الكاتب | محمد حسن إبراهيم |
مقدمة مفاهيمية لازمة:
يجد الفيلسوف نفسه والموقف الذي يحل فيه محددين من قبل غيره؛ وهو يواجه مشكلة ما، لذلك يغدو من الضروري له معرفة الكيفيات التي تمت مواجهة مشكلة بعينها، مما يعني أن عليه التعرف على من سبق لهم الوقوف أمام ذات الإشكال الذي تطرحه المشكلة. أما الموقف الذي وجد نفسه فيه نيتشه، والمشكل الذي يواجهه وهو الوجود، فهو موقف أساسه المفارقة، حيث الدعوى تجاه شيء ما وعنه هي ليست تجاهه ولا عنه. ولكي نجيد فهم هذا الأمر، فسنشكل مقولة منسوبة إلى سبينوزا يقول فيها: “إن ما يقوله بولس عن بطرس يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس”. ولكي تناسب نيتشه، سنجعلها بهذا الشكل: “إن ما قاله الفلاسفة عن الوجود يخبرنا عنهم أكثر مما يخبرنا عن الوجود”. وبهذا نفهم رده الوجود إلى إرادة، أما الماهية فهي ما تقوله الإرادة عنه. ويقع بذلك استبدال فرط الموضوعية بفرط الذاتية، وننتهي إلى ما يسمى باكتمال الميتافيزيقا. والمصطلح “الاكتمال” الذي صارت تنعت به نفهم منه شيئين اثنين في هذا المقال:
أن الشيء الذي اكتمل استنفد ممكناته التي يحتوي عليها.
أن ما استنفد إمكانياته قد اتضحت حقيقته وأعلن عنها.
وبما أن العدمية هي انسحاب الميتافيزيقا، فإن النظر في الانسحاب يقول عنها كذلك شيئين اثنين:
أن ما ينسحب لم يستنفد كافة ممكناته التي يحتوي عليها.
أن ما لم يستنفد كافة ممكناته لم تتضح حقيقته بعد ولم يعلن عنها.
وبهذا يظهر لنا التناقض حاضرا بين اكتمال الميتافيزيقا والعدمية. وبما أنها عبارة عن انسحاب لهذا الاكتمال، فإن هذا التناقض يوجب النظر فيها بالقدر الذي وجب النظر فيه في الميتافيزيقا؛ لأن الذي ينسحب فيها هو ما أوجب وجودها مرة، وهو ذاته الذي بالتوجه إليه تتكون منه كيفية النظر فيها . أما حصر معناها وتحديده فهو شرود معنى أو عدم إمكانية تعيين الميتافيزيقا؛ لأن الانسحاب هو انسحاب صفاتها، وما لا صفة له لا يمكن تعيينه و هو في حكم المعدوم و تسميات نيتشه لأبعادها هي إعادة تسمية لشيء واحد بعينه لكنها تخبر بأن المسمى بألفاظ تقريظية و تبجيلية هو غير جدير باسمه . وهكذا يكون العنوان الذي وضعناه مفهوما بحد ذاته و متضحا من خلال هذه المقدمة المفاهيمية اللازمة. وسننظر أولا كيف قال بها نيتشه، وفي إطار أي صياغة وموجبات هذه الصياغة، ثم سننظر في عدة مفاهيم تظهر للوهلة الأولى أنها غير ذات علاقة بها، لكنها ستتدرج في بيان مستمر، حيث يبين السابق اللاحق ويضمه، حتى تظهر علاقتها بها وفق فهم إغريقي لمفهوم الحقيقة الإغريقي، أي “الأليثيا”، والتي تعني أن الحقيقة تتكشف وتتجلى وتتفتح، ضامة إثر كل تكشف جديد التكشف الذي سبقه. فتكون فقرات هذا المقال هي أطوار تكشف العدمية ذاتها؛ لأن الميتافيزيقا بالنظر للعدمية هي حجاب للحقيقة و سيتجلى كيف أن هذا الحجاب كان منه إبتسار في حقيقة اللاهوت التوحيدي و عليه فإن إنحسار مد الميتافيزيقا سيحمل معه تلقائيا عودته .
الإعلان عن العدمية ، بدايات الظهور وحالة الترقب لنبأ عظيم :
وجدت العدمية كإعلان أول مرة في صيغة “موت الإله” في كتاب نيتشه “العلم المرح”. وعنوان هذا الكتاب يلقي بظله وتأثيره على معنى مفهوم العدمية؛ لأن العلم قد عرف عنه الجد (نعني غياب المرح)، وعرفت عنه الصرامة (نعني غياب القدرة على التجاوز). وبهذا يعني وجود علم مرح تجاوز العلم أو المعرفة لنفسها، بما في ذلك مرجعيتها (أي ما يضمن للعلم أو المعرفة أن تكون نفسها). أما موضع إعلان هذا الحدث (أي العدمية)، فقد ورد في فصل من فصول هذا الكتاب، عنونه نيتشه بـ”نحن الرجال الذين لا نخشى شيئا”. لكن قبل إظهار الكيفية التي تم بها الإعلان عن العدمية، سنعمد إلى نص ورد في الفصل الرابع من الكتاب نفسه، في الشذرة 305 (1)، والمعنونة بـ”السيطرة على الذات”. نعدها متلاحمة مع التناقض الحاضر بين اكتمال الميتافيزيقا والنظر في العدمية كانسحاب لهذا الاكتمال. وبهذا فهي مكون غريب بدأ حضوره، وهي على وجه الدقة ما هو غريب مطلقا، وما ليس نحن بأي شكل من الأشكال. لكنها كذلك تنتمي إلينا بمعنى معين، من حيث أنها فناء ما هو مألوف لدينا، وما هو نحن (أي الميتافيزيقا). هناك شيء متماسك قائم وصلد، هما الميتافيزيقا والعلم كشيء جاد وصارم، وهما مسيطر عليهما مثل الذي يسيطر على نفسه. وحديث نيتشه في هذه الشذرة هو حديث عن طبيعة الشيء المسيطر عليه، والذي نملكه بفعل السيطرة هذا. وعن أن الشيء المسيطر عليه عائق عن تعلم الجديد (أي الغريب وغير المألوف وما ليس نحن). يعبر نيتشه في هذه الشذرة عما يجب إذا طرأت رغبة في تعلم أي شيء جديد وغريب وليس نحن، فيقول:
“علينا أن نغيب عن الأنظار لمدة طويلة إذا أردنا أن نتعلم شيئا من الحقائق التي لسنا هي نحن.”
إن هذه خطوة أولى وشرط إمكان لمعرفة العدمية بما هي ليست نحن بالمطلق. ويستلزم لمعرفتها بما هي الغريب مطلقا أن ننسحب نحن أنفسنا من أنفسنا، أو من الميتافيزيقا، حتى نفهمها. مما يخلق علاقة عكسية: فبقدر ما تنسحب الميتافيزيقا وتغيب، تحضر العدمية وتظهر.
نأتي الآن إلى الشذرة 343 (1)، التي أعلن فيها عن العدمية وفق صياغة “مات الإله”، وهي معنونة بـ”ما آل إليه مرحنا”. وعنوانها هام بالنظر لعنوان الكتاب نفسه، ويرخي بظله على معنى العدمية؛ لأنه إن كانت العدمية ستعلن الآن عن نفسها، فذلك سيكون باعتبارها شيئا قد تم العثور عليه جراء تجاوز العلم والمعرفة لذاتهما، أي نتيجة صيرورة التجاوز هذه. وهكذا نفهم عنوان الفصل الذي تم فيه الإعلان عنها (أي الفصل الخامس)، والمخاطبين فيه (أي نيتشه والذين لا يخشون شيئا معه). مما يعني أن تجاوز العلم لنفسه يعني القيام بمجازفة حيث الاحتمالات مفتوحة. والآن لنقرأ ما تقوله هذه الشذرة:
“يبدأ منذ الآن أكبر حدث حديث العهد في بسط ظله على أوروبا؛ إذا علمنا أن الإله قد مات – الإله المسيحي قد فقدت فيه الثقة.”
إن ظهور هذا الحدث يحدث بسبب تجاوز العلم لنفسه، أي قطع شوط في صيرورة تجاوزه لنفسه هذه. وما يحدث ويتم العثور عليه في مرحلة ما من هذا التجاوز هو الإله ميتا، أو أنه من غير الممكن أن يوثق فيه؛ لأنه يفقد دلالته بالنظر لعلم تجاوز نفسه. وعليه، فإن الموت يعني عدم قابلية شيء لمعادة استعماله، لا لأنه تعطل بحد ذاته، وإنما لأن طبيعة العلم قد صارت مرحة. فقد الإله أو المطلق (واللذان هما شكلان من أشكال المرجعية) السياق الذي يمكن أن يكون فيه فعالا أو حيا ليملك أي شكل من أشكال الدلالة. وها هنا نكشف أمرا، ويبقى من الضروري اعتباره حول العدمية إلى حد الآن، وهو أن الإله أو المطلق الذي تم التعبير عنه لم يكن إلها أو مطلقا قط؛ لأن كلا منهما من حيث التعريف يستوجبان أن يحددا الموجود على اختلافه وكثرته على جهة الشمول. إلا أنهما من خلال تجاوز العلم لذاته وتحوله لشيء مرح، يصبح الإله أو المطلق معلولا لا علة، ومخلوقا لا خالقا، ويحاط به ولا يحيط. إن ما تعنيه العدمية في هذا المستوى هو أن الألوهة والمطلق قد فقدا صفة الملكوتية. وما يدل عليه هذا الفقد لصفة الملكوتية أمر هام على بساطته، وهو أن الأشياء التي قيل عنها هذا الوصف (الإله أو المطلق) ليس أي منهما هو نفسه في حين أن عليهما من حيث التعريف ألا يفقدا صفة الملكوتية، وإن اتخذ العلم منحنى مرحا مجازفا.
إن العلم المرح، كما يقول نيتشه في مقدمته، هو حدسات مستقبلية (1)، ونستنتج من هذا أنه يمد بمعطيات تهيئ لما سيصبح ولو بعد حين حاضرا يشكل صميم ما هو معاصر؛ لأن هذه الحدسات هي ذات طبيعة قدرية وحتمية. وهذا المعنى يظهر حتى في تعبيره المجازي بأن حدث موت الإله “يبسط ظله”، بمعنى أنه آثر شيء آت بحضور تام لا محالة. وبهذا يكون العلم المرح دعوة للانتباه لما نملك وما هو نحن، وإعادة النظر فيه (أي الميتافيزيقا) من خلال ما ليس نحن (أي العدمية). يجب تبرئة نيتشه إذا من كل الدعاوى ضده بصفته ملحدا وما شابه ذلك؛ بل إن كان الإله المعبر عنه إلى حد الآن ليس إلهيا في شيء، فإن ما على الإيمان التوحيدي اعتباره هو أن فعل العبادة أو عملية التعبد هي لشيء دون الإله الحقيقي في الرتبة؛ لأن هذا الإله كف عن أن يكون فعالا وحيا في قطاع (وهو العلم المرح) يفترض به أن يكون خالقه. وأن المطلق قد عجز عن احتواء عصر من العصور رغم أنه ما يحتوي كل عصر من العصور. والأمر حتى يرى بتمامه يمكن اللجوء إلى تعبير بمنظور هيجلي يحدد مجمل القول الفلسفي عن العدمية من خلال نيتشه كنتاج وعي بروح العصر. وبهذا فإن ما يتحدث إلينا ليس نيتشه، وإنما هو عصرنا وقد نطق لنا وخاطبنا من خلاله. وإن من يعلن عن شيء ليس له بالضرورة يد في حدوث ما يعلن عنه، بل الحدوث راجع لمن قالوا عن الإله في أي وقت من الأوقات أنه حي.
في مفهوم “الرد” لكلية الموجود ، جدل الميتافيزيقا والجينيالوجيا وتداعياته :
عندما نعرف مفهوم الرد، نعني فعل إرجاع كلية الموجود ذات الأجزاء الكثيرة المختلفة (والعطف نسقطه عمدا؛ لأنه إن وجدت الكثرة وجد الاختلاف) إلى مبدأ أو عدد من المبادئ. وهذا الفعل الإبستيمولوجي هو أول إمكان ممكن للظفر بمسار يفضي إلى تعيينات أنطولوجية موازية في كليتها لكلية الموجود، مهما اختلفت أبعاضه. والأمر موجزه أن الرد والإرجاع للكثرة المختلفة يضع الذات في موضع استعداد لتلقي الحقيقة، وفي صورة مواجهة معها.
أما الرد في الميتافيزيقا، فقد اتخذ هيئة المبدأ (أرخي/arche)، وهو بدوره قد تحول من كونه الأول زمنيا (الذي كان حاضرا ثم غاب، وهو يحوي إمكان خروج الكثرة والاختلاف منه) إلى الأول منطقيا، فصار يتمتع بقدر من الثبات أو من دوام الحضور. وبذلك صار العلم بالمبدأ علما باليقين؛ إذ اليقين يشترط من الثبات درجة من الدرجات حتى يحصل. وعند أرسطو نجد إخبارا عن هذا التحول، والذي وجد من جهته في كتابه “الطبيعة”، قائلا: “لما كان حال العلم واليقين في جميع السبل التي لها إسطقسات أو مبادئ أو أسباب، إنما يكون من قبل المعرفة لهذه” (2).
ذات التصور عن الرد بما هو إمكان تحصيل الحقيقة نجده في اللاهوت التوحيدي، حيث الرجع أو أن يرد الإنسان المخلوق إلى ما ابتدأ من عنده خلقه (أي الخالق) عبر البعث أو المعاد أو مجيء الرب، مثلما نجد في اللاهوت المسيحي. يمثل هذا إمكانية تعيين لكلية الحقيقة (أي المخلوقات)، وإمكانية تعرف على الخالق وما استأثر به لنفسه حول حقيقة ما سواه (وهو المخلوقات) عبر مفهوم الغيب. والنص القرآني في سورة الجمعة في الآية رقم 8 يعبر تعبيرا كافيا لتعويض نصوص أخرى من التوراة أو الإنجيل، حيث يقول الله: “قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.”
أما الجينيالوجيا، فهي كذلك إمكان معرفة هذه الكلية، إلا أن طبيعة الرد الخاص بها له طبيعة معاكسة؛ أي أنها رد لتعيينات الميتافيزيقا الأنطولوجية لكلية الموجود، وتعيده إلى حالة ما قبل الرد. فهي تسلم بأن الموجود هو كما حددته الميتافيزيقا أو اللاهوت، إلا أنها تقوم برد المردود إليه (والذي عد إلها أو مطلقا أو لا متناهيا… إلخ) إلى ما غادره أولا، أي الصيرورة. لكن ليس على جهة المعاندة، وإنما لأنها قد كانت في البدء كافية بحد ذاتها لمنح إجابات حول كلية استشكالات تطرحها الذات الإنسانية. إن الجينيالوجيا بحصر المعنى وفي بعدها الأخص إذا هي أداة امتحان لما إذا كانت مفاهيم الفكر البشري لا يمكن أن تفسر إلا من خلال طرقه التي تم اعتمادها. وعنوان مؤلف آخر لنيتشه هو كفيل بأن يضع أمام أعيننا معناها وهو عنوان كتابه “إنسان مفرط في إنسانيته”. فتكون هي رد وإرجاع لما هو ليس بإنساني ومغاير له بالمطلق إليه، فيصير ما هو كاف لتفسير كلية الموجود هو الإنسان. وبذلك هي معرفة بالإنسان، ورده وإرجاعه إلى نفسه؛ إذ أنه هو الموجود و الحاضر حقيقة، داخل كل دعوى ميتافيزيقية ولاهوتية.
يظهر لنا الآن من خلال الجينيالوجيا أول حصر وتحديد عكسي في النظر إلى العدمية، نتيجة انسحاب كيفية الرد الخاصة بالميتافيزيقا. فتكون العدمية معبرا عنها من خلال الجينيالوجيا بذات دلالة في علاقتها بها بصفتهما ابتداعا لا حاجة ضرورية له. وذلك يكتشف من خلال مجازفة تجاوز العلم لنفسه بأن يصير علما مرحا. ويقود هذا العلم المرح إلى الجينيالوجيا، التي بدورها تكشف أن من يطلع بالميتافيزيقا متأملا حل إشكالية الوجود من خلالها كان يكفيه فحسب النظر في نفسه لحل الإشكال، وقد توهمت نفسه أن الحل خارجها.
رغم ما تقوم به الجينيالوجيا من رد القول الميتافيزيقي (الإله أو المطلق) إلى الإنسان كقول تولد من رحم سير هذا الأخير داخل التاريخ (الصيرورة)، إلا أن ذلك لا يمس اللاهوت التوحيدي بالذات إلا بقدر ما يلتبس مع القول الميتافيزيقي. وذلك يستبين من خلال توصيف نيتشه للمسيحية باعتبارها أفلاطونية الشعب. و هذا التوصيف يجعل من القول الميتافيزيقي (والذي تنتمي إليه الأفلاطونية أساسا) أساسا للمسيحية، تستمد منه حقيقتها، في حين يجب على حقيقة المسيحية كخطاب إلهي أن تستمد حقيقتها من نفسها. وبذلك يتضح من خلال الجينيالوجيا كأول علامات انسحاب الميتافيزيقا، وفي ذات الحين أول علامات بزوع العدمية، أن اللاهوت ملتبس بغيره، وأنه ليس ذاته. فيصير نفي اللاهوت بالنظر إلى الجينيالوجيا تنقية له من الميتافيزيقا أو الوثنية. وهكذا فإن الجينيالوجيا حين تحدث ردا معاكسا للرد الميتافيزيقي، فإنها تشكل إمكانية صريحة للاهوت لأن يتعرف على نفسه بعيدا عن مقولاتها، بصفته خطابا موجها من الله إلى الإنسان بوساطة الرسل .
–الماهية / الإنية / الحقيقة بصفتها تشميلا وتضمينا :
تشكل قضية الماهية بداية تشكل مبحث الميتافيزيقا. رأينا في هذا المبحث أن إقراراته والمطلق الذي يعينه (كالإله أو أي مرجعية) يؤول إلى الموت ويكف عن الفعالية عند تجاوز العلم نفسه في صيرورة يتخذ فيها طابعا مرحا. تمثل الأفلاطونية أوج السؤال عن الماهية، وهو السؤال الذي رفعته الميتافيزيقا إلى درجة الضرورة في أي فعل إبستيمولوجي تجاه الموجود. بالنظر إلى العلاقة العكسية بين العدمية والميتافيزيقا، حيث تظهر الأولى بقدر انسحاب الثانية، يبرز التناقض المنطقي الأول بين الجينيالوجيا (كمرحلة ظهور العدمية) وسؤال الماهية (كمرحلة انسحاب الميتافيزيقا). يشكل استبدال السؤال الميتافيزيقي بالعمل الجينيالوجي صيرورة لنفي الميتافيزيقا حتى تختفي، لتصير امتدادا داخلها يحولها إلى شيء إنساني مفرط في إنسانيته.
يمكن تعريف الماهية ومرادفاتها (كالإنية والحقيقة) بوظيفة “المثال” (إيدوس/eidos) السابقة لنظرية المثل الأفلاطونية(3). تشير هذه الوظيفة إلى قيام الفكر بضم حالات متنوعة داخل وحدة شاملة، حيث يصير المثال مرجعا قادرا على استيعاب الكثرة والاختلاف. تظهر هذه الوظيفة الإيدوسية (وظيفة التوحيد) في الطبيعة المفتوحة لمحاورات أفلاطون، خاصة في احتجاجات سقراط على تعاريف محاوريه الناقصة، ما ينبئ بحركية لا تنقطع لهذه الوظيفة. يضاف إلى ذلك إعادة موقعة سقراط من قبل أفلاطون لتعريفات المحاورين، سعيا لوحدة أشمل. السبب واحد: غاية هذه الوظيفة هي الماهية نفسها، التي تظل هدفا غير متحقق، مما يثبت أن نظرية المثل مجرد تصور للحقيقة لو بلغت الحركة الإيدوسية غايتها.
وبهذا الغياب للأفلاطونية كشيء محدد، تصير الجينيالوجيا امتدادا للميتافيزيقا، فتعيد ضمها وتشميلها عبر الإنسان المفرط في إنسانيته. هكذا تشارك العدمية الميتافيزيقا في الوظيفة الإيدوسية، لكنها تتراجع عن هدفها (بلوغ المثال) لتردها نحو الإنساني. بهذا المعنى هي سقراط في صيرورة انسحاب من ذاته، أو الأفلاطونية وهي تناهض نفسها عبر نيتشه. هذا ما يفسر وصف نيتشه للعلم المرح بأنه نتاج وضع فاقد للأمل (1) ، فموت الغاية يفتح الباب للتجاوز المستمر، أي المرح.
-المفارقة كوضع أنطولوجي للميتافيزيقا، والوحدة كوضع أنطولوجي للعدمية :
في المقدمة الثانية لـ”نقد العقل المحض” لكانط، نجد تقريرا عن حالة الميتافيزيقا يخدمنا للتعرف على العدمية بما هي الغريب المطلق عنها. وفي هذا التقرير حالتان للميتافيزيقا، وحالة ثالثة هي بمثابة وضع الميتافيزيقيين في وقته، وهي على التوالي(4) :
أن الميتافيزيقا تتوقف عن السير نحو غايتها (الماهية والمطلق وما ينتمي له كالإله).
أنها تتعثر خلال سيرها.
أن المتعاونين لتحقيق الغاية يعانون من عدم اتفاق حول مبادئ بشأنها، حتى يمكن عدها علما (وبذلك يسير على ذات خطى أرسطو حين يقرن بين المبدأ والثبات، وأن المعرفة تصير علما إذا كانت معرفة بما هو ثابت).
نستفيد من هذه الحالات أن القول الميتافيزيقي معقد وكثير ومبهم، وبهذا فهو قول يقف كنقيض لمبدأ أو نصل أوكام. فتصبح الكانطية حتى إن كانت تنتمي إلى الميتافيزيقا إلا أنها خطوة في تفكيكها وتبسيطها وتوضيحها، وبذلك تكون إعمالا غير تام للنصل الأوكامي عليها من خلال تحديد مجالها، والذي هو العثور المتجدد والتحسين للمبادئ الترنسدنتالية التي تخدم في معرفة موضوعات التجربة المحسوسة. والاستشهاد بكانط له غرض مقصود ينبغي توضيحه؛ فهو ميتافيزيقي بإقراره، لأنه حور الميتافيزيقا لتصير اختصاصا بالبعد النظري الذي يمثل سند المعرفة التجريبية. وأما بالنظر لنيتشه، فلأنه حافظ على أصل ميتافيزيقي، وهو التسليم بمسألة المبدأ الثابت، ومن ثم يمكن أن توجد يقينيات ومطلقات، وهي ما يتضح أنها ليست كذلك إن صار العلم مرحا. إن ما يهم إلقاء الضوء عليه هنا بالنظر إلى كانط هو أن العدمية كظهور عكسي لانسحاب الميتافيزيقا قد بدأ من خلال الميتافيزيقيين أنفسهم إثر إجرائه غير التام للنصل الأوكامي عليها. وبهذا فهي لا تنتمي لنيتشه إلا بقدر ما يكون ممثلا لإجراء تام لهذا النصل. وهذه المفارقة في كون الميتافيزيقيين هم عدميون (أي يمثلون بحد ذاتهم انسحابها) هي أبسط المفارقات التي تنكشف إذا اتخذنا مجازفة بجعل العلم مرحا.
أما أكبر المفارقات التي تمثل المفارقة كوضع أنطولوجي للميتافيزيقا، فهي تظهر من خلال الجينيالوجيا؛ لأن كلية الموجود التي تقوم بردها هي على وجه الحقيقة كلية الموجود الذي تم تعيينه ميتافيزيقيا؛ لأنه لم يكن حيا أو فعالا في البدء إلا ادعاء. وحين يمتحن من خلال العلم المرح، تظهر هذه الحقيقة. وهكذا تصير الجينيالوجيا رد المفارقة إلى وحدة، ورد سؤال الماهية الذي يستخدم كلمة “ما” إلى سؤال الجينيالوجيا بـ”من”، فيرد كل شيء إلى الإنسان النسبي كأصل لكل قول غير إنساني مطلق، باعتبار أن النسبي قد كان كافيا بذاته للمعرفة. ما يعنيه ذلك أن الجينيالوجيا كأول مرحلة منطقية للعدمية تقوم بأمرين حيال الميتافيزيقا:
حمل الميتافيزيقا على الاعتراف بحقيقتها والتوحد معها.
أنها أجدر بأن تكون الممثل الرئيس للوظيفة الإيدوسية التي تقوم بعملية الضم والتشميل للموجود من خلال رد ما يتعالى على الإنسان إلى نمط من أنماط إرادة الاقتدار.
يغدو الآن من اليسير لنا الاستنتاج أن الوحدة هي الوضع الأنطولوجي للجينيالوجيا؛ لأنه إذا كانت الميتافيزيقا تقول عن الشيء الغير فعال والميت أنه فعال وحي، فإن الجينيالوجيا تقول عن الغير فعال غير فعال، وعن الميت ميتا. وتصير مبدأ الهوية المميز للميتافيزيقا وقد طبق عليها.
الصنم/الوثن :
“واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (40) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك من الله شيئا (41)” – سورة مريم.
ينتمي مفهوم الصنم لزمرة الإيمان، وهو يمثل إلها أو مقدسا غير جدير بما يوصف، ومع ذلك فهو يؤله ويقدس، مع أنه لا يقدم للمتعبد شيئا. وكتريف: هو الشيء الذي يوجد في موضع لا يكون فيه قادرا على تقديم ما يطلب منه. وفي إعلان نيتشه عن موت الإله، نجد سبب تسميته بالصنم؛ فهو قد فقدت الثقة فيه، ولم يعد جراء تجاوز العلم لنفسه من خلال تحوله لشيء مرح أن يكون ذا نفع. ولهذه التسمية خمس دلالات:
أن الإله (والذي هو المطلق والذي يدوم) هو نسبي مؤقت.
إذا كان الإله أو المطلق نسبيا، فهو قيد منطقي؛ لأنه كما اتضح فهو مخصص لحالة معينة للعلم.
أن الإله ينتمي للمنطق.
وبحكم أن الإله يمثل وحدة وينتمي للمنطق، فإن وحدته لن تكون إلا وحدة مبادئ المنطق (مبدأ الهوية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع).
ليس ثم إلهية في الإله الميتافيزيقي، وإنما أن المنطق هو ما تسميه الميتافيزيقا إلها.
إن موت الإله هو موت المنطق.
لا يعني موت المنطق على وجه الخصوص المنطق الأرسطي؛ فللمنطق معنى ودلالة عامة تقع في حقيقة الوجود. فهو يمثل الشيء الذي عبره يتناول الوجود لينطق أو يقبل أن يكون مقولا فينشر؛ نعني أنه إمكانية لاتخاذ الوجود طابعا لغويا موحدا. فالصنم بما هو موضوع يتوجه إليه بأفعال تعبدية إيمانية، يوحد المتعبدين له تحت إملاءاته ليخطو تجاه العالم وفقا لها، و موته يعني أن يفرغ العالم مما تم وضعه فيه تعبدا له.
–العدمية/القلب:
لا ريب عند هذه النقطة أن العدمية تقر بأشياء، لكنها لا تثبتها إلا بقدر أن انسحاب الميتافيزيقا يعني انقلابا على ذات الشيء. فمن خلال الانسحاب نفسه يجري إثبات ما تم نفيه تجاهلا أو إغفالا أو نسيانا أو عمدا في البداية، ولحظة الظهور الأول لسؤال الماهية؛ كتنكر اللا إنساني للإنساني، في حين أن الثاني حاضر في كل ادعاء يقره الأول. إن ما سيتبقى إثر البزوع الشامل للعدمية هو ما ينبغي الإبقاء عليه والنظر إليه.
–عودة اللاهوت التوحيدي :
إن سر هذه العودة للاهوت التوحيدي يكمن في أنه بعد إكتمال إنسحاب الميتافيزيقا عبر العدمية لن يعود ثم من درب لمقاربة الألوهة إلا عبر النصوص لا يعني ذلك أنها لم تكن ذات يوم سبيلا لذلك و إنما أنها كانت تقارب من خلال وسيط ( الميتافيزيقا ) و معلوم على نحو كاف لدى معشر الفلاسفة أن محاولات التوفيق بين الميتافيزيقا واللاهوت لا تفتؤ عن التوقف عصرا من العصور. وإن عدم وجود عصر واحد يستثنى من هذه المحاولات التوفيقية يعني بالنظر للعدمية أن اللاهوت ملتبس بصنم، مما يعني أن الألوهة الخاصة به حتما ستكون مبتسرة؛ لأن الميتافيزيقا كموقف من كلية الموجود ستطغى تعييناتها وتحظى بأولوية ساحقة على تلك الخاصة به. وستكون العدمية بمثابة انسحاب لهذا الطغيان. وهكذا تكون عودته تلقائية؛ لأنه بقدر ما تبزغ العدمية، يتخلص اللاهوت مما وضع فيه من الميتافيزيقا، فيكون قادرا على أن يكون نفسه دون استدخال شيء دخيل عليه، كخطاب موجه بوساطة الرسل إلى الناس مباشرة، ولا يتوسط شيئا ليفهم سوى سياقهم الذي هم فيه.
يفتتح كانط توطئة دروسه “الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براجماتية” بالقول أن كل ترقية من ترقيات الحضارة يبقى غرضها الأساس هو تهذيب الإنسان؛ فهو القصد من وراء كل ترقية(5). يتطابق هذا التصريح مع تصريح سابق لأرسطو بأن الفلسفة أو الميتافيزيقا إنما تحتاج أولا لسياق حضاري لتظهر؛ لأنه يوفر للإنسان فراغا كافيا ليتفرغ للبحث والانشغال بهذا الشكل من المعرفة. وإن كون وجود الميتافيزيقا مشروطا بالحضارة يعني أن مقولاتها المطلقة كانت دون دور واضح في وجود ما له الفضل وتدين له في حضورها؛ فلا يستقيم أن ينتج شيء مشروط بالتاريخ المطلق، إذ يفترض هذا الأخير أن يضم ما له طابع التاريخي والمحكوم بسياق الزمكان. فالانتباهة للإله الميتافيزيقي إن وجدت فهي توجد في حالة من الراحة واستتاب الأمن.
على النقيض التام من ذلك تكون الانتباهة للإله اللاهوتي التوحيدي والإبراهيمي على وجه خاص، حيث يعلن الإله عن نفسه للنبي يعقوب عليه السلام وهو فاقد لسبل الراحة ومقومات الترقي، وأقرب إلى الانهيار منه إلى الترقي وإنماء الوجود. حيث يرد في سفر التكوين (28: 10-11): “فخرج يعقوب من بئر سبع وذهب نحو حاران. وصادف مكانا وبات هناك لأن الشمس كانت قد غربت، فأخذ من حجارة المكان ووضعها تحت رأسه، فاضطجع في ذلك المكان.” إنها وضعية النفس المضطرة والتائهة، ولا تفقه دربا لحل إشكالها؛ لأنه يتعلق بالأمن. والدليل على ذلك هو أن لحظة ظهور الإله وإعلانه عن نفسه كانت لحظة حضور الأمن كذلك، كما يرد في سفر التكوين (28: 10-19): “أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك… ها أنا معك وأحفظك حيثما تذهب وأردك إلى هذه الأرض.” أما في القرآن، فإن الإشارة صريحة للعلاقة بين وضعية الاضطرار وحضور الإله في الآية 62 من سورة النمل: “أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء في الأرض.” إن الرد إلى الأرض أو الاستخلاف فيها هو بعث عملية انتماء لما لا يأمن الإنسان فيه دون الإله؛ لأنه بما أنه ذو الملكوت، فإن تأمينه للإنسان يعني تأمينه من كل ما ينتمي لملكوته.
–خاتمة ( حول دلالة العدمية على مفهوم الإنسان ) :
يجدر التنويه هاهنا أخيرا بأن الميتافيزيقا، حتى تقيم مقولاتها، فإنها تقوم بعملية تشكيل لنقطة الانطلاق، أعني الإنسان، وتعينه تعيينات تناسب أهدافها. وعلى ذلك، فإن العدمية تتضمن موت الإنسان والتعيينات التي سبق وأن تجلى فيها وجوده. وإن كان للاهوت التوحيدي تعييناته حوله، فإننا بفضل العدمية أمام بداية انبعاث لإنسان تم إخفاؤه. وهذا الإنسان هو ذات مضطرة في كل أحوالها؛ لأنها في عراء في كل أحوالها. وعلى ذلك تصير في حالة من الابتهال والنداء من عمق وضعها، كما سلف للقديس أوغسطينوس أن قال متسائلا: “لكن كيف سأبتهل إلى إلهي ومولاي؟ بما أن الابتهال إليه هو أن أدعوه في قرارة ذاتي؟”(6).
__________________________________________________
المراجع :
نيتشه، ف. (1993). العلم المرح (م. الناجي، مترجم). دار أفريقيا الشرق. (النص الأصلي نشر في 1882).
ص181 (الشذرة 305)، ص204 (الشذرة 343)، ص43 (المقدمة).
أرسطو. (بدون تاريخ). الطبيعة (إ. بن حنين، مترجم). المركز القومي للترجمة.
ص1.
ريكور، ب. (بدون تاريخ). الوجود والماهية والجوهر عند أفلاطون وأرسطو. المركز الوطني التونسي للترجمة.
ص15.
كانط، إ. (2013). نقد العقل المحض (غ. هنا، مترجم). المنظمة العربية للترجمة. (النص الأصلي نشر في 1781).
ص29.
كانط، إ. (2021). الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية (ف. انقزو، مترجم). دار صوفيا. (النص الأصلي نشر في 1798).
ص45.
القديس أوغسطينوس. (2015). الاعترافات (إ. الغربي، مترجم). دار التنوير. (النص الأصلي نشر في 397-398 م).
ص16.