مجلة حكمة

ماهية الكتابة كتمايز في الوجود الطبيعي؟ – محمد عبدالنور


لم تكتشف الكتابة إلا حديثا مقارنة بعمر الوجود الإنساني على الأرض، حوالي 4000 سنة قبل الميلاد على أقصى تقدير، عندما أفضى تاريخ طويل من التواصل البشري البدائي إلى الأبجدية الكنعانية (الفينيقية) أُمًّا للغات السامية-الحامية (العربية والعبرية) واليافثية (اللاتينية واليونانية)، تاريخ هيمنت عليه طرق التواصل البدائية من الطبل والبوق والنار، ثم الرسم الهيروغليفي القبطي والتيفيناغ الأمازيغي، مرورا بالكتابة المسمارية عند السومريين وانتهاء إلى الكنعانية أصلا للغات العالم الحية اليوم.

 

  • ظهور الكتابة وتفاصل الطبيعي والخلقي:

منح اكتشاف الكتابة البشر أفضلية لم تكن تتوفر لهم من قبل، وهي التعالي بالوعي على الوجود اللحظي، لقد كان التخاطب في أشكاله الأولية قائما على المنفعة المباشرة، وباكتشاف الكتابة تأسس نمط جديد من التخاطب قائم على حاجة داخلية في الإنسان تجلت خاصة في مجالي القص التاريخي والنثر الأدبي، يعبر بهما عن الحقيقة المتعالية للإحساس الداخلي للإنسان، حيث انطباع أحداث الماضي في نفس الإنسان في التاريخ، وإضفاء الصيغة الجمالية على الوجود في الأدب.

فقد ظهر الفنانِ: التاريخ والأدب كانعكاس مباشر لظهور الأبجدية وإمكان التدوين، بل وكان تدوين التاريخ والتعبير الشاعري قائما حتى في الكتابة التصويرية، ولما لم يعد التفكير مقتصرا على الحاجة الآنية صار الفكر البشري يسبح في الماضي والحاضر والمستقبل بوعيه، تعاليا عن اللحظة الآنية، ولعل ذلك معنى الاستخلاف الذي كان سره “وعلم أدم الاسماء كلها”، وذلك تحقيقا للوحدة بين المسيرتين الطبيعية والخلقية للبشر التي حيث توازى اجتباء آدم عن طريق الوحي وتعليم الأسماء تعليما “روحيا” مع اكتشاف الكتابة وتحصيل العلم بالحرف و”القلم”

إلا أن خللا حصل خلال المسيرة الروحية للبشر بعد النبوة هو تحول العلم إلى أداة في يد الغريزة بعد أن استحال من غاية فردية لدى العالم يحقق به سعادة روحية، مضمونها الانتشاء بانكشاف مكنونات الطبيعة أمام العقل، إلى قوة اجتماعية بها يحكم الإنسان سيطرته على الطبيعة، وهو ما يخالف مقتضى التسخير الذي يكون فيه الإنسان دوما يشعر بشهوده الاستخلافي بعكس الجحود الطغياني الذي أدى إليه خاصة العلم الحديث.

فبعد تفاصل الجانبين الغريزي في الإنسان المتمثل في (تقنيات الاتصال) عن نظيره الروحي المتمثل في (الفنون العقلية) بفضل اكتشاف الكتابة، عاد هذا الانفصال مُجددا إلى الاتحاد عندما تحول هدف العلم من الغاية الروحية حيث كان هدف العلم ينتهي في حدود الشعور بالسعادة عند الاكتشاف إلى التحكم فصار الإنسان يسخّر ملكاته الروحية لتحقيق حاجات غريزية، لذلك كانت مسؤولية الكتابة راهنا تقوم على العودة بالعلم إلى المسار الروحي الخلقي ومن ثم إخضاع الطبيعي-الغريزي المخلد إلى الأرض ومحاولة السعي به لتحقيق التعالي المطلوب منه درءًا للطغيان المتحقق ضرورة بهيمنة الطبيعي على الخلقي.

 

  • استئناف المسيرة الخلقية وضرورة التحرر الفكري:

إن التحقيق التاريخي يكشف عن انفصال تاريخي مضاعف في المسارين الخلقي والطبيعي، الأول غُفل تمثل في الانفصال بين اكتشاف الكتابة واستخلاف الإنسان عن طريق آدم، والثاني واعٍ تمثل في انفصال اكتشاف التجريب العلمي كمنهج تام عن التجربة الروحية الأكمل مع الإسلام، لذلك كان أس التجديد الابستمولوجي المطلوب راهنا يقوم على الوصل بين أقصى التجربة الروحية في نموذجها المحمدي (التي تمت بأرقى نموذجي تشريعي يمكن أن يعرفه البشر) والتجربة العلمية الأكمل في نموذجها التجريبي (التي تمت بأدق نموذج علمي لم يعرفه البشر قبلاً).

هنا نصل إلى التمييز بين نوعين من الكتابة: 1- الكتابة الوظيفية غايتها “المشاركة” التي تستخدم لتحقيق غاية التحكم كفلسفة للعلم وبين 2- الكتابة الشهودية الساعية إلى تحرير الإنسان من الارتهان للغريزة والسمو به كتابة لإنتاج “منهج” أو فلسفة علم بديلة.

لا يبدو أن الإشكال حقيقي في الإنتاج العلمي والفكري المشارك في “منظومة التحكم في الطبيعة”، إنما الإشكال حاصل فعلا في الإنتاج المنهجي الذي يؤسس لبناء معرفي جديد يقوم على مفهوم الاستخلاف لا على مفهوم التحكم في الطبيعة كغاية للوجود، أيا كان وبهذا التمييز يمكن أن يتداخل الأمران فيحصل الاشتباه بين الكتابتين، ولما صار التمييز ممكنا كان تتبع الكتابة المبدعة ممكنا.

ذلك أن الدافع إلى الكتابة يكون هنا التجديد، الشعور بحاجة العالم إلى جديد تكون جهود الباحثين منصبة نحوه في إطار ما يمكن أن يخصص بتسمية “المحاولات” التي تسعى لفتح عوالم فكرية ممكنة ولإحداث قطائع معرفية مع جذور الانسدادات الحاصلة كونيا وانتهاء إلى تأسيسات منهجية هي أقرب إلى التنفيذ، فكيف يمكن ممارسة الكتابة بهذا النوع؟

لابد في كل ذلك من الملكة اللغوية التي تعتبر الأداة الحقيقية في إنجاز النصوص الفكرية والعلمية وكذا الأدبية، وهي كما يبدو نتاج تفاعل بين حقلين: الحقل البلاغي (استعارة الألفاظ) والحقل الرياضي (الاستعانة بالتصورات)، وذلك للتمكن من إخضاع الألفاظ للتصورات الواردة على الفكر، ومعلوم أن العلاقة جدلية بين اللغة والفكر، العلاقة التي تكفل سمة تكاثرية عليهما معا بما يضمن غزارة إنتاج فكري ضروري لتحقيق المُراد بـ”المحاولات”، أعني أن الألفاظ والتصورات هنا ليست الغاية بل الأداة التي بها تكون المحاولات ممكنة، أما السؤال فعن المعنى الضامن لنجاح المحاولات تلك؟

إن من أهم ما قد يعين على الكتابة الحرة غير المقيدة إلى إكراه مؤسسي أيا كان نوعه: التداعي، أو هكذا نوع من اللاأدرية المنهجية، على غرار الشك المنهجي الذي تكون ريبيته في سبيل بلوغ اليقين، ضدا على الوثوق الفكري، وإنماء للقدرة التحليلية.

وحوصلة لما تقدم، يمكن الانتهاء إلى القول بأهمية الكتابة كفعل رسالي، مهمته استحداث البدائل في عصر ما بعد النبوة، وأن النبوة هنا مرتهنة بالقلم، القلم ذاته الذي يستهدي بالمسار الخلقي في مبتداه مع آدم حيث بداية المسيرة الروحية ومنتهاه مع محمد حيث اكتمالها، أعني إدراك المجموع الدلالي للآيتين {وعلم آدم الأسماء كلها} و {اليوم أكملت لكم دينكم}، بوصفه تكثيفا للمسار الخلقي للإنسان.

وتبقى المفارقة كامنة في المسيرة الطبيعية للبشر، حيث يكون السعي لإحقاق القيمة الخلقية على وجود الإنسان متلبسة أو قل منصهرة في ذات المسير الطبيعي، وذلك الجهد المطلوب من كل محاولة ساعية للتحرير والتنوير…والله أعلم