لم تكتشف الكتابة إلا حديثا مقارنة بعمر الوجود الإنساني على الأرض، حوالي 4000 سنة قبل الميلاد على أقصى تقدير، عندما أفضى تاريخ طويل من التواصل البشري البدائي إلى الأبجدية الكنعانية (الفينيقية) أُمًّا للغات السامية-الحامية (العربية والعبرية) واليافثية (اللاتينية واليونانية)، تاريخ هيمنت عليه طرق التواصل البدائية من الطبل والبوق والنار، ثم الرسم الهيروغليفي القبطي والتيفيناغ الأمازيغي، مرورا بالكتابة المسمارية عند السومريين وانتهاء إلى الكنعانية أصلا للغات العالم الحية اليوم.
-
ظهور الكتابة وتفاصل الطبيعي والخلقي:
منح اكتشاف الكتابة البشر أفضلية لم تكن تتوفر لهم من قبل، وهي التعالي بالوعي على الوجود اللحظي، لقد كان التخاطب في أشكاله الأولية قائما على المنفعة المباشرة، وباكتشاف الكتابة تأسس نمط جديد من التخاطب قائم على حاجة داخلية في الإنسان تجلت خاصة في مجالي القص التاريخي والنثر الأدبي، يعبر بهما عن الحقيقة المتعالية للإحساس الداخلي للإنسان، حيث انطباع أحداث الماضي في نفس الإنسان في التاريخ، وإضفاء الصيغة الجمالية على الوجود في الأدب.
فقد ظهر الفنانِ: التاريخ والأدب كانعكاس مباشر لظهور الأبجدية وإمكان التدوين، بل وكان تدوين التاريخ والتعبير الشاعري قائما حتى في الكتابة التصويرية، ولما لم يعد التفكير مقتصرا على الحاجة الآنية صار الفكر البشري يسبح في الماضي والحاضر والمستقبل بوعيه، تعاليا عن اللحظة الآنية، ولعل ذلك معنى الاستخلاف الذي كان سره “وعلم أدم الاسماء كلها”، وذلك تحقيقا للوحدة بين المسيرتين الطبيعية والخلقية للبشر التي حيث توازى اجتباء آدم عن طريق الوحي وتعليم الأسماء تعليما “روحيا” مع اكتشاف الكتابة وتحصيل العلم بالحرف و”القلم”
إلا أن خللا حصل خلال المسيرة الروحية للبشر بعد النبوة هو تحول العلم إلى أداة في يد الغريزة بعد أن استحال من غاية فردية لدى العالم يحقق به سعادة روحية، مضمونها الانتشاء بانكشاف مكنونات الطبيعة أمام العقل، إلى قوة اجتماعية بها يحكم الإنسان سيطرته على الطبيعة، وهو ما يخالف مقتضى التسخير الذي يكون فيه الإنسان دوما يشعر بشهوده الاستخلافي بعكس الجحود الطغياني الذي أدى إليه خاصة العلم الحديث.
فبعد تفاصل الجانبين الغريزي في الإنسان المتمثل في (تقنيات الاتصال) عن نظيره الروحي المتمثل في (الفنون العقلية) بفضل اكتشاف الكتابة، عاد هذا الانفصال مُجددا إلى الاتحاد عندما تحول هدف العلم من الغاية الروحية حيث كان هدف العلم ينتهي في حدود الشعور بالسعادة عند الاكتشاف إلى التحكم فصار الإنسان يسخّر ملكاته الروحية لتحقيق حاجات غريزية، لذلك كانت مسؤولية الكتابة راهنا تقوم على العودة بالعلم إلى المسار الروحي الخلقي ومن ثم إخضاع الطبيعي-الغريزي المخلد إلى الأرض ومحاولة السعي به لتحقيق التعالي المطلوب منه درءًا للطغيان المتحقق ضرورة بهيمنة الطبيعي على الخلقي.
-
استئناف المسيرة الخلقية وضرورة التحرر الفكري: