مجلة حكمة

فرويد وأتباعه: نساء فرويد (روث برونشفيك) – بول روزان / ترجمة: يوسف الصمعان


يمكنك شراء نسخة كندل من الكتاب عبر هذا الرابط


روث برونشفيك
روث برونشفيك

1-  (مايجوز للحاخام)

لم “يتبنّ” فرويد بعد اوتو رانك ابنا آخر. وعلى الرغم من أن قائمة فرويد لعام 1924 لتلاميذه الذين ظلوا على ولاء له لا تشمل أية أسماء نسائية، إلا أن تلاميذ فرويد من النساء تبوأن الصدارة وتعاظم دورهن منذ ذلك الوقت بالنسبة له، غير أن الصدارة النسائية بدأت بعيد ذلك التاريخ.

روث برونشفيك

 إذ توالى عليه هجر النوابغ من تلاميذه بدءا بجوستاف يونغ إلى إبراهام وأدلر.  وأدرك فرويد أن تلاميذه من الإناث أقل عنادا ومنافسة. والحق أن تلميذاته يمثلن صفا طويلاً من البنات  بالتبني: ميرا أوبرهولزر، يوجينيا سوكولنيكا )المحللة النفسية  للروائي البولندي أندرية جيد “والتي أوردها في روايته”مزيفو النقود”The Counterfeiters “والتي انتحرت بالغاز عام1934،مع العلم أن فرويد هو من قام بتحليلها بنفسه)، هيرمين فون هوغ-هيلموث ,هيلين دويتش، ماريا بونابارت، روث برونشفيك، وجيان لامبل-دي غرو، وكذلك النساء اللواتي قدمن إليه من خلال صداقتهن لابنته آنا فرويد[i] بالدرجة الأولى، مثل دوروثي بيرلينغهام، إيفا روزنفيلد، آني كاتان، وماريان كريس

روث برونشفيك

ألبرت شفايتزر

ما كان فرويد استثناء من بين المشاهير من العلماء الذين يروق لهم-رغم الشيخوخة واعتلال الصحة-تجميع النساء المعجبات وقد سبقه وتبعه الكثيرون فعلى سبيل المثال albert schweizeter [i]الذي يكن له فرويد احتراما بالغا سلك النهج ذاته[ii]،وللإنصاف فإن فرويد لم يجهد نفسه بالتماس تزلف هؤلاء النسوة، ولم يكن يبحث جديًّا عن تملكهن ولم يختر معجباته بشكل خاص.

وبصورة عامة فقد كان يقبل النساء كعضوات في دائرته المقربة دون أن يبذل في ذلك أيّ جهد مخصوص، ولم ينزعج أبدا لوجود ما يشبه الحاشية الملكيًّة من حوله. وإلى جانب انشغال فرويد المجهد بعمله وعدوانيته تجاه العالم الخارجي، وجد نفسه مذعنا بشكل سلبي، ليس لامرأة واحدة، بل لمجموعة كبيرة من النساء.  لم يشأ فرويد لسفاسف الحياة اليومية أن تقلقه، وشكلت النساء في آخر سنواته ما أطلق عليه البعض “بطانة: Camarilla “. كن يحجبنه عن الزوار غير المرغوبين، ويرتبن له عطلاته، ويشرفن على صحته. بهذا فإن فرويد الذي كان خجولا ومنكمشا تجاه النساء حينما كان طفلا وصبيا، ختم حياته محاطا بهن، وربما أعاد هذا إلى الأذهان ظروف نشأته كطفل بين خمس أخوات.

روث برونشفيك
آنا فرويد-سالومي-هيلين دوتش- روث برونشفيك -ماري بونابرت

مضت هؤلاء النساء بترسيخ أقدامهن في مهنة تستقيم كثيرا مع المواهب النسائية. ورغم أن المكانة التي احتلتها روث ماك برونشفيك في حياة فرويد لم تتضح كل أبعادها بعد، إلا أن سيرتها تلقي المزيد من الضوء على العقد الأخير من عمر فرويد وعلى ما يناهز نصف سنوات شيخوخته. ويمكن الجزم أنه منذ عام 1930 كانت روث برونشفيك (1897-1946) هي أثيرة فرويد بلا منافس فقد لازمته بشكل استثنائي طوال حقبة فيينا . وقد حظيت بمكانة خاصة حيث كانت منفتحة عليه بشكل كبير، فقد كانت تأتي لتناول العشاء في بيته وكانت تزوره في كل الأصياف، واتسمت علاقتها بأطفاله بالدفء، لكأنها في الحقيقة واحدة من أفراد عائلته. وحدها آنا فرويد التي كانت تحبها وتغار منها في ذات الوقت باعتبارها منافسة لها.  تعتبر روث بروينشفيك الأكثر أهمية قياسا للأخريات ممن تبناهن فرويد.

لعبت روث برونشفيك دورا مهما في التوسط بين حلقة المحللين الأمريكيين الناشئة وحلقة فرويد الضيقة في فيينا. ساعدها في ذلك أنها كانت محللة نفسية أميركية بالإضافة إلى كونها كانت تحظى بثقة فرويد، فضلا عن كونها كانت في الآن ذاته عضوة في جمعيتي نيويورك وفيينا للتحليل النفسي، وهو ما أهلها أيضا لتلطيف حدة التنافر الطبيعي بين عالمين متباينين إلى حد بعيد جدا.  فوق هذا ساعدت روث برونشفيك فرويد في اجتذاب الأثرياء الأمريكيين إلى عيادته الخاصة في فيينا على امتداد عقود حتى إغلاقها إثر هجرته إلى لندن. إضافة إلى ذلك فقد كانت ترعى مرضى التحليل النفسي الأميركيين أثناء إقامتهم في فيينا.

 قد يستعصي على الشخص الغريب معرفة من هو ” المقرب” من فرويد ومن هو غير ذلك. إلا إن مكانة روث برونشفيك يمكن ملاحظتها جليَا بالنسبة لكل من كان له اتصال بفرويد، ولو لوقت قصير. وقد امتدت هذه الحظوة الخاصة لتشمل ابنتها التي كانت أثيرة فرويد وزوجته. ولعل الغيرة أو اللباقة هي التي منعت أرنست جونز كاتب سيرة فرويد من الإشارة إلى مكانة برونشفيك. كما أسلفنا كانت روث برونشفك واحدة من النساء القلائل اللاتي كن تسلمن خواتم من فرويد كتعبير عن معزته الخاصة لهن وهو ما لم يذكره جونز في سيرة فرويد·.

كانت روث برونشفيك كارزماتية وجذابة، حادة الذكاء، عفوية جدا وظريفة. متفجرة حينما تعبر عن مشاعرها.  شخصية دافئة ومحبة للآخرين، إلى جانب كونها أنيقة وودودة ومهذبة، فضلا عن كونها مفعمة بالحيوية. ومع ذلك لم تكن – كأنثى-جذابة ولا منفرة على نحو خاص بالنسبة لفرويد.

لقد حاول فرويد أن يكرر مع روث برونشفيك ذات التقليد الذي سلكة مع مينا شقيقة زوجته، إذ أنه كان يروق له أن يستخدم النساء كدريئة لأفكاره، بيد أن روث، خلافا لمينا، كان لديها نزوع للهيمنة، لا أن تكتفي بدور الأم المسالم الذي يقف طموحه عند فهم أفكار فرويد. كانت مثقفة وواسعة الاطلاع، ثاقبة النظر ومدققة، وهي واحدة من الأمريكيين القلائل غير الموصومين كأمريكيين عند فرويد.

 تميزت روث برونشفيك بجرأة تفكيرها، وربما كانت تلك هي مناط الحكم في الأمر بالنسبة إلى فرويد، لم تكن ضيقة الأفق ولا محدودة التفكير، جسورة ومجازفة، لا تعبأ بالمخاطر، تمتاز بمرونة ذهنية متميزة حتى أنها قد تتبنى فكرة ثم سرعان ما تتخلى عنها لاحقا متى اقتنعت بذلك. هذه المرونة الذهنية لم يتميز بها إلا قلة ممن قصدوه. وقد كانت بروننشفيك فخورة بعلاقتها بأستاذها فرويد، تلك العلاقة التي كانت مبعث بهجة للطرفين.

 كانت روث برونشفيك –روث بلومغارت حينها– في سن الخامسة والعشرين عندما جاءت إلى فرويد ـ وقد غشت عالمه بحماس وحرارة. وأصبح فرويد الشخص المثالي بالنسبة لها، والمعلم الناصح والمخلص، فضلا عن أنه يقوم بالنسبة إليها مقام الأب. كان والدها القاضي جوليان ماك، رجل قانون متميز ومحسن يهودي ذائع الصيت، غير أن علاقتها به لم تكن وثيقة، الأمر الذي جعل من فرويد حلا مثاليا لها.  أدركت روث برونشفيك أن فرويد-بعد وفاة فرينك-كان يعتبرها حلقة الوصل التي تربطه بالأميركيين، وأنه كان يثق بها في نقل وشرح أعماله بشكل صحيح في الأوساط الأميركية.

IMG_1540
لتفصيل أوسع حول الكتاب-انظر الهامش

ظلت روث برونشفيك، لفترة طويلة، أكثر قربا من فرويد من ابنته آنا، من ذلك مثلا أنه أعطاها بعض صفحات من مخطوطة كتابه عن وودرو يلسون[iv]، وهو ما لم تحظى به آنا حتى عام 1965. لم يفتأ فرويد يظهر حفاوته وتكريمه وصداقته الحميمة لبرونشفيك مما أثار غيرة البقية ممن كن أقل حظوة منها، حتى أن بعض زملائها الذكور كنوا يعتبرونها بغيضة وعدوانية.

لم يتوقف دور روث برونشفيك عند ذلك الحد، بل كان لها أيضا دور خاصّ في العناية بصحة فرويد، فمن خلال نفوذ والدها لدى مجلس المشرفين في جامعة هارفارد، رتبت عام 1931 مع بروفسور في الطب بهذه الجامعة لجراحة تجميل شملت تعويض جزء من فم فرويد، وقد دفعت هي وماريا بونابرت فاتورة تكاليفها الباهظة وهو أمر امتعض له فرويد. لكن رغم ما بذل من جهد في سبيل ذلك، لم تكن تلك الجراحة ناجحة.  زادت حسرة فرويد بعدما شعر بأنه أصبح عبئا ماليا على غيره، لكن ذلك لم يؤثر على تعهد روث برونشفيك لأستاذها بالرعاية حيث ظلت تحيطه بها، وامتدت رعايتها له في مرضه لتشمل نظامه الغذائي وحميته.

وصلت روث برونشفيك إلى فيينا لأول مرة قبل ما يناهز العقد من تلك الجراحة التي أجريت على فرويد في مستشفيي هارفارد، وتحديدا عام 1922، كانت في ذلك اللحين متزوجة من هيرمان بلومغارت الذي كان طالبا في كلية الطب في هارفرد، حيث كان مقربا جدا من إ. ب. هولت الذي لم يكن أول من قدموا مقررا دراسيا في هارفارد عن فرويد، بل ألف واحدا من أول الكتب المدرسية في التحليل النفسي. أما روث برونشفيك، في المقابل، كانت قد تأهلت من كلية “راد كليف” لتلتحق بكلية الطب في جامعة توفتس المجاورة لهارفارد في بوسطن. استطاعت روث أن ترتب سفرها بمفردها إلى فيينا بواسطة ليونارد، شقيق هيرمان، وهو محلل نفسي سبق أن زار فيينا بغرض التحليل النفسي لدى فرويد لفترة قصيرة. ولم يكن زواجها حينذاك على ما يرام. بيد أن روث آثرت أن تكمل تدريبها الطبي في تخصص الطب النفسي ومن ثم سافرت إلى فينا ليس فقط من أجل تجاوز مشاكلها الشخصية وإنما أيضا من أجل مزيد التكوين في تخصصها. وقد خاب مسعى زوجها بلومغارت الذي لحق بها إلى فيينا محاولة منه لثنيها عما عزمت عليه والعودة معه. عقد زوجها العزم على أن يواصل في ميدان الطب (جراحة القلب)، وأصرت روث على أن تتخصص في مجال التحليل النفسي. بالرغم من أن الزوج هيرمان بلومغارت تحدث إلى فرويد في الأمر سعيا لإصلاح ذات البين بين الزوجين، لكن ذلم لم يكن مجديا. وهكذا عاد هيرمان بلومغارت إلى أمريكا تاركا وراءه زوجته هناك لينحت اسمه اختصاصيا بارزا في أمراض القلب على امتداد حياته المهنية.

لقد كان هناك بالفعل رجل آخر يتملك وجدان روث طالما حلمت به زوجا لها، وكان فرويد أيضا يراه الزوج المناسب لها، إنه مارك برونشفيك الذي كان يصغرها بخمس سنوات إلا أنه كان متيما بحبها منذ صغره، و عقد العزم على أن يتزوجها منذ أن حضر حفل زفافها عندما كان في سن المراهقة بوصفه قريب هيرمان لجهة أمه، فزوج روث الأول هو ابن عم والدة مارك برونشفيك. وأهم ما يميز هذه المجموعة من الأميركيين تشابك العلاقات فيما بينها وتعقدها فقد تزوجت أم مارك برونشفيك فيما بعد من القاضي جوليان ماك-والد روث” في السنوات الأخيرة من حياته.

 رتبت روث لتحليل مارك، بالإضافة إلى تحليلها-هي بدورها-على يد فرويد. وفي عام 1924، عندما كان مارك في الثانية والعشرين من عمره. أصبح مارك عضوا من حلقة فرويد، وكان فرويد آنذاك في الثامنة والستين من عمره. يتذكر مارك تعليق فرويد في أول لقاء بينهما: «هل يمكن للمرء أن يكون فتيا إلى هذا الحد؟» وقد كان نصيب مارك من التعليم الرسمي محدودًا، وكانت السنة التي قضاها في أكاديمية اكستر هي آخر عهده بالتعليم النظامي.  وعلى الرغم من كونه خجولاً، وحييًا وجبانا، ولم تكن انفعالاته قد نضجت بعد، إلا أنه كان في منتهى البراعة في مجال الموسيقى حتى أنه أصبح لاحقا بروفسورا في الموسيقى ورئيسًا لقسمه في كلية المدينة بنيويورك من 1946إلى1965. لقد كان منفتحًا، وواسع الخيال، فنانا وموهوبا. تعهد فرويد برعايته بجدية، ولا عجب ألا يعرف مارك شيئًا عن العلم ولا الطب، فلم يكن يعنيه غير التلحين وأصدقائه الموسيقيين بفيينا . وقد تعهد فرويد بتحليل مارك نفسيا باعتباره صهرا محتملا لابنته إن جاز التعبير، إذ أن روث ومارك كانا عشيقين وقتها، ولذلك عمل فرويد في تأهيله وتهيئته لكي يتمكن من الزواج من روث.

 لقد مثل زواجهما في 1928 حدثًا مهمًّا في حياة فرويد، لأنه نادرًا ما كان يخرج للعامة آنذاك. وقد أقيم حفل الزفاف في ملهى المدينة، وشهد فرويد على مراسم هذا الزواج، في حين كان الشاهد الثاني الدكتور أوسكار راي طبيب الأطفال الخاص بأحفاد فرويد ولابنة روث ومارك فيما بعد (وقد سميت هذه الطفلة ماتيلدا تيمنا باسم كبرى بنات فرويد الصديقة الحميمة للزوجين مارك وروث)، أما ابنة راي، ماريان كريس فكانت صديقة روث الأقرب. صيغت أوراق زواج مارك وروث على يد المحامي مارتن ابن فرويد، كما حضر حفل الزواج ديفيد شقيق مارك (الذي اضطلع فرويد بتحليله أيضا)، وحضرته كذلك شقيقته الصغرى (كان نونبيرغ يضطلع بتحليلها).

قام فرويد بتحليل الزوجين مارك وروث بالتزامن، فضلا عن ديفيد شقيق مارك أيضا، وقد شغل الثلاثة فيما بينهم ستين بالمائة من وقت ودخل فرويد من التحليل النفسي (في هذه الأثناء كان فرويد يجري بانتظام حوالي خمس حالات تحليل) من المعلوم أن المحللين النفسيين المعاصرين لا يميلون إلى تحليل الثنائي سواءً أكانا زوجين أو غير متزوجين، ويعد هذا الأمر مضادا للقواعد المتبعة للاستطباب، إذ أن المحلل النفسي في حاجة إلى أن يكون قادرًا على أن التماهي مع المريض، ويزداد الأمور صعوبة كلما تعلق بمعالجة الأشخاص وثيقي الارتباط. غير أن فرويد كان يخالف النهج والقواعد التحليلية من باب أنه “يجوز للحاخام ما لا يجوز لغيره”، إذ يسمح للحاخام بكل الاستثناءات المتاحة .

ومن جهة أخرى، كان مارك برونشفيك يرى الكثير من جوانب شخصية فرويد في محيطه الأسري، فقد كان يتردد كثيرا صحبة روث على منزل فرويد في إطار زيارات ذات طابع اجتماعي·.  عبر مارك فيما بعد عن شعوره بأن علاقته الشخصية بفرويد جلبت له الخير وبالقدر نفسه ساهمت في تعزيز بعض السمات المرضية لديه. كان فرويد يعيش في عالمين مختلفين بينهما حاجز وقائي لحماية نفسه وأسرته من تداخل عالمه المهني والأسري، بعيدا عن مزاولته لمهنته يتجنب أن يكون نفسانيا·. لقد كان فرويد في محيط أسرته سعيدًا وغير متحفظ، وذات مرة وبخ صهره زوج ماتيلدا لأنه مازح روث بغزلية عبثية، عندما كانت هذه الأخيرة مريضة لدى فرويد.

لم يكن مارك يجرؤ على أن يصارح فرويد بما لاحظه من تباين بين سلوكه في بيته وسلوكه في العمل، أو بالأحرى لم يفكر أبدا أنه ما كان ليجرؤ على فعل ذلك. جدير بالذكر أن مارك قرأ كتاب فرويد (الطوطم والتابو) قبل سفره إلى فيينا وأعجب به، ولكن، ولأنه كان مهتمًّا بالأنثروبولوجيا، لم يبد اهتماما بالطب، ولم يفكر إطلاقًا بأن يصبح هو نفسه محللاً بل ولم يذهب إلى اجتماعات جمعية فيينا للتحليل النفسي إلاّ مرة أو مرتين، وحينما فعل صدمته الكلمات التي كانت تقال صراحة بحضور الجنسين معا.

تعرف مارك أيضا على وليام بولت الذي كان يخضع للتحليل النفسي من قبل فرويد، كما تعرف على ماري بونابرت التي كانت تخضع لفترات متقطعة طيلة سنوات عديدة للتحليل النفسي من قبل فرويد شأنها في ذلك شأن روث.  تعرف كذلك في عام 1930 على إديث جاكسون وكانت مريضة أخرى من مرضى فرويد.  كان فرويد يتقاضى من مرضاه حتى عام 1930 عشرين دولارًا لقاء الساعة الواحدة، ثم قرروا، وبتوافق بينهم من تلقاء أنفسهم، أن يرفعوا الأجر إلى خمسة وعشرين دولارًا.

غير أن هذه الحميمية في العلاقات الشخصية لم تساعد مارك علاجيا، كما أضرت به حماقات فرويد، من ذلك مثلا أن فرويد، بعد أن قضى مع ديفيد شقيق مارك بضعة أسابيع في التحليل النفسي، عبر عن تذمره لمارك قائلاً: «ماذا فعلتما بي أنت وروث ؟! إن أخاك ممل جدا!». والحقيقة كان مارك وديفيد يتوجسان خيفة من فرويد ولكل منهما أسبابه. فقد كان ديفيد يظن أن فرويد متحامل عليه بإيعاز من مارك وروث حتى أن فرويد فاجأه في اليوم التالي للتحليل  بأن يتعلم اللغة الألمانية وأن يلتحق بكلية الطب، ويبدو أن فرويد توقع منه مقاومة شديدة كتلك التي يبديها المثقفون عادة، إذ أن ديفيد كان آنذاك سيكولوجيًّا متدربا يستعد لمباشرة عمله، وقد فشل في مدرسة طبية في الولايات المتحدة، وفعل الشيء نفسه لاحقا في فيينا. وافترض فرويد أن ديفيد، بوصفه أمريكيا، كان يحتاج إلى شهادة في الطب ليتأهل كمحلل نفسي في الولايات المتحدة. عندما باشر ديفيد ممارسة التحليل في أميركا، كتب إليه فرويد قائلاً: «لقد نلت أعدل عقاب تستحقه عندما أصبحت محللا». وإن كانت هذه تعبيرا عن إحدى دعابات فرويد، إلاّ أنها، بالنسبة إلى ديفيد، كانت تعبّر عن موقف فرويد منه.

أما الشاب مارك برونشفيك فكان يشكو من اضطرابات حادة في الطبع عندما قدم إلى فرويد. وحين تذكر مارك بتدبر تلك الأيام، خلص إلى اعتقاد مفاده لو أن فرويد رفض تحليله آنذاك لأن روث كانت مريضته أيضا لكان ذلك صادما له، ولكن ربما كان ذلك هو الأفضل على المدى البعيد.  (شعر ديفيد هو الآخر فيما بعد أنه ما كان ينبغي لفرويد أن يأخذه إلى عالم التحليل).  وبالمحصلة فقد شرع فرويد في تحليل مارك أول مرة في أيلول/سبتمبر عام 1924، واستمر في ذلك على امتداد ثلاث سنوات ونصف السنة. عندها أخبره فرويد بأنه قد شفي، وأنهى مارك تحليله وتزوج روث. وحسب مارك، فإنه لم يشفَ من أيّ عرض، رغم تحسّن مشاعره نحو أبيه. على الرغم من أن مارك أظهر فيما بعد مشاعر سلبية تجاه فرويد، إلا أنه كان يوقره، ولا ينسب إليه أي شيء تافه وكثيرا ما شعر أن أخطاءه نابعة من إرادة حسنة ولربما نتجت عن الود وعدم التحفظ.

في حزيران/ يونيو 1928غادر الزوجان مارك وروث بروينشفيك فيينا إلى الولايات المتحدة، حيث أنجبت روث مولودهما؛ وعادا إلى أوروبا في 1929 ومكثا في فيينا حتى عام 1938. وفي حوالي نهاية 1933 وبداية 1934، أخبر مارك فرويد أنه لا يزال يعاني من كل الأعراض، وربما أصبح أسوأ حالا، لأنه كان يحاول أن يرتقي إلى حياة ناضجة. وقد انزعج فرويد لذلك، وبادر بإخضاع مارك للتحليل من جديد.

خلال التحليل الأول لمارك (قبل السفر لأمريكا)، عندما كان شابًّا فتيا متيما بحب امرأة متزوجة، كان فرويد وروث قد ناقشا حالته بتفصيل تام. أصبحت روث بمثابة أم لمارك تقريبًا. لكن فرويد أوضح في هذه المرة (في التحليل الثاني) لمارك أنه لا ينبغي لروث أن تعلم عن تحليله شيئا كما حصل من قبل، وأنه قد ارتكب خطأ خطيرًا بمناقشته أمر تحليل مارك معها في السابق. كان فرويد طبيعيًّا ومنفتحًا في الاعتراف بخطئه. (بينما لم يكن كذلك مع مرضاه الآخرين أمثال ديفيد).

سرعان ما وقع مارك في غرام فتاة شابة وسأل فرويد ما إذا كان من المناسب أن ينقض قسم الزواج، ورد فرويد بالإيجاب وقد تطلقا روث ومارك عام 1937، لكنهما تزوّجا من جديد في غضون ستة أشهر، لكن فرويد لم يسرّ لصنيعهما. حقّق مارك تقدمًا ايجابيا في العلاج حتى عام 1938.في ذلك الحين لم يكن في فيينا أي من أصدقاء مارك الموسيقيين. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1937 غادر مارك فيينا ليعود إليها في كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته قبل أن يرحل عنها نهائيا في أواخر كانون الثاني/ يناير 1938. أما فرويد فقد بدأ كتابة حالة مارك المرضية في الشهر نفسه لكنه توفي قبل أن يتمها. (بعد ذلك بسنوات خضع مارك لتحليل أخير في نيويورك اعتقد أنه كان أكثر نجاحًا بكثير من التحليلين اللذين أجراهما مع فرويد).

لم تخل علاقة فرويد والزوجين برونشفيك من التوتر، كانت مسبباتها في الغالب خلافات في الرأي والموقف السياسي[v].  خاب أمل كلا من روث وماك في فرويد عندما أيّد اسقاط الاشتراكيين بالقوة في فيينا عام 1934. لقد غير فرويد أرائه السابقة رأسا على عقب وصار مؤيدا وبقوة لرئيس الوزراء دولفوس، بل صار يمجده ويجادل مناوئيه مما أثر على مصداقية فرويد السياسية فلم يكن من المنتظر من قبل مريديه أن يؤيد حاكما تسلطي وذو نزعة دكتاتورية، إضافة لمعاداتها الفكر والثقافة. لقد شرفت حياة فرويد على نهايتها وكان همه الأكبر أن يظل في فيينا أيا كان الثمن. في شباط/ فبراير 1934 اتفق مارك وفرويد أن يفترقا لفترة نظرًا إلى المرارة التي عاناها مارك بسبب اتجاه فرويد السياسي. لقد كانت النمسا آنذاك في ظل حكومة سلطوية معادية للفكر، وتمثل القوي الاجتماعية التي لم تكن تحظى يوما بمباركة فرويد، في حين كان الاشتراكيون أصدقاءه، وقد فشل فرويد في أن يتعامل مع هذا الأمر في التحليل، ربما بسبب إحساسه بالذنب.

 حث مارك وروث فرويد في كثير من الأحيان على مغادرة فيينا، إلاّ أنه كان ينفر من هذه الضغوط، لأنه كان يرى أن مخاوفهما لا مبرر لها. وقد كتب في عام 1932 في رسالة له: «لقد ظل روث ومارك يخبراني باستمرار ودون ملل بأن هناك خطرًا يتهدد شخصي ببقائي، ولكن لا أستطيع أن أصدق ذلك البتة. فما أنا بالشخص المعروف في فيينا، كما أن أفضل المطلعين يعرفون فقط أن أية معالجة سيئة أقوم بها كانت ستثير جلبة عظيمة بالخارج»). أما الآخرون في جماعة التحليل النفسي في فيينا فقد واجهوا مصاعب في المغادرة لأنهم كثيرا ما عارضوا فرويد في هذا الشأن، رغم اقتناعهم بحتمية الهرب من سفينة غارقة لامحالة.

575561

في الوقت الذي سيطر فيه النازيون على فيينا، كانت روث قد وضعت بصمتها الخاصة في عالم التحليل النفسي ويرجع ذلك في معظمه لرعاية فرويد لها فقد أهداها هبة شخصية عظيمة تمثلت في منحها ثقته في مواصلة علاج مريضه السابق ” الرجل الذئب “. وفي ذلك إطراء لها. غير أن روث في معالجتها ” الرجل الذئب”، تعمدت أن تغفل مشاعر المريض تجاهها رغم أن ذلك عماد العلاج النفسي التحليلي، معتقدة أن ” هذا المريض ليس له إلا فرويد” وأن دورها كمعالجة كان “من الممكن إهماله تقريبا، إذ أن دوري الحقيقي لم يتجاوز كوني مجرد وسيطة بين المريض وفرويد “·

وقد شكلت الحالة والمقالة التي كتبتها روث عنها نقلة هائلة في تقييمها لذاتها. كتبت مقالتها بتعاون وثيق مع فرويد. إلا أن المرء كان يأمل ألا يصادق فرويد على هذا اللغو الذي ختمت به عرضها عن مستقبل صحة المريض” الرجل الذئب” إذ نصت «معتمدة وبشكل أساسي على درجة الإعلاء التي يثبت أنه قادر عليها» ).

 كانت روث تكتشف ذاتها في حضور فرويد. أما بدون فرويد فإن قلة محدودة من أتباعه هم من كانوا سيحظون بأهمية ما في تاريخ الفكر. فلقد كان فرويد يلهم ويشجع الكثيرين منهم أكثر ممّا أنجزوا طوال حياتهم من قبل على الإطلاق.·

2 ـ  التبعية والإدمان

اكتشف فرويد في روث برونشفيك مقدرة سيكولوجية طبيعية فقد تميزت بموهبة فطرية على «اشتمام» اللاوعي . وأما فيما يتعلق بتقنيتها التحليلية النفسية لم تكن تقليدية وإن كانت في حدود التقاليد الأروثودوكسية للتحليل النفسي محللة نشطة ومجددة نسبيا. في المقابل قد يندهش البعض من أن نشاطها لم يكن بقدر ما حظيت به من قبل فرويد الذي حللها بنفسه واصطفاها في مواضع كثيرة. شابهت روث أستاذها فرويد في الاهتمام بعلم التحليل النفسي أكثر من العلاج لذاته إذ أن العلاج التحليلي هو أداة لكشوفات في علم النفس. أما مرضاها فقد كان جلهم من الهولنديين، لأن فرويد كان يرسل إليها، في البداية، المرضى الهولنديين. (قد يعزي ذلك إلى أن التحليل النفسي في بداياته حظي بتقدير كبير جدا في هولندا ، وازدهر هناك. وربما لأن جل سكانها من الطبقة الوسطى، بل إنه في ستينات القرن العشرين كانت هولندا هي البلد الوحيد الذي تذمر فيه المحللون النفسيون من وجود عدد كبير من الطلبة قيد التدريب على التحليل النفسي)

لم تكن تأشيرة روث تسمح لها بالعمل وكانت الشرطة كثيرا ما تضايقها. غير أن المحامي مارتن فرويد أوضح للسلطات، وبشكل منحاز لروث، أنها كانت تعمل تحت الإشراف، وللأغراض التدريبية فقط. فيما عدا ذلك كان آل برونشفيك يمتلكون في فيينا سيارة وبيتًا فخمًا به خدم. وكانوا في أعين بقية جماعة التحليل النفسي يعيشون حياة المليونيرات.

لقد أعطى فرويد روث أفكارا ومرضى بلا حدود، وخلافًا لبعض تلاميذه الذكور السابقين عليها، لم يكن يرى فيها منافسة له. كان فرويد معجبا باهتمامها بالذهانييين حنى أنها خصت زملائها في جمعية فيينا بحلقة حول الذهان رغم أنها لم  تكن جزءًا من المقرَّر الدراسي المعتمد في الجمعية، وإنما كانت موجهة خصيصا «للمتخرجين»، وكان كل من ماري بونابرت وبول فيديرن من بين من حضروا إلى جلسات نظمتها في بيتها في فيينا. والغريب في الأمر أن فرويد شجع عملها فيما لم يحرك ساكنا حيال عمل فيديرن·. صحيح أن أفكار فيديرن كانت مرتبكة ومشوشة، إلا أن فرويد رغم بعض الشكوك التي كانت تساوره حول مشروعية استخدام التحليل النفسي لمعالجة حالات الذهان، إلا أن عاطفته نحو روث قد رجحت الكفة لصالحها.

تميّزت روث برونشفيك بقدرات ذهنية استثنائية مكنتها من دمج اكتشافاتها ضمن اكتشافات فرويد·، وفضلا عن ذلك كانت تملك موهبة المناورة الذكية في التعامل مع مفاهيم فرويد النظرية وهو ما ساعدها على استخدام تلك المفاهيم في توليد مفاهيمها الخاصة من ذلك مثلا أنها شددت على أهمية الأم في نمو الطفل وقد فعلت ذلك بكل لباقة   حتى أن فرويد لم يرى في مساهمتها تلك ثورة على أفكاره الأساسية. بعيد وفاة فرويد ركزت بعض الاتجاهات الرئيسية في التحليل النفسي على الاهتمام بالحالات التي “يرجع فيها سبب المرض إلى ما قبل عقدة أوديب ويشتمل على تشوه يحصل أثناء مرحلة التبعية المطلقة “، وهو ما أشار إليه يونغ في وقت مبكر إذ لاحظ أن فرويد قد أغفل أصلا الدور غير الأوديبي لرابطة الأم-الطفل. إلاّ أن روث برونشفيك قد عبَّرت عن اكتشافاتها بحذر بالغ.

bbf030ee-a38a-437a-b44b-9ad3fde6a79c
فرويد, اوتو رانك- روث برونشفيك

وبينما كان رانك قد أسَّس نظرية منافسة للأوديبية الكلاسيكية حول فكرته الجديدة التي تؤكد على أهمية العوامل غير الأوديبية، فإن روث كانت تشدد على أن هناك أطوار «ما قبل أوديبية» في نمو الطفل. وعبرت عن ذلك باحتراس، لأن من عادتها أن تؤصل أفكارها في مفاهيم فرويد حيث قالت: «على حد علمي فإن مصطلح ما -قبل أوديبي-استخدمه فرويد أول مرة عام1931 فيما استخدمته كاتبة هذه السطور عام 1929». وإذ قصر استخدام هذا المصطلح في البداية على علم النفس النسائي، إلا أن نظريتها سرعان ما امتدت أكثر مع مرور الوقت حتى بلغت تطبيقاتها سيكولوجية الرجل أيضًا. تعني روث بمصطلح ما قبل الأوديبي أن هناك علاقة عاطفية مبكرة تسبق النزاع المثلث الذي تولع فيه الفتاة الصغيرة بحب أبيها وتشعر بالمنافسة تجاه أمها. ينطوي هذا الوضع المبكر الذي يأتي قبل عقدة أوديب، على حبّ الفتاة الصغيرة لأمها وتماهيها معها. هذا التورط العاطفي بدائي وغريزي جدًّا أكثر منه أوديبي، وتفترض روث أنه يكمن في جذر المشكلات الذهانية التي كانت تدرسها.

هكذا نجحت روث في إدخال الظواهر المهملة ودمجها ضمن نظرية الليبدو الفرويدية. وقد ألح تلامذة فرويد المرتدون على هذه الظواهر، وكان لعمل روث ثمنه الباهظ بالنسبة لفرويد. وبيّنت روث أهمية مفاهيم فرويد النظرية ودعمتها فساعدت على توسيعها في الآن ذاته وذلك من خلال أعمالها في مجالها علم النفس النسائي في الأصل (حيث اعترف فرويد أنه لم يكن يقدر على المضي قدما في هذا الشأن)، ومن خلال إبقائها على برج أوديب بحد ذاته (مهتدية في ذلك بفكرة فرويد التي تقول بأن هذا البرج متأصل فيما قبل التاريخ)

منذ بدايات عام 1925 دشن فرويد هذا التحول في التفكير التحليل النفسي بافتراضه أن وجود طور من الحياة الانفعالية يسبق العقدة الأوديبية، يعني أن «العقدة الأوديبية تكوين ثانوي» عند الفتيات. وكلما تبلور عمل روث في إطار نظرية العوامل ما قبل الأوديبية، كلما أصبحت العقدة الأوديبية، فيما يبدو، أكثر أهمية، إذ يصبح لها آنذاك تاريخها التطوري الخاص بها. كتب فرويد في عام 1931 قائلاً «إن انتباهنا المبكر لهذا الطور الما ما قبل الأوديبي في الفتيات كان له وقع كبير لا يقل أهمية من اكتشاف الحضارة المينوية-المسينية فيما خلف الحضارة اليونانية مع اختلاف المجال».

لقد أقر فرويد عمل روث على النماذج ما قبل الأوديبية في النساء، حيث قال عنها: «كانت تدرس هذه المشكلات كما كنت أفعل في الوقت نفسه». وزعم نونبرج بعد وفاتها أنها «أكدت في مقالتها بالغة الأهمية حول الطور الأوديبي أنها لا تستطيع أن تمّيز بدقة أفكار ها الخاصة عن أفكار فرويد» ، ربما لا أثر لهذا التصريح في أوراق روث ويبدو أن نونبرج قد سمع منها ذلك فضلا عن أن هذا التعليق متسق تماما مع تعاونها الوثيق مع فرويد. يسلم فرويد بأن المحللات النساء كنّ الأقدر على اكتشاف هذا التعلق المبكر بالأم فيما لم يكن هو نفسه قادر على تحديده «لأن النساء اللائي كان يقوم بتحليلهن عبرن عن قدرتهن الكبيرة على التشبث بعلاقتهن بالأب لأنه يؤمن لهن ملجأ من الطور المبكر قيد البحث» . إلاّ أن فرويد ظل يؤمن بأن «طور التعلق المقتصر على الأم، الذي يمكن أن نسميه الطور ما قبل الأوديبي له أهمية قصوى لدى النساء أكثر منه لدى الرجال». ساد اعتقاد بأن التثبيت ما قبل الأوديبي لدى النساء يؤدي إلى نقص في اللبيدو نحو الرجال، بينما تعني الرابطة ما قبل الأوديبية لدى الرجال تعلقا سلبيًّا بالأب. اعترف فرويد بأسبقية روث في هذه الناحية فقد كانت كما كتب في عام 1932: «أول من وصف حالة عصاب كانت ترجع إلى تثبيت على المرحلة ما قبل الأوديبية لم يصل أبدًا للموقف الأوديبي على الإطلاق».

كانت روث تعمل بجد كطبيبة مباشرة وتشارك في سياسات الحركة التحليلية النفسية على جانبي الأطلنطي على حد سواء. يزعم جونز أنها اصطفّت إلى جانب زيلبورج ضد بريل، في حين ظن بريل، إلى أن استقال من جمعية نيويورك للتحليل النفسي ، أنها كانت تعمل ضد شيلدر. وأما في فيينا فقد كانت روث على ذمة فرويد في التحليل بشكل أو بآخر كلما استدعى الأمر ذلك. وكان كارل مينيجر تلميذها الأميركي ذائع الصيت، كما حللت روبرت فليس ابن صديق فرويد الأسبق.

رغم غزارة إنتاجها العلمي وأدائها المميز كمحللة، إلا أن صحتها كانت متدهورة. وكانت تميل لأن ترجع المشكلات الانفعالية إلى الأعراض الجسدية، ولم يستطع أطباؤها أن يشخصوا مرضها على أنه مرض عضوي بشكل قطعي. فقد اكتشفوا ذات مرة كمية كبيرة من الزرنيخ في دمها، ولم يكن واضحًا ما إذا كانت قد تسممت عن طريق الطعام والطبخ أو عن طريق ورق الحائط، ولكنها كانت قد غيّرت ورق حائط حجرات منزلها. (كان جيمس جاكسون باتنام قد صنف ورق الحائط من قبل كأهم عوامل التسمم بالزرنيخ)

وكانت روث تستخدم المورفين لتتغلب على الألم الفظيع لما كانت تظن أنه نوبات الحويصلية المرارية. كان الأطباء يتناوبون على فحصها مرارا وتكرارا إلا أن قلة فقط من حلقة فرويد المقربين يعرفون أنها كانت تعاني من أمراض غامضة. خضعت روث لجراحة لم تكن ناجحة، ربما لأنها كانت تعاني ممّا هو أكبر من آلام الحويصلية المرارية. فيما اعتقد طبيبها ماكس شور أنها لم تكن تتألم لوجود حصوات في المرارة، أنكر آخرون ذلك. (وكانت روث قد حللت كلًّا من شور وزوجته، وفي ذلك استعادة لما حصل لها وزوجها مع فرويد). عانت كذلك من التهاب الأعصاب. وبصفتها طبيبه كانت تصف لنفسها الدواء-حيث كانت تأخذ حبوبا منومة ومسكنة للألم. في الفترة ما بين 1933 و1934 أصبحت تدريجيًّا مدمنة بشكل ينذر بالخطر. أمام تفاقم حالتها النفسية والعضوية أصبحت مدمنة عام 1937 أو نحو ذلك. وكانت معظم أنواع الإدمان في تلك الأيام ناجمة عن استخدام العقاقير للأغراض الطبية.

 توقف اعتمادها على العقاقير. لفترة وذهبت ذات مرة إلى المستشفى، نزولاً عند نصيحة فرويد، بينما كانت لا تزال في التحليل، في محاولة للتخلص من إدمانها. لكن روث لم تكن قد أدمنت العقاقير فقط، كانت شخصيتها متشبثة وحريصة، ولعل ذلك ما يفسر ولو جزئيًّا نفور فرويد منها في نهاية الأمر. كانت نهاية حياتها مأساوية حيث باءت كل محاولاتها بالفشل للتغلب على مرض وصفه المحللون بأنه قبل أوديبي.

في فيينا، حيث لايزال فرويد على قيد الحياة، لم يبدو على روث علامات الاضطراب أو المرض. كانت تؤدي عملها بشكل فعال حتى آخر أيام حياتها حينما أصبحت تعتمد بشكل كبير على العقاقير. كان ينظر إليها حتى موتها المفاجئ في بداية 1946، كمحللة نفسية رائدة، ومقربة جدا من فرويد في آخر سنوات حياته.

لم يكن بؤس روث غير ذي معنى سيما وأنه في معظمه على صلة جد وثيقة بفرويد فهذا الأخير لم يكن يطيق إدمان العقاقير. كان فرويد في أواخر أيامه، رغم آلامه الناتجة عن إصابته بالسرطان، يرفض أن يأخذ حتى الأسبرين. ولم يكن يقبل أن يستخدم المسكنات لتخفيف الألم فلقد كان فخورا بقدرته على التغلب على نفسه، ولأجل ذلك كان لاعتماد روث على العقاقير وإدمانها عليها في نهاية المطاف، الأثر البالغ في نفس فرويد لحساسيته المفرطة إزاء هذا الأمر. فرويد بنفسه لم يتخلص من إدمان النيكوتين، رغم أنه جاهد لسنوات ضد ما أسماه «عادتي أو رذيلتي». (فلم يرجع فرويد، وفي حرص كامل منه، مشكلة التدخين هذه لعلاقة قبل أوديبية بأمه، ولكن فيما بعد وحتى عام 1929 أشار إلى تماثل مع أبيه كـ «مدخن شره»  ولقد أدرك فرويد أن إدمان روث بمثابة مرض يتعيّن فهمه والتعامل على أنه كذلك وبالتالي محاولة علاجه بدل الاكتفاء بمجرد شجبه أو إدانته رغم أنه كان يضجر من هذه المشاكل. لا يمكن أن تكون روث قد دبّرت إدمانها ذاك من منطلق تحديها اللاواعي لفرويد، كتعبير عن مشاعرها المتناقضة، فقد كان لديها شيء من هذه المشكلة على مرّ الزمن.  أما فرويد، فيرى أن مشكلة الإدمان سيئة بشكل خاص، وكانت إحدى العوامل الرئيسة لإحباطه وخيبة أمله منها في النهاية.

لما قدمت روث أول مرة لفيينا في عام 1922، لم يكن التدريب يرقى لأكثر من خضوع المتدرب للتحليل، ويكون ذلك مثاليا إذا ما تم على يد فرويد شخصيا. لذلك فرويد نفسه. ولأجل ذلك يحيط قدر كبير من الادعاء حول رواد التحليل النفسي الأوائل. ومن وجهة نظر معاصرة، يبدو التدريب آنذاك مجرد إشارة، حتى قيل إن معظم «أتباع فرويد الأوائل لم تتعدى خبرتهم في التحليل المستوى الذهني الخلص… وعندما خضعوا للتحليل كان علاجهم محدودا وسطحيًّا جدًّا إلى درجة أنه لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج نهائية» . وكان بالإمكان التحفيض من حدة مشكلاتهم لو أنهم خضعوا لتحليل أوفى.

ولكن تحليل روث طالت مدته إذ امتد لسنوات رغم بعض التقطعات من 1922 إلى 1938، حتى أصبح هذا التحليل المطول هو بذاته بمثابة ضرب من الإدمان أعاد إلى الأذهان ما كان خشيه فرويد قبل ذلك عند استخدام تقنية التنويمي . ساعدت معالجة فرويد لروث في تبيّن حقيقة التبعية التي كان ينبغي أن تكون مهمة حلها مناطة بعهدة التحليل النفسية.

لا تتمثل السمة الأساسية للمرض المحزن لروث في أن خضوعها للتحليل على يد فرويد لم يجنبها اضطرابا مضنيا، وإنما كلما كان يعالجها أكثر كلما أصبحا أكثر قربا وبالتالي أصبحت مساعدته لها للتغلب على مشكلة التبعية أقل فاعلية.

كان فرويد شغوفا بالعمل مع روث إلى حد بعيد حتى أصبحت مشاعره نحوها تعوق جهودهما لتخطي مشكلاتها. لقد كانت تستمتع بتبعيتها له وهو ما كان ينبغي معالجته كمشكلة وليس الانغماس فيه كمتعة  وربما كان يتعيّن على فرويد أن يرسلها إلى محلل آخر. وكان على روث أن تفعل ذلك ولم يتسنى لها ذلك إلا أثناء عودتها إلى أميركا حيث ذهبت إلى نونبرج قبل وفاتها مباشرة. لكنه أراد أن يحتفظ بها لنفسه شأنه في ذلك شأن فرويد، وهو ما تم فعلا بسبب انسجامهما عاطفيا وفكريا.

يمكن أن تكون للعبقرية قوة إغرائية. وذلك شأن فرويد إذ لم يكن الكثرين قادرين على مقاومة إغراءات عبقريته، وذلك بالرغم من أن الرجل ربما لم يوحي متعمدا إلى هؤلاء ما يثير تزلفهم. لم يكن فرويد يحب الإغراءات، ولكنه كان يثيرها إلى درجة تفوق العادة. رغم أن فرويد أراد تحرير المرضى، إلى أن الأمر انتهى به أحيانًا إلى استعبادهم خاصة ذوي القلوب الضعيفة والدفاعات الذاتية المحدودة. وإذا كناّ لا نوافق ذلك المحلل النفسي الذي اعتبر أن فرويد قد “دمّر” روث، فلأنها هي نفسها كانت تفتقر إلى النرجسية الأساسية التي تمكنها من الانسحاب بعيدا عن فرويد ووقاية نفسها.

وكما قال صديق لروث ملاطفًا، لقد كانت كثيرا ما تجامل بروفسورها. وكانت تتوقع مثلها في ذلك مثل غيرها من فرويد ما لا يقوى عليه أي إنسان. لأجل ذلك لعب فرويد دورًا مركزيًّا في حياتها كان له الأثر العميق في أطوارها المختلفة. فقد كان فرويد في البداية قريبا جدا من روث، ثم بعد ذلك حاول أن يبتعد عنها أكثر . كانت روث تنزع إلى أن تكون متسلطة ومستبدة إلى جانب تبعيتها لفرويد. يذكر مارك برونشفيك فيما بعد مراقبته لمحادثه تمت بين روث وفرويد في شرفة منزلهما حيث كانت تتكلم بثقة ولكن بديكتاتورية أيضا، ورغم أنه لم يتمكن من سماع ما دار بينهما بدقة إلا أنه لاحظ علامات التصلب على وجه فرويد.

كانت خيبة أمل فرويد في روث تتزايد بتزايد مرضه ووهنه، وبتزايد قسوتها وغيرتها تجاه دور آنا فرويد في رعاية أبيها. بدافع من الحقد، كانت روث تتصرف بعدوانية.  استطاع فرويد أن يتخطى خيبته تلك ولم يكن بعض المقربين جدا من كل من فرويد وروث على علم بهذا الأمر. على الرغم من طول مدة التحليل معه، فإن روث أصبحت أكثر إدمانا من ذي قبل. وفي عام 1937، حين تفاقم مرض فرويد، تطورت لديه مشاكل أكثر في التحكم في نزقه تجاهها، رغم أنها ظاهريا لا تزال إحدى المقربات المفضلات لديه.

 بتدهور صحة فرويد، تدهورت علاقتهما. ورغم الغبطة التي غمرتها جراء تحليلها من جديد عندما زارته في صيف 1938، في لندن، إلا أنه بدأ يصدها ويتهرب منها مع حلول شتاء 1939 وكان ذلك آخر شتاء من حياته. عندما أرادت أن تراه مرة أخرى، رفض حتى لا تشهد لحظات احتضاره. لقد كان يلومها على ما كان يعتبره الحاجة «الأنثوية الأبدية» لرؤية الأب يحتضر، وربما كانت فكرة فرويد القائلة بأن الاهتمام المفرط قد تخفي شعورًا معاكسا مشروعة تماما، مع تفاقم مشكلاته أصبح أعنف نتيجة لشعوره المتنامي بالمرارة. في كانون الثاني/ يناير 1939 لم يعد فرويد هو نفسه، وبدأ يتصرف بشكل غريب نحوها، ورغم خيبة أمله في مارك وروث، ما كان ليعبر عن حيبته تلك بهذه الطريقة لو كانت صحته أفضل حالا مما عليه. أهداه مارك في عيد ميلاده السبعين أول مجلد من سلسلة تاريخ كامبريدج القديم،حرص مارك على أن يقدم لفرويد نسخة عن كل مجلد يُنشر من هذه السلسلة, لأنهما كانا يناقشان علم الآثار سويًّا، ولكن عندما ظهر آخر مجلد في عام 1938، طلبه فرويد لنفسه، وأراد أن يعرف فيما بعد من ينبغي له أن يدفع. كان ألمه ووعيه بدنو أجله يؤثران على شخصيته. وقد قال ذات مرة عن ابنة روث، التي لم يخفِ اعجابها بها، “أظنني قد سمعت عنها”.

لما هاجر فرويد من فيينا إلى لندن لم تصاحبه روث لأن أباها كان مريضًا في أميركا، وكثيرًا ما كان مارك يتصل بها هاتفيًّا عبر الأطلنطي، وكانت أمه تقيم في فيينا مع روث وابنتهما، كان أبو روث يحتاج لابنته الوحيدة إلى جانبه، لتأثر بصره وذاكرته بمرضه. كان النازيون على وشك اجتياح النمسا. كان لدى فرويد آخرون ليرعوه. وهكذا غادرت روث عائدة إلى الولايات المتحدة مكرهة ومضطرة. ساءت حال روث كثيرا ببعدها عن فيينا حتى أصابها المراق، فبدت حالها أشبه بمرض الرجل-الذئب في العشرينات جراء تعلق شديد بفرويد تعذر الشفاء منه، وهكذا عانت من آلام رهيبة في عينيها، وطفقت تصف لنفسها العقاقير. رغم معاناتها ظل فرويد ومحللون آخرون يرسلون لها المرضى على مرّ السنوات. وفيما يبدو لم تفقد القدرة على التحليل حتى نهاية حياتها تقريبًا. وحصلت على تصاريح خطية لأصدقائها المقربين في فيينا تُتيح لهم الذهاب مباشرة إلى أميركا إن اختاروا ذلك.

عندما عادت روث إلى نيويورك من رحلتها الأخيرة إلى لندن كان فرويد يحتضر. عرفت في أميركا أسوأ فترة في إدمانها على العقاقير. في عام 1949 توفيت أمها، ولم تمضي بعد ذلك ثلاثة سنوات حتى توفي أباها، فساءت حالها وتعكرت صفو علاقتها بمارك بسبب شدة الضغط النفسي الذي عانته في تلك الفترة. والمفارقة أنها بالرغم من مشكلاتها الخاصة كانت ضد تعاطي مارك لشرب الخمر حتى السنتين الأخيرتين من زواجهما، وهو ما جعله يشرب خلسة، بالرغم من أنه لم يكن مسرفا في شرب الخمر وفق المقاييس الأميركية. كانت متشبثة بمارك، وذلك دأبها مع ممن ارتبطت بهم. إلاّ أنها، من بين المحللين كانت أول من احتفى بابن فرويد أوليفر عندما وصل إلى الولايات المتحدة مع زوجته في عام 1943. وبعد سنتين طلقها مارك، وذهبت إلى نونبرج أملا في تحليل أكثر تقدما. وكما قال مارك فيما بعد «لقد انهار كل شيء كانت تحبه، لذلك فقد انهارت هي الأخرى».

اعترضت سبيل روث في آخر حياتها-وهي التي عانت الكبت في عملها دائما-عقبات حقيقية حتى أنها لم تنشر ما كان متوقعا منها على خلاف حسن ظنها بنفسها وحسن ظن فرويد بها، وهو ما يفسر جزئيًّا محدودية شهرتها لدى جمهور القراء وقد ربط عالم نفس حديثًا العقبات الخلاقة بمشكلة الهوية: «يتعيّن وجود معيار لقيمة الهوية الشخصية منفصل تمامًا عن العمل حتى نضمن فعاليته» . ربما بالغ فرويد في تقدير مواهبها، ولعل هذا يرجع، متى صّح ذلك، إلى جاذبيتها الهائلة التي تحتاج هي بدورها إلى بعض التفسير. رغم أنه كان حساسًا بشأن الانتحال بالنسبة لتلاميذه الآخرين، إلا أنه قدم مرّة على الأقل لروث واحدة من أمهات أفكاره ك «هدية». فقد قال إنه قد أهداها رؤية مفادها أن العلاقة بين الابن وثدي الأم بالنسبة إلى تطور الحس الجمالي · ذات أهمية استثنائية. لكن روث فشلت في تتبع ايحاء فرويد الذي عبر عنه في واحدة من مقالاته الأخيرة في عام 1937عن أمله في أن تنشر مادة مستفيضة عن الرجل-الذئب، الذي كان قد خضع مرة أخرى للعلاج معها.

لا نستطيع أن نتأكد ممّا إذا كانت روث ترى انفصالها عن فرويد نفورا منها، الأمر الذي قد يكون عزز حاجتها له. وفي الحقيقة، فقد كان فرويد قبل نهاية حياته قد حصل على الكثير منها. لم تفقد روث بموت فرويد رجلاً مبجلاً في حياتها فقط، بل ومصدرًا لتعظيم تقديرها لذاتها. وربما تكون قد أدركت آنذاك أنها لم تكن مبدعة بالقدر الذي كانت تعتقد من قبل. حال موتها المبكر دون أن تنشر ما كان متوقعا منها قياسا إلى معاصريها.

لا يصنف موت روث المبكر على أنه انتحار من الناحية التقنية ولكنه بدا كذلك بوصفه جاء نتيجة سوء استخدام للعقاقير، ولم تكتف بذلك بل دفعها مرضها أيضا في نهاية المطاف إلى تناول الأفيون بالطريقة التي ربما يشرب بها مدمنو الكحول الويسكي، كما كانت تتعاطى الباربيتورات، ومع طول مدة استخدام العقاقير ساءت حالها وتدهورت صحتها. على الرغم من أنها لم تتعرض لنوبات أو لم تظهر عليها أعراض أخرى للإدمان، فقد تلقى المكتب الفيدرالي لمكافحة المخدرات إخطارا في شأنها. ثم ما لبثت أصيبت بذات الرئة وهو مرض واسع الانتشار في صفوف المدمنين. وبعد وقت عصيب، بدت وكأنها تتحسن، ولكن في الليلة التي سبقت وفاتها لم تكن قادرة على حضور حفل أقيم على شرف ماري بونابارت، وهي أثيرة فرويد أيضا التي استطاعت في نهاية حياة فرويد أن تتخطى منزلة روث في حلقته الضيقة.

لقد كان لموت روث في 25 كانون الثاني/ يناير 1946، وقع شديد على الجميع لا سيما مارك الذي رآها قبل وفاتها بست ساعات. وأعلن أن سبب وفاتها «أزمة قلبية حادة ناتجة عن ذات الرئة» ، لكن ذلك كان ملفقًا. فلقد ماتت بسبب تعاطيها جرعة كبيرة جدًّا من الأفيون، وسقوطها في الحمام حيث ارتطم رأسها بالجدار فتهشمت جمجمتها. ولقد أصيبت روث بإسهال حاد فأخذت المورفين أملا بإيقافه، لتسقط مغشيا عليها على أرضية الحمام، ومن المرجح أن تكون في تلك الليلة الأخيرة من حياتها قد أخذت كمية كبيرة جدا من الحبات المنومة ومن ثم وقعت فماتت.

رغم منزلتها المتميزة بالنسبة لفرويد[vi] وللتحليل النفسي، فلم تُنعى في المجلة الدولية للتحليل النفسي، فلم يكن أحد ليشعر بسعادة في الكتابة عن ذلك بسبب نهايتها المحزنة. واكتفى نونبرج بكتابة نعي لمجلة فصلية أميركية، أكد فيه فقط على “وفاتها المأساوية الفجائية”

من البديهي أن يكون هناك تعاطف مع حياة الناس التي تشقها أحداث وظروف مأساوية قاسية، إلا أن التأكيد على هذا الجانب دون سواه بشكل مبالغ فيه موقف خاطئ شأنه في ذلك الاستسلام لإغراء المديح. وحسب فرويد فإن الإنجازات لا تخلو من قيود، ولا يخلو أيّ إنجاز مهما كان عظيما من خسارة بشرية. لكن الانتحار، أو تدمير النفس التدريجي، أمرٌ مختلف. وبالإضافة إلى موت كلٍّ من فيديرن، إستيكيل، توسك، سنبريل، يمكن لنا أن نعثر على حالات انتحار أخرى شهدتها مجموعة المحللين النفسيين الأوائل أمثال كارين استيفن، يوجينا سوكولنيكا، تاتيانا روزنسال، كارل شلوتر، مونرو مييَر، مارتن بيك، ماكس كهين ويوهان هونيجر.

سخر جونز من أسطورة «مخاطر التحليل النفسي التي كانت تقود الناس إما إلى الجنون أو إلى الموت»  وبغض النظر عن الجدوى العلاجية المحدودة للتحليل النفسي، فإنه من المؤكد أن مثل هذه الجدالات المبالغ فيها هي في غير محلها. لكن يبقى مدعاة للانزعاج أن ينتهي الأمر بهؤلاء المحللين الأوائل إلى الانتحار أو أن تسوء حالهم بشكل كارثي. عندما علم فرويد بموت هزنيجر عام 1911 كتب رسالة إلى يونغ عبرّ فيها عن انزعاجه من هذا الأمر قائلاً: «أتعلم، أعتقد أننا نتجه نحو الفناء حتى لا يكاد يبقى منّا إلا نفر قليل جدا».  السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بما إذا كانت هذه المجموعة أكثر انزعاجًا من أية مجموعة أخرى من الناس. ويبدو أن انتصار أفكار فرويد لم يكن ليتحقق دون أن تبذل في سبيله بعض الأرواح. وذلك دأب كل الأفكار العظيمة التي عرفتها البشرية عبر التاريخ. ولعل تسليط الضوء بشكل مكثف ومجهري على جماعة التحليل النفسي هو ما جعلنا نتعرف عن كثب على العديد من خفاياها. فكلما تفحصنا أيّ حياة بشرية بعناية واهتمام كافيين فسنكتشف كثير من الألم والمعاناة والعذاب الباطني، دون أن يعني ذلك أن المأساة هي التجربة الإنسانية الوحيدة. وبدلا من أن نختلق التفاهات والأعذار التي نعمد إليها عادة لتبرير اخفاقاتنا ووصف الجوانب المظلمة في حياتنا، سيكون من السهل علينا السعي لإيجاد المفاهيم المناسبة لذلك.


هوامش المترجم:

  • حسب ارنست جونز (3) فإن النساء اللائي تسلمن خواتم من فرويد هن زوجته كاثرين، آنا فرويد، لو أندرياس-سالومي، وماري بونابرت وفي الحقيقة فإن جيزيلا فرنزي، جيان لامبل-دي غرو، روث ماك برونشفيك، إديث جاكسون، هيني فرويد وإيفا روزنفيلد، أهداهن فرويد خواتم)
  •  من غير المقبول في التحليل والعلاج النفسي المعاصر اقامة علاقة اجتماعية بين المعالج النفسي والعميل سواء كان العميل مريضا أو سويا
  •   ولا يستقيم هذا مع الحياة الاجتماعية مع المرضي أو الزبائن
  •  يعرف المحللون النفسيون أن هذا لا يتجاوز تصعيدا متبادلا في الإطراء بين فرويد وروث
  •  يعزو البعض هذه الظاهرة إلى ذهنية فرويد الطاغية والتي كلفته خسارة الأكثرية من تلاميذه النوابغ كما يتجلى في فصول أخري من هذه السيرة
  •   الذي سبقها إلى محاولة صياغة نظرية في تطبيقات علاجية ممكنة للعلاج التحليلي للمرضي الذهانيين
  •   قد يكون هذا من مهاراتها التي أبقتها طويلا مقربة من فرويد وإن كلفها الأصالة والاستقلالية في أفكارها حينما نقارنها بزميلاتها ممن كن أقل حظوة منها لدى فرويد.
  • سبق إيراسموس داروين فرويد في التعبير عن هذه الفكرة.

هوامش إضافية:

[i]   تعاظم دور ابنته الصغرى آنا في اختيار تلميذاته في آخر عقدين من حياته.   وقد كان لهذا انعكاس سلبيا في نوعية التلميذات. وحتي لو حاول المؤلف تبسيط التبعات بتشبيهه بنوابغ آخرين مثل البرت  شفاتيزر ، فالمقارنة ليست موفقة . كان التحليل النفسي في مرحلة فينا بعيدا عن الصرامة الأكاديمية . وأقل حتى من معاهد التحليل النفسي في شمال أمريكا. كان التدريب ببساطة هو تحليل الشخص لنفسه’ تحليل الذات أو self analysis ‘  من قبل فرويد أو  من بقي معه من المخضرمين ( اريك اريكسون مثلا الذي حللته  آنا فرويد التي حللها والدها ) .. وما أن ينتهي المرء من ‘ تحليل الذات ‘ حتى يصبح محللا نفسيا قائما بنفسه.  وبعضهم/هنر لا يتجاوز تأهيلهم العلمي ما يعادل المرحلة الثانوية (   آنا فرويد  لم تحصل على تعليم جامعي ).

الوضع أقل سوء عند القادمين من أمريكا لدراسة التحليل النفسي (وهو باختصار تحليل الذات ) . إذا كانت القوانين تشترط الحصول على درجة ميدكال دكتور MD    للالتحاق بجمعية العلاج النفسي .   ثم أضيف لهذا الشرط تجاوز البورد في الطب النفسي العام.   وحديثا في أمريكا   أبقيت الدكتوراه شرطا في أي تخصص، وليس إلزاما ميديكال دكتور  MD ولا   البورد في الطب النفسي العام . هذا التنازل كان لأسباب اقتصادية وهو النقص الحاد في المنتمين إلى التحليل النفسي من الأطباء النفسيين، لكن الدراسات تبشر أن انضمام تخصصات أخري إلى جمعية السايكوثيرابي ربما أفاد بتعدد مشارب الجمعية.

[ii]

آلبرت شفايتزر١٩٦٥-١٨٧٥ توفي عن عمر يناهز التسعين، طبيب وفيلسوف وموسيقي وثيولوجيان، وأهمها متطوع إنساني. هو ألماني فرنسي توج بنوبل عام ١٩٥٢. أنشأ عدة مستشفيات في أفريقيا. رفض أن تتوقف حتى إبان الحرب العالمية الثانية. صاحب تأصيلات فلسفية وثيولوجية حول المسيحية المبكرة. ومع هذا هذا كان لايفرط في “بطانة من الحسناوات أينما حل.

[iii] وهذا موجود حتى في الحلقات الدينية والفلسفية.  وقل أن يسلم منه أحد. يوجد نوبليين – بعد التقاعد – يتفرغون لخدمة النوابغ من الطالبات حصرا، واقتراح أفكار بحثية ومراجعة أوراقهن البحثية قبل النشر. وهذا في هذا السن لا ينشد إلا الاستمتاع بالمغازلة ( flirt )  وليس  ما هو اقصى  ، يذكرنا هذا بما شهدنا من  تلطف مشاهير الدعاة لمذيعة أو أكثر . والتسابق في إهداء الكتب إليها.

[iv] استطاع الدبلوماسي ويليمس بولت   اقناع فرويد بكتابة تحليل نفسي للرئيس ودرو ويلسون .  استغرق تأليف الكتاب 10 سنوات .  وتصنف  مساهمة فرويد في الكتاب   إلى جانب  قراءة التحليلين  ل مسيرة غاندي بعد قرار احتكار بريطانيا للملح  ( كتبوا : الملح يرمز لسائل الخصوبة الذكورية  ولا بد لغاندي أن يحتج حماية للهوية الهندية ) !!! . تصنفان في قاع  مساهمات التحليل النفسي في القرن العشرين.

[v] لم يكن لدى فرويد وجهه نظر معلنة تجاه التمدد النازي، بل إن عائلته واجهت صعوبة في اخراجه إقناعه بترك فينا والرحيل الي لندن، كان يردد: إن بلدا انجبت غيتة لن تسمح بهذا الدمار، كما أنه بعث ببعض كتبه مهداة لموسليني عن طريق أحد مرضاه من حاشية موسليني، قارن: Freud and his Followers by P Roazen

[vi] أيا تكن مقاصد فرويد من تجنب روث ومعركتها مع الإدمان: قد يتساءل البعض  عن أخلاقية هذا العمل ، خصوصيا وقد سمح  بنشأة هذه الاعتمادية وتطورها . بل إنه فوق هذا وبحكم ثرائها وماري بونابرت: كن تكلفن بمصاريف علاجه، بما فيها فاتورة العملية الأولى (34 الف دولار بمعايير 1926 )