مجلة حكمة
في مديح الهجاء - تشارلز سيميك

في مديح الهجاء – تشارلز سيميك

نشر بمجلة عيون الثقافية الصادرة عن دار الجمل العدد الثاني للعام 1996م.

  • تشارلز سيميك Charles Simic شاعر و مترجم و كاتب أمريكي من أصل صربي ولد في العام 1938م.

مامن شرطي عصري للفكر إلا ويكرر القول بأن ماهو خاص سياسي و بأن الأنا المستقلة لا وجود لها ، و حتى إذا ما وجدت فإنها لن تكون في صالح المجموع . و في كل مكان يعد عدواً ، بهدف إرضاء آخر نظرية حول إصلاح البشرية ، كُل من لا يُوافق  علة أن أناهُ محكومةٌ اجتماعياً و أنه يمكن التحكم بها . في أكاديمية الأكاذيب ، حيث تُخلط الحماسة الجديدة بالكراهية ، و حيث الأطفال و المجانين و حدهم يقولون الحقيقة ، يقف الفرد المُصر على فردانيته في الركن و وجهه إلى الجدار ، على حد تعبير غوبلز .

الأرثودوكسية ، التفكير الجمعي ، و الفضيلة وفق التعليمات هي مُثل كُل دين و مشروع اجتماعي طوباوي . المشكلة الوحيدة التي يواجهها مفكرو مثل هذه الأنظمة هي السؤال ، كيف يمكن إضفاء الإثارة على المسايرة . إن الآيدولوجيات من القومانية وحتى العنصرية لا علاقة لها في الواقع بالإفكار : إنها مخابئ لكهنةِ الإنبعاث الذين يوفرون الفرصة أمام العادلين ، حتى يتمتعوا هم أنفسهم بالشعور بالتفوق ” سوف نظل محافظين على السعادة الأبدية و الوئام إذا ما ضحينا بالفرد ” ، و هذا هو مايلقى من جديد في كل إجتماع للصالحين .

لقد علمتني الخبرة التاريخية أن أكون حذراً تجاه كل إعلانٍ جماعي . حتى نقاد الأدب أنفسهم يثيرون شكي عندما يعممون . بالطبع هناك شعراء و رسامون شبان يلتقون و يؤثرون في بعضهم و ينتمون إلى نفس روح العصر ، و مع ذلك هل ثمة أدبٌ يملكُ قيمةً ما كتب من قبل مجموعة ؟ هل ثمة فنانٌ حقيقي ما في أي وقت إعتبر نفسه مجرد جزء في حركة ؟ هل ثمة فنانٌ حقيقي ما في أي وقتٍ اعتبر نفسه مجرد جزءٍ في حركة ؟ هل ثمة أحدُ ما بجد هو ما بعد حداثي ، مهما كان مدلول هذه الكلمة ؟ إنني أضيق بالأنظمة . وعيي الجمالي يقول لي : هذه الشاعرة أصيلة لأنه لا يمكن وضع أي ماركةٍ عليها . إن الفرادة لا تقبل الإنتقاص لكل حياة هي أن تمجد و يدافع عنها . و إذا ما اضطر المرء أحياناً للعودة إلى مفردات الشتيمة لصد طويلي اللسان ، فليكن ذلك .

إن البهجة الأولى التي لا تنسى ، تلك التي زودتني بها اللغة كانت في إكتشافي ” الكلمات البذيئة ” . لابد أنني كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري عندما سمعت ذات مرةٍ إحدى  هذه الكلمات . عندما أعدتها و لفظتها بصوتٍ عالٍ لأثير إعجاب الجميع صفعتني أمي و قالت لي ألا ألفظ تلك الكلمة ثانيةً . حسناً ، فكرت إذن توجد كلمات ثمينة لا ينبغي على المرء أن يلفظها بصوت عال! إن هذا ليس صحيحاً تماما. فقد كانت لي عمة عجوز، اعتادت أن تتكلم بهذه الطريقة ، حالما تفتح فمها. و كانت أمي ترجوها عندما تأتي لزيارتنا ألا تتكلم هكذا بحضور الأطفال ، و هو رجاء ما كانت تلتزم به . إن امتلاك مثل هذه الشخصية و هذه السلاطة في اللسان في بلدٍ شيوعي كان عبئاً جدياً . كانت أمي تقول : ” سوف ندخل جميعاً السجن بسببكم ” . ثمة لحظات في الحياة تصرخ طلباً للشتيمة الحقيقية ، حيث يفرض الشعور العميق بالعدالة الضرورة المطلقة لكي نشنع بأفظ لغةٍ ممكنة ، أن نهزأ ، أن نصب الشتائم ، أن ننثرها و أن نغلظ القول . كتب روبرت برتون قبل زمنٍ طويل في ” تشريح الكآبة ” : “لا أريد أن يمنعني أحدٌ من ارتكاب هذا الخطأ .” إنني أوافقه الرأي . فإذا كان ثمة ما أُريد توسيعه و إيصاله إلى الكمال فهو ذخيرتي من اللعنات .

لقد تعلمت التالي من تاريخ القرن العشرين : الأفكار الغبية وحدها يمكن أن يعاد إستخدامها. إن حلم بعض المصلحين الإجتماعيين هو أن يكون رأساً لتنفيذ عقوبة سجن تنويرية و مقومة للأرواح . ما من امرئٍ مغتر بنفسه ، لا طعم له ، شرس الخُلق و فاشلٌ جنسياً إلا ويحلم بتصعيد عجزه الجنسي إلى قانون . بذلات ماو : إن ملياراً من البشر يرتدون الملابس ذاتها و يزعقون بشيء ما من كتابه الأحمر يشكلون الآن أيضاً الأمل السري للرؤيويين الجدد .

مايكاد المرء يدرك أن الكثير مما يراه و يسمعه يخدمُ فكرةً واحدةً هي جعل الخديعة تبدو جديرةً بالإحترام ، حتى تتعرضه المصاعب . فقد إنتبهت عمتي العجوز مثلاً قبل المثقفين الباريسيين بزمنٍ طويل إلى أن الإتحاد السوفيتي و مايسمى بالديموقراطيات الشعبية هي من الرأس حتى أخمص القدمين كلام فارغٌ و أكاذيب . كانت واحدةً من النساء اللواتي يرين فوراً ماوراء الواجهة . و في كل الأحوال فإنها ما كانت لتملك فكرةً ساميةً عن البشرية . لم يكن ذلك لكونها شكاءةً ، أو موهومةً بأحكام مسبقة عن حفرةِ الأفعى . بالعكس تماماً . كانت تأكل و تشرب و تضحك من كل قلبها و تخون زوجها العجوز أحياناً من وراء ظهره ، خطفاً فوق التبن .

بيد أنها كانت تمتلك رأساً واضحاً لا بلبلة فيه بصورة غير عادية . كانت تقول لأيٍ كان إن نظامنا الثوري الذي يرى في اللسان السليط و انعدام الأفكار جرائم سياسية و يعتبر اؤلئك التعساء الذين قد يقبض عليهم متلبسين بها عناصر مريضة ، ليسو سوى كومةً هائلةً من القاذورات بما في ذلك المارشال تيتو شخصياً . كان مبعث انفجاراتها هو ما تعتبره بلاعةً عند الناس الآخرين . و في رأيها أنها كانت محاطةً بالجبناء و ضعيفي العقل. الجرائد و المذياع كانت تُثير عندها نوبةً من الجنون اللفظي ، فتصرخ بأمي و جدتي ” ألا تتقيآن عندما تسمعانهم يتحدثون هكذا ؟ “

و لم يكن ليرضيها حتى إذا وافقتاها الرأي و همستا آمنتين اليها بنعم، إن هؤلاء الشيوعيين ليسوا سوى حفنةً من الفلاحين القتلة الأميين المغفلين و أعواناً ستالينيين وما هو أكثر من ذلك . فقد كان ثمة ما يثير قلقها بلا حدود عند البشر كنوع . كلا، إنهم لم يكونو فيما مضى غير ذلك . إن جنون الضعة و الغباوة كان موجوداً دائماً. كانت تعقد يديها بسبب الحيرة المرة تلو الأخرى فوق رأسها ، عاجزةً عن فهم الأمر . كانت ذلك بالنسبة لها ، مثل مرض حساسية غير قابل للشفاء ضد كل ماهو مخطئ و قذر . لكن ذلك لم ينقص من قدرتها على الابتهاج بالحياة ، إذ كانت تملك طريقتها في طرد الأرواح الشريرة، الأمر الذي يتطلب منها العمل طوال اليوم . كان صب اللعنات عليها يوفر لها ، كما أعتقد ، بدون أن تعرف هي ذلك ، ولي أيضاً ، أنا الذي كنت أتنصتُ من وراء الباب المغلق و أبتسمُ بلا حياء ، متعةً ملكية .

في كتاب بعنوان ” تناقضات النوع ” تزودنا جوديت لوربير بصياغة نسوية لهذه الغباوة اللانهائية : ” في عالم تسودة المساواة الشديدة يتوجب تأهيل و تدريب نفس العدد من البنات و الصبيان للعلوم الإنسانية و الطبيعية ، للعمل الفكري و اليدوي في كل المهن . و من بين الذين يحصلون على نفس الشهادات ينبغي تعيين النساء و الرجال بالتناوب لنفس العمل ، أو أن يقتصر فقط على تعيين الرجال وحدهم لأعمال النساء و النساء وحدهم لأعمال الرجال ، حتى يتم إشغال نصف أماكن العمل بالرجال و النصف الآخر بالنساء. “

إن هذا يبدو جميلاً جداً , ولكن كيف سيكون الأمر مع رجال الشرطة و حراس السجون و المخبرين الذين يحتاجهم المرء لتنفيذ كل ذلك ؟ هل سينظمون في وحدات على أساس المساواة الصارمة بين الجنسين ؟ نأمل ذلك . و لكن لا تنسوا ، أنه ما من حديثٍ هنا عن الفرد ، و هو أمر يتميز به جميع أدعياء القداسة الورعين و أنبياء السعادة الشاملة. كيف يمكن أن نحمي أنفسنا من هذه الوحوش التي قسم أفراد المجتمع إلى نافعين و غير نافعين ؟ المواطن المثالي في نظر هؤلاء هو العبد المتطوع. إنهم يريدون لأمريكا أن تكون مدرسةً للفضيلة ، حيث ينبغي التحري بكل دقة عن الدلالة السياسية لغروب الشمس في قصيدةٍ ما .

كنت أعرف صبياً في الثالثة عشرة من عمره ، يكتب رسالةً يهاجم فيها الرئيس جونسون بسبب حرب فيتنام. و يا لها من رسالة! إن رئيسنا أبله و قاتل و إنه هو نفسه يستحق أن يُرمى بقنابل النابالم و بما هو أسوأ من ذلك . ذات مساء، إذ كان الصبي جالساً إلى مائدة الطعام في المطبخ مع أمه و أخته التي روت لي الحكاية ، يتناولون حسائهم ، انفتح الباب و النوافذ المؤدية إلى سلم الحريق دفعةً واحدة و أحاط بهم رجالٌ يشهرون مسدساتهم بالمائدة. أعلنوا أنهم من مكتب التحقيقات الفيدرالي ( FBI  ) و أرادوا أن يعرفوا من يكون أنتوني بالميرو . أشارت كلتا المرأتين إلى الصبي الذي كان يرتدي نظارةً طبية و يمتلك نظرةً فضية . لقد كلفهما الأمر الكثير من العناء لإقناع الرجال بأنه هو كاتب الرسالة. حيث كانوا يتوقعون قاتلاً شيوعياً ضخم الجثة بشعر طويل و ذخيرة من الأسلحةِ و القنابل .

ذات يوم سمعت إمرأةً مسنة في مكتب المساعدة الإجتماعية تصرخ : ” ماذا تريدون مني؟ دمي؟ ” ظلت تصب لعناتها على الناس طيلة خمس دقائق أخرى، ليس لأنها كانت تتوقع الحصول على ما يمكن أن يزيل عنها الحيف الذي لحق بها ، و إنما لتشعر فقط للحظة قصيرة بأنها معافاةٌ و نقية .

 

 

ترجمة :فاضل العزاوي

تحرير: حاتم الشعبي