مجلة حكمة
عقل تهديمي عقل تهديمي ما وراء الحوار والبحث عن الهويات - أركون

من أجل عقل تهديمي : ما وراء الحوار والبحث عن الهويات

الكاتبمحمد أركون
ترجمةمختار الفجاري

1- ملاحظات تمهيدية (عقل تهديمي)

نظم المجلس الأوروبي يومي 20 و21 سبتمبر 2001 ندوة حول التحدي الذي تمثّله الهويات الدينية والروحية والثقافية. وقد سنحت لي الفرصة للمشاركة بمداخلة حول الحوار بين الأديان والثقافات. كانت تلك أول ردّة فعل لي بعد أحداث 11/9/2001، حيث عبّر العديد من المشاركين عن مشاعرهم وحلّل العديد من الخبراء بدقة كل ملابسات هذه المأساة وتفاصيلها. لقد كانت مأساة إنسانية هزّت الوعي الدولي وزلزلت أركانه. وها نحن نجتمع من جديد في المجلس الأوروبي نفسه لمناقشة الموضوع المؤلم نفسه الذي طالما طرح لكن دون تجديد، بل لم يقع تجاوزه بعدُ، لا في المقاربات التحليلية فحسب، بل في ميدان الحلول التطبيقية أيضا، لاسيما ميادين البحث وتعليم الثقافات والأديان المتعايشة في الفضاء السياسي والثقافي الأوروبي. أودّ الرجوع إلى ما قبل سبتمبر 2001 لأذكّر أنّي كنت في الأيام 28 ـ 29 ـ 30 أفريل من سنة 1991 مقرّرا لندوة كبيرة نظّما المجلس الأوروبي بالتعاون مع اليونسكو حول موضوع شبيه جدّا بالموضوع الذي نحن بصدده الآن. إنه موضوع “إسهامات الحضارة الإسلامية في الثقافة الأوروبية”. كنت، باعتباري مقرّرا عامّا للندوة، قد وضعت ستّ اقتراحات عمليّة ملموسة ألهمت لاحقا صياغة التوصية 1162 والتوجيهات 465 الخاصة بالاجتماع البرلماني. يمكن أن نقرأ النص الكامل للتقرير في الوثيقة 6497 الصادرة عن لويس ماريا دي بُوِينغ. ولا تتحدّد راهنية هذا الملتقى من خلال ما قيل فيه فحسب، بل إنّ الأحداث التي وقعت سنة 1991 تكشف عن مسؤولية كل السلطات الأوروبية. لقد أنفقت تلك السلطات أموالا طائلة دون تشاخيص دقيقة أو إرادة سياسية قادرة على تحقيق الرؤى الحبلى بتاريخ كبير للسلم والتقدّم.

هكذا سنفهم في ظل هذه الظروف أنّ العديد من الباحثين والمدرّسين والخبراء من مختلف الاختصاصات قد آلوا إلى الخيبة بعد أن ضحّوا بأوقاتهم وأسّسوا معركتهم من أجل المواطنة والأنسنة. كلٌّ مآله إلى الأرشيف مادام الاحتفاظ بالآثار الفكرية والثقافية الهامة غاية في حدّ ذاته. الدرس الأخير الذي يمكن استخلاصه من هذه التجربة هو أن الشخصيات الجديدة التي تمّ استدعاؤها لأوّل مرّة بذلت جهدا كبيرا في موضوع واحد متكرّر منذ زمن بعيد، وصفّقت لتفاهات كثيرا ما تمّ الاحتفاء بها في ندوات سابقة. وللردّ على الدعوات التي تصلني كنت أشعر بواجب تكرار النداء إلى عمل أكثر انسجاما مع صيغ التفكير ومع برامج تدخّل في مستوى التحديّات التي يشهدها تاريخنا.

لقد أصبحت لي تجربة طويلة مع الندوات المختصة في الحوارات الأوروبية أو الإسلامية ـ المسيحية أو اليهودية ـ الإسلامية ـ المسيحية، وفي صدام الحضارات والتداخل الثقافي… وهي تجربة مكنتني من تجذير مواقفي سواء تجاه طروحات واحتجاجات ومزاعم الرفقاء المسلمين أم تجاه ما كان المرحوم بيار بورديو (Pierre Bourdieu) قد وسمه في كتبه تحت عناوين بليغة مثل الورثة وإعادة الإنتاج وتأملات باسكالية. وهذا الأخير عنوان كتاب يُفتتح بفصل عن نقد العقل السكولاستيكي ويتلخّص في ضرورة تجذير الشك الجذري. هذا الحشو الظاهر يترجم الاستقالات والإهمالات والتخلّيات والإطنابات المضجرة والنسيان والإقصاءات المنظمة وعجرفة الخطابات الأوروبية ـ الغربية تجاه كل الحثالات المرمى بهم في سلّة بقية العالم الثالث والمتخلّف، وخاصة منذ إعلان نهاية التاريخ وصدام الحضارات انطلاقا من الولايات المتحدة. وقع هذا مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أحد الكبيرين اللذين سطرا خارطة العالم في يالطا. في الحقيقة الكبار أربعة ولكن يبقى في مستوى التسمية الشكلية. هذه حقيقة تتأكّد حين نكتشف أن الولايات المتحدة كانت أكثر المستفيدين من إضعاف الاتحاد السوفياتي ومن إخفاقه النهائي. إنّ هيمنة الولايات المتحدة تجد تفسيرا لها في صمود كلّ من ألمانيا وفرنسا في رفض الحرب الثانية على العراق، لأن ذلك الرفض كان احتجاجا على استئثار الولايات المتحدة بكل الفوائد.

لقد كشفت أحداث ما بعد 11/9/2001 بوضوح عن أزمة العقل الحديث، أقصد أزمة <<القيم>> التي لوّح بها الغرب، والتي اعتمدها ليدعو إلى ما يسمّيها <<الحرب العادلة>> «La guerre juste»  معتمدا في ذلك مفردات وتعابير تذكّر بأسلوب البابوات حين كانوا يساندون الحروب الصليبية. ولكن الفرق هو أن تلك الحروب الصليبية القديمة كانت ضد إسلام لا يزال مشعّا فكريّا وثقافيا في الفضاء المتوسطي. اعتمدت هذه المقاربة التاريخية لأعبر عن شجبي الدائم والمتجدد للممارسة التمجيديّة والفكرانيّة (idéologique) التي تتسم بها مقاربات بعض المثقفين العرب ــ المسلمين، فهي مقاربات تتمّ دائما في شكل احتفال شعائري. ما أهدف إليه هنا هو الكشف عن استمرار العقل السكولستيكي في الفكر الأوروبي ــ الغربي الذي تحدّث منذ 1970 عن نهاية السرديات الكبرى (les grands Récits)(1) والمرور إلى ما بعد الحداثة. وهكذا فالتجرّؤ على ذكر ما بعد الحداثة  واقترانها بنهاية الفضاء المعرفي للسردية الكبرى، يعني في المقابل التأكيد على أن الحداثة تواصل التفكير والتحرك داخل إطار تلك السردية بالذات. لقد أنشأت الحداثة تلك السردية لتؤسّس سيادتها المزدوجة: الفكرية والسياسية، وهي سيادة حلّت محلّ السيادة اللاهوتية ــ السياسيّة كما بيّنها سبينوزا (Spinoza). وقد غذّت السرديات الكبرى المدعّمة بالاختراعات العلمية الكبرى وبالامبراطوريات الاستعمارية مخيال الخلاص للوضع البشري اعتمادا على تقدّم المعرفة العلمية. وعلى خطى السرديات الكبرى المؤسسة للتراثات الدينية، غيّر كلّ من العقل الحديث والعقل السكولاستيكي شروط الانتشار التاريخي للوضع البشري بشكل جذري. هكذا تحدّثت السرديات الميثوتاريخية، (mythohistoriques) في مرحلتي تاريخ العقل هاتين عن قيم أبدية مطلقة، والسبب هو أن تلك القيم “إلهية” بالنسبة إلى المرحلة الأولى (السكولاستيكية) وعلمانية كونية بالنسبة إلى المرحلة الثانية (الحداثية). مع العلم أنّ الكونية الحقيقية  للوضع البشري على الأرض، في ظل تلك السرديات، لا تزال إلى اليوم متجاهَلة ومحطّمة في مناطق كثيرة من الأرض، وهي إلى اليوم ترزح تحت العبودية حتى في البلدان التي أنجبت الحداثة، وخاصة بالنسبة إلى النساء والأطفال و”الأجانب”. وبتعبير آخر نقول: إنّ العقل الحداثي كالعقل السكولستيكي سيّان في إنتاج سرديات ميثوتاريخية محطمة للوضع البشري.

ضمن هذا الإخفاق الأنسني للعقلين المذكورين سنجد أنّ “المثقفين”، في كلّ من أمريكا وأوربا، والذين أحدثوا ضجّة أكثر بعد 11/9/2001 كانوا الأعوان المناصرين  لـ”الحرب العادلة” المعلنة في الشرق الأوسط وفي بقية العالم منذ 1945. وبالفعل، يجب أن نعود إلى هذا التاريخ لكي نقيس على الأقل في المدى المتوسط ونكشف الاستقالات المتتالية للعقل الذي لازلنا نواصل نعته بالحديث، بالرغم من أنّ انتظارات الحداثة الفكرية هي وجود مؤرّخي أفكار قادرين على تصحيح مسارها داخل انتروبولوجيا تاريخانية ونقدية لأنظمة الفكر وللبناءات الاجتماعية للواقع في كلّ الثقافات دون استثناء. صحيح أنّ هناك بعض الفلاسفة وكاتبي مقالات عديدة أثاروا الاهتمام إلى إخفاق الفكر لاسيما الفكر والثقافة سريعة الزوال (la pensée et la culture jetable) كما شدّوا الانتباه إلى الخطر الذي يشكله مجتمع الاستعراض الدائم والاستهلاك الإجباري وتسليع الجسد والروح وطغيان السوق التي لا تقلّ وطأتها حتى في البلدان المحرومة من ممتلكاتها وحرياتها وكرامة عيش أهلها. ولكن هناك أيضا نخب محصورة تدفع إلى حياكة تضامنات مع زملاء لهم في الغرب، وهي نخب محشورة في محيط اجتماعي واقتصادي وثقافي مستسلم ومنخرط في اللعبة القاتلة لآليات العنف الهيكلي. وهكذا لا يوجد تضامن أو تحالف أنسني حقيقي يدفع الوضع البشري إلى الأمام، بل الهدف هو الحفاظ على نسق الاستهلاك بأيّ ثمن حتى نتجنّب انهيار السوق في المستوى العالمي. إنّ قانون السوق هذا البسيط في مستوى ملفوظه، يقصي كل المجهودات التي يمكن أن تنشر الفكر الأكثر إبداعا في إنعاش رُقيّ الشخص البشري. وهو لا يقصيها في مستوى خطاب شكلي خدمةً للتبرير الإيديولوجي ولإرادات سياسة القوة (Machtpolitik) ذات الأولوية، بل داخل مؤسسات قومية ودولية محكومة بسلطات ديمقراطية تبقى في حاجة إلى إعادة تعريف وتحديد.

هنا يكشف العقل الأدواتي والبراقماتي للمهندسين وخبراء الموارد البشرية عن حدوده وانسداد آفاقه. ويبيّن الإكراهات التي يمارسها على ما أسمّيه هنا حقوق وواجبات العقل التهديمي. وإنّي إذ أتحدّث عن عقل تهديمي فلأنّ مفهوم العقل الحديث فَقَد كل ثابت مفهومي وكل الروابط مع الغبطة الثقافية لعقل الأنوار كما فقد كل قدرة على إعادة التوثب والحيوية. لقد تكلّس هذا العقل الحديث أمام الانتشار القاهر للفكر سريع الزوال (La pensée jetable) ولثقافة المتعة والترفيه التي ترفع من الفوائد المالية للإعلام وتولّد الربح المناسب لخلق مواطن الشغل. وإنّي لألاحظ ضمن هذا السياق ومنذ السنوات العشر الأخيرة انتشار مجلاّت نسائية باللغة الفرنسية في البلدان المغاربية. وهي مجلات على الطريقة الباريسية تقلّدها في أدقّ جزئيّاتها وتفاصيلها. لقد وجد الإشهار في هذه المجلات قناة مثالية لكسب أهمّ الحريفات باعتبارهن مصدرا للنجاح السريع والمستمرّ. هذا نموذج عن الفكر سريع الزوال في أدقّ تجليّاته لأنّ المعلومة والفكر المبثوثين بهذه الطريقة في مجتمع لا تزال فيه وضعية المرأة تنتظر كثيرا من التنمية، يكشفان عن فكر سطحي وعابر وجزئي وامتثالي. هكذا نجد تلك النخب المحصورة/المحشورة آنفة الذكر والمعنية بهذه المنشورات تفتخر نوعا ما بإنتاج مجلاّت وطنيّة مترفة في مستوى مثيلاتها الغربية. ولكن يغيب عن تلك النخب بالذات أن هذا الترف كان سيمكّن من نشر جيّد لأطروحات وأبحاث علميّة أكثر ثراء، وموجّهة إلى جمهور أكثر اتساعا. ولكن للأسف هذا الجمهور الواسع وُجّه عن قصد إلى اتجاه خاطئ ليصبح جزءًا من الثقافة سريعة الزوال (La culture jetable) في بلدان تحاول بالرغم من كل ذلك النهوض.

وهكذا فـ”الاستثناء الأوروبي ــ الغربي” هو في الوقت نفسه مبتذل وموظف دائما للإعلان عن الهوية. ولكن تاريخيا تعتبر الثورات السياسية والقانونية التي مُهّد لها بقطائع ابستيميائية وابستيمولوجية في ممارسة العقل، استثناء أوروبيا لا يقبل الجدل. فالثورة الصناعية والعمرانية، ثمّ انقلابات عصرنا المعلوماتية، كلّها تسجّل داخل هذا الاستثناء التاريخي الذي لم يعرف مثيلا له في بقية العالم. فاليابان، مثلا، لم يكن استثناءً، بل إنّه دخل في السباق الصناعي عن طريق استنساخ الإنتاج وتنويعه وتعقيده ولكنه لم يدخل أبدا بإرساء قطيعة جديدة تجاه الاستثناء الأوروبي ـ الغربي. ولكن المؤسف أنّ هذا الاستثناء الأوروبي بدأ هو أيضا يكشف عن آفاقه المحدودة وأخطاره على مستقبل جنسنا البشري، بل على مستقبل الكرة الأرضية بأكملها. أمّا الصين والهند فهما حالة خاصة، إنهما غنيّان بمواردهما البشرية الهائلة، ولكنّنا لا نزال ننتظر منهما انبثاق نموذج لإنتاج تاريخ عالمي يذهب إلى ما وراء التنافس حول تكاليف الأشياء في الاستهلاك الجاري. ويبقى الخوف من انهيار السوق هو العائق الذي يعرقل الإبداعيْن: الفكري والفني. وهكذا سيصبح، في غياب هذا الإبداع، استنساخ الكائنات البشرية بالذات هو القاعدة المشتركة لإنسانية أخرى غير تلك التي تعيش الآن في ظروف حرجة.

لقد تعوّدنا على أن ننظر إلى الحداثة على أنها مواكبة فكرية وعلميّة وثقافية وقانونية واقتصادية للمسار التاريخي الأوروبي منذ ق 16. وهو مسار هدفه المحدّد هو وضع العقل في أزمة لتجاوز مسلّماته ومبادئه وإجراءاته كلّما ثبتت لا كفاياته وانحرافاته الإيديولوجية حيث الخسران التام لقدراته الإجرائية. هذا ما نلمسه اليوم. فتسريع قوى الإنتاج وتعقيدها في تاريخنا المعاصر، جعلت الأزمات أكثر تكرارا وجعلت تعايش العديد من العقلانيات غير المتجانسة أكثر قدرة على توليد العنف السياسي والاجتماعي. كما أنّ مبدأ تزييف كلّ حقيقة متلفّظ بها أو فرضية مستكشفة لاختبار الملاءمة العلمية يعيق إنتاج كل الآثار المخصبة لاسيما في علمي الإنسان والمجتمع. وهذا إكراه آخر لتاريخنا الذي يهيمن عليه زمن تكنولوجي شامل وقوي جدا. وهكذا تتنزل الحركة التهديمية ضمن هذا الخط النقدي للحداثة. فمنذ النصف الثاني من ق 19 شجب العديد من المفكرين التهديميّين الفلسفة المثالية والميثيوفكرانية والسجينة للأحلام الميتافيزيقية ولأعباء سوسيولوجية مخلّدة من قبل سيادة لاهوتية حاضرة باستمرار. كما شهد التحول الفلسفي من هيغل إلى ماركس حركة تهديمية جديدة في تاريخ الفلسفة الغربية. فهيغل جعل الإنسان يمشي على رأسه ولكن ماركس جاء ليقلبه ويجعله يمشي على قدميه. هذه حركة للخروج عن عقل الأنوار حيث تبدو المعارف حول تاريخ وإناسة المجتمعات والثقافات فطرية ومتخيّلة. وهو ما يحول دون التحكم في الآليات الحقيقية للمؤسّسة الاجتماعية للعقل(2) في حد ذاته. أمّا نيتش فقد هاجم ميدان القيم وفرض بحثه الجينيولوجي المقتصر على المسار الإغريقي ــ اللاتيني والمسيحي لبعض المجتمعات الأوروبية، فبيّن في هذه الأثناء أهمية المرور إلى عهد الأنوار الثاني. لكنها كانت حركة ثانية أُسِيئ تقبّلها، وظلّت حتى اليوم مكرورة في التحولات المرفولوجية للحداثة وانسلاخاتها. خروج آخر مثّله فرويد، إذ جاء ليدعّم فلسفة الشك باكتشافه القارة المجهولة للنفس وعلاقتها بالوعي.

هناك خطوط أخرى للقوة في الحداثة لا يمكن، لضيق المجال، أن نأتي على ذكرها كلّها. كما أنّ هدفي ليس تتبع هذا المسار التاريخي للحداثة الفلسفية بل هدفي هو التمييز بين مهام العقل التهديمي والوضعيّات والوظائف الخاصة بهذه القوة التي تسمّى دائما “عقلا” بالرغم من التنوّع الكبير المنضوي تحت هذا المفهوم. والهدم هو قلب النظام القائم سواء في الميدان السياسي أم في مجال صيغ المعرفة وطرقها ومحتوياتها. هناك فرق أساسي بين تهديم نظام سياسي عبر تحرّك الشارع وتهديم نظام فكري عبر إظهار الأخطار التي يمكن أن يشكّلها على صحة الحياة الفكرية. أقصد تهديم نظام فكري من أجل اشتغال أفضل للقوى التي يُعرف بها العقل البشري. فالهدم عبر الشارع له الفضل في جلب الانتباه إلى الفوضى الذهنية وإلى دوس المشروعيّات وإلى الاغتصاب المتوحّش للحقوق الغذائية للنفس البشرية. والأشخاص الذين ينزلون إلى الشارع يعبّرون عن مطالب، ولكنهم ليسوا مهيئين كلّهم لتوضيح شروط النجاح والرهانات العاجلة أو الآجلة للأجوبة المقدّمة للمطالب الأكثر شرعية. لذلك يفهم مصطلح “هدم” سلبيا لأنّ الدولة المسؤولة عن فرض النظام تشجب العنف غير الشرعي في الشارع بممارسة العنف الشرعي للنظام القائم. كما أن هذا المصطلح ظل إلى حدود 11/9/2001 يستجيب إلى دوافع اجتماعية وسياسيّة واحدة داخل حدود كل دولة ــ أمة أو مملكة أو أمبراطورية. أمّا بعد تفجيرات منهاتن فقد تغيّر الأمر، بل تغيّر سلّم الهدم: إنه هدم على طريقة بينيمين بربر في كتابه المعبر بدقة عن الوضعية الراهنة انطلاقا من عنوانه:« Jihâd versus McWorld ». (3) 

إنّ تغيير هذا السلّم له أهميّة أساسيّة لبحثنا الذي يسعى إلى أن يكون تهديميّا لوجهي التاريخ العالمي المحدّدين في هذا الكتاب بتعبيرين مجازيين لكل واحد منهما ثراء تاريخي وانتربولوجي وفلسفي:« Jihâd versus McWorld ». فإرهابيو 11/9/2001 الذين يواصلون استهداف عواصم استراتيجية يعلنون أنّهم لا يريدون هدم نظام محلّي فحسب، بل النظام العالمي كلّه. ومن المتأكد أنّ هذا الهدف ليست له أسس شرعية أوضح من أسس مظاهرات الشارع التي تخمدها قوات الأمن، لذلك يتمّ التعامل معه هو أيضا على المستوى الدولي بأنه هدم سلبي وغير شرعي أيضا. هكذا إذن تكون “الحرب العادلة” حربا معلنة من شرطي دولي أو لنقل من عربدة الأربعة الكبار في العالم، بل يجب أن نقول بتعبير أكثر عدلا إنّ أسس كل عمليّة هدم عنيفة من الشارع أو بالعمليات التفجيرية تبقى مكبوتة داخل المضمر المعيش للمهيمن عليهم مادام المهيمنون يتحكّمون في فضاءات الحوار الحرّ حول المسائل الجوهريّة لكلّ المواجهات بين النظام القائم والفوضى والعصيان والتمرّد والعنف في الشارع. إنه لحدث تاريخي ثابت أن تتمّ مراقبة هذه المسائل دائما من التحالف الوظيفي بين السيادة العقائدية كسلطة للتشريع والنظام القائم. وهي مراقبة تكون عادة في شكل رقابة وتتبعات عدليّة وأحيانا اغتيالات وتصفيات دموية… فكل المسائل الجوهرية التي يعالجها كل من علم اللاهوت والفلسفة يخضع لتحديدين لا يمكن تجاوزهما، بل يستحيل تجاوزهما. وهذان التحديدان هما:

1 ـ المستحيل التفكير فيه أو اللامفكر فيه الملازمان لكلّ نظام للفكر قبل أيّ تدخّل  من أيّ سيادة عقائدية ومن يدها الطولى الدنيوية.

2 ـ النظام السياسي المسؤول عن النظام الأمني القائم الذي يوسّع من دائرة ممنوعات قوانينه الشرعية ليقمع كلّ انتهاك لحدود المفكر فيه المراقب بشدة من قبل السيادة العقائدية.

لقد تحرّر هذا المفكر فيه من إلزامات الدولة واهتماماتها مع الكاثوليكية والبروتستانية. ولكنه مع الإسلام ظلت الدولة تراقب مباشرة الإدارة الدينية. أما اليهودية فقد استمرّت في صلة متينة مع التيارات الارتودكسية.

وبعد الصراعات العنيفة والإعدامات بلا محاكمة التي اقترفتها الأنظمة الملكية والدينية ثم الأنظمة الكليانية سليلة <<الحداثة>>، استطاع العقل تدريجيا أن يجعل انتهاك حدود المفكر فيه أمرا ممكنا في المستويين السابق ذكرهما. ولكن إسهاماته الأكثر تهديما لم تصل بعد إلى الخروج النهائي عن أشكال التحالف بين السيادة العقائدية والنظام القائم. وأبرز مثال على ذلك إعادة انتخاب كل من بوش الصغير ورئيس الوزراء طوني بلار. لقد كشفت إعادة انتخابهما عن استقالات العقل السياسي وانحرافه حين يوظّف المشروعية الديمقراطية لغرض التلاعب بالانتخابات. إنها ريبيّة مدمّرة لم يقع ضحيّة لها سكان الديمقراطيّتين الكبيرتين: أمريكا وبريطانيا فقط، بل كل الشعوب الخاضعة لما يعرف بـ<<الدول المارقة>>. فهي شعوب قد فقدت بذلك الرجاء الذي يسعى إلى تأسيسه الصراع العالمي من أجل الحريات الديمقراطية. وأنا إذ أذكّر بهذه الأحداث، فإني أستشهد بما يقال وبما يعاش في شكل مشاعر يأس عند كلّ الشعوب حيث يصل منوّرو الرجاء الديمقراطي إلى درجة اللجوء إلى الحروب الغازية لتركيز أنظمة ديمقراطية مزعومة. فأين نجد الشهود الصادقين الذين يتمتعون باستقلالية ضرورية لكي نعيد التفكير في الشروط الجديدة لصياغة “السيادة” (Auctoritas) و“السلطة” (Potestas) وكيف نضمن كذلك مشروعية الدول لدى الشعوب ذات السيادة؟ لقد بيّن علماء الإناسة أنّ الصلاحية العليا للسلطة هي وحدها من يخلق ويغذي ديْن المعنى (Dette de sens) بين المواطنين كأشخاص وليس فقط كأفراد مجرّدين، وبين المجتمع المدني ودولة القانون المتمتعة بالسيادة السياسية. إنّ مبادئ الفلسفة السياسية هذه تنعزل وتترك مكانها للتلاعب الانتخابي وللديماغوجيا الانتخابية، وللجهل بمفهوم الاقتراع العام. بل إن عزلة هذه الفلسفة السياسية تفسح المجال لصعود نظام غير جماهيري مستهدف أكثر فأكثر من الشارع مهدّد يوميا بالفشل وبالانقلاب وبالعنف المنظّم.

لقد ناضلت الثورات الكبرى من أجل الإنسان. فالثورات الانقليزية والأمريكية والفرنسية مثلا غيّرت الرجاء الأخروي للخلاص الأبدي ومخيال السعادة العاجلة والسلم، وأبدلت كل ذلك برجاء التقدم العلمي والحلّ الديمقراطي. فماذا يبقى اليوم من هذا الرجاء الجديد بعد الحروب الأوروبية التي تحوّلت إلى عالمية؟ وماذا يبقى من هذا الرجاء بعد الحرب الباردة وحروب التحرّر المزعومة والحروب الأهلية الجارية منذ انبثاق ما يسمى بـ”الأحزاب ــ الدول” لفترة ما بعد الاحتلال؟ سؤال كبير طالما سُوّف وكُبت وزيّف وحُوّل من قبل مديري العولمة إلى تصوّر وهمي لحقوق المواطنين والشعوب. لقد عوّض التحالف الفلسفي ــ السياسي العلماني والنظام الديمقراطي تحالفا سابقا بين علم اللاهوت ــ السياسي للأديان التوحيدية والنظام الملكي أو التيوقراطي الذي لا يزال قائما في بعض الدول. كما أنّ العلوم الاجتماعية والسياسيّة تبرز أنّنا، في ظلّ هذين النموذجين المنتجين للتاريخ، بإزاء ما كنت قد أسميته “جدلية القوى والبقايا” (La dialectique des puissances et des résidus)(4) .

2 ـ من الحوار البروتوكولي إلى الفكر التهديمي (عقل تهديمي)

كل أشكال الحوار الممارسة ومستوياته كانت مقتصرة حتى الآن على التنظيم، وتعابير المشاركين فيها، والمواضيع المسجّلة على جدول الأعمال، والخلاصات والمقاصد المنبثقة عن قواعد بروتوكولية تعاش في شكل واجبات حتمية، هي قواعد السماع، و”التسامح”، والتحفظ، والحماية الذاتية، والصمت عن كل كلام جارح يمكن أن يزعزع المحرّمات ويعرّض للخطر كل متابعة رائقة للتلاقي والحوار. إذ كلّما تعلّق الأمر برهان ديني أو سياسي ساخن جدّا، تكون القاعدة المتبعة هي اللغة الخشبية. بل هناك دائما علماء دائمون يمطّطون واجبات “التسامح” إلى أوامر للصمت، حين لا تشمل بحوثهم العلميّة عقيدة المؤمنين من غير دينهم. وبتعبير آخر، إنهم، باعتبارهم علماء، يطبّقون كلّ قواعد البحث النقدي على دينهم الخاص ويتركون في الوقت نفسه الأديان الأخرى إلى أهلها. فهل هي أدبيّات فكرية أم استقالة للعقل؟ هل تخلّى العقل عن مهامه الرئيسية المتمثّلة في عالميّة المعرفة العلمية الخاضعة بديهيّا إلى الحوارات الضرورية بين الثقافات؟ فعلا، إنّ هذا الموقف يترك حقول خراب لهؤلاء المؤمنين الذين لا يملكون أدوات تفكير ولا ظروفا مادية ملائمة لكل بحث علمي أساسي. فالموقف في ظاهره تسامح وعدم تدخّل في شؤون الآخرين، ولكنه في مستوى المسكوت عنه هو حرب مضمرة على هذا الآخر وسلاحها الاحتكار الغربي للمعرفة. هذا ما حدث مع العديد من كبار علماء الإسلاميات الغربيّين تجاه الإسلام، وتجاه المجتمعات التي أنتجها الحدث الإسلامي.

وإذا كانت الدعوات والتبادلات بين الأشخاص ذات ثراء كبير يرتقي بالملتقيات والحوار، فإنّنا نؤكد أنّنا نرتقي بذلك أكثر ونعطيه نجاعة أفضل إذا شجّعنا إسهامات ما أسمّيه هنا “الفكر التهديمي”. لم أقل شيئا إلى حدّ الآن عن موقف الدول والمجتمعات المدنية والأحزاب السياسية والطبقات الشغّيلة في السياقات الإسلامية من أحداث 11/9/2001، ومن الأعمال الإرهابية التي أعقبتها في إطار الردّ على الحرب العقابيّة التي قادتها الولايات المتحدة مع من دار في فلكها من المتحالفين. وفي الوقت الذي اتخذت كل من الولايات المتحدة وأوروبا، ومن خلال حوار ثقافي، عملا ضروريا للاشتراك في حرب غير شرعية وغير متكافئة بشكل تراجيدي، فإنّنا نجد المسلمين يواصلون التعبير عن براءتهم. لقد فضّلوا أن يلعبوا دور الضحية من أجل تبرير أهميّة <<الدفاع>> عن أنفسهم بشتى الطرق. فكيف لعب المسلمون هذا الدور؟ لقد لعبوه بكل براءة، اذ اتبع الكثير منهم الحلّ الوهمي المتمثّل في الحوار الشكلي الذي يكتفي بتكرار المشاعر الطيّبة، وبإغراق السوق بصحافة تنشر النوايا الحسنة، وتُدين الإرهاب بلا قيد أو شرط. بل أكثر من ذلك انقسموا فرقتين متنافستين على الوثوقية: فرقة اختارت المواجهة، وكفّرت الجميع بما في ذلك إخوانهم المتسامحين وباسم إسلامهم الوحيد <<الصحيح>>، وفرقة باسم الإسلام نفسه تبرّأت من هؤلاء ونعتتهم بالمسلمين الزائفين، واستأثروا لوحدهم بهذا الإسلام الوثوقي <<الصحيح>> إسلام التسامح والتحالف. فهم مسلمون عصريون فتحوا جسور الحوار مع نظرائهم الغربيّين بالرغم من أنّ هؤلاء الغربيّين يعتقدون في قرارة أنفسهم أن الإسلام دين يغذي العنف. ولكن فرقة الحوار تفتقد للشرعية الشعبيّة وللقاعدة الجماهيرية التي هجرت الآليات العمياء للبرالية العالمية الممتدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي إلى أكثر المجتمعات عزلة وأكثرها عدم انحياز. إنّ الدعوة إلى الحوار بين الثقافات والأديان في هذه الظروف اللامتكافئة جذريا وعلى كل مستويات الوجود البشري تعني الاستمرار في إيجاد العذر المخزي لهيمنة سياسة القوة المتنكّرة في ثوب خطاب إنسانوي. هكذا نكون، من ناحية، مع الفكر التهديمي بصدد قطيعة نسقيّة مع اهتمامات روحانية مجرّدة، ونكون مع أنسنة مادية لا تزال تدعو لها أصوات أوروبية أكثر فأكثر انعزالا من ناحية أخرى.

من السهل أن ننجز هذه التحاليل السريعة بالاعتماد على عدد الأحداث والأمثلة المستنبطة من التاريخ الجاري منذ 1945، ولكنّنا سنتوه بذلك في غابة مجهولة من المعطيات والممارسات إلى الحد الذي نحتفظ فيه، تحت الرؤية النقدية نفسها، بالتنوّع اللامحدود للعام المشكل بالحدث الإسلامي ولمثيله <<الغربي>> الحافل بالأعمال الإبداعية والعاجز من يوم لآخر عن السيطرة على نزعته المفرطة إلى القوّة. نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ الاستقطاب الفكراني للزوج المتعارض: <<الإسلام>> و<<الغرب>> قد عرف متانة منذ 11/9/2001 وأنّ التحليل الخالص والشامل والمسكون بالأمانة العلمية والفلسفية يُلْقَي به حصرا إلى البحوث الثقيلة، ويعيقه التهافت على الحدث الذي يخدم مصالح الفكر والمعلومة سريعي الزوال. فهل يجرؤ على القول، إذن، إنّ جزءا كبيرا من الإنتاج الشفوي والمكتوب في إطار الحوارات العديدة بين الثقافات يندرج ضمن هذا الصنف من الأشياء سريعة الزوال؟

إنّ التضامن التاريخي هو أحد المسائل الخصبة التي لم تظهر أبدا في الإنتاج الغزير حول الزوج المتعارض، إذ نوصي بالتسامح والسلم والتفهّم والإنصات واحترام قيم الآخر ومجد هؤلاء أو أولئك… يصرّح بذلك في الخطب ببلاغة، ولكن لم نهتمّ أبدا بتوضيح كيفية المرور النهائي من التضامنات الميكانيكية المعبّر عنها بـ<<الطبيعية>> إلى تضامنات موسّعة. أقصد المرور من التضامنات الضيّقة بين الأسر الأبوية والتكتلات والعشائر والأحزاب والنقابات والطوائف والأقليات الدينية و/أو قومية ضمن الحدود الإقليمية للدولة أو الامبراطورية أو المملكة… إلى تضامنات موسّعة تدريجيّا من خصوصية الأرض إلى عموميّة الوضع البشري. إنّ الأمر لا يتعلّق أبدا بهذه <<القيم>> العالمية المحُتفَى بها شعائريا في الحوارات بين الأديان الخاضعة بالضرورة للتعاليم الأبدية لكلام الله، أو في سجلّ الثقافة العلمانية المسيطر عليها من قبل حراس <<الكنائس>> العقلانية الحديثة. إنّ الأمر يتجاوز الحوار البروتوكولي إلى تضامن أعمق يضمنه الفكر التهديمي الذي نقترح ، إنّي أفكر في التضامنات التاريخية الحقيقية التي تضمّنها المرور من الأنانيّة المقدّسة للدول ــ الأمم أو الأمم ــ الدول العلمانية إلى تضامن يتجاوز الإطار القومي ويوسّع الفضاء الثقافي والعرقي كما عشناه في الاتحاد الأوروبي. إنّنا نقدّر حجم المقاومات التي تصدّى لها أنصار السيادة القومية لهذا التحوّل في مفهوم التضامن. هناك أيضا صمود وطنيّةِ <<القيم>>. وهي قيم متخيّلة أكثر منها معيشة أو مستعادة داخل منظور الجينيولوجيا النقدية لكل أشكال القيم الموروثة ومستوياتها. كل ذلك نعتبره أثقالا سوسيولوجية تؤخّر التحوّلات المخصبة، بل تعمل على القضاء عليها كلّما غاب عن الساحة الخيال المبدع والفكر النقدي. إنّ نجاح الاتحاد الأوروبي يفتح آفاقا للمعنى وللرجاء من أجل تحرير الوضع البشري، ويوفر له أسسا تاريخية وثقافية أحسن ممّا يوفّره له المسار التاريخي للولايات المتحدة. هناك في الحالة الأوروبية ذاكرات جمعية عديدة محفوظة داخل أطر الذاكرات التاريخية القديمة. وهي ذاكرات تأتي لتثري رؤية وتجارب مضمرة وكامنة  للتضامن التاريخي العالمي. إنها توفّر امكانيّات واقعيّة للخروج عن الأعراف والممارسات المنهكة والارتدادية التي أورثت أوروبا حروبا داخلية. إنها أعراف وممارسات متخلّفة مقارنة بالتحديّات التربويّة ونظام المخالصة الحاسم للاتحاد الأوروبي بعد الدروس المأسوية للحروب الأوروبية لاسيما تلك التي وقعت بين السنوات 1940 و 1945.

ضمن هذا المنظور تتنزّل المعركة التهديمية من أجل زعزعة العديد من المقابلات الثنائية وتجاوزها، مثل ثنائية الكنيسة والدولة، الروحي والزمني، الإيمان والعقل، الثقافة العقائدية والثقافة الوضعية، التراث والحداثة، المحافظة والتقدّم، التخلف والتطور، الراديكالية والتسامح، إلخ… وهي مقابلات تواصل الإلقاء بثقلها على الحوارات بين الأديان أو بين الثقافات، لأن الفكر الأوروبي نفسه الذي أنتج الحداثة بعيد، إلى حدّ الآن، عن الخروج من الإكراهات النفسيّة ــ اللسانية والفكرانيّة لهذا الفكر المزدوج والثنائي. هو بعيد عن ذلك، بالرغم من دراسة هذا الفكر ونقده كما ينبغي في المرحلة الشهيرة لما يعرف بـ”ما بعد الحداثة”. فالكتابة التهديميّة لميشال هولبّاك (Michel Houellebecq) (5) تذيب قيم عصرنا السريعة الزوال وتبرز تفاهة الرجوع المغالط إلى الاختلافات الخاطئة وإلى <<هويّات قاتلة>> دون التوفق إلى فتح طرق متناوبة للخيال المبدع وللفكر الجماعي المحدّد بإصرار والتهديمي بنسقية. نلاحظ التناقض نفسه داخل نطاق البحث الفلسفي، وهو تناقض بين التدخلات اللامعة لكتّاب إعلاميين ومفكّرين أقلّ اتصالا بالجمهور الواسع وأكثر تقليدا وانغلاقا داخل البوتقة والمسار الأوروبي ــ الأمريكي. إنها حالة يورغن هابرماز (J. Habermas) وبول ريكور (P. Ricoeur) وإ. ليفيناس (E. Lévinas) . إني أذكر هذه الأسماء بصفة خاصة لأنهم عملوا وفكّروا داخل الخط الكرونولوجي المسطر اعتباطيا من الموروث الإغريقي ــ اللاتيني والتوراتي حتى يومنا هذا ودون إلقاء ولو نظرة عابرة على دور الوساطة الذي كان للفكر باللغة العربية من القرن 7 م وإلى ق 13 م خاصة. كثير من المفكرين يؤيّدون بِصَمْتِهم ولا مبالاتهم خطّ التقاسم الإيديولوجي المسطر منذ عهد قريب من المؤرخ البلجيكي هنري بيران  (Henri Pirenne)  في كتابه “محمد وشارلمان” (Mahomet et Charlemagne) الصادر سنة 1936. لا يزال هذا الكتاب يجد صدى له في الزمن الجاري من خلال تضخيم المخيال العربي عن ثنائية التعارض: الإسلام/الغرب.

هناك مشكل هام لا بدّ من تحليله كلّما تعلّق الأمر بموضوع الحوار بين الثقافات والأديان وقضية التضامن أو التحالف بين الشعوب. هذا المشكل هو قضية المهاجرين التي اعتبر نفسي طرفا فيها. لقد خرجت أمواج المهاجرين من بلدانهم في البداية استجابة لحاجيات أوروبا الصناعية إلى اليد العاملة. وتواصل ذلك حتى السنوات 1960 ــ 1970. ثم أصبحت الهجرة بعد ذلك إكراها وهروبا من أنظمة استبدادية. أدّى هذا التحوّل في دوافع الهجرة إلى ظهور دور ثقافي هام للمهاجرين. فقد بدؤوا يغذّون التضامنات التاريخية الجديدة التي أنا بصدد استحضارها الآن. هناك كثير من المسالك التي يتسلّل عبرها المهاجرون إلى أوروبا، بل إنّ بعض الأحزاب السياسية اتخذت من استقبال المهاجرين قاعدة للعمل السياسي. ولكن تلك الأحزاب تحجم عن أن تكشف المسالك الخاصة بها لاستقبال هؤلاء، لأن بعض الكتاب والمثقفين والباحثين والفنّانين لهم بالمرصاد ومستعدين حتى للمخاطرة من أجل معرفة تلك المسالك. بالنسبة إليّ تشجّعني المقالات والبحوث التي تجرى منذ زمن، على أن ألخّص بوضوح مسلكي الخاص الذي، كما سنرى، يمثل العديد من الكتاب المهاجرين. (6)

إنّني أنتمي إلى هذا الصنف الجديد من المواطنين الذين يَصقلون عديد التضامنات التاريخية المتشابكة الواحدة مع الأخرى بالقناعات والالتزامات والواجبات النقدية نفسها. نقطة الانطلاق هي القرية العتيقة توريت ميمون الجاثمة فوق هضبة جرجيرا على ارتفاع 1100 متر. إنه التضامن الأول مع الأرضيّة الفيزيائية والذاكرة الجمعية لمجموعة بشريّة مختزلة إلى وضعيّة الأقليّة، ومرتبطة في ذات الوقت بهوية قويّة. وانطلاقا من توريت ميمون بدأ التوسّع المتتالي حيث شمل المغرب مرورا بالجزائر ثم الانفتاح على البوتقة العربية الإسلامية. ومنذ سنتي السادسة تم الانفتاح على البوتقة الفرنكفونية ثم الانقلوسكسونية بعد ذلك. هذه التضامنات المتلاحقة والمتزامنة في الآن نفسه هي كذلك تضامنات لسانيّة وثقافية وفكرية عبر جدلية القوى والحثالات: القوى التي تمثّلها الدولة والكتابة والثقافة العالمة والارتودكسيات الدينية والسياسية والحثالات التي ولّدتها هذه القوى في مجتمعات دون دولة مركزية ودون كتابة ودون ثقافة عالمة ودون ارتودكسية تمركزية. (ثقافة شفوية أو ثقافة مشافهة وعقائد إحيائية متعدّدة الآلهة تسمى بدعوية من قِبل حراس الارتودكسية) هنا بالذات يجد المرور من التضامنات الميكانيكية اللامشروطة إلى تضامنات تاريخية دلالات قوية ومؤثرة، وهي تضامنات مفكّر فيها ومقبولة بتلقائية ومدعومة كنقاط ارتكاز لمكاسب جديدة للوضع البشري. كما يغذّي هذا المرور رجاءات حقيقية ملموسة.

في هذا المسلك، كان عليّ تقييم الرهانات الأنسنية لكلّ مستوى من مستويات التضامن. لهذا السبب قرّرت أن أضيف إلى تكويني الفرنسي القدرة على التحكم الثقافي والعلمي فيما أسميه البوتقة العربية ــ الإسلامية ذات اللغة والثقافة المسمّاة <<بربرية>>منذ العهد الروماني أوّلا ثم العهد الأمازيغي بعد ذلك، والمصنفة ضمن الحثالات أو البقايا التي خلفتها القوى التي تعاقبت في الفضاء المغاربي عبر التاريخ. لهذا السبب أيضا يظلّ السؤال الأنسني جوهر بحوثي واهتماماتي حتى أتمكّن من وضع تضامني الذي ما فتئ يتسع ضمن هذا المنظور المعولم. إنّ هذا الاهتمام بالتوسيع النقدي لآفاق التضامن يوجّه مناظراتي وفتاويّ في الفضاء الأوروبي، وفي مختلف المسارات المتصلة من قريب أو من بعيد بالحدث الإسلامي وبالفكر المعبّر عنه بالعربية. لقد سخّرت أطروحة الدكتورا بالسربون لموضوع “الأنسنة العربيّة في ق4/10”(7) وسأستأنف معاركي وطروحاتي في كتابي “الأنسنة والإسلام”، (8) وذلك من أجل تلك الأنسنة ذاتها.

بدا لي هذا المختصر من سيرتي ضروريا لتجنّب أيّ تفسير خاطئ للموضوع الذي أعالجه تحت مصطلح استفزازي بشكل تلقائي مثل مصطلح “التهديم”. فلماذا أهدم؟ وماذا أهدم؟ وباسم من سيتمّ الهدم؟ ليس هذا هو المقام المناسب الذي يمكن أن تعرض فيه فلسفة أو ممارسة من هذا القبيل، أو يُحدّد فيه تدخّل شخص أو مواطن. إنّ الفكر التهديمي أوّلا وقبل كلّ شيء هو الإرادة التي تستطيع أن تعيد التفكير وتعيد كتابة تاريخ كل أنظمتي الفكر والثقافة في الفضاء المتوسّطي وفي ضوء عمل دؤوب لإعادة وضع المفاهيم. إني لا أمنح أيّ امتياز مسبق إلى هذا الفضاء مقارنة بالمواقع الثقافية الكبرى الأخرى في العالم. ولكن ثبت تاريخيا أن تضرب جذور أوروبا/الغرب الفكرية والروحيّة والقانونية والثقافية في هذا الفضاء التاريخي للمتوسّط. كما ثبت أيضا أن تتمّ المواجهة اليوم في هذا الفضاء بالذات بين القطبين الكبيرين المختزلين بكل خطر إلى« Jihâd versus McWorld »  حسب العنوان الرائق لبينيامين بربر. لقد أصبح كلّ من الإسلام والغرب كلمتين/حقيبتين محشوّتين بالقنابل والعنف والجهل المشترك والإقصاء المتبادل والمتراكم منذ “السلم الروماني” Pax Romana  المفروض بالقوة في “حوض المتوسط” Mare Nostrum وإلى حدود الكسر الحالي الذي أرفض أن أحدّد له تاريخا ما دام المؤرّخ المختص لم ينجز ما عليه بعد. حاليا، تتغذّى الآراء من تقارير حجّاب وتصرّفات مبسّطة بإفراط من مجلات صغيرة ونشريّات يومية إخباريّة. لا يمكن أن نتحدث هنا عن كسر أصولي كما تريده الأنساق اللاهوتية التوحيديّة كيْ توفّر لأقليّة معيّنة الامتياز الأبدي للاختيار المقدّس أو كما يدعي، في الجهة المقابلة، المدافعون عن النظام الاستعماري منذ ق 19. فهؤلاء يريدون استرجاع الفضاءات المتوسّطية المفتوحة من الإسلام إلى دين الخلاص باعتباره الدين الوحيد الصحيح، وإلى الرجاء الجديد الذي توفّره الحداثة.(9)

كيف نشدّ انتباه مختلف الجماهير الأوروبية ــ الغربية والإسلامية في آن واحد إلى تاريخ تضامني واحد ممتدّ على فترة طويلة؟ كيف يمكن ذلك في زمن ينشر فيه، بدعم كبير من الإعلام، الفكر السريع الزوال وثقافة قتل الوقت والترفيه والمتعة؟ كيف يمكن ذلك في زمن تكاد تُلغى فيه الذاكرة التاريخيّة للتجارب القومية ذاتها؟ إنّنا مدعوّون إلى الحديث عن الحوار بين الثقافات والأديان، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأمامنا هذا الماضي الذي يصعب نسيانه؟ هذا الماضي الذي سطّره المؤرخون القوميّون منذ ق 19 ، وأصبح مكوّنا من مكوّنات تصوّر الغرب لنفسه ولهويّته. فمن له القدرة على إعادة بناء تصور جديد لهوية متميّزة ومختلفة عن كلّ الهويّات المتصارعة والمتنازعة حول الاعتراف <<الكوني>>؟ لقد أعلن <<التاريخ الجديد<< الممارس في السنوات 1970 و1980 إرادات للانفتاح على ذاكرات جمعيّة أخرى لإدماجها ضمن وعي تاريخي نقدي موحّد من أجل البحث عن معرفة مشتركة للتاريخ. ولكن ما الذي وقع؟ هناك إخفاقات سياسيّة وتفجيرات عنيفة وقاتلة ومدمّرة وتيهان للفكر الاقتصادي، واعتباطية عنيفة للأقطاب الكبرى وتضخّم للبرالية متوحّشة. كل ذلك شوّه السوق المصمّم على أساس تحرّرات أكثر فعاليّة وأكثر دواما، بل أصبح ذلك السوق عرضة للخطر منذ الإعلان عن نهاية التاريخ والدخول فيما عرف بصراع الحضارات.

وأخيرا، لكيْ نكمل هذا المخطط الذي يدافع عن العقل التهديمي ويسعى إلى توضيح مهامه نؤكّد على أهمية التفكير في هذه الاستراتيجيات المعرفية للتدخل في مختلف السياقات التاريخية الموكلة إلى مختصّين مثل <<المستشرقين>> و<<الإسلاميين>> و<<المستفرقين>>، إلخ… إنّ المجال والوقت لا يسمحان هنا بإدراج حوار حول هذه المسألة، ولكن سأكتفي باقتراح صيغة ممكنة للمسائل والمسارات تسمح بإعادة التفكير في تاريخ الفضاء المتوسطي.

3 ـ مهام عقل تهديمي

 أ ـ مسألة المنهج: أشكلة الحدث الديني: لماذا الانطلاق من الحدث الإسلامي؟

أ ـ 1: منطلق المعرفة في العلوم الإنسانية ومنتهاها: يتعلّق الأمر هنا بتنضيد المسار الخطي للتاريخ منذ <<النشأة إلى اليوم>> وللتاريخ المقلوب من الحاضر باتجاه الماضي. كما ينبغي إعادة التفكير في التشكّلات الطويلة والمتوسّطة والقصيرة في ضوء حوارات مهمّة حول المعرفة الصحفية والتاريخية والإناسيّة المعترف بها والممارسة دون أن تنشر وتذاع بين الناس. يمكن أن نذكر أمثلة لهذه المسارات مثل التحوّل من التوراة العبريّة إلى الحكومة الإسرائيلية الحالية، وكذلك التحوّل من القرآن إلى الأحزاب ــ الدول القوميّة أو من الخطاب النبوي إلى الثقافة اللاعقاتئدية. وفي الاتجاه المعاكس من تعاقب الحكومات الإسرائلية إلى التوراة العبرية ومن الأحزاب ــ الدول القومية إلى الحدث القرآني والإسلامي، وهذه مهام الإسلاميّات التطبيقية.

أ ـ 2: تصنيفيّة لأنظمة <<الحقيقة>> وللأنظمة السياسيّة مقابل موقعيّة المعرفة السحريّة والدينيّة والميتافيزيقيّة الكلاسيكية (علم اللاهوت ـ الفلسفي ـ السياسي). ويتعلق الأمر هنا بإيجاد نظرية للمواقع ولتشكلها النظري والتطبيقي.

أ ـ 3: جدلية القوى والبقايا:  ضمن هذا المستوى الثالث يتعلّق الأمر بالمسائل الثلاثة الخاصة بالمعرفة التهديميّة: المؤسسة الاجتماعية للذهن والإنتاج المخيالي للمجتمعات مع البناء الاجتماعي للحقيقة والعلاقة بين المعنى والقوّة أو بالأحرى بين سياسة القوة والخطاب المزدوج المعايير كما عبّر عنه روبارت كاغان  (Robert Kagan) بعد 11/9/2001.

أ ـ 4 ثلاثة مظاهر لنفوذ المعرفة النقدية: 1) المعرفة اللسانية والدلالة العلامية. 2) التاريخ كإناسة للماضي وحفريات للحياة اليومية. 3) والإناسة كنقد للثقافات مصحوبا بالسؤال الفلسفي عن العلوم الإنسانية والمجتمع وبتحديد المثلثات الإناسيّة مثل العنف والمقدّس والحقيقة أو اللغة والتاريخ والفكر، إلخ…

أ ـ 5 هل الخروج من الجهل الهيكلي والمؤسّساتي ممكن؟ نعني أنّ ما وراء العمل على <<الخروج من الدين>> من الضروري، بل من المستحيل أن يتوسّع داخل الحداثة في العمليّات التهديمية الثلاثة: الزعزعة والتحويل والتجاوز.

أ ـ 6 السؤال التأويلي المنبثق في كل المراحل سواء أكان في المنطلق أم في المنتهى: ويشمل ذلك بروتوكول القراءة والتقبل.

أ ـ آفاق <<الحقيقة>> والعدالة والرجاء في بناء الفضاء الأوروبي.

ب ـ الإسلام أمام تحدّي العقل المنبثق

 ب ـ 1 شروط ممارسة العقل المنبثق: ونعني بها نقد <<الخصوصية الإسلامية>>: أي التحوّل من التحقيق التاريخي ــ النقدي إلى تهديم الموروثات الميثيوتاريخية والميثيوفكرانية.

ب ـ 2 مواقع التهديم في التراث الإسلامي الشامل: ونعني بها مواقع التراث الكبير الحيّ مثل المدوّنات الرسميّة المغلقة وكل الخطابات الدينيّة. كما نعني بها مواقع الفضيحة التاريخيّة والسياسيّة لظاهرة تسييس الديني وتديين السياسي.

ب ـ 3 التفكير التأسيس واستحالة تأسيس البديل التهديمي للعنف الأصولي: نعني نشأة تهديمية للمعنى وللقيم.

ب ـ 4 مبادئ التأويليّة والحفريات  والتفكيكية: اللغة ــ التاريخ ــ الفكر أو العنف ــ المقدّس ــ الحقيقة.

ب ـ 5 من الحوار بين الأديان إلى تجاوز الموروثات المحدّدة والتي أعيد تمجيدها من قبل الميثوفكرانية المعاصرة لملء الفراغ الثقافي والسلوكيات الرجعية التي أنتجتها استراتيجيات الرقابة الجيوسياسية للموارد المادية والحريات في العالم.

ب ـ 6 توسيع نقد العقل الإسلامي حتى يشمل كل العقول التي تنتج بالمنطق العقائدي نفسه التصورات والدلالات والقيم التي تظل في معزل عن الفحص الامبريقي وعن نقد المعرفة.

إنّنا نكرّر كبديهيّات لا تناقش أنّ الفكر الإسلامي الحالي لا يزال في مرحلة الإصلاح حين يسعى إلى إحياء دولة الأتقياء القدامى أو حين يقوم بمرمقيّة إصلاحويّة ترجع إلى ق19. إنّنا لا ننكر وجود هذه الاتجاهات الإسلامية التي يزعمون أنها معتدلة، ولكن يجب أن ننتبه أكثر إلى المواقف الجريئة التي تتجلّى في منشورات لباحثين شبّان يمرّون في صمت وتتجاهلهم اتجاهات النضالية السياسيّة وترفضهم دون اختبار. هذه الأصوات الشجاعة والنادرة تستحق استقبالا رائعا في السياقات الأوروبية في انتظار نجاحهم في الأوساط الإسلامية.

 


[1] ـ يكتب أركون هنا وفي كامل النص عبارة Recit  بحرف التاج (Majuscule) وهو ما يعني تأكيده على الفرق بين مصطلح السردية الكبرى والسردية في النقد الأدبي، لأن المصطلح يتجاوز حدود النقد الأدبي ليصبح رمزا لسمة ثقافية معمقة سعت إلى تأسيسها الحداثة العقلانية والعلمية. فالمصطلح بني على التضاد بين الخطاب المنتج في عصر الحداثة والمتسم بالعمق الفكري لثقافة مركزة والخطاب الثقافي الناتج عن العولمة حيث الفكر العارض والسطحي وسريع الزوال. (المترجم)

[2] -Titre d’un essai de Jean de Munck, PUF 1999. Sur ce thème de grande portée cognitive subversive, on lira aussi Christian Roy: Sens commun et monde commun, L’harmattan 2004-09-21 ; Paul Ricoeur, La mémoire, l’histoire et l’oubli, Seuil 2000 ; Todorov, Tzvetan : Le jardin imparfait, Grasset 1998 ; Max Poty : L’illusion de communiquer. Le compromis de reconnaissance, théâtre de vie, L’Harmattan 2004.

[3]  ـ فضّلنا الإبقاء على عنوان الكتاب كما هو في لغته الأصلية وذلك لصعوبة ترجمة عبارة Mc World في كلمة واحدة ولكن ذلك لا يمنع من التعريف به في جملة، إذ المقصود عند أركون بالهدم على طريقة بينيمين بربر هو هدم العنف المتبادل بين جهاد إرهابي وعجرفة عولمة واقتصاد للسوق متهم بتدمير القيم. (المترجم)

[4]-  Sur la portée anthropologique de cette dialectique, voir mon Humanisme et islam, chapitre 3.

[5]-  Dernier titre très suggestif La possibilité d’une île, Fayard 2005.

[6] – Parmi les grands témoignages de facture littéraire, je citerai entre beaucoup d’autres, celui de l’écrivain et humaniste égyptien Taha Hussein dans son autobiographie Al-Ayyâm, Les jours, présentée en son temps par André Gide. 

[7] – 1e édition Vrin 1970 ; 3e édition 2005.  

[8] – Vrin 2005.

[9] –  Pour plus de développements sur la place et l’avenir de l’espace méditerranéen dans la perspective d’une histoire remembrée et solidaire de tous les protagonistes des luttes dans cet espace, je renvoie à M. Arkoun et J. Maila, De Manhattan à Bagdad. Au-delà du Bien et du Mal, Desclée de Brouwer, Paris 2003.