مجلة حكمة
ترى ألفة يوسف في كتابها الذي تناولت فيه (الحجاب) أننا لا يمكن أن نفهم موقف الداعين للحجاب مالم نخرج من حجاب التاريخ لنقف على حجاب الرمز

الحضور الصوفي في الكتابات النسوية: ألفة يوسف أنموذجًا – ملاك الجهني

د. ألفة يوسف
د. ألفة يوسف

التصوف طريقًا للخلاص الأنثوي

اتجهت بعض منظرات النسوية الغربيات إلى التصوف وطرحن مفاهيم خاصة بالصوفية النسوية، تقترب حينًا وتبتعد حينًا أخرى عن التصورات والمفاهيم الصوفية الشائعة دون أن تجري قطيعة كاملة معها.

والأطروحات الأبرز في النسوية الصوفية تتمثل في: صياغة رؤية أنثوية للوجود، واستبدال الممارسة الصوفية الزهدية بالممارسة الشهوانية، وطرح مفهوم الصوفية الاجتماعية.

ولعل أهم ما تفتقت عنه التيارات الصوفية في الغرب من اختلافات عن الصوفية التقليدية هو طرح رؤية مختلفة للوجود من منظور أنثوي. فالمواقف الثقافية السلبية تجاه المرأة لا يمكن تغييرها بنظر بعضهن دون تغيير نظرة العالم الذي يشملهن، والافتراض الأساسي المطروح للنقاش النسوي هو إزالة التعارض القائم في الثقافة الغربية بين الطبيعة والروح([1]).

وتجادل أخريات بأن التصوف القائم على الزهد أو معايير القيم القائمة على الحرمان الجسدي لا يمثل الأسلوب النسوي للتحرر والتعالي الذي ينبغي أن يتم بنظرهن بواسطة الشهوانية والمادية للوجود الإنساني، وهذا يعني ببساطة (قلب التفضيلات السائدة للنظم الروحانية ذات الطابع الذكوري في الغرب)([2]).

ومن الأعمال النسوية المترجمة للعربية في هذا الحقل كتاب (الصوفية النسوية: الغوص عميقًا والصعود إلى السطح) لكارول كريست.والقارئ لكتاب كريست يتبين ردة فعلها تجاه المسيحية ويلمس أثر الجانب الاجتماعي فيه فقد ذكرت في كتابها كيف كانت التفرقة في كلية يال الدينية سببًا في ارتدادها عن المسيحية، فتقول” وبعد أربع سنوات من الدراسة في كلية يال الدينية بدأت في التحقق من أنني كنت شيئًا شاذًا في عالم الرجال، وبالتأكيد أن خبرتي قد تعمقت لأن لأن الدراسات الدينية قد احتلها الرجال بالكامل تقريبًا، ولأن (يال) بينما هي تقبل التحاق عدد قليل من النساء على مستوى التخرج، إلا أنها ما زالت تحافظ على تقاليدها العريقة على مر القرون الطويلة كمدرسة للسادة الأفاضل”([3]).

وتضيف:”وخلال سنوات دراستي هناك كان رئيس يال يلقي بيانه المشين من أن يال لن تقبل النساء في مرحلة ما قبل التخرج لأن مهمتها في تعليم ألف رجل قائد كل سنة. لكنني لم أكن أطمح في الحصول على هذه الخبرة، فأنا أتيت لكي أدرس الحقيقة ولا دخل للحقيقة بالنوع أو الجنوسة على ما أعتقد. إنني كنت واحد من امرأتين (من ضمن ما يقرب من مائة طالب) في برنامج التخرج الذي ما كان ينبغي له أن يفرق بيننا في شيء ولدهشتي علمت أن هناك فرقا ضخما…لقد كانت تعليقاتي في الفصل تلقى التجاهل…وبدأت بالتدريج أتساءل عما إذا كان لي منظور مختلف في اللاهوت لأنني امرأة”([4]).

ومن هذا المنطلق بدأت كريست في البحث عن البديل، ورغم كل محاولات تطويع الأديان لمبادئ النسوية فقد أعلنت بعض النسويات المسيحيات في حركة الإصلاح النسوية المسيحية يأسهن القضاء على النظام الأبوي في المسيحية من داخلها، وانشقت أولئك النسويات عن التيار الإصلاحي للمسيحية لينشئن تيارًا آخر مثلته كارول كريست منذ السبعينات الميلادية ويعملن من ثم على تأسيس ديانة وثنية جديدة تستلهم العنصر الأنثوي في الأساطير الأنثوية القديمة الممثلة لموروث ما قبل اليهودية والمسيحية، وعرفت هذه الحركة بـــــ(wicca) وتعني (تملُّك الحكمة) بالإنجليزية القديمة، وقد تطورت دلالات الكلمة لتعني ساحر أو ساحرة، واختيار هذه الكلمة لم يكن اختيارًا غير واع بدلالاتها بل يعيها ويهدف لما تهدف إليه الديانة الجديدة وهو قلب أو عكس الإيحاءات المضمرة في معنى الساحرة (wich) في التراث الأوروبي المسيحي والتي تتصل بالشر والسحر الأسود وعبادة الشيطان، والعودة عكسيًا بهذه الكلمة عبر الزمن لتعني (الحكمة الأنثوية) ومصدرها الإلهة الأنثى، ومن هنا كان وصف الديانة بحركة الإلهة الأنثى (goodes movement).

وأول كتاب طرح هذه الفكرة وأسس لها نظريًا مستخدمًا ومبررًا الإشارة إلى الله برموز وصور أنثوية خالصة، هو كتاب (بزوغ روح المرأة : قراءات نسوية في الدين) من تحرير كارول كريست ونسوية أخرى، وقد قدمت فيه المحررتان نماذج لطقوس روحانية أنثوية متطورة قائمة على دمج العنصر المؤنث([5]).

أما في كتاب الصوفية النسوية الذي ذكرناه آنفًا فتفرق كريست بين التجربة الصوفية الذكورية والأنثوية “فالرجال يجدون صعوبة ومشقة في أن يتركوا القوة التقليدية وأن يتخلوا عن إرضاء الأنا ليمنحوا أنفسهم فرصة الاتحاد مع قوى الوجود والكينونة”([6]). بخلاف النساء اللاتي ليس لديهن ما يخسرنه أصلاً باعتبار القوة التقليدية في المجتمع الأبوي من نصيب الرجال، بينما اختبرت النساء خبرة العدم وليس لديهن ما يناضلن من أجل التخلي عنه لذلك تذكر كريست أنه “ربما يكون أسهل على النساء تحقيق التبصر الصوفي عن الرجال”([7]). وتفرق كريست بين صوفية الأنثى والذكر من حيث تفريق المنظرين بين نوعين من الصوفية أحدهما يقول بالأحدية وهو ما تسميه بمبدأ غائي واحد، والآخر التوحيد وهو الإيمان بإله واحد، وتقع الصوفية النسوية في المرتبة الأدنى من هذين النوعين وهي الصوفية الطبيعية التي تنظر للخبرة التي في الداخل وتلك التي في الخارج باعتبارهما خبرة واحدة، غير أن كريست لا توافق على هذا الترتيب وتقلبه فالقوة العظمى برأيها توجد في الطبيعة. وفي السياق نفسه تطرح كريست مفهومًا آخر هو الصوفية الاجتماعية والتي تكتسب فيها المرأة البصيرة الصوفية من خلال اندماجها في حركات اجتماعية أو سياسية معينة كالحركات النسوية والحركات المناهضة للحرب. وتحاجج كريست بأن تلك الحركات لا يمكن تأليهها، لكن ينبغي الاعتراف أن قوى الطبيعة تتكشف من خلال تلك الحركات وأن بحثها عن العدالة والحقيقة متجذر في قوى الكينونة والوجود، وتناظر بين هذه الحركات والحركات الباطنية الدينية كمجتمع القديسين في المسيحية والصور المقابلة في اليهودية والمتوحدة مع القوى الأعظم([8]).

ولا شك أن الأسباب الباعثة للبحث الصوفي لدى منظرات الصوفية النسوية الغربية كازدراء المرأة انطلاقًا من الثنائيات الغربية كثنائية (الروح والجسد) ومحاولة تجاوز هذه الثنائيات بالبحث عن الكلية أو التوحد مع الطبيعة أو بالممارسة الشهوانية يجسد أزمة الثقافة الغربية نفسها، ولا ينطبق على ثقافات أخرى، فضلاً عن الثقافة الإسلامية، ونشير في هذا الجانب مثلاً لدراسة روث رودد عن النساء في التراجم الإسلامية.

بل ما تطرحه المنظرات النسويات لا يمثل حتى اتجاهات صوفية أخرى في ثقافات أخرى احتفت بالممارسة الشهوانية ومنحتها بعدًا دينيًا كما عند محيي الدين ابن عربي([9])، ما دفع نسويات العالم العربي لالتقاط هذه الفكرة من النسوية الغربية وتوظيفها، وقد وجدن في صوفية ابن عربي أرضًا ملائمة لازدراعها.

 

ابن عربي مُخَلِّصًا نسويًا

احتل محيي الدين ابن عربي مكانة هامة في الدراسات الغربية، وفيما لم ينل الجانب الأنثوي في تراث ابن عربي حظا بارزًا من الردود من منتقدي ابن عربي من الإسلاميين باعتبار الأنثوي عند ابن عربي مندرجًا تحت مقولات كبرى تناولها الإسلاميون بالنقد، فقد حظي هذا الجانب باهتمام باحثين آخرين كما في دراسة هنري كوربان (الخيال الخلاق لابن عربي).

وتواصلاً مع الطرح الغربي توجه الاهتمام مؤخرًا لابن عربي من طرف النسويات العربيات كالدراسة التي نشرتها نزهة براضة تحت عنوان (الأنوثة في فكر ابن عربي)، والتي اتهمت في مقدمتها علماء المسلمين بتعمدهم تجاهل الجانب الأنثوي في تنظيرات ابن عربي والوقوف منه سلبًا منه بسبب آرائه في الأنوثة تحديدًا وإن لم يصرحوا بهذا، ويعد هذا الرأي مصادرة غير مبرهنة من طرف الباحثة فالردود على ابن عربي من قبل علماء الإسلام كثيرة وأحصى أحد الباحثين المؤلفات المفردة في الرد عليه في ثلاثة عشر مصنفًا مستقلاً، هذا عدا الردود المضمنة في مؤلفات آخرين وهي كثيرة([10])، فهل استقرأت الباحثة ردود العلماء لتطلق هذا الحكم المرسل؟! هذا ما لم تشر إليه أو توثقه الباحثة في كتابها.

ومهما يكن من أمر فقد عاد ابن عربي لتسنم مكانة رفيعة لدى نسويات العالم الإسلامي لاعتبارات تتعلق بفكره، ومن أهمها القول بكل ما تشتهيه الأيديولوجيا النسوية؛ فمن جهة لا يجعل ابن عربي الأنوثة من خصائص الجنس الإنساني بل من عوارضه التي يشاركه فيها الحيوان، ومن جهة يجعل الأنوثة هل الأصل وليس الذكورة ([11])، ومن جهة لا يفرق بين المرأة والرجل في أحكام شرعية كما سيأتي.

وبما أن نسويات العالم الإسلامي والعربيات منهن بخاصة اعتدن تسول مستنداتهن من الذكور فقد وجدن في تأويلات ابن عربي مادة جاهزة بين أيديهن، وكل ما عليهن إعادة اجترارها وطرحها مجددًا والدفاع غير العلمي عنها، إن من حيث البرهان، أو من حيث اللغة بتبجيلهن المبالغ فيه لفكر ابن عربي.

 

ألفة يوسف والمقاربة التحليلنفسية- الصوفية  

تتأسس هذه المقاربة على مقولات ومصطلحات التحليل النفسي عند صاحب نظرية التحليل النفسي الفرنسية جاك لاكان([12]).

وقد أثرت مقولات لاكان في البحث النسوي بعامة([13]).

ومن أبرز الأمثلة على ذلك المقاربة التي تم إنجازها من قبل الباحثة التونسية ألفة يوسف لحجاب المرأة المسلمة، وتنطلق هذه المقاربة من اعتبار تغطية جسد المرأة تغطية للرغبة الرجالية بامتلاك (القضيب الرمزي)، وتغطية (للخصاء) النسائي ممثلاً في عدم قدرة المرأة على امتلاك القضيب، ومعرفة هذه الرغبات الكامنة في اللاوعي-بحسب وجهة النظر النسوية- تمكننا من تفهم تركيز بعض التيارات الأصولية على الحجاب واعتباره حجر الزاوية في خطابهم([14]).

ولا تقيم ألفة يوسف فصلاً حاسمًا بين التحليل النفسي والقراءة الصوفية ويتماهى في طرحها الصوفي بالنفسي، وقد صرّحت غير مرة بأنها تفضل “القراءة النفسية الروحانية والتي لها بالتراث الصوفي صلة وثقى”([15])، وذكرت أن قراءتها للدين من هذا المنطلق ليس بدعة على اعتبار أن الغربيين سبقوها في هذا المجال، كما ذكرت أن تفضيلها لهذه القراءة هو “على أساس أن ما يسعى له التحليل النفسي وما يسعى إليه الدين هو سعادة الفرد-وتضيف-ولا خير في دين ولا طقوس لا تحقق للإنسان الاطمئنان، لا خير في طقوس لا تجعل الإنسان يحب الآخر، لا خير في طقوس لا تجعل الإنسان يقبل الاختلاف، لا خير في طقوس تجعل المرء يجد سعادة في إلحاق الأذى بالآخر، وفي تصور أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وأن يتكلم باسم الله تعالى”([16]).

وترى ألفة يوسف في كتابها الذي تناولت فيه (الحجاب) أننا لا يمكن أن نفهم موقف الداعين للحجاب مالم نخرج من حجاب التاريخ لنقف على حجاب الرمز([17])، وتقول:” إن ما يسمونه الحجاب ليس الزي المميز للمنتمين إلى المجموعة فقط، وليس اللباس الساتر من الفتنة فقط، إذ لو اقتصر الأمر على التمييز والتميُّز لوجدنا التركيز نفسه على إعفاء اللحى لدى الرجال، ولو اقتصر الأمر على درء الفتنة لوجدنا درء الفتنة يتجاوز الخوف على الرجال من فتنة النساء إلى الخوف على النساء من فتنة الرجال، أفلم يذهب بعض المفسرين إلى أن (عورة الرجل مع المرأة ففيه نظر إن كان أجنبيًا…وقيل جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه)، ولكن صوت هؤلاء المفسرين بقي خافتًا بل أسكته الإجماع، وبقي حجاب المرأة ذاك الذي يستجيب لحاجات نفسية عميقة مخمدًا بعض جوانب اللاوعي”([18]).

وتمزج ألفة يوسف مصطلحات التحليل النفسي اللاكاني بمنظور صوفي فلسفي، بقولها:”ومن منظور آخر فإن مفهوم حجاب المرأة يتسق رمزيًا مع ما أسلفناه من وجود المتعة الأنثوية الأخرى التي لا تنقال، إن هذه المتعة موجودة وراء حجاب اللغة لا يمكن التصريح بها، وهي لا تخرج في ذلك عن الروحاني المقدس الذي يتموضع في الخفاء وينتشي بالغياب، إن الأنثوي والإلهي والإيمان كلها مواضيع لا تكون إلا مفترضة محتجبة على نمط الغياب، إنها مواضيع خارج العقل والمنطق وخارج الدين والمؤسسة الجماعية، أفيكون بعد هذا كله عجيبًا أن توصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين؟، وأيكون عجيبًا أن يقوم الكون على الاختلاف بين ما يُرى وما لا يُرى، وما ينقال وما لا ينقال؟”([19]).

وباستخدام مصطلحات التحليل النفسي اللاكاني وانطلاقًا من الخلفية الصوفية التي تصدر عنها ألفة يوسف([20]) –باعتبارها صوفية- تفسر حديث النبي e حول نقص عقل المرأة ودينها،  وتربطه بتفسيرها السابق للحجاب بقولها:” أليس امتعاض بعض النساء من (نقصان الدين والعقل) من جهة، وتصور الرجال إياه ذمًا من جهة ثانية هو موقف واحد ينفي الانشطار، انشطار الإنسان بين الذكوري والأنثوي، وانشطار النفس بين الوعي واللاوعي، وانشطار الفعل بين الجماعي والفردي؟، إن الانشطار هو منطلق الشوق، والرأي الذي ذكرنا يُسكت صوت الشوق ويسعى إلى هتك آثار الحجاب الأصلي في الأنثوي بإنشاء حجاب مادي ذكوري ننشد به موضع المتكلم الفاعل المقرر الممتلك للحقيقة، وننشد به موضع الإنسان الكامل الذي يمتلك القول الفصل ناسين أن لكل موقف نقيضًا، وناسين أننا مهما بلغنا من العلم والمعرفة يظل جوهرنا افتقارنا إلى آخر مطلق-هو الله- لن ندركه إلا بسلطان، قال تعالى:(يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) [الرحمن:33]”([21]).

فما الذي تقصده ألفة يوسف بحجاب التاريخ، وحجاب الرمز؟، وما الذي تقصده بالمتعة الأنثوية الأخرى التي لا تنقال؟، وما الذي تقصده بالشوق، والافتقار؟ وكلها مصطلحات تنسب للمحلل النفسي لاكان.

ترى ألفة يوسف أن هناك وجهين للحجاب:

  • الوجه الواقعي التاريخي: ويتضح من خلال تتبع الوقائع التاريخية لنزول الحجاب والتي تثبت أن الحجاب مرتبط بظرف تاريخي عرضيّ لدفع أذى محتمل عن نساء المؤمنين في مجتمع قائم على الصراع بين المسلمين وغير المسلمين([22]).

  • الوجه الرمزي النفسي:

ويتصل بمفاهيم المصطلحات التي أشرنا إليها ومن أبرزها مفهوم المتعة الأخرى، ويتبين قصد المؤلفة بها بصفة أوضح في عدة مواضع من كتبها بينت فيها الأسس النفسية لمفهوم المتعة الأخرى، وانطلقت من أسبقية اللغة على الوجود، مستشهدة بعبارة لاكان: (لا وجود لما وراء اللغة)، أي لا وجود لشيء خارج اللغة يثبت اللغة، وتشرح المؤلفة عبارة لاكان بقولها:”اللغة هي الأولى وهي سابقة للإنسان لا يمكنه أن يخرج من قضبانها، وكل ما يستطيع المرء فعله هو أن (يضرب رأسه على حدود اللغة) كما يقول فينغشتاين([23])، في البدء كانت الكلمة، وقيل للأشياء كن فكانت، فلم تكن إلا بذلك القول”([24]).

وعليه فاللغة بتسميتها لأفراد الأسرة –الأم والأب والأبناء- هي التي تنظِّم العلاقات الجنسية وتحددها، الأمر الذي لا يوجد لدى الحيوانات ولأجله لا يوجد ما يعرف بالمنع من نكاح المحارم، فتقول:”يجب ألا ننسى أن لا وجود لشيء سابق للغة، فاللغة بتسميتها الأب والأم والأبناء هي التي تمكن من تحديد العلاقات وتنظيمها، وهذا مالا نجده عند الحيوان، ونتحدث لدى البشر عن قوانين أساسها منع نكاح المحارم”([25]).

وهنا نلحظ تواصلاً مع فكرة جوديث بتلر([26]) حول اللغة والجنوسة وأن الذكورة والأنوثة مسميات لفظية، وأن الهوية الجنسية تتحدد باعتبارها (أداء([27]))([28]).

وتشرح ألفة يوسف أيضًا مفهوم (الخصاء الرمزي)، ويعني: أن اكتساب الطفل الذكر للهوية الذكورية يقتضي عدم استعمال مقدرته الذكورية في الموضوع الذي أثارها وهو (الأم)، واعتراف الطفل الذكر للأب بحق التمتع بالأم وحده باعتباره المالك، وعليه فالقضيب الرمزي كذلك ليس هو عضو الذكورة ولكنه التمثل الخيالي والرمزي له، والقضيب هنا هو موضع الخصاء أو موضع القانون لأنه يحول دون الأم والأبناء ويضع حدًا للذَّة التي لا يمكن لها أن تكون مطلقة([29]).

 أما (المتعة القضيبية) فهي المتع التي تنظمها اللغة وتتجسد في دالٍ ما، ولا تقتصر المتعة القضيبية على المتعة الجنسية بل تشمل جميع متع الحياة التي تنظمها اللغة، وهذه المتعة لا تطابق المتعة المتصورة بل هي موسومة بخيبة أو إخطاء، وهذا الإخطاء هو ما يمثل (افتقار) الإنسان ونقصه([30]).

وأما (الشوق) فقد بينته المؤلفة بمقابل (الحاجة) وميزت بينهما كما فعل لاكان، فالشوق انفتاحٌ على ما وراء الحاجة، ذلك أن الحاجة التي يسعى إليها الفرد لا تشبعه، بل تنفتح على حاجة أخرى، والأخرى على أخرى؛ فالحاجة ما إن تُهدئ ضغطًا حتى يفغر فاه ضغطٌ آخر من جديد، وإذا كانت الحاجة تمثل موضوعًا قابلاً للاستهلاك والامتلاك والاستمتاع فالشوق لا ينشد المتعة التي تنقال وهو غير قابل للتجسيم أو التمثيل في موضوع، ويرى لاكان أن القضيب هو دال الشوق أو هو تجسيم للشوق إلى المستحيل مما يعني عدم إمكانية إشباع الشوق تمامًا كالشوق الأول إلى الأم والذي حال دونه القانون([31]).

ووجود المتعة القضيبية يقتضي بالضرورة وجود متعة أخرى تتجاوزها، وهذه الضرورة مفسرة فلسفيًا ورياضيًا ولسانيًا-بحسب ألفة يوسف- فالصفر ليس سابقًا للواحد ولكن الواحد ينشئه، والصمت ليس سابقًا للكلام ولكن الكلام ينشئه …والمتعة الأخرى التي تؤسس لها المتعة القضيبية ليست هي اللذة المتحققة بالدال، فالمتعة الأخرى تتحقق بما وراء الدال مما يجعلها –كما تقول ألفة يوسف-:” مجرد افتراض يعاش ولا ينقال”([32])، وهي لا تنقال لكن آثارها تلمس لدى بعض الذهانيين أو المتصوفة في رفضهم الانشطار بين الرمزي والواقعي، تماما ًكما يحاول الصوفي تبليغ تجربته عن الحلول أو الاتحاد، وعلاقة هذا بالأنثوي: أن الأنثوي يُعرف بغياب دال الذكورة([33]).

وعلى ضوء ما سبق ترى ألفة يوسف أن الدين ذكوري والإيمان أنثوي، وتفرق بين الديني والإيماني بل تجعلهما متقابلين، وهنا تسقط ألفة يوسف في ثنائية شبيهة بثنائيات الثقافة الغربية الغربية، فتقول:”الدين يقوم على مؤسسات جماعية تدعي تقديم الجواب الشافي للناس باعتبارهم جماعة منتمية إلى ذلك الدين، أما الإيمان فمغامرة فردية لا تدعي تقديم جواب جماعي أو نهائي، إنه بحثٌ لا يَنِي عن اطمئنان فردي تختلف سبل بلوغه من ذات إلى أخرى، ومن هذا المنظور يمكن اعتبار الميراث الفقهي سنيًا كان أم شيعيًا- ميراثًا دينيًا، ويقابله الميراث الصوفي الذي نراه ميراثًا إيمانيًا مندرجًا ضمن تجربة لا يمكن للقول نقلها نقلاً أمينًا، بل لعل وجودها رهين عجز القول عن وصفها، ألا تضيق العبارة كلما اتسعت الرؤيا ؟”([34]).

ولا يقف الأمر عند حد المقابلة بين الديني والإيماني فحسب بل ترفع ألفة يوسف من شأن الإيماني وتخفض من شأن الديني، رغم أنها نصَّت في أحد كتبها على عدم المفاضلة بينهما، لكنها ذكرت في موضع آخر ما يفيد بخلاف ذلك([35])، فالدين-برأيها ووفقًا لتحليل لاكان- من الأنظمة المشتركة القائمة على أفعال وأقوال مخصوصة وعلى طقوس منضطبة يتوجب على المسلم الالتزام بها، ومن سمات الدين أنه جماعي وهذا شأن بعض أركان الإسلام فالشهادة تتم أمام سلطة الجماعة، والصلاة تكون جماعة أحيانًا، والزكاة تتم تحت سلطة الجماعة، والصوم في شهر الصوم يتم جماعيًا وكذا الحج في موسم الحج، والدين-كما أسلفت ألفة يوسف القول- يقوم على مؤسسات تدّعي تقديم الجواب الشافي الكافي للناس بوصفهم مجموعة تنتمي للدين. وبلغة ابن عربي الصوفي ممزوجة بمصطلحات التحليل النفسي اللاكاني ترى ألفة يوسف الإسلام –بوصفه دينًا- بطقوسه الرمزية وأركانه الدقيقة وبتجسّمه الجماعي مرحلة أولى وضرورية يقف عندها البعض ويتجاوزها البعض الآخر إلى الإيمان الذي يتجسم في القلوب نورًا لا ينقال؛ فالإسلام الدين: من باب الظاهر ومجاله الوعي، أما الإيمان: من باب الباطن ومجاله اللاوعي الذي ينفعل به الإنسان ولا يفعله، والإيمان مغامرة فردية لا تدعي تقديم أجوبة نهائية، والمؤلفة من أنصار النسبية المطلقة القائلة بعدم امتلاك أحد لحقيقة([36])، لكنها مع ذلك تقرر ذكورية الدين بوصفة حقيقة بقولها:”إن سلوك الفقهاء الديني ذكوري يحتفي بالرمز ويؤكد خضوع البشر لسلطانه، وإن متعة الفقهاء قضيبية تقوم على لم شمل الأمة ضمن رؤية واحدة هي جوهر المجموعة وعمادها، أما سلوك المتصوفة فأنثوي يفتح باباً على الواقعي المفترض، وإن متعة المتصوفة غير قضيبية إذ هي متعة صامتة تقر بوجدٍ لا تملك عنه تعبيرًا”([37]).

ونجد معانٍ قريبة من المعاني التي ذكرتها ألفة يوسف حول فرض الذكور للحجاب على النساء رغبة في هتك حجاب آخر، لدى روزين لامبان والتي ذكرت أن الحجاب من وجهة نظر التحليل النفسي فاصل تخيّلي بين الرجل والمرأة، ومهمة الحجاب جعل الواقع تخيّليًا، وهذا الحجاب الفاصل ذو طبيعة جنسية، وعندما يرغب الرجل بالمرأة فليس عليه سوى نزع هذا الفاصل الثوبي، وبالتالي فالفصل بين الجنسين ليس سوى فصلاً تخيليًا لكن السلوك التخيلي أقوى من التفكير العقلاني([38]).

وتربط لامبان بين حجاب النساء والحجاب الإلهي فتقول: ” قد تبدو العلاقة بين الحجاب الذي يخفي الروعة الإلهية وبين حجاب النساء غير واضحة للوهلة الأولى، ولكن المرأة تمتلك أيضًا بطريقة ما روعة يمكن أن تخيف، ولا سيما أولئك الذين يعتقدون أنها تتمتع بقدرة مؤذية، وهي القدرة على إغواء الرجال، إن الرغبة بامتلاك المرأة جنسيًا، والتي يمكن أحيانًا أن تعتبر ضربًا من البلبلة، ولكنها بلبلة لا مناص منها بسبب اللذة التي تنجم عنها، تعطي الانطباع لهؤلاء الرجال بأن للمرأة سلطانًا عليهم، وخضوع الرجل لهذه الرغبة يجب أن يخفف، أما اللذة فينبغي أن تظل على حالها، لهذا ينبغي أن تكشف روعة المرأة لمن له الحق في التمتع بها فحسب، إن الأمر بالفعل هو الفصل بين المقدس والدنيوي فروعة الرب لم تكشف إلا لرجل واحد هو موسى، وروعة المرأة ينبغي ألا تكشف إلا لرجل واحد هو زوجها، فالمقدس هو الذي لا يؤذن لأحد من الناس بالاقتراب منه، باستثناء أصحاب الحظوة: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا)[الإسراء:45]”([39]).

اكتناه الصلة بين المقاربة التحليلية النفسية والصوفية

أدغم لاكان التحليل النفسي بالصوفية وذلك في تأويله لإحدى الشخصيات النسائية بأنها ذات حالة تناهى اللذة في الجماع بلا اكتفاء، ويرى لاكان كتاباته بأنها صوفية، لكن صوفية لاكان لادينية، تقوم على الخيالي والرمزي([40])، والتحليل النفسي الذي قدمته ألفة يوسف للحجاب ومثلها روزين لامبان لا يخرج عن التفسير الباطني لدى الصوفية الدينية واللادينية، وإن تسربل بمصطلحات التحليل النفسي.

والتحليل النفسي في أصوله الفرويدية تأثر بالصوفية الدينية فسيجموند فرويد([41]) تأثر بالقبَّالاه وهي مجموعة من التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود([42])، وقد تركت رؤيتها للكون، بتأليه الجنس وتجنيس الإله أثرها في فرويد، بل يذهب بعضهم إلى هذا هو جوهر فكر فرويد([43]).

وتنحاز ألفة يوسف بإقرارها بخياراتها المنهجية وبعدم وجود حقيقة نهائية، للميراث الصوفي ولصف النسبية المطلقة بل العدمية، وبمقابل رفضها لتفسيرات الفقهاء الذكورية ونفي الحقائق المطلقة تُسلم تسليمًا لا يخالطه اعتراض أو شك أو دعوة لمراجعة لمكتسبات حقوق الإنسان، وهنا ينهزم التفكير النسبي وتتكشف حقيقة التفكير الإطلاقي العلماني، إن ألفة يوسف بموقفها هذا تقابل الأصولية الدينية بأصولية علمانية ترفض مجرد التشكيك بمطلقاتها.

وعلى ضوء ما سبق نفهم موقف ألفة يوسف من الشريعة وموقفها من الحجاب فرع عنه، وسوف نفهمه بصفة أدق حين نضع الحجاب في موقعه من منظومتها الفكرية السابقة، فألفة يوسف لا تؤمن بوجود حقيقة ثابتة، ولا ترى في اعتناء الفقهاء بالأحكام إلا انشغالاً بالمظهر عن الجوهر، وبالقانون عن روح القانون، فترى أن المقصود من تحريم الزنا خشية اختلاط الأنساب ومن ثم خشية إتيان المحارم فحسب، وبالتالي يجب أن يوضع الزنا في إطار القانون الأصلي أي (تحريم إتيان المحارم)، وتتناقض ألفة يوسف مع نفسها حين تصرح في موضع آخر من كتاباتها بأنها لا تؤمن بوجود حقيقة خارجة عن اللغة، واللغة هي التي تحدد المحارم، وإذا كانت ألفة يوسف لا ترى في العلاقات الجنسية مع غير المحارم بأسًا، وإذا كان من حِكم تشريع احتجاب المرأة عن غير محارمها ضبط العلاقة بين الجنسين فرفض ألفة يوسف للحجاب مفسرٌ بموقفها من الزنا بصفة خاصة، وبمنطلقاتها الفكرية بصفة عامة([44]).

وبما أن التحليل النفسي يعد من المداخل التأويلية التنقيبية القائمة على قاعدة الشك-كما ذهب بول ريكور([45])- والتي يرى أصحابها أن المعنى لا يوجد على السطح أبدًا ولابد من إزالة القناع الظاهر والبحث عما وراء المعنى([46])، وتطبيق هذه المنهجية على النصوص الشرعية كتابًا وسنة –كما فعلت ألفة يوسف أو سواها- ليس جديدًا في تاريخ الفرق المنحرفة عن الإسلام وإن تزيَّا بزي عصري، فهي لم تبتدع هذه القراءة بالفعل ليس لأن الغربيين فقط سبقوها لذلك، بل قد سبقها وسبق غيرها لذلك القرامطة والباطنية، وقد أطلق ابن تيمية رحمه الله على هذا المنحى من التأويل الباطني مسمى (القرمطة في السمعيات) وزاوج بينه وبين مفهوم آخر هو (السفسطة في العقليات)، وشرحه بقوله: “وهذا الذي شهد الله تعالى به في كتابه وكفى به شهيدًا، قد يُري العباد آيته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، فتتفق عليه الأدلة المسموعة والمشهودة التي هي أصل العلوم الضرورية والنظرية القياسية التي ينتحلها أهل النظر وأهل الذوق، فتكون الأدلة الحسية والضرورية والقياسية موافقة للأدلة السمعية من الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، والمخالفون لهذا، وإن ادعوا في الأول من الأقيسة العقلية، وفي الثاني من التأويلات السمعية، ما إذا تأمله اللبيب وجد مآلهم في تلك الأقيسة إلى (السفسطة) التي هي جحود الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس، ومآلهم في تلك التأويلات إلى(القرمطة) التي هي تحريف الكلم عن مواضعه، وإفساد اللغة والشرع والعقل بالتمويه والتلبيس وهذا أيضًا سفسطة في الشرعيات، وسُمي قرمطة لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر، ودعوى التأويلات الباطنة المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة”([47]).

ويرى ابن تيمية في تحليله لظاهرة القرمطة في التأويل أن “غالب تفاسير هؤلاء الباطنية منافية لما أراده الله تعالى، إما من ذلك اللفظ وإما من غيره، وإن كان طوائف من المشهورين بالفقه والتصوف يطلقون هذه العبارات الإسلامية بالتفاسير الفلسفية القرمطية”([48]).

ويشير ابن تيمية لمتتالية الانحراف في التأويل والتي تتناهى بصاحبها إلى القرمطة في السمعيات بقوله :” والمقصود أن أولئك المبتدعة من أهل الكلام لما فتحوا باب القياس الفاسد في العقليات، والتأويل الفاسد في السمعيات، صار كل ذلك دهليزًا للزنادقة الملحدين إلى ما هو أعظم من ذلك من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وصار من زاد في ذلك شيئًا دعاه إلى ما هو شر منه، حتى انتهى الأمر بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها، كما قال لهم رئيسهم بالشام (قد أسقطنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة) ولهذا قال من قال من السلف (البدع بريد الكفر والمعاصي بريد النفاق)”([49]).

وتتجلى متتالية التأويل المنحرف لدى ألفة يوسف والتي تحللت من ضوابط الدراسة الموضوعية الأكاديمية مثلما تحررت من الضوابط الشرعية واللغوية في تأويل النصوص الشرعية لتنتهي في آخر كتبها صدورًا إلى القول:” لا تقرأ هذا الكتاب إذا كنت تتصور أن العلاقات المثلية غير طبيعية، بل لا تقرأ هذا الكتاب إذا كنت تتصور وجود علاقات جنسية طبيعية”([50]).

ولم يكن هذا الاعتراف هو الاعتراف الوحيد بتحللها من ضوابط الدراسة الموضوعية بل أرفقته بقولها:” لا تقرأ هذا الكتاب إذا كنت تبحث عن دراسة أكاديمية موضوعية، فهذا الكتاب مجرد مقالة تتلمس بعض وجوه الذكوري والأنثوي متحملة مسؤولية البعد الذاتي في القراءة بل مطالبة به”([51])، والمفارقة أن ألفة يوسف لم تأتِ بمثليّ أو مثليّة ليقرظ أحدهما كتابها الطافح بحكايات مبتذلة ترويها إحدى المثليات عن تجاربها الجنسية المنحرفة، بل احتاجت ألفة يوسف إلى رجل (سيِّد/فحل) يبشر القراء أن زمن احتكار الرجل (السيِّد/الفحل) للخطاب قد ولّى وأن اقتصاد العبارة تغير مذ انفجرت ثورة الحركات النسوية في أزمنة الحداثة وما بعد الحداثة، فقد ختمت ألفة يوسف كتابها بقراءة سطّرها لها أستاذ التعليم العالي بجامعة منوبة التونسية ووصف مافيه بــ(شجاعة الحقيقة)([52])، وكأن مؤلفة الكتاب، ومادح الكتاب ومؤلفته لم يصرِّحا سابقًا بعدم امتلاك أحدٍ لحقيقة !.

 

حقيقة الاحتفاء بابن عربي ومقص الانتقائية النسوية

الحضور الصوفي في الكتابات النسوية مؤخرًا وبخاصة ابن عربي([53])، ملحوظة لا يكاد يخطئها المتابع للخطاب النسوي ممثلاً في خطاب ألفة يوسف وغيرها، حتى من النسويات التوفيقيات وإن بدرجة أقل، كما لاحظت باحثة نسوية توفيقية مشيرة لزيادة الاهتمام بالتصوف الإسلامي في السياق النسوي-وتصوف ابن عربي تحديدًا- بسبب أبعاده الروحية والإنسانية([54])، وتفسير ذلك الحضور بصورة أوضح نجده مذكورًا في كتاب (الأنوثة في فكر ابن عربي)، والذي تطرح فيه مؤلفته تفسيرًا لهجوم الفقهاء وغيرهم على ابن عربي([55])، إذ يعود ذلك الهجوم-برأيها-للحضور المركزي للأنوثة في خطاب ابن عربي المستوعب للآخر، والذي”يقوِّض بدهيات الفكر الأحادي وقواعده القائمة على مركزية الذكورة”([56]).

والمتأمل في فكر ابن عربي- القائل بوحدة الوجود- يجده يقوم على تجاوز الذكر لوضعية الأنثى، حيث تتفوق الأنوثة على الذكورة من خلال عملية الخلق الأولي حينما يتم خلق حواء من آدم، ويمثل الجسد الأنثوي لدى ابن عربي قبسًا من الجمال الإلهي، ولذا كان شهود الحق في المرأة-عند ابن عربي-أتم وأكمل، وحب الأنثى بمثابة الفناء في حضرة القدسي، وتذوق هذا الحب-لدى ابن عربي- شرطٌ لتذوق الحب الإلهي، والحب الإلهي من خلال الأنثى تجسيدٌ للاَّهوتي في الناسوتي، ولذا كان الانجذاب والنكاح-عند ابن عربي-شرطًا لإيجاد العالم وظهور الموجودات، وليس هذا فحسب فعند ابن عربي تختفي المراتبية التي تهاجمها النسويات، ومن ذلك مثلاً أن ابن عربي لا يفرق بين الذكر والأنثى في مسألة الولاية ويرى أن المرأة تصح إمامتها([57])، وهذا ما يفسر الحضور الصوفي في الخطاب النسوي، وأما كون ابن عربي باستيعابه للآخر قوَّض قواعد الفكر الأحادي ممثلاً في خطاب الفقهاء الذي تهاجمهم النسويات، فقد انتهى الفكر التعددي لدى ابن عربي والمقابل لأحادية الفقهاء باستيعاب الآخر مطلقًا والقول بوحدة الأديان، كما في قوله:” فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتترك ما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول: (فأينما تولوا فثمَّ وجه الله) [البقرة:115]… فالكل مصيب وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عنه”([58]).

والحق أن ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود والقائل بوحدة الأديان والذي تحتفي به النسويات قد حكم بكفره جمعٌ من علماء الأمة([59]).

كما أن ميراث ابن عربي ليس بالقليل الميسور ولا الجلي المتسق ولا السهل المعبَّد، خاصة وأن ابن عربي يتقلب بين الظاهر والباطن ولا تستقيم قدمه على شيء كما يصفه ابن تيمية، والانتقائية النسوية تلافت ما في تراث من نصوص غير خادمة لأيديولوجيتها، نصوص لم توردها النسويات المنحازات لابن عربي فضلاً عن أن يفسرنها ويفسرن مصادمتها لنظرية الأنوثة المنسوبة لابن عربي، ومن ذلك مثلاً قول ابن عربي:” الأنوثة الحقيقية : معنى يرجع إلى نقصان العقل ولها انجذاب إلى النفس وإلى السفليات بحسب قوتها، وبها يصل العبد إلى بواطن الظلمات إذا صفت عن الشهوات، فإذا وصل العبد إلى بعض حقائق السفليات التي عليها معرفة الطبيعيات أسقط الله عنه الأنوثة وأعطاه الهمة عوضًا عن ذلك”([60]).

والواقع أن البحوث النسوية العربية المنشورة لا يكاد يلحظ بينها تلك البحوث القائمة على جهود استقرائية مضنية، والاستعارة من المنجز الغربي والعربي الذي أنجزه الحداثيون الذكور بادية فيها بوضوح حتى لو تم تجريدها منه لظهر هزالها، كما أن الانتقائية النسوية تنهج نهجًا براجماتيًا مع ابن عربي كما مع غيره فتُعمل مقصها في النصوص وتقتطع منها بحسب ما يتأدَّى به الغرض([61])، وتغض الطرف عما سواها، بل ربما لا تعلم بعضهن حتى بهذا السِّوى، ولسان حالهن يقول:(حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق)!.

 


([1])  الصوفية النسوية- لكارول كريست، ترجمة: مصطفى محمود، ص53.

([2]) انظر: النسوية والدين-لأليسون جاسبر، دراسة نشرت في كتاب النسوية ومابعد النسوية دراسات ومعجم نقدي –لسارة جامبل، ترجمة: أحمد الشامي، ومراجعة هدى الصدة، ص235.

([3])  الصوفية النسوية، ص24.

([4])  المرجع السابق، ص25.

([5])  انظر: مقدمة أميمة أبو بكر لكتاب النسوية والدراسات الدينية ضمن سلسلة ترجمات نسوية، ترجمة: رندة أبو بكر، وتحرير: أميمة أبو بكر.

([6])  الصوفية النسوية، ص47.

([7])  المرجع السابق.

([8])  انظر المرجع السابق، ص51-52.

([9]) محمد بن علي الطائي، الملقب بمحيي الدين، قال عنه الذهبي: كان ذكيًا كثير العلم، كتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب، ثم تزهد وتفرد، وتعبد وتوحد، وسافر وتجرد، وعمل الخلوات وعلَّق كثيرًا في تصوف أهل الوحدة، قال فيه العز بن عبد السلام:شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجًا، توفي عام (638ه)، ومن أشهر مؤلفاته (الفصوص).

([10])  من رسالة علمية مخطوطة-لمحمد المقدي، ومما كتبه فيها”تتابع العلماء على مر القرون على الرد عليه أذكر منهم (رسالة في ذم ابن عربي) لمحمد بن عمر الكاملي(ت:652)، و(أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص)لأحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي(ت:711)، و(الرد على أباطيل كتاب فصوص الحكم لابن عربي) لسعد الدين التفتازاني(ت:793)، ولسراج الدين البلقيني (ت:805) عدة كراريس في ابن عربي، و(كشف الظلمة عن هذه الأمة) لمحمد بن علي بن نور الدين الموزعي(ت:825)، (وفتوى في التحذير من ابن عربي) لشيخ القراء محمد بن شمس الجزري(ت:833)، و(الذريعة إلى نصرة الشريعة) لإسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي(ت:837)، و(الرد على فصوص الحكم) لمحمد بن محمد الصوفي الأشعري المعروف بالعلاء البخاري (ت:841)، ولعمر بن موسى الحمصي(ت:861) قصيدة في الرد على ابن عربي، و(تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي) و(القول المنبي عن ترجمة ابن العربي) كلاهما لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي الشافعي(ت:902)، و(فر العون من مدعي إيمان فرعون) لعبدالله بن عمر بامخرمة اليمني الشافعي(ت:1014)، وكتاب بنفس العنوان و(الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد) لمحمد بن علي الشوكاني (ت:1250) وغيرها كثير في الرد على عدوانه على الشريعة فقاموا بالرد عليه من كافة المذاهب نصرة لله تعالى”.ا.ت.

([11])  انظر: الأنوثة في فكر ابن عربي، ص25.

([12]) محلل نفسي ومنظر فرنسي، ولد عام (1901م)، أثَّرت محاولاته لإعادة تفسير فرويد على أساس اللغويات التركيبية لفرناديناند دي سوسير على الدراسات الأدبية والإيديولوجية الاجتماعية وعلم الجمال، ولكن تأثيرها كان قليلاً على تطبيق التحليل النفسي، توفي عام (1981م)، من أشهر مؤلفاته كتاب بعنوان (كتابات).

([13])  انظر: الموجة النسوية الثانية- لسو نورثام، دراسة نشرت في كتاب النسوية وما بعد النسوية-لجامبل، ص72-73، والتحليل النفسي للرجولة والأنوثة: من فرويد إلى لاكان- لعدنان حب الله، ص120-125.

([14]) انظر: ناقصات عقل ودين، ص117-118.

([15]راجع مشاركة ألفة يوسف في ندوة محاورات على اليوتيوب، على الرابط:

 http://www.youtube.com/watch?v=dimIdB5MPQ4.

([16]المرجع السابق.

([17]) انظر: ناقصات عقل ودين، ص117-118.

([18]) المرجع السابق، ص118.

([19]) المرجع السابق، 118-119

([20]) تتضح الخلفية الصوفية لألفة يوسف في كتابها (شوق: قراءة في أركان الإسلام).

([21]) ناقصات عقل ودين فصول في حديث الرسول مقاربة تحليلية نفسية –لألفة يوسف، 119.

([22]) انظر: المرجع السابق، ص107-112.

([23]) فيلسوف نمساوي ولد عام (1889م)، درس في جامعة كيمبريدج وعمل أستاذًا للفلسفة فيها، ألف كتابًا بين فيه نظرية الصورة في اللغة وطورت فلسفته آراء أخرى في اللغة والأنثروبولوجيا، توفي عام (1915م)، من أبرز مؤلفاته: (تحقيقات فلسفية).

([24]) وليس الذكر كالأنثى: في الهوية الجنسية، ص172.

([25]) المرجع السابق، ص169.

([26]فيلسوفة ومنظرة أمريكية ولدت عام (1956م) تعتبر مشكلة الجنوسة النص التأسيسي لنظرية المثليين، من مؤلفاتها (الذات تصف نفسها).

([27]) انظر: من مشكلة الجنوسة: الحركة النسوية وتدمير/ تلطيخ الهوية- لجوديث بتلر، مقالة نشرت في كتاب (النظرية النسوية: مقتطفات مختارة)، من تحرير: ويندي كيه كولمار وفرانسيس بارتوفيسكي، وترجمة: عماد إبراهيم، ص391-399، والفلسفة النسوية-لإبراهيم طلبة، ص76- 79.

([28]اللافت أن ألفة يوسف أشارت إلى أنها قدمت عملاً إبداعيًا بكتابها (وليس الذكر كالأنثى)!. راجع لقاءها في برنامج كلام الناس على اليوتيوب، على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=EfPjw471sLg.

([29]) انظر: وليس الذكر كالأنثى، ص46-47، 168-169.

([30]) انظر: المرجع السابق، 168-174.

([31]) انظر: المرجع السابق، ص170-171، وشوق: قراءة في أركان الإسلام، ص99-100.

([32]) وليس الذكر كالأنثى، ص174.

([33]) المرجع السابق، ص172-174.

([34]) ناقصات عقل ودين، ص97.

([35]) انظر: شوق: قراءة في أركان الإسلام، ص227.

([36]) انظر: ناقصات عقل ودين، ص96، وشوق: قراءة في أركان الإسلام، ص213-223.

([37]) ناقصات عقل ودين، ص97-98.

([38]) انظر: حجاب النساء: عرض تاريخي نفساني انطولوجي، ص237.

([39]) حجاب النساء، ص238-239.

([40]) انظر: مدخل إلى النقد النسوي وما بعد النسوية- لحفناوي بعلي، ص105-106.

([41]) عالم نفس نمساوي ولد عام (1865م)، وهو رائد دراسة العقل اللاواعي، طور طرق تفسير الأحلام والترابط الحر للأفكار بوصفها أسسًا في التحليل النفسي، ووضع طريقة (نفس حركية) للتطوير العقلي تعتمد على الصراع الداخلي ومعرفة الشخصية باعتبارها مؤلفة من الـ(هو) و(الأنا) و(الأنا العليا)، توفي عام (1939م)، من أشهر مؤلفاته: (تفسير الأحلام).

([42]) انظر:موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج2/ص39.

([43]) انظر: الحداثة وما بعد الحداثة-لعبد الوهاب المسيري، ص164- 147.

([44]) انظر: وليس الذكر كالأنثى، ص168-169، وناقصات عقل ودين : مقاربة تحليلية نفسية، ص51.

([45]) فيلسوف فرنسي، ولد عام (1913م) تأثر بالفلسفة الوجودية وسيجموند فرويد، وانعكس تأثره على طبيعة اللغة والتفسير والموضوعية، والإرادة، من مؤلفاته (الاختياري والإجباري).

([46]) انظر: صراع التأويلات: دراسات هرمنيوطيقية-لبول ريكور، ترجمة: منذر عياشي، ص46-56.

([47]) بيان تلبيس الجهمية- لابن تيمية، ج1/ ص457.

([48]) بغية المرتاد- لابن تيمية، ص184.

([49]) شرح حديث النزول- لابن تيمية، ص428-429، وانظر: الأجوبة النافعة على المسائل الواقعة-للشيخ السعدي، تحرير: عبد الله بن عبد العزيز العقيل، ص291-294.

([50]) وليس الذكر كالأنثى: في الهوية الجنسية، ص19.

([51]) المرجع السابق.

([52]) انظر: المرجع السابق، ص195.

([53]) راجع مثلاً: الحريم اللغوي- ليسرى المقدم، ص152.

([54]انظر: ببليوجرافيا اتجاهات عامة وأساسية لنسوية إسلامية عربية المنشأ-لحسن عبود، ورقة عمل نشرت في كتاب (النسوية والمنظور الإسلامي)، ص198.

([55]انظر: الأنوثة في فكر ابن عربي، ص10-11.

([56])  المرجع السابق، ص11.

([57]) انظر: الحريم الصوفي وتأنيث الدين- لشحاتة صيام، ص151-158، والأنوثة في فكر ابن عربي، ص10-11.

([58])   فصوص الحكم- لابن عربي، ص60-61.

([59]راجع: مجموع الفتاوى- لابن تيمية، ج2/ص75-256.

([60]مخطوطة مراتب القرة في عيون القدرة -لابن عربي، الورقة 15.

([61])  مما توصلت له الكاتبة في دراستها للخطاب النسوي والمنشورة بعنوان قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر.