مجلة حكمة
الفيلسوف ريتشارد رورتي

ريتشارد رورتي – هيلاري بوتنام / ترجمة: محمد جديدي

هيلاري بوتنام هيلاري بوتنام ريتشار وروتي
الفيلسوف الأمريكي هيلاري بوتنام، يكتب عن الفيلسوف ريتشارد رورتي

4 أكتوبر 1931 ــــــ 8 جوان 2007

     ولد الفيلسوف ريتشارد رورتي Rorty  في 4 أكتوبر سنة 1931 بمدينة نيويورك New York لأبوين يساريين. حصل على درجة البكالوريوس من جامعة شيكاغو Chicago في 1949 والدكتوراه من المؤسسة نفسها عام 1956. في هذه الجامعة، تأثر كثيرا بالنزعة الوضعية المنطقية لـ رودولف كارناب Rudolph Carnap ، وهو الأثر الذي لم يتخلص منه إلا عند “منعطفه” الشهير ضد فكرة “الفلسفة العلمية” في سنة 1972. (أكثر تفاصيل فيما يأتي)

     كان مدرسا بجامعة ييل Yale  (1956 ــ 57)، وأدّى الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي في 1957ـــــ 58. عاد بعدها للتدريس بـــ ولسلي كوليدج Welsly Colledge  (1958ـــــ 61). وفي عام 1961 غادر ولسلي كوليدج باتجاه جامعة برينستونPrinceton ، حيث عمل بنجاح معيدا ومشاركا وأستاذا دائما (1961 ــــــ 82)، وعيّن أستاذا للفلسفة في 1981. من سنة 1982 إلى سنة 1998 تحول إلى جامعة فرجينيا Virginia وصار بها أستاذا للإنسانيات،  ليصبح أستاذا فخريا في 1998.

     بعد تقاعده من جامعة فرجينيا في 1998، أصبح الفيلسوف ريتشارد رورتي أستاذا للأدب المقارن بجامعة ستانفوردStanford ، وبعد تقاعده مرة أخرى صار أستاذا فخريا من هذه المؤسسة سنة 2005.

     كما سبق ذكره، بأن الشاب ريتشارد رورتي ينتسب لأبوين يساريين. وفي مقاله الشهير عن سيرته الذاتية ” تروتسكي والأوركيد البري ” Trotsky and the Wild Orchids (1992)، كتب الفيلسوف ريتشارد رورتي بأن والده وقد قطع صلته بالحزب الشيوعي الأمريكي في 1932، كانت صحيفة دايلي ووركر Daily Worker [العامل اليومي] قد صنفته على أنه تروتسكيا، وأنه كان يقبل نوعا ما هذا الوصف ويواصل أنه لما نزل تروتسكي Trotskyضيفا على العائلة في فلاتبروكفيل Flatbrookville لعدة اشهر وتم تنبيه بعدم الكشف عن هوية الضيف الحقيقية، وكان ريتشارد رورتي متخوفا من شكوك زملائه بالمدرسة الإعدادية “والباك” Walpack إذا ما اهتموا بأموره. وفي المقالة نفسها نقرأ بأن الطفل رورتي ” كان يحمل منشورات رابطة الدفاع عن حقوق العمال بمكتب غرامرسي بارك Gramercy Park [اين كان يعمل والداه] لمنزل نورمان توماس Norman Thomas [مرشح الحزب الاشتراكي للرئاسيات ] في ركن الشارع، وأيضا إلى مكتب أ. فيليب راندولف A. Phillip Randolph بأخوية بولمان كارز بورتر[أخوية بولمان ناقلي السيارات]  Pullman Car Porters بالشارع رقم 125. من خلال هذه منشورات الصحافة هذه تعلم الكثير عن مالكي المصانع وما فعلوه بالتنظيمات النقابية، على الرغم من أن رورتي لم يكن ماركسياــــ لينييا (في المقالة ذاتها، كتب ” كلاهما لينين Lénine وتروتسكي Trotsky  كان ضررهما أكثر من نفعهما” وأن كيرانسكي Kerensky  عانى كثيرا طيلة سبعين عاما)، لذا بقي متحمسا للنضال ضد الاضطهاد العرقي والطبقي بجميع أشكاله.

     مع ذلك، فقد عَرَف من الناحية الفلسفية، تحولا ملحوظا. كما ذكر آنفا، بدأ طامحا في أن يصبح “فيلسوفا علميا” واستمر معروفا على أنه كذلك لعدة سنوات. في مقدمته للكتاب الذي أشرف عليه وعنوانه المنعرج اللغوي The Linguistic Turn (1967) كتب بصوت منتصر بأن التحول من التنظير حول طبيعة الواقع إلى تحليل اللغة (سبب وجود الفلسفة التحليلية)” نجح في وضع كل التقاليد الفلسفية موضع الدفاع “.

     فيما بعد بخمس سنوات وفي خطاب ألقاه إلى الجمعية الفلسفية الأمريكية تحت عنوان  “العالم الضائع للغاية” The World Well Lost، أكد بأن المعنى الواقعي للعالم فارغ. بالطبع، فإن هذا لم يكن سببا بحد ذاته  وتوقف النظر إلى ريتشارد رورتي بوصفه فيلسوفا تحليليا. كان مرشده[أستاذه]، رودولف كارناب Rudolph Carnap، قد رفض كل المشكلات الفلسفية التي تحتوي مفاهيم “الواقعي” و”الواقع” باعتبارها مشكلات ــ مزيفة. وبالتالي إلى غاية الصفحة الأخيرة، يعد العالم المفقود للغاية بشكل واسع جزء من الفلسفة التحليلية، في كل من الأسلوب والمصطلحات للمرجعيات التي اقتبس منها. لكن في الصفحة الأخيرة، إن الفنون، العلوم [n.b.!]، معنى الصواب والخطأ، ومؤسسات المجتمع ليست محاولات لتجسيد الحقيقة أو الخير أو الجمال. إنها مؤسسات لحل مشكلات ــــ لتعديل معتقداتنا ورغباتنا ونشاطاتنا بكيفيات يمكنها أن تجلب سعادة أكبر من تلك التي نعرفها الآن [التأكيد مضاف].

     لآخر حياته، بقي الفيلسوف ريتشارد رورتي يجادل ضد الواقعية في جميع أشكالها، علما أنه كان يفضل استعمال مصطلح النزعة التمثيلية، وهو ما يعني أن الكلمات والجمل يمكنها تمثيل أجزاء أو مناحي لواقع مستقل. هذه النزعة اللاتمثيلية جعلته حليفا طبيعيا لما بعد الحداثيين، وغالبا ما كان يُصنّف منهم، غير أن أمرين اثنين لا يتوافقان مع هذا التصنيف. في المقام الأول استمر رورتي في اعتبار عدد معين من الفلاسفة التحليليين كأبطال، لا سيما، سيلارسSellars  كواينQuine  وديفيدسونDavidson ، واستخدام حجج تحليلية، في أحيان كثيرة ببراعة (مع أنه أحيانا يسيئ في حجاجه). في المقام الثاني، لأنه انتقد بشدة ما بعد الحداثيين لتركيزهم على مسائل ثقافية على حساب مشكلات الاضطهاد الطبقي والعرقي التي كانت تهمه منذ طفولته وأيضا لنزعتهم المناهضة للأمركة بعمق.

     ظل الفيلسوف ريتشارد رورتي ، حتى نهايته، مدافعا (على ما يبدو) عن المذهب البراغماتي، الذي يعتني بحل المشكلات لصالح السعادة البشرية والذي ينبغي أن يُعوّض الفكرة “التمثيلية” القديمة المتمثلة في التقرب من طبيعة الواقع، في الفلسفة، في الإتيقا وحتى في الفيزياء. إن معظم الفلاسفة المتعاطفين مع البراغماتيين، ومنهم أنا نفسي، يعتقدون بأنه من الخطإ الاعتقاد بما كان يعتقد فيه ديوي Dewey ، لكنهم يعترفون بجميله في جلب الانتباه لذاته وبأنه قدَمَ الكثير كي يجدّد الاعتناء بالبراغماتيات الأمريكية الكلاسيكية. وبالمثل، فإن معظم الفلاسفة الأمريكيين، بمن فيهم أنا، اعتقدوا بخطإ أن النزعة التمثيلية كانت باطلة أو فارغة، لكنها شدّت الانتباه حول أهم الحجج اللاتمثيلية لعمالقة الفلسفة الأمريكية في القرن العشرين، من أمثال سيلارسSellars  كواينQuine  وديفيدسونDavidson . كانت كتبه مهمة وغالبا بارعة، إن على مستوى الحجاج أو على مستوى قوتها البلاغية، واستمرت محورا للنقاش لفترة طويلة.

     مع ذلك، “العالم ضائع للغاية”، لم يجذب كبير اهتمام في تلك الفترة. لقد كان مؤلفه: “الفلسفة ومرآة الطبيعةPhilosophy and the Mirror of Nature (1979)، الذي طوّر ووسع فيه بشكل مطول على مدى كل الكتاب، الحجج التي كان قد عرضها بإيجاز في عالم ضائع للغاية، هو ما جعل منه أحد الفلاسفة الأكثر شهرة في العالم. وكل كتاب لاحق له، كان يقرأ على نطاق واسع وليس من قبل فلاسفة محترفين فحسب. في هذه الكتب، بما فيها، “العارضية، الساخرية والتضامنContingency, Irony, and Solidarity (1989)، “محاولات حول هيدغر وآخرين: أوراق فلسفيةand Others: Philosophical Papers   Heidegger  Essays on (1991)، و “الحقيقة والتقدم: أوراق فلسفيةTruth and Progress : Philosophical Papers   (1998)، كان قد انشغل بالفلسفة القارية، وبشكل أخص مارتن هيدغر، الذي كان يأمل أن يفرد له كتابا بأكمله (كما أسرّ لي أنّه عدَلَ عن خطته هذه بعد فترة، وأن ما تبقى منها سوى عدد من مقالاته)، وإلى جاك دريدا Jacques Derrida ، وإلى ميشال فوكوMichel Foucault . لكنه أيضا كرّس عناية معتبرة لأعمال ديويDewey ، الذي لم يتوقف عن اعتباره أحد أبطاله.

     في الختام، أود أن أضيف بأنالفيلسوف  ريتشارد رورتي كان يجب الجدل، وفي شخصه كان خجولا، دافئا، وصبورا مع زملائه وطلابه. كان حساسا تجاه مشاعر الآخرين ومستنكرا لذاته. يذكر هابرماس Habermas  أنه تلقى بريدا إلكترونيا كتب فيه رورتي أنه، للأسف أصيب بالداء نفسه الذي أودى بحياة دريداDerrida .” وأضاف هابرماس Habermas ، “كما لو أنه يريد تخفيف صدمة القارئ، أضاف مازحا بأن ابنته ظنت بان هذا النوع من السرطان سببه قراءة هيدغر Heidegger بإفراط.” توفي ريتشارد رورتي في 8 جوان 2007.


المصدر

PROCEEDINGS OF THE AMERICAN PHILOSOPHICAL SOCIETY VOL. 153, NO. 2, JUNE 2009