الاعتبارات الأخلاقية من الفلسفة ضروري علميا-بالرغم من أن ما أقوله سيبدو متضاربا- وتقدما أخلاقيا.

إذا كان يبدو هذا المنظور منذ الوهلة الأولى محبطا، يمكننا أن نذكر أنفسنا بأن تغيرا مشابها قد بات حتميا في كل العلوم الأخرى. لا يتطلب من الفيزيائي والكيميائي اثبات الأهمية الأخلاقية لأيوناته وذراته؛ لا يُتوقع من عالم الأحياء اثبات جدوى النباتات والحيوانات التي شرحها. لم تكن تلك هي الحالة في العصور قبل العلم. دُرِس علم الفلك على سبيل المثال لأن الرجال آمنوا بالتنجيم: كان يُعتقد بأن لحركة الكواكب تأثيرا بالغ الأهمية على حياة البشر. من المرجح بأنه حين تآكل هذا الاعتقاد وبدأت دراسة علم الفلك الفاترة، قرر العديد ممن كانوا يرون التنجيم فتّان بشكل مذهل بأن علم الفلك لا يستحق الدراسة لفائدته الضئيلة للإنسان. الفيزياء، في كتاب أفلاطون تيمايوس على سبيل المثال، مليئة بالاعتبارات الأخلاقية: اظهار بأن الأرض تستحق التقدير هو جزء حاسم من غايتها. على النقيض، فإن الفيزيائي المعاصر، بالرغم بأنه ليس لديه أدني رغبة في انكار أن الأرض محط تقدير، غير مهتم كفيزيائي بسجيتها الأخلاقية: إنه مهتم فقط باكتشاف الحقائق، وليس باعتبار إذا ما كانت تلك الحقائق جيدة أم سيئة. إن السلوك العلمي لعلم النفس أكثر حداثة وصعوبة من ذلك للعلوم الفيزيائية: من الطبيعي النظر إلى الطبيعة البشرية من منطلق الجيد والسيء، ولذا كل ما هو مهم في الممارسة، مهم نظريا أيضا. خلال القرن الماضي فقط بدأ نمو علم النفس المحايد أخلاقيا، وهنا أيضا، كان الحياد الأخلاقي ضروريا للنجاح العلمي.

حتى هذه اللحظة الآنية، نادرا ما تم السعي وراء الحياد الأخلاقي أو بالكاد تم تحقيقه في الفلسفة. تذكر الرجال أمنياتهم وحكموا على الفلسفات من خلال علاقتها بتلك الأمنيات. لقد كانت الفلسفة ملاذا للاعتقاد المنقاد عبر علوم معينة والذي يقضي بأن اعتبارات الخير والشر يجب أن توفر مفتاحا يُفهم العالم من خلاله. ولكن حتى من خلال هذا الملاذ الأخير، إذا ما خرجت الفلسفة من كونها سلسلة من الأحلام المُرضية، فإنه على هذا الاعتقاد أن يُساق قدما. من المسلم أن السعادة لا تتحقق لأولئك الذين يسعون لها مباشرة؛ ويبدو أن الأمر حق بالنسبة للصالح أيضا. نظريا وتحت أي ظرف، أولئك الذين ينسون الخير والشر ويسعون فقط لمعرفة الحقائق من المرجح أنهم سينالون الصالح أكثر من أولئك الذين ينظرون للعالم عبر الوسط المموَه لرغباتهم الخاصة.

لذا نعود مجددا لتضادنا البادي، إن الفلسفة التي لا تفرض على العالم مفاهيمها عن الخير والشر لن تنال فقط الحقيقة، بل موقفا أخلاقيا أعلى من ذلك الذي، مثل النشوئية وأغلب الأنظمة التقليدية، يمجد الكون دوما ويسعى ليجد فيه تجسدا لمثاليات حالية. في الدين، وفي كل منظور عميق للعالم ولمصير الإنسان، هناك عنصر من الخضوع، إدراك للمحدودية القوة الإنسانية التي يفتقرها العالم الحديث نوعا ما مع نجاحه المادي السريع وبإيمانه المتعجرف باحتمالات التقدم اللامحدودة. “من يحب نفسه يهلكها؛”** وهناك مخافة الخطر من الثقة الزائدة في حب الحياة، بأن تخسر الحياة الكثير مما يمنحها قيمة عليا. ما يرسخه الدين من خضوع في العمل هو ذات الكنه لما يعلمه العلم من حيث الفكرة؛ والحياد الأخلاقي الذي تحققت به الانتصارات هو نتيجة لذلك الخضوع.

إن الخير الذي يهمنا هو ذلك الخير الذي بمقدورنا أن نخلقه- الخير في حياتنا وفي سلوكنا تجاه العالم. الإصرار على الإيمان بخير خارجي هو نوع من الجزم الذاتي والذي بينما لا يمكنه القبض على الخير الخارجي الذي يرغبه، يمكنه وبشكل خطير أن يقوض الخير الداخلي الكامن في قدراتنا، ويدمر التبجيل تجاه الحقيقة واللذان يمثلان ما هو قيّم للتواضع وماهو مثمر للسجية العلمية.

لا يمكن للبشر بالطبع السمو ككل بالطبيعة البشرية لأنه أمر شخصاني، حتى لو كان يجب فقط علينا أن نجعل جل تفكيرنا الحرص الذي يوجه اهتمامنا.تأتي الفلسفة العلمية قريبة من الموضوعية أكثر من أي سعي إنساني، وتمنحنا بذلك أكثر علاقة ثابتة وحميمية مع العالم الخارجي يمكن تحقيقها. للذهن البدائي، كل شيء إما صديق أو عدو؛ لكن أظهرت التجربة بأن الصداقة والعداوة ليستا مفاهيم من خلالها يُفهم العالم. لذا يُمكن للفلسفة العلمية أن تُقدم، بالرغم أنها لا تزال في وضعية الوليد، صيغة أعلى للفكر من أي معتقد قبل العلمي أو خيالي، وكأي توجه للسمو الذاتي، يأتي بفوز وفير في زيادة النطاقات والتوسع والشمولية. بالرغم من اجتذاب النشوئية لحقائق علمية معينة، إلا أنها تفشل في أن تكون فلسفة علمية حقيقة بسبب عبوديتها للزمن، وانشغالاتها الأخلاقية، واهتمامها الرئيسي بمؤرقاتنا الدنيوية ومصيرنا. ستكون الفلسفة العلمية أكثر تواضعا، تدرجا، تعبا، مقدمة بهرجة أقل لسراب خارجي كي تسطح الآمال المضللة، لكنها أكثر فتورا تجاه القدر، وأكثر قدرة لتقّبل العالم دون الفرض الطاغي لمطالبنا الإنسانية المؤقتة عليه.

 

 

من كتاب التصوف والمنطق ومقالات أخرى


 *William Wordsworth “Intimations of Immortality.”

**إنجيل يوحنا 12:25