يعدّ المنهج النفستاريخي حقلاً جديدًا نسبيًا، ومتعدد الاختصاصات كما يشير له المصطلح، والذي نشأ في تعقيد منهجي وقبول شعبي أواخر عام ١٩٥٠. كانت تلك فترة تأسيسه ووضع أنظمته داخل الدوائر الأكاديمية الرسمية في الولايات المتحدة. ولإعطائه تعريفًا جوهريًا نقول: إنه تطبيقٌ نفسي بمعناه الواسع، أو تحليلٌ نفسي بمعناه المحدد، لدراسة الماضي والتاريخ. وتوضح لنا إسهامات المؤرخين بأن أخذهم لعلم النفس على محمل الجدية، هو عامل مساعد على بناء موقف أكثر شمولية تجاه الظواهر التاريخية، الأحداث، التسلسلات الزمنية، وتفكيك شبكة الدوافع البشرية المعقدة، وقيم وسلوكيات ومعتقدات المجتمع، إضافة للهوية الاجتماعية والصور النمطية. وبالمثل نقول: إن إسهامات علماء النفس توضح لنا كيف أن التاريخ وسياقه عندما يؤخذ بجدية بإمكانه أن يساعد على تجنب النزعة نحو التعميم غير المبرر. ويبني موقفا يعكس إمكانية تاريخية للمفردات والظواهر النفسية مثل القيم والسلوكيات والعقليات الجمعية. وهنا نصل إلى إن الفائدة والأمل من تطبيق التحليل النفسي على دراسة التاريخ هو زيادة فهمنا لديناميكيات الماضي، وإضافة أبعاد جديدة لوجهات نظرنا حول الأحداث التاريخية.
إن محاولة المنهج النفستاريخي لفهم الماضي باستخدام “علم النفس” هي محاولة قديمة، إلا أن هذه الطريقة وُظّفت من قبل المؤرخين بناء على أحكام شخصية تُعرف بـ ” الفطرة السليمة”. فاعتمد المؤرخين بشكل تقليدي على حدسهم في فهم وتفسير أحداث وسلوكيات الأفراد أو الجماعات، وفق ما يعتقدون أنه موضوعي، ومثبت، وموثق بصورة بيانية. واُعتبرت العوامل المسببة إما سياسية، عسكرية، اجتماعية، أو اقتصادية. وقد قُسّم هذا المنهج إلى قسمين، الأول وهو ما يبحث في تاريخ الأفراد، والثاني ما يختص بالجماعات. كان إريك إريكسون ملهما للنوع الأول بدراسته لـ “تاريخ حياة” شخصية عظيمة. أما القسم الثاني، فليس له مسمى معين حتى الآن، لأننا لا نملك أن نوازي بين ما نسميه سيكولوجية، وتاريخ جماعة معينة.
لقد أحدث المنهج النفستاريخي كما سنرى ثورة في دراسة التاريخ، ولهذا كان مثار جدل، واستمر بتلقيّ المزيد من المعارضات. فالتوتر الضمني بين حقلي التاريخ وعلم النفس قائم على أن العلاقة بينهما ليست ببساطة واحدة من تلك العلاقات التي تعتمد على تعاون واهتمام مشترك، بل هي علاقة لها تاريخ من الشبهات وسوء الفهم ومراحل من الخصومة. فالتاريخ عند كثير من علماء النفس بمثابة تحقيق غير مكتمل لكونه “فوضى” لحياة وتاريخ غير مكتملين.
كما وصفها مايكل بيليج، قائلا:
يفتقر المؤرخون لسجلات مكتملة للماضي، فليس بإمكانهم إجراء تجارب لاختبار فرضيات معينة، فقد يدعي مؤرخ أن البروتستانتية كانت حيوية لبناء الرأسمالية في الفترة الحديثة. وقد تُجمع الأدلة وتبدو لنا قصة حقيقية، لكنها لن تثبت مثلما لو وقعت تحت معايير صارمة كتلك التي يطالب بها عالم تجريبي.
بالنسبة للمؤرخ النفسي “فسببية التاريخ عائدة كليا للسببية النفسية”. وبالنظر للمنحى النظري فالتاريخ هو ما قدمه الرجال، ولمعرفة لماذا قاموا هؤلاء بهذا العمل، يجب على أحد أن ينظر في دوافعهم لا أكثر ولا أقل”. والسؤال الذي يطرح هنا، هل معرفة التاريخ النفسي كما ورد تعريفه يدفعنا للكشف عن مواد تاريخية جديدة؟ أم أنه مجرد إعادة تفسير لما لوحظ سابقا؟ لنأخذ على سبيل المثال دراسة إريكسون، الذي لاحظ أن غاندي قد تطرق في سيرته الذاتية للإضراب عن العمل عام ١٩١٨ في أحمد أباد والذي كان متورطا فيه بالطبع، لكنه انتقل بسرعة إلى مواضيع أخرى، باعتقاد إريكسون أن ذلك الإضراب كان مظهرا حاسما لشخصية غاندي. إن مطاردته للتاريخ الهندي البريطاني قد أثلجت قلب كل مؤرخ، ففي نهاية الأمر يقول إريكسون: ” كان الجواسيس البريطانيون من أعز أصدقائي، فقد تحدثوا بكل إخلاص عما شاهدوه من وثائق قد كتب عليه (للحرق)”، لكنها نجت من هذا المصير بالطبع. ووجد إريكسون ما كان يبحث عنه من أرقام متداعية لوقائع بومباي عام ١٩١٨وبالعودة للوثائق، كانت هناك رسالة طويلة موقعة م.أ غاندي تعليقا على الإضراب، وكشف غاندي في هذه الرسالة ما كان يبحث عنه إريكسون.
قُدمت أسس المنهج النفستاريخي عبر لوفنبيرغ مختصرة بتقديمه وصفا لثلاثة ميزات رئيسية لهذا الحقل، يقول: لدراسة التاريخ سيكولوجيا فالنقطة الأولى هي إيجاد دور اللاوعي في سلوك الإنسان والذي يتضح عبر نمط حياته اليومي من “التكيف، الإبداع والإحلال، الشخصية، زلات الكلام، السمع والكتابة، الأخطاء، الحوادث، الأحلام، العصاب والذهان، ونشاط الفرد أو تثبيطه”. النقطة الثانية تعرف بالمنهج الجيني، والتي هي تاريخية بطبيعتها. يقول: ” هذه النقطة تؤكد على أهمية الجذور، والأسلاف، والأنماط المتكررة. وهي بذلك تهتم بالنمو الطولي والتكيف للفرد، متضمنة الوقائع والسلوكيات المتعلمة منذ الرضاع، الطفولة، المراهقة، وسن الرشد. فالمنهج النفستاريخي مرتبط بسيكولوجية ديناميكية يكون الواقع الحاضر متصلا ومرتبطا بالماضي الشخصي والاجتماعي للفرد في اللاوعي”. النقطة الثالثة هي إقرار تجارب الفرد الشخصية والموضوعية و ” إعطاء موضع تهمة للعدائية، الجنسية، العواطف، الخيال، والحالات العاطفية للعالم الداخلي وموضوعاته، ورفض أسطورة الجنس وبراءة الطفل والبالغ، رجلا كان أو امرأة. فالمنهج النفستاريخي يقرّ بأن تخيلات الموضوع بدلا من معناه الظاهري المنسوب، هي ما تشكل محددا ذو صلة بالمعنى العاطفي لحدث، رمز، أو صورة ما.
وقد توسع بيتر لوفنبيرغ في كتابه “لماذا يحتاج التحليل النفسي للمؤرخ وعالم الاجتماع Why Psychoanalysis needs the Social and the Historian” حول أهمية المؤرخ وأنه “أداة أولية في البحث” لإنه ” يستخدم نفسه كمفسر ومدرك للبيانات”.
إن إثبات أهمية التعاطف ليست ميزة لحرفة المؤرخ، لكنها تماثل عمل المحلل النفسي، فالمنهج النفستاريخي تفرع من التحليل النفسي، وكلا الحقلين متقاربين لبعضهم البعض. حتى لو اختلفا في النتائج، إلا أنهما يتشابهان في النهج إلى درجة أنهما يتشاركان الأساس النظري نفسه، وكلاهما تاريخيٌّ بطبيعته، يتطلب الانهماك بالمشاعر الشخصية.
يبقى المنهج النفستاريخي حقلا مستشعرا لطبيعة غير واضحة المعالم، تعارف على تسميتها بمهمة المؤرخ. ومن أهم الكتب التي بحثت في هذا المصلح جيدا، كتاب (المنهج النفستاريخي- النظرية والتطبيق) لجاك سالوتا، والذي يعدّ بمثابة دراسة رصينة لهذا المصطلح، الذي يستخدم الآن على نطاق واسع، فهو الآن علم قائم بذاته لا يحتاج لأن يوصل بعلم آخر. ختاما، بعبارة قصيرة نقول إن المنهج التاريخي هو تاريخ بذاته، وعليه يبقى المؤرخ النفسي مؤرخا بذاته.
المصادر:
What is psychohistory?- Bruce Mazlish
Psychohistory: Theory and Practice- Jacques Szaluta
Cultural Foundations of Political Psychology-Paul Roazen
Psychology and Historical Interpretation- William Runyan
Psychohistory as History- Thomas Kohut