مجلة حكمة

حوار مع المفكر المغربي الدكتور حميد لشهب

د. حميد لشهب
د. حميد لشهب

يحملنا هذا الحوار الخاص ببيان اليوم إلى أجواء د. حميد لشهب، مغربي مقيم في النمسا، سيكولوجي وباحث في الفلسفة. عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية. تركز اهتماماته الفكرية على مواضيع سيكولوجية وفلسفية وسياسية والنقد الأدبي في شقيه الشعري والروائي. له مؤلفات كثيرة في الرواية والسيكولوجيا وترجمة الأعمال الفلسفية من الألمانية للعربية.

سؤال: تستقرون في بلاد موزار وفرويد منذ ربع قرن، بعد أن أنهيتم دراستكم في فرنسا. ما هو “سر” اختياركم للنمسا كبلد للإقامة؟

حميد لشهب: ليس هناك أي سر في الأمر، كل ما هناك هو أنني عندما كنت أدرس بجامعة ستراسبورغ الفرنسية، كان لي احتكاك يومي مع طلبة جرمانيين، واكتشفت بأن طريقتهم في التفكير والسلوك مغايرة تماما. نقاشاتهم، سواء في “سيمينارات” الدكتوراه أو الندوات كانت عميقة. كانوا يذهبون إلى لب المواضيع. في ذلك الوقت اكتشفت اللغة الألمانية وحاولت تعلمها. بعد إكمال دراستي استحوذت علي فكرة تخصيص وقت كاف لتعلم هذه اللغة، وأتيحت لي الفرصة لتعلمها بجامعة إنزبروك النمساوية. هنالك فُتح لي أفق الجناح الثقافي والحضاري الجرماني، وأحسست بجوع فكري فريد من نوعه. فهمت أن كل ما تعلمته في علم النفس والفلسفة، سواء في المغرب أو في فرنسا، لم يكن كافيا وبأن كبار المفكرين في هذين الميدانين كانوا من أصل جرماني. عكفت على أمهات المراجع وحضرت دروسا في الفلسفة وعلم النفس لمدة ثلاثة سنوات، كانت بمثابة قيمة إضافية في تكويني بعد التخرج، وعن طريقها تعمقت في اللغة الألمانية وثقافاتها. بعدها حصلت على عمل في تخصصي واستقرت نهائيا في النمسا إلى حد الآن.

سؤال: ومع ذلك بقيتم مرتبطون ببلدكم الأصلي المغرب وحاظرون بانتظام في ساحته الثقافية والفكرية تأليفا ونشرا وتنظيما لندوات وإلقائكم لمحاضرات في مختلف جامعاته؟

حميد لشهب: حضوري هو حضور مبدئي. لم أغادر المغرب هروبا من ظروف معينة، بل رغبة في إكمال تكويني. فهمت وأنا طالب بجامعة فاس، وكانت الأجواء الطلابية في ذلك الحين مسيسة حتى النخاع الشوكي بفيالق سياسية من مختلف الإتجاهات، بأن الحل الوحيد هو الحصول على تكوين يسمح بفهم خلفيات الأيديولوجيات المتعارضة في المغرب. كانت جامعة فاس عينة ميكروسكوبية للوضع السياسي الماكروسكوبي في المغرب.

سؤال: أكنتم ملتزمون سياسيا وأنتم طالبا في فاس؟

حميد لشهب: كان اهتمامي السياسي مبكرا جدا، وأنا تلميذ بثانوية تاهلة، عرفت ما أسميه الآن “مراهقة سياسية”، لربما كانت مرتبطة بالمراهقة الفيزيولوجية والنفسية. كان بعض الأساتذة يمررون لنا أفكارا، يسارية في معظمها، بل استغل البعض منهم “سذاجتنا” واندفاعنا وعفويتنا لقضاء مصالح حزبية آنية في ذلك الوقت. عندما انتبهت إلى هذا الأمر سنة قبل الباكالوريا، كبر حب استطلاعي السياسي وأردت أن أفهم كيف تشتغل الأحزاب اليمينية، بمشاركتي في حملة انتخابية لحزب من هذا النوع. تكون عندي اقتناع بعد ذلك بأنه: “ليس في القنافذ من هو أملس” في فضاءات الأحزاب السياسية المغربية. لم أكن عضوا في أي حزب ولم أحمل بطاقة الإنخراط في أي واحد منها. بعد السنة الأولى في الجامعة، تكون لي يقين، بأن مسؤوليتي هي الدراسة والتحصيل، وليس “وهب” نفسي ومستقبلي لأي حزب كان، وبالخصوص عندما شاهدت بأم عيني مصير واعتقال أصدقاء لي، سواء في بيوتهم أو في رحاب الجامعة.

سؤال: ومع ذلك كنتم تحضرون بانتظام بعض أنشطة أحزاب سياسية في رحاب الجامعة …

حميد لشهب: بالفعل.

سؤال: هل لنا أن نعرف هذه الأحزاب ولماذا هي بالضبط؟

حميد لشهب: ظللت أسبح، ولو عن بعد، في فضاءات أحزاب وتنظيمات يسارية، سواء أكانت اشتراكية أو شيوعية وأحضر مرة مرة بعض أنشطتها، لسبب بسيط هو أن معظم أصداقي الجامعيين كانوا يسبحون بدورهم في هذه الأجواء. لكن لم أرضخ لمحاولات الإستقطاب، لأنني فهمت ميكانيزمات عملها، بل وخطورتها على التحصيل المعرفي الجامعي.

سؤال: من هي الشخصيات السياسية المغربية التي أثرت فيكم وما تزالون تحتفظون بذكريات جميلة عنها؟

حميد لشهب: جوابي العفوي، هناك بنسعيد أيت يدر بلا منازع، فهو مثال السياسي المغربي بالنسبة لي، ممن لم تلطخ يداه، بل ظل وفيا لمبادئه وتصوراته السياسية. وهناك من طبيعة الحال الراحل علي يعته، دون أن أنسى إبراهيم السرفاتي. ولي احترام خاص للأستاذ اليوسفي.

سؤال: كل هؤلاء ساسة يساريين. أهناك شخصية سياسية يمينية أثرت فيكم؟

حميد لشهب: جمعتني بالمرحوم عبد الهادي بوطالب علاقة فكرية ضيقة في أواخر حياته، بعدما تخلص من كل مهامه السياسية والديبلوماسية. كنت أكن له احتراما خاصا لمواقفه الفكرية الجريئة والواضحة، سواء تعلق الأمر بقضية العولمة أو قضية المرأة أو فهمه الوسطي للإسلام. أنهل إلى حد الآن من معارفه في هذه الميادين.

سؤال: وتحزبتم في النمسا، واختاركم الناخب للمرة الثالثة على التوالي لتمثيله في المجلس البلدي للمدينة النمساوية حيث تقيمون. اخترتم حزبا يساريا، وكان بإمكانكم الإنخراط في حزب يميني والحصول على مركز قيادي، يخول لكم وضعا اجتماعيا وماديا مريحين …

حميد لشهب: دخولي غمار السياسة هنا كان من باب فهم آليات الممارسة الديمقراطية والتسيير السياسي والإنخراط في قضايا سياسية واجتماعية وثقافية بعينها. للعبة السياسية هنا منطق خاص، وسواء التزم المرء يسارا أو يمينا، فإن الثابت هو أن العمل السياسي لا يوفر أية ضمانات وامتيازات مادية. بالمقارنة مع الآداء السياسي والمسؤولية المترتبة عنه، لا يربح السياسي هنا  ما يربحه نظيرة في المغرب مثلا. علاوة على هذا، فالمرء يكون ملزما، قبل وبعد، تحمله مسؤولية سياسية التصريح العلني عن ممتلاكاته. والتزامي في حزب يساري هو نتيجة طبيعية لتوجهي السياسي المبدئي.

سؤال: كتبتم نصوصا ودراسات كثيرة في ميدان تخصصكم الأصلي السيكولوجيا، والملاحظ أنكم عكفتم في السنين الأخيرة على مواضيع دينية-سيكولوجية. ما هو سبب هذا الإهتمام؟

حميد لشهب: السيكولوجية الدينية هي تخصصي الأصلي، على الرغم من أن علم النفس الإكلينيكي والتربوي هما اللذان يوفران لي لقمة العيش. يرجع الفضل في اهتمامي بسيكولوجية الدين إلى الأستاذ علي أفرفار، فهو الذي وجهني في سنة الإجازة إلى هذا التخصص، بإشرافه على بحثي. وقد خصصت أطروحتي لهذا الميدان، لأنه يجمع في عمقه بين السيكولوجية المعرفية ونظيرتها الوجدانية، في ارتباطهما بالتعلم، وبالخصوص اكتساب تصورات وتمثلات في العالم الرمزي. كان الحظ بجانبي عندما هيأت أطروحتي تحت إشراف السيكولوجي – اللساني الفرنسي ميشال طاردي، أحد التلامذة المباشرين لرولان بارت. بعدها دخل المحلل النفسي الألماني إيريك فروم على الخط، الذي فتح لي باب أفق السيكو-سوسيولوجيا على مصراعيه، وبالأخص السيكو-سوسيولوجيا الدينية.

كان منطقيا إذن أن أدرس إشكاليات دينية في الإسلام بهذه الأدوات، في محاولة لتقديم فهم ركائز هذا الدين على مستوى السيكولوجيا المعرفية والوجدانية والإجتماعية، ونتائج كل هذا ثقافيا وحضاريا. انفعلت مع وضع العالم الإسلامي الحالي، وأحاول بناء طريق ثالث لفهم الإسلام، بعيدا عن المحافظة الرجعية الإنتهازية والتطرف المغالى فيه. يتعلق الأمر بمحاولة فهم الإسلام كفلسفة حياة صالحة للتطبيق والسمو به من دين، أُدخلت عليه قهرا أبعادا وثنية، متمثلة في تقديس الطقس الديني في حد ذاته، وغض النظر عن الهدف الأسمى منه، سواء تعلق الأمر بالصلاة أو الصوم أو شعائر أخرى.

سؤال: أين يكمن جوهر مشكل الإسلام حاليا؟

حميد لشهب: المشكل الجوهري، في اعتقادي، يتمثل في الطريقة الإنتقائية التي جُمع بها المصحف. الحفاظ على مجموعة من النصوص وحرق الباقي كان يخدم في أساسه نزعة أيديولوجية بعينها، وليس الإسلام في حد ذاته. وها نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين كل ويلات هذا القرار السياسي، لأنه فتح الباب لحركات متطرفة ترفض العالم بأكمله، بما فيه العالم الإسلامي، وتحاول تنحية الجميع باسم الدين.

سؤال: كيف يمكن تجاوز هذا المشكل؟

حميد لشهب: بما أن نصوصا قرآنية قد حرقت، وبما أن النص الذي بين أيدينا لا يعبر بالكامل عن تصور النبي للإسلام، فمن الضروري التركيز على البعد الفلسفي الوجودي للإسلام المبتور الذي وصلنا. لابد مثلا من تجاوز التمثل الصبياني لله في الإسلام، كدركي مرور لا ينتظر إلا قيام العبد بخطئ ليعاقبه أو مجازاته إذا امتثل لأوامره. هذه العلاقة التجارية بالله، تحجب عنا العلاقة الحقيقية معه، أي علاقة حب خالص ودون أدنى رغبة في امتيازات معه أو خوف من عقابه. لا يمكن للحب أن يقوم تحت التهديد والضغط والشروط. كما أن هدف الشعائر ليس هو التقرب من الله، لأنه قريب من عبده على الدوام، بل تنقية روح الإنسان والوصول بها إلى مستويات أسمى. إذا لم توصل الصلاة والصوم وكل الشعائر الأخرى إلى هذه التنقية، وتنعكس في السلوك الفردي والمجتمعي، فلا حاجة من ممارستها ميكانيكيا-طقوسيا.

سؤال: ترجمتم الكثير من الكتب الفلسفية من الألمانية إلى العربية. في أي إطار تدخل ترجماتكم؟

جواب: أتوخى من ترجماتي شيئين متكاملين: الأول بناء جسور حوار فكري بيننا وبين الغرب، سبب تركيزي على الجناح الجرماني هو كونه “أصل” الفكر الغربي الحديث والمعاصر. فقد خرجت من رحمه كل التيارات الفلسفية المعروفة حاليا. الثاني هو إكمال معرفتنا بالآخر، وعدم البقاء في مستوى إما “الإنبهار” به أو “رفضه” جملة وتفصيلا. أحاول إذن تقديم نصوصا ألمانية مباشرة للقارئ والمهتم بالفكر والفلسفة في العالم العربي، وقد كنا بالأمس القريب نمر بالترجمات الفرنسية أو الإنجليزية لهذا الفكر.

سؤال: على أي أساس تختارون ترجماتكم؟

جواب: في كل قرار ترجمة هناك الذاتي والموضوعي. وهناك علاقة جدلية بين الإثنين. غالبا ما أختار كتبا تدخل في نطاق اهتماماتي الفكرية وتخصصي.

سؤال: تمارسون النقد الأدبي (الشعر والرواية). وقد اشتغلتم على منتوجات عديدة في هذا الميدان. من أين أتى هذا الإهتمام؟

جواب: بعد نشر خمسة روايات لي بالعربية والفرنسية والألمانية، والسادسة في الطريق، انتبهت بأن الكتابات النقدية كانت قليلة عندنا. كان لي رصيد في تكويني يمزج بين السيمياء وفن الخطاب، الذي درسته على يد أحد أعمدة هذا التخصص الفرنسيين (أوليفيي غبول). شرعت في قراءات نقدية، مساهمة مني في التعريف ببعض الأعمال الأدبية العربية عامة والمغربية بالخصوص. وأسجل بارتياح حاليا، ما قد أسميه شخصيا بمدرسة نقدية مغربية في الأدب، حتى وإن كان نصيب الشعر ضئيلا نسبيا …

سؤال: على ذكر الشعر، دراساتكم النقدية لدواوين بعض الشعراء المغاربة عميقة ويُعول عليها، بشهادة الكثير من المهتمين بالنقد الأدبي العربي. ماهي أهمية الشعر بالنسبة لكم؟

حميد لشهب: الشعر هو الروح النابضة لكل أمة. وللشعر علاقة وطيدة بالفلسفة والسيكولوجيا، بل إن القصيدة الجادة، الحاملة لرسالة ما والأنيقة في لغتها وأسلوبها، هي فلسفة عميقة. تقتات الفلسفة منذ غابر الأزمان من الشعر، وتصل عند تطويع الفيلسوف لرموز ديوان أو قصيدة إلى نتائج فلسفية باهرة. وخير مثال على هذا الأمر هو هيدجر نفسه، لأنه بدون اهتمامه ودراسته للشاعر والفيلسوف هولدرلين، ما كان قد وصل إلى كل هذا الغنى الفلسفي الذي وصل إليه.

سؤال: أعرف بأنكم تتوصلون بانتظام بأعمال أدباء وشعراء من شرق وغرب البلاد العربية. ما هي المعايير التي تدخل في الإعتبار عندما تقررون القيام بدراسة نقدية لرواية أو ديوان أو قصيدة شعرية؟

جواب: في الحقيقة، أقرأ كل ما يصلني، وأنا فخور بحركية الساحة الأدبية العربية في السنين الأخيرة. كميا، هناك منتوجات هائلة في مختلف التخصصات الأدبية. المعيار الأساسي لاهتمامي برواية أو بديوان هو قبل كل شيئ الرسالة التي يحملها المنتوج. إذا كانت الرسالة تتوخى المساهمة في تطوير العقليات ويكون موضوعها يعالج قضية سياسية أو اجتماعية، فقد تثير اهتمامي وأعكف على در استها.

سؤال: يصح هذا على الرواية والشعر على حد سواء؟

جواب: نظريا نعم، على الرغم من أن الشعر يتطلب مجهودات مضاعفة، إذا أراد المرء الذهاب إلى ميتا-النص. إذا لم يتغلغل ديوان أو قصيدة في عمق شعوري ويشغلني ويقلق راحتي، فيما يخص ر سالته، فلى يكون اهتمامي به إلا ضئيلا. لكن عندما يشدني ديوان إليه، فإنني أقرأه مرات عديدة وآخذ مسافة زمنية منه وأعيد قراءته مرات عديدة من جديد قبل بداية الكتابة. إذا لم يقم صراع رمزي بين الناقد والديوان، فإن نتيجة الدراسة النقدية لا تكون في المستوى الطلوب. والشعر حمال لمعان كثيرة ومفتوح على كل التأويلات، وهذا ما يؤسس جوهره.

سؤال: بدئنا من السياسة ونختم بها إذا سمحتم: كيف ترون الواقع السياسي المغربي حاليا؟

حميد لشهب: على مستوى الثقافة السياسية عموما هناك عزوف الشارع المغربي عن السياسة، على الرغم من أن كل الأفواه تتحدث سياسيا. سقطنا، عن وعي أو دون وعي، في نوع من اللامبالات بالسياسة كقيمة مضافة للمواطنة، ونكتفي بالنقد المجاني الهزيل. على مستوى الأحزاب السياسية نفسها، لم يَقِل فقط الآداء السياسي، بل وأيضا تخليق العمل السياسي. هناك شخصيات حزبية ليس لها لا رصيد نضالي ولا ثقافي ولا أخلاقي، دخلت عالم السياسة من حيث لا ندري، بنوع من النرجسية ونفخ مبالغ فيه في الأنا. فعندما يصل الأمر بالتشابك بالأيدي في البرلمان بين من انتذبهم الشعب لتمثيله وخدمته، وعندما تطغى المصلحة الشخصية على المصلحة العامة في نفس الحزب، فإن كل شروط تغذية لغة الخشب وإنتاج العنف الفيزيقي والرمزي تكون متوفرة. أن أكون معارضا هو أن أقدم بدائل وألا أهاجم أشخاصا بعينهم من أجل الهجوم، بسبب أو بدون سبب. البلد في حاجة إلى معارضة قوية فيما يخص الملفات الكبرى المصيرية، وليس إلى سجالات فارغة وتهجم على “الخصم”. وقوة المعارضة تكمن في البدائل التي تقدمها، وليس في التفنن في الملاسنات والتجريح وتعيير الآخر.