مجلة حكمة

انتهاز الفرص: رسالة دو بويز إلى ابنته – ماريا بوبوفا / ترجمة: هديل الدغيشم


 

“كوني مُخلصة، وصادقة، وجسورة. وأدركي بعضًا من قيم الحياة. اقرأي كتبًا قيّمة ونافعة لتُهذّبك. طوّعي نفسك وكوني مُعينًا لها.”

كان عالم الاجتماع ورائد الحقوق المدنية دو بويز (٢٣ فبراير ١٨٦٨- ٢٧ أغسطس ١٩٦٣) أول أمريكي من أصول أفريقية يحوز على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد. حيث يبدي ويثبت إنجازه ذاك إيمانه بقدرة التعليم على تغيير الحياة. لذا عندما كانت ابنته يولاندا -الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة من أبناءه- على وشك إتمام عامها الرابع عشر، عام ١٩١٤، قرر دو بويز بأن يسجلها في إحدى أبرز مدارس إنجلترا الداخلية وأكثرها تكلفة، ألا وهي بيدلز، والتي تخرّج منها العديد من الشخصيات الشهيرة كسائقة سيارة السباقات والمُشَفِرَّة مارغريت آلان، والشاعرة والفنانة فريدا هيوز (ابنة سيلفيا بلاث وتيد هيوز)، والمغنية ليلي آلين، وأخيرًا الممثل ميني دريفر.

في زمنٍ لم تُمنح المرأة فيه حق التصويت بعد، حيث كانت حركة المطالبة بالحقوق المدنية على بعد نصف قرن من ذلك الوقت، ولم تقبل معظم المدارس الأمريكية الرئيسة النساء إلا في مبانٍ مخصصة. لذا كان امتيازًا نادرًا لامرأة سمراء بأن تدرس في مدارس بيدلز. وكانت أيضًا فرصة استثنائية لها لتصل إلى  حق حرية الاختيار، عملًا بنصيحة نيتشه لليافعين لتحرير أرواحهم “كُن سيدًا لذاتك، وتحكّم بأفعالك الحسنة، وكن مسيطرًا على إجابتك بنعم أو لا، وتعلم أن تُخضعها حسبما تستلزم أهدافك السامية..” والعمل بنصيحة سينيكا الخالدة حول دعم المرء لذاته، والتي كُتبت منذ ألفيتين.

وبعد مرور وقت قصير على وصول يولاندا إلى إنجلترا، كتب لها دو بويز رسالة فريدة. إذ أراد أن يتأكد- بكلمات رقيقة ومُحبة- بأن ابنته ذات الأربعة عشر عامًا استوعبت الامتياز الذي حظيت به، بالإضافة إلى حقوقها الإنسانية.     

هذه الرسالة نصيحة أبوية فذّة تحتوي على بعض أحكم وأدفأ الكلمات التي يمكن للمرء أن يحيا بها. ونستشف منها حقيقة مهمّة عن الامتياز، قد تكون تلك الحقيقة مُربكة إلا أنها غاية في الأهمية: يجب علينا، وبكل إخلاص ووعي، أن ننتهز أي فُرصة تأتي إلينا طوعًا، سواءً منذ الولادة أو بمحض الصدفة.         

دو بويز البالغ من العمر ٤٨ عامًا يكتب رسالة ليولاندا في ٢٩ أكتوبر ١٩١٤:

 

“بُنيتي الحبيبة:

لقد تأنيتُ في كتابة هذه الرسالة حتى تستقري، وأتمنى بأنكِ بدأتِ تشعرين بالسكون وتلاشى عنك الشعور بالوحشة، وأرجو أن طفلتي الصغيرة تعمل بجد وتفانٍ.

كل شيء، بالطبع، سيبدو جديدًا وغريبًا، وستفتقدين حداثة وذكاء أميركا. ولكن بالتدريج ستستشعرين جمال العالم الأثري؛ سكونه وخلوده، وستنشأين على حبه.   

قبل كل شيء تذكري بأنكِ حظيتِ بفرصة ثمينة، وأنكِ بإحدى أجود المدارس في العالم، في إحدى أعظم إمبراطوريات العالم الحديثة. حيث يتمنى العديد من الصِبية والفتيات حول العالم بأن يبذلوا أي شيء للحصول على فرصة مماثلة؛ ليكونوا بمكانك. بينما أنتِ هناك ليس بجدارة أو جهد منك، وإنما لحُسن حظك.

استغليها إذن، ادرسي وأدّي واجباتك بجد. كوني مُخلصة، وصادقة، وجسورة. وأدركي بعضًا من قيم الحياة. بلا شك بأنك ستواجهين بعض الفضوليين المزعجين، حيث سيستنكر الناس لون بشرتك الداكن الجميل، وشعرك الأجعد الفاتن. ولكن لا عليكِ، إذ أن هذا كله لا يهم  وسيُنسى حالاً. تذكري بأن العامة يضحكون على أي شيء غير مألوف، سواءً كان جميلًا أو قبيحا. ولكن الأهم ألا تضحكي على ذاتك وتسخري منها، يجب أن تدركي بأن بشرتك السمراء جميلة كجمال البيضاء أو ربما أجمل، وأن شعركِ الأجعد فاتن كالأملس، حتى لو كان صعب التسريح. الأهم من كل ذلك هو أنتِ، ذاتك التي تخبئها هذه البشرة، قدرتكِ على العمل، ورغبتك بالانتصار، وإصراركِ لاستيعاب ومعرفة هذا العالم الجبار الغريب. إياكِ أن تُحجمي عن التجارب والتقاليد الجديدة. خذي حمامًا باردًا بشجاعة، واخلدي إلى غرفتك الفسيحة بكل شغف. استمتعي بما يستحق، ولا تبتئسي على لا شيء. اقرأي كتبًا قيّمة ونافعة لتُهذّبك. طوّعي نفسك وكوني مُعينًا لها، مارسي أشياءً سيئة، حتى تتعلمي وتصلي لأقصى مراحل السمو الذاتي.             

وتذكري قبل كل هذا بأن والدك يحبكِ ويؤمن بك، ويتوق بأن يراكِ امرأة استثنائية.

سأكتب لكِ أسبوعيًا، وأنتظر رسائلك أسبوعيًا أيضًا.

كل الحب،

بابا”

أصبحت يولاندا أكاديمية وناشطة، وبعد أربع عشرة سنة تزوجت خرّيج هارفارد الشاعر كونتي كولن، وكان ذلك بتشريف لانغستن هيوز. 

 

 

المصدر