مجلة حكمة
كورونا كوفيد-19

التزامات الدول بموجب اللوائح الصحية الدولية في ضوء (كوفيد-19) – أرمين ڤون بوغاندي، وبيدرو فياريال / ترجمة: علي الصديقي

كوفيد-19 كورونا
لقاح كوفيد-19 (كورونا)

مقدمة المُترجِم:

         في ندوة حوارية بعنوان (كوفيد-19 والقانون الدولي) ، أقامتها مدونة Opinio Juris المعنية بشؤون القانون الدولي وتطوراته في العالم خلال الفترة (مارس-أبريل 2020م). تضمنت الندوة عدداً من المقالات والأوراق العلمية التي تناولت موضوعات مختلفة متعلقة بأزمة فيروس كورونا كوفيد-19 المستجد، وتم استضافة عدد من الباحثين الذين قاموا بكتابة أوراقهم، كلٌ في بيته، استجابةً لمقتضيات الحجر العام. هذه الندوة الحوارية، بمنتجاتها المعرفية، ناقشت باستفاضة أوضاع القانون الدولي في ضوء مستجدات كوفيد-19 فمن بين كتّابها من طرق موضوعات القانون الدولي البيئي ومنهم من عرض ظروف إعلان حالة الطوارئ الدولية، وآخرون ناقشوا موضوعات القانون الدولي لحقوق الإنسان، وحقوق السجناء، وقضايا الهجرة والعمل والاقتصاد والتجارة الدولية. فضلاً عن إجراءات المحاكم والعقوبات الجنائية، وغيرها من موضوعات الساعة لدى الفقه القانوني. وفي خضم تلك الموضوعات المتنوعة، أثار اهتمامي أحد الأوراق المنشورة التي تحدثت بشكل مباشر ومُركّز حول القانون الدولي للصحة العامة، وقد وقع اختياري لهذا الموضوع وترجمته لسببين رئيسيين:

الأول – أننا قلّما نجد اهتماماً بالمعايير القانونية الخاصة بالقانون الدولي للصحة العامة في الفقه القانوني العربي. حيث يكثر اهتمام فقهنا بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والجرائم الدولية، وبدرجة أقل في القانون الدولي للعمل والتجارة وفي باقي موضوعات القانون الدولي، في حين أن قضية الصحة العامة لم تكن تحتل نصيباً وافراً فيما مضى، ولكن ربّما تحتلّ – مستقبلاً- حيزاً كبيراً في الدرس القانوني عند الفقه العربي، بسبب الأزمة الفيروسية الجديدة.

والثاني – أن هذا الموضوع، أخذ في الآونة الأخيرة، حيّزاً من الاهتمام الدولي، بوصفه أداة من أدوات الصراع السياسي الدولي، أي أن هذه المادة العلمية قد تجلعنا أكثر إدراكاً لتفاصيل الصراع الجديد حول قضية المسؤولية الدولية عن التسبّب في انتشار فيروس كورونا كوفيد-19 والخلل في الاجراءات الاحترازية لاحتوائه، أهي الصين أم منظمة الصحة العالمية؟ إنّها تساؤلات الساحة حالياً.

في تلك الندوة، قُدمت الورقة تحت عنوان (“أيمكنهم فعل ذلك حقاً؟” التزامات الدول بموجب اللوائح الصحية الدولية في ضوء كوفيد-19)، وقد جاءت الورقة على جزئين، كتبها كل من السيد/ أرمين ڤون بوغاندي، المدير في معهد ماكس بلانك للقانون العام المقارن والقانون الدولي MPIL في هايدلبرغ – ألمانيا، والسيد/ وبيدرو فياريال، كبير الباحثين في معهد ماكس بلانك للقانون العام المقارن والقانون الدولي MPIL في هايدلبرغ – ألمانيا.

حاولت في هذه الترجمة أن أقدم مادة يسهل قراءتها لغير المتخصص في علم القانون، ومن جهة أخرى الاحتفاظ بروح المصطلحات القانونية التي تعتبر عنصراً لازماً لفهم سياقاتها العلمية.

 

النص المُترجَم:

 (“أيمكنهم فعل ذلك حقاً؟” التزامات الدول بموجب اللوائح الصحية الدولية في ضوء كوفيد-19)

في الوقت الراهن، تتفشى جائحة فيروس كورونا (SARS-COV-2) في جميع أنحاء العالم. ويتبدّل وضع الوباء بشكل يومي، وغالباً بنمط دراماتيكي. كما أن مجموعة التدابير الإيجابيّة التي اتخذتها السلطات المحلية في هذا الصدد تتمتع هي الأخرى بهذه الديناميكية ذات الخطوات السريعة. حيث يبدو الأمر مُروعاً عندما نرى كيف هزت هذه الأزمة عُمق هياكل المجتمع، ويظهر أثر ذلك في هذه الندوة الحوارية، حيث تتصل اتصالاً مباشراً بمجموعات غير متجانسة، من حيث المجالات القانونية التي تعطينا علامةً على مدى تعدد المجالات التي تؤثر فيها الجائحة بالفعل.

وعليه، فإنه جديرٌ بالإهتمام أن نعيد النظر في بعض العناصر الأساسية في صكوك القانون الدولي المخصصة للإستجابة للأوبئة – أي اللوائح الصحية الدولية لمنظمة الصحة العالمية-. في سبيل ذلك نتناول الأسئلة الآتية: ما هي الالتزامات الأساسية المقررة بموجب اللوائح الصحية الدولية في ضوء جائحة فيروس كورونا؟ ثم ماذا يمكن أن يحدث إذا خُرقت المعايير التي حددتها اللوائح؟ وهل يُمكن لمنظمة الصحة العالمية متابعة انتهاكات المعايير؟. نؤكد أن ورقتنا هذه غير معنية بجميع الالتزامات التي تقررها اللوائح الصحية الدولية. إننا سوف نتطرق فقط إلى بعض القضايا التي يمكن أن تؤدي إلى تحليلات مستقبلية. إذ في ضوء العدد المتزايد باستمرار من المقالات المنشورة عبر شبكة الإنترنت حول هذا الموضوع، فإن هناك ما يبرر لفت الانتباه إلى القضايا الشائكة التي لا مفر منها. وعليه، نقدم عدداً من الأسانيد التي نستعرضها بعد قليل في ورقةٍ تشاركنا سويّاً في تأليفها.

اللوائح الصحية الدولية: أداة قانونية غير قياسية:

إن أول السمات الغريبة التي تتمتع بها “اللوائح الصحية الدولية” هي أنّها تتطلب لنفاذها إجراء الموافقة عليها. ومن ثم فإنها ليست اتفاقيةً دولية بهذا المعنى. ولكنها عوضاً عن ذلك، أداةٌ مُلزمة قانوناً بموجب معاهدة دولية أخرى تم الموافقة عليها، أي أن قوتها القانونية جاءت تأسيساً على حكم المادة (21) من دستور منظمة الصحة العالمية. يسمح هذا الحكم لجمعية الصحة العالمية، التي تعد أعلى هيئة تتولى صنع القرار في منظمة الصحة العالمية، إصدار لوائح ملزمة في مجالات متعددة من بينها “… الإجراءات التي تُصمم من أجل منع الانتشار الدولي للأمراض”. في عام 2005م، أي بعد عامين فقط من كارثة 2002-2003 مع متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (SARS-COV-1)، صوتت جمعية الصحة العالمية (المكونة من ممثلين من الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية) بالموافقة على اللوائح الصحية الدولية. وبموجب المادة (22) من دستور منظمة الصحة العالمية، فإن نفاذ هذه اللوائح لا يتطلب إجراء تصديق وطني لاحق. وكما ذكر بعض المؤلفين في هذا الصدد، فإن ذلك يُظهر تفويضاً ملحوظاً من قبل اللسطات المعنية بالدول الأعضاء للمنظمة، بما يعني ثقة أساسية في السلطة التشريعية للمنظمة.

ويُشير آخرون، أنّ منظمة الصحة العالمية لم تُوسّع من نطاق السلطات التي تتمتع بها بموجب المادتين (21) و(22) من دستورها. فمنذ عام 1948م، لم تصدر سوى لائحتان ملزمتان فقط، وهما: “اللائحة الصحية الدولية”، و”اللوائح المتعلقة بالتسميات ذات العلاقة بالأمراض وأسباب الوفاة”. ومن خلال منظور معياري، يرى البعض أن هذا الأمر من شأنه أن يهدر إمكانات القانون الدولي لتعزيز الصحة العالمية. كما عبّر البعض الآخر عن اهتمامهم الكبير بذلك قائلين أنّ الأنظمة القانونية القائمة لم تفِ بوعودها. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا تُمارَس الضغوط نحو تعزيز الامتثال بهذه المعايير؟ هذا نقاشٌ يتجاوز نطاق هذه الورقة، إذ يكفي القول أنّ هناك اعترافاً كبيراً بكون المعايير الحالية لا تفي بالغرض التي صدرت لأجله، وهي – من ثمّ- بحاجة إلى إصلاحٍ شامل.

التزامات الدول بموجب اللوائح الصحية الدولية: “صارمة وسريعة” و”طويلة الأمد” و”طارئة

في صميم أزمة فيروس كورونا المستمرة يتجلى السؤال المتعلق بالقانون الدولي العام فيما يأتي: ما هي الالتزامات القانونية الملقاة على الدول؟ إنه سؤالٌ بسيط غير أنه يؤدي إلى إجابات مُعقدة بسبب مذاهب رجال القانون. ففي ظل مخاطر التبسيط المُفرط، سأحاول تقسيم بعض الالتزامات عبر استخدام ثلاثة مصطلحات غير رسمية (على الإطلاق) بغرض تمييزها وهي: 1) التزامات “صارمة وسريعة”، و2) التزامات “طويلة الأمد”، و3) التزامات “طارئة”. وهذه التصنيفات الثلاثة لا تقوم على الأسس التقليديّة الأكثر قبولاً في علم القانون.

تتضمن اللائحة الصحية الدولية سلسلة من الالتزامات “الصارمة والسريعة”، أي تلك التي يمكن أن تشهد امتثالاً إلى مضمونها بشكل فوري من الناحية العملية. فمن بين ما يقع تحت هذا التصنيف، الالتزام ” بإخطار منظمة الصحة العالمية” بالمستجدات طبقاً للمادة (6) من اللائحة الصحية الدولية، حيثُ يعدُّ هذا الالتزام بمثابة حجر الزاوية في النظام العالمي لمراقبة الأمراض. ومن زاوية معيارية، يُمكن تبرير وجود مثل هذا الإلتزام، فقد أوضحت لنا أزمة 2002-2003 (SARS-COV-1) إنّ عواقب تخلف عنصر “الإخطار” يُمكن أن تكون كارثية على المجتمع الدولي، ذلك أنّ تأخر الحكومة الصينية في إبلاغ منظمة الصحة العالمية عن الفيروس في عام 2002م لم يسمح للدول الأخرى بتجهيز نفسها. في هذا الصدد، عادةً ما تُتخذ “الأمور الفنية” شماعةً لتبرير عدم القيام بالإخطار، ومن خلال استخدام عبارات وبائية مفرطة في التبسيط. يقوم الخبراء الطبيّون بالمخاطرة عندما يدّعون أنّ فيروس كورونا يتسبب في “مرض شبيه بالإنفلونزا” يُدعى (كوفيد-19) تُشبه أعراضه في بعض الأحيان أعراض الإنفلونزا الموسمية. وهذا التبسيط المُفرط بدوره يجعل أنظمة مراقبة الدول تواجه صعوبةً منذ البداية في تحديد الأشخاص المصابين. ولا تستأنف عملية المراقبة الدولية فعاليتها إلا عندما يصل إلى علم المنظمة أنّ هناك سبباً جديداً يؤدي إلى المرض. خلافاً لذلك، فقد يتم تشخيص الحالات الإيجابية – في الواقع – على أنها حالات إنفلونزا أو في الحالات الأكثر خطورة على أنها حالة من “الإلتهاب الرئوي غير المبرر”. وعوضاً عن ذلك، فإن تنبيه المنظمة إلى وجود مُسبّب مرضي جديد يسمح للسلطات بتضمين مسببات الأمراض الجديدة على قوائم المراقبة الوبائية، ويمنح فرصة للقيام بتغيير طبيعة الإرشادات التشخيصيّة لها. هذا الإجراء سيكون ضرورياً على وجه الخصوص في الرقابة على “نقاط الدخول” إلى المناطق (أنظر المواد من (19)-إلى (22) من اللائحة الصحية الدولية). وعليه، فإن المادة (6) من اللائحة الصحية الدولية تُلزم الدول بإخطار منظمة الصحة العالمية في غضون (24) ساعة بعد تحديد أي حادث “يمكن أن يشكل حالة طوارئ صحية عامة ذات أهمية دولية“. وسوف يتناول السيد مارك إيكليستون تورنر في هذه الندوة الحوارية هذا المفهوم بمزيد من التفصيل.

كما ذكرنا مسبقاً، بدون إخطار الدول بتقارير حول الأمراض السارية سيجعل من منظمة الصحة العالمية – في الغالب – في وضع “كالأعمى”. السلطات المحلية -عادةً- هي الأكثر قدرةً واستعداداً لجمع البيانات الوبائية التجريبية. ومع ذلك، يمكن لمنظمة دولية قادرة على معالجة هذه التقارير أن تؤدي دوراً فنياً رئيسياً في ساعة حالة الطوارئ، من دون حاجة إلى وضع هذه الأدوار الفنيّة على أجندة الدولة، أو بطريقة بسريّة على أقل تقدير. دعونا نتصوّر ماذا سيحدث للمراقبة العالمية للأمراض إذا اعتمد النظام على مشاركة الحكومات لبياناتها الحساسة مباشرة مع بعضها البعض. فإذا قمنا بمضاعفة ذلك مائتي مرة، ستكون النتيجة بانوراميّة شاملة حول تقارير الدول. بالإضافة إلى ذلك، فإن أي عمل عدائي جيو-سياسي يمكن أن يشكل خطأ مُهلكاً في مجال التأهب للجائحة، في حين أنّ وجود “محور محايد” في هيكل منظمة الصحة العالمية يعدّ أمراً منطقياً من أجل تجنب ذلك.

ترتبط الالتزامات “الصارمة والسريعة” باحترام حقوق المسافرين أيضاً. حيث تُحدد المواد (31) و(32) و(40) و(42) من اللائحة الصحية الدولية سلسلةً من القيود على الكيفية التي يتم فيها تنفيذ الدول للتدابير الصحية فيما يتعلق بالأشخاص الذين يدخلون إلى أراضيها. الجدير بالملاحظة  في هذا الصدد أنّ المادة (42) من اللائحة الصحية الدولية، تفرض عدم التمييز في طريقة التعامل مع المسافرين. ولعمرك أنّ تحديد المسافرين في ضوء ملامحهم الشخصية – وما قد يتضمنه هذا الأمر من نقاش – من شأنه أن ينتهك أحكام اللائحة فيما يتعلق بعنصر “عدم التمييز”، فلا ريب أنه يمكننا التحقق من وجود هذا الانتهاك.

تعدّ الالتزامات الأخرى التي تفرضها اللائحة الصحية الدولية “طويلة الأمد” إذا ما قورنت بمثيلاتها. فكما حللنا في مقالاتنا الأخرى، فإن المواد رقم (5) و(6) و(13) من اللائحة الصحية الدولية، بالإشارة إلى الملحق رقم (2)، تنطوي على التزامات تنظم وتطوّر “بناء القدرات”. وبالتأكيد، فيما يتعلق بمهمة “الإخطار الفوري”، فإن الدولة بحاجة إلى نظام صحي قادر على القيام بذلك في المقام الأول. كما أنه من خلال اللائحة الصحية الدولية، فقد التزمت الدول بتطوير “القدرات الأساسية” في غضون فترة زمنية معينة (أي: خمس سنوات + سنتين + سنتين، أنظر: المواد (5) و(13) والملحق (1) من اللائحة الصحية الدولية). ولكن كيف يمكننا قياس الحد الأدنى من الالتزام الذي يكرس “بناء القدرات”؟ الجواب أن هذه العملية غير واضحة، فهناك قصورٌ في تحديد النتائج المترتبة على حالة عدم الوفاء بالموعد النهائي الأولي. وقد استُخدمت أداة قياسية أطلق عليها “أداة التقييم الخارجي”، التي أدت إلى زيادة الامتثال -تدريجياً- على مر السنين. ومع ذلك، فإننا في عالم تتباين فيه أنظمة الرعاية الصحية تبايناً هائلاً فيما بينها، لذلك فإن الامتثال المُوحّد لهذه الالتزامات التي تتسم بكونها “طويلة الأمد” يعتبر من قبيل الوهم.

أخيراً، ثمة التزامات يمكن اعتبارها ذات طبيعة “طارئة”. تعتمد في تطبيقها بشكل كبير على الظروف. إذ بسبب الصياغة المُجرّدة لبعض أحكام اللائحة الصحية الدولية، فإن بعض الإلتزامات تتطلب تطبيقاً سياقياً على حالات محددة. فعلى سبيل المثال، تُجيز المادة (43) من اللائحة الصحية الدولية للدول الأعضاء اتخاذ تدابير صحيّة تتجاوز في مداها تلك التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية، وذلك بتحقق شرطين:  1) قيامها بإبلاغ منظمة الصحة العالمية ؛ و 2) توفّر أساس علمي لتلك التدابير. هذه التدابير يمكن أن تشمل إجراءات تُتخذ ضد الأفراد، أو حتى ضد الدول بشكل عام، كاجراءات حظر السفر على سبيل المثال. وكما بينّا أعلاه، فإن الالتزام بالإخطار يتسم “بالصرامة والسرعة”. ولكن بمجرد تحقيق ذلك “الإخطار”، فإن قياس (عدم) الامتثال للائحة سوف يعتمد على ما تقوم الدولة بتقديمه من مبررات.

إن أفضل مساحةٍ تمارس فيه منظمة الصحة العالمية سلطاتها الفنية، هو استخدامها لصلاحياتها – ولا سيما صلاحيات مديرها العام – في إصدار توصيات إلى الدول الأعضاء بموجب المواد (15) و(16) و(18) من اللائحة الصحية الدولية. فعلى غرار الموضوعات الأخرى التي تتضمنها اللائحة، تُجيز المادة (43) للدول الأعضاء اعتماد تدابير صحية إضافية يتوقف تطبيقها على مدى توفر المبرر العلمي. ويعتمد إعمال هذا الإلتزام أو تجاهله على طبيعة الظروف السائدة. في الواقع، سوف يكون مسار العمل مختلفاً عندما ننظر إلى نوعية الحالة الطارئة التي تقع بين أيدينا. إن إجراءً مّا قد يُوصى بتجنّبه في بعض الظروف، قد يكون هذا الإجراء نفسه مطلوباً لاتخاذه في ظروفٍ أخرى. وقد تقوم الدولة تحت مبررات علمية بأعمال تتعارض مع توصيات منظمة الصحة العالمية. في واقع الأمر، خلال هذه الأزمة المستمرة، فقد كانت هناك خلافات بين خبراء الصحة العامة حول ماهية “أفضل مسار للعمل”. وبما أن ذلك يتطلب فهماً مُعقداً في علوم الطب والصحة العامة، فإن مساهمات الخبراء تعدُّ ضروريةً من أجل توفير المزيد من الوضوح. قد تعكس توصيات منظمة الصحة العالمية نوعيّة التدابير التي ينبغي اتخاذها خلال أزمة معينة. وهذا يعني مزيداً من الخصوصية في طبيعة الالتزامات العامة التي تكرسها اللائحة الصحية الدولية.

هنا تتمتع منظمة الصحة العالمية بوضع متميز في قدرتها على تقديم المزيد من الإرشادات حول نوعيّة القيود التي يمكن اتخاذها، ولكن لا يُمكننا القول أنّ المنظمة قد قامت بتقييم شامل يجعلنا نتعامل تعاملاً شمولياً مع سياقات الأزمة.

ومع ذلك، فإن التساؤل هو: ماذا لو انحرفت الدول عن مشورة منظمة الصحة العالمية، هل تعتبر مقصرّة في الوفاء بالتزاماتها الدولية بموجب اللائحة الصحية الدولية؟ الجواب المثير للجدل في رأينا هو: ” أنّ هذا يعتمد على طبيعة الموقف“. يجب أن ندرك أن المادة (43) من اللائحة -بجملتها- ليست من قبيل الصنف “الصارم والسريع” وبالتالي فإن هذا لا يعني أنّ مجرد تجاهل الدولة لتوصيات منظمة الصحة العالمية يؤدي في حد ذاته إلى انتهاك. فقد يتطلب أمر القول بوجود الانتهاك إلى إعادة تأطير كاملة لتلك التوصيات، فلربّما لم تُعد هذه التوصيات مجرد “نصيحة غير ملزمة” بعد الآن بالمعنى الذي تحدده المادة (1) من اللائحة الصحية الدولية.

من المؤكد أيضاً، أن عدم اتباع خطوات “الإخطار” و”التبرير العلمي” التي توجبها المادة (43) من اللائحة الصحية الدولية يُعتبر انتهاكاً صريحاً. فعلى سبيل المثال، رغم أن منظمة الصحة العالمية قد ذكرت في 30 يناير 2020م أن إجراء حظر السفر (في الغالب إلى الصين) “غير موصى به“، إلا أننا رغم ذلك شاهدنا كيف طبقتها الدول بشكل كبير. السؤال هنا: هل تطبيق هذه الإجراءات رغم عدم الإيصاء بها تُعتبر خرقاً – بحدّ ذاته – لقواعد اللائحة الصحية الدولية؟ المناقشة حول ذلك ما زالت مفتوحة.

في ضوء هذه النظرة العامة على بعض الالتزامات التي تفرضها اللائحة الصحية الدولية على الدول، سنتناول فيما يأتي قضايا أخرى تتعلق بتنفيذها، ونعني بها: ماذا يحدث إذا انحرفت الدول عن تلك الإلتزامات؟

إشراف منظمة الصحة العالمية على التزامات اللوائح الصحية الدولية – لا توجد شرطة صحية حتى الآن:

كما أوضحنا سابقاً، لا يمكن لمنظمة الصحة العالمية الاحتجاج بالمسؤولية القانونية عندما تنتهك الدول اللوائح الصحية الدولية. وقد عُرضت تقارير بشأن عدم الامتثال في جمعية الصحة العالمية دون أن تُتخذ مزيد من الإجراءات. إذ لا تمنح اللائحة تفويضاً صريحاً لمنظمة الصحة العالمية في تحميل الدول المسؤولية عند انتهاك اللوائح الصحية الدولية.

مثالٌ على ذلك، تبرز هذه الفجوة بشكل جلي فيما يتعلق بشرعية “حظر السفر” المتزايد باستمرار، والتي تقع -مباشرةً- ضمن اختصاص اللائحة الصحية الدولية. إذ عندما تم الإعلان عن حالة الطوارئ لأول مرة، كان الشاغل الرئيسي هو الكيفية التي سيؤدي فيها حظر السفر إلى عزل الصين، وخاصة عزل مقاطعة هوبي حيث بدأ الفيروس في الانتشار. أما الآن، فإن الحظر يسري بطريقتين: يُمنع الأشخاص من دخول بلد أجنبي، كما أنهم يُمنعون من مغادرة بلداهم. ولكن: هل يُجيز القانون للدول القيام بذلك؟ للإجابة نقول كما قلنا سابقاً: ” أنّ الأمر يعتمد على طبيعة الموقف”.

تجاهلت الدول – على نطاقٍ واسع – توصية منظمة الصحة العالمية الصادرة في 30 يناير 2020م التي صنفت “حظر السفر” من ضمن الإجراءات “غير المُوصى بها”. وقد احتجت الدول التي فرضت حظر السفر متجاهلةً توصية المنظمة بالقول أنّ الإدعاء بأن إجراءات الحظر هذه تُشكل انتهاكاً للائحة الصحية الدولية يُعتبر قولاً يحتاج إلى تدقيقٍ كثير. بادئ ذي بدء، يضع الكثيرون وزناً للتوصيات غير الملزمة، وهذا يعني – ضمناً – منح منظمة الصحة العالمية، وكذلك مديرها العام، السلطة الواقعية في خلق التزامات جديدة ذاتياً على الدول من خلال توصياتها تلك. إنّ هذا سيمثل تفويضاً كبيراً في سلطات المنظمة.

علاوة على ما تقدم، فإن القصور الكبير في آليات الإنفاذ التي تتمتع بها منظمة الصحة العالمية كلما تم انتهاك اللائحة الصحية الدولية، كان خياراً واضحاً عند من صاغ تلك اللوائح. في نهاية المطاف، عندما تمت الموافقة على اللائحة الصحية الدولية، لم ترَ الدول الأعضاء أيّ ضرورة في تحويل المنظمة من “منظمة دولية” إلى “شرطة صحيّة”، لأن ذلك يعني بذلاً لمجهودات كبيرة لأجل مقاربة المنظمة مع نظيراتها، ووضعها في موضع السلطات المحلية التي تمارس سلطات العمل الشرطي من أجل حماية الصحة العامة. وبدلاً من ذلك، رغب من صاغ اللائحة وجوب تركيز الاهتمام – بشكل أكبر على دور المنظمة المُتخصص بوصفها “وكالة فنية”.

لا يوجد أفراد هنا: تعويضات “تقليدية” محورها الدولة:

كما ذكرنا سابقاً، فإن انتهاك اللائحة الصحية الدولية سوف يؤدي إلى المسؤولية الدولية عن الأفعال غير المشروعة. ولكن، بصراحة، إذا لم تكن منظمة الصحة العالمية هي من يقوم بالاحتجاج بالمسؤولية فمن ذا الذي يُمكنه الاحتجاج بها؟. تجدر الإشارة هنا إلى أن اللائحة الصحية الدولية، من حيث هي موضوعٌ للقانون الدولي، تُعتبر الأداة الأساسية التي تُركز على دور الدولة. حيث تُجيز المادة (56) من اللائحة للدول الدخول في مفاوضات أو وساطة، وفي حالة عدم نجاح تلك المفاوضات أو الوساطة، يتم تسوية منازعاتها أمام محكمة التحكيم الدائمة. وهذا النص يُجيز للدول أن تلتمس الإنصاف كلما اتخذت تدابيراً مثل “حظر السفر” بحق دولة أخرى. بالتأكيد، يجب أن يُنسب هذا الفعل غير المشروع إلى الدولة أو من يمثلها، لذلك لن تكون هذه المسؤولية ملقاة على عاتق الشركات الخاصة التي يكون فيها اتخاذ القرار ضمن سياساتها الخاصة.

وبما أن تسوية المنازعات – حتى اللحظة – لم تحدث أبداً، فإن هذا يبقى مُجرد سيناريو افتراضي. ومع ذلك، فإن استكشاف المزيد من الاحتمالات الممكنة، يمكن أن يساعدنا في فهم الأساس المنطقي لآلية عمل النظام القانوني. وهنا تنطبق الشروط المُعتادة في تقرير مسؤولية الدولة، والتي تشمل، ضمن جملة أمور، إثبات “علاقة السببيّة”. يمكن أن يكون للدول موقف قضائي بصدد رفع دعاوى على أساس تحقق الضرر الذي خلفته الإجراءات المتخذة ضدها، أو بسبب الإهمال الذي وقعت فيه دولٌ أخرى، إذا تضررت مصالح الدولة المُدّعية بطريقة مّا. هنا، سيكون من الضروري إجراء تحليل واقعي حول التأثيرات التي تعكسها إجراءات حظر السفر في اقتصادات الدول الأخرى، وهو القلق الذي يرتبط أيضاً بالأسباب التي جعلت منظمة الصحة العالمية تمتنع عن تقديم توصية بفرض قيود السفر. هناك طريقة محتملة للخروج من العقبات الأولية للموقف، حيث أن مواد لجنة القانون الدولي المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً (ARSIWA) تُجيز ” للدول الاحتجاج بالمسؤولية، حتى لو لم يؤثر عليها إجراء أو امتناع معين بشكل مباشر“، باعتبار أن الفعل غير المشروع قد يخرق “واجباً تجاه المجتمع الدولي كله” (أنظر المادة (48) الفقرة (1-ب). لكن هذا يتطلب مناقشة أكثر تفصيلاً.

تنطبق صعوبات العلاقة السببية أيضاً في حالة الالتزامات “الصارمة والسريعة”، كما تم تصنيفها في بداية ورقتنا. فإذا ركزنا على الالتزام الوارد في المادة (6) من اللائحة الصحية الدولية المتعلق “بالإخطار”، فيجب أن يكون التحقق من حدوث الانتهاك القانوني عملية مباشرة نسبياً: فإما أن تُبلغ الدول في الوقت المحدد (خلال 24 ساعة)، أو لا تفعل ذلك. وإذا كانت هناك عواقب ضارة تؤثر في دول أخرى نتيجةً للتأخير في الإخطار، فيمكن التماس الإنصاف في هذه الحالة. وعند هذه المرحلة يتدخّل ممارسو القانون: حيث يتطلب إثبات مثل هذا الانتهاك في مجلس قضائي إقامة الأدلة عليه. إذ يبدأ الإطار الزمني الذي يعمل على مدار (24) ساعة بمجرد تقييم “معلومات الصحة العامة”، أي على سبيل المثال: بمجرد التأكد المختبري من وجود فيروس جديد. وبالتالي، فإن هذا يعني الاعتماد على “معيار شخصي” بالقدر الذي يستلزم فيه إثبات أن السلطات كانت على علم بوجود حدث مّا تحتاج معه إلى إخطار منظمة الصحة العالمية. ولكن إذا لم تدرك السلطات الوطنية نفسها حقيقة وجود التهديد، فكيف يمكن اعتبارها مُلزمة بالإخطار حينئذ؟ بالإضافة إلى ذلك، قد يقوم بعض المُبلغين الآخرين بتصعيد الموقف حول المخالفات أو قد يلجأون إلى تقارير بديلة غير حكومية (أنظر المادة (9) من اللائحة). عندها: كيف يمكن إثبات أنّ السلطات الوطنية كانت “على دراية” بوجود مرض مُحتمل بوصفه جائحة قبل وقت طويل من الإبلاغ عنه؟ هل تكفي الروايات الصحفية لاثبات ذلك؟

على النقيض من موقف الدول، فإن الأفراد – ببساطة – ليس لديهم مساحة للتحرك بموجب اللائحة الصحية الدولية. صحيح أن اللائحة تُشير إلى حقوق الإنسان للأفراد والمسافرين، على سبيل المثال، في المادتين (2) و(32) من اللائحة، لكن هذه الأداة القانونية لا تتوخى أن تلجأ إليها الأفراد في حالة ارتكاب الدول لأفعال غير مشروعة. فإذا انتُهكت حقوق المسافرين المُقررة بموجب اللائحة الصحية الدولية، فإن الأمر يرجع في الواقع إلى دولهم الأصلية لرفع دعاويهم. في سابقة، تم تسوية الخلافات المحتملة بين الدول، والتي نشأت عن انتهاك حقوق المسافرين، بالطرق الدبلوماسية، وكان ذلك نتيجة لتحليل حسابات الربح والخسارة لدى الأطراف ذات العلاقة.

هنا، لا يزال من الممكن تقديم تحذيرين: إذ يُمكن الاستناد إلى اللائحة الصحية الدولية، من الناحية النظرية، من قبل الأفراد سواء في المحاكم (الإقليمية) لحقوق الإنسان أو في المحاكم المحلية، كلما اعتقدوا أن الانتهاك قد سبب لهم ضرراً. وفي حالة لجوء الأفراد إلى المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان، يمكنهم – بطريقة أو بأخرى- أن يستندوا إلى الالتزامات الواردة في اللائحة الصحية الدولية. وعلى الرغم من عدم اعتبارها مسألة محسومة، إلا أنه يمكن الاستناد إلى اللائحة نفسها على المستوى المحلي أيضاً، اعتماداً على طبيعة النظام القانوني القائم. وبالنظر إلى امتداد نطاق هذا الموضوع نحو مشاركات زملاء آخرين في هذه الندوة، فإني لا أتوسع في عرض هذه الأفكار في الوقت الحالي.

نشر التحليل القانوني في عصر الجوائح:

ربما لم يكن التحليل الوارد في هذه الورقة تحليلاً مُشجعاً لرجال القانون الدولي. ذلك أنّ أحد أغراضنا منها هو الحصول على الاستعداد والاستجابة للجائحة على أساس قاعدة توفير المزيد من الإطمئنان لمن يُخاطبون بموجب هذه المعايير، سواء أولئك المُلزمين بها أو الذين يَحقّ لهم الحصول على الحقوق بمقتضاها. عوضاً عن ذلك، فقد وُضعت العديد من التحذيرات فيما يتعلق بجوانب هتين الوظيفتين، التي يبدو أنها تؤدي إلى إهدار الثقة بشكل كبير. لكننا على العكس، نعتقد أن هناك قيمة كبيرة في محاولة تشخيص النظام القانوني الحالي واستجابته للجائحة بدقة، بما في ذلك بيان الثغرات الحالية بطبيعة الحال. وحيث أن القانون يهدف إلى توفير عنصر الثقة وتثبيت التوقعات المشروعة من وجود هذه المعايير، فإن تناول الزوايا الشائكة المتعددة وأـخذها في الاعتبار يعدّ أمراً لا بدّ منه. هذه الورقة قد تكون معقدة ومبهمة، لكنها أفضل فرصة لدينا لتوصيف قواعد ذلك النظام القانوني، لأننا -وفي منتصف دراما كوفيد-19 التي تتكشف لنا- من الطبيعي أن نتساءل: أين هي المعايير القانونية بالضبط عندما نكون في أشدّ الحاجة إليها؟

المصدر: كوفيد-19 (1)، كوفيد-19 (2)